-
ع
+

أحكام الحدود والواقع

يحيى محمد

لا شك أن المقاصد الخاصة حول أحكام الحدود معلومة بدلالة كل من النص والواقع. فالنص من قبيل قوله تعالى: ((ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)) البقرة/179، الأمرالذي يدل عليه الواقع، حيث بالقصاص تزول دوافع الثأر ومسلسل سفك الدماء. وكذا فإن دلالة الواقع تشير إلى ان الغرض من الحدود هو الردع.

لكن لما كان منشأ اعتبار الحدود يتوقف على ما تحققه من أغراض تتسق مع المقاصد الكلية العامة؛ لذا فإن أي تجدد للواقع يبعد الحدود عن تحقيق أغراضها الخاصة، أو يجعل من هذه الأغراض تتزاحم مع المقاصد العامة؛ فكل ذلك يوجب تغييرها بما يتسق وهذه الأخيرة. حتى ان هناك من يرى جواز ترك الإمام للحدود في بعض الحالات والطوارئ لأجل ما هو أهم منها[1]. وليس غريباً ان تشهد السنة النبوية والخلافة الراشدة شطراً من التنويعات التجديدية لقضايا الحدود استناداً إلى تغيرات الواقع والنظر إلى المقاصد. فرغم محدودية الظروف وضيقها الا ان ذلك لم يمنعها من ان تكون حافلة بالكثير من التنويعات والتغييرات تبعاً للمصالح والحاجات.

فقد روي ان النبي اسقط بعض الحدود عن التائب طالما اعترف بذلك قبل القدرة عليه. ففي حادثة ان النبي (ص) قال للرجل الذي قال له: (يا رسول الله اصبت حداً فأقمه علي، فقال: هل صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذهب فإن الله قد غفر لك حدك)[2]. وفي حادثة أخرى أنه اسقط الحد عن الذي اعترف بالزنا[3].

وجاء في سيرة النبي (ص) أنه لم يؤاخذ بعض أصحابه بالعقوبة رغم كبير فعله وشائنته. ومن ذلك أنه برئ مما صنعه خالد بن الوليد ببني جذيمة من قتلهم وأخذ أموالهم دون ان يعاقبه، وقال: (اللهم اني ابرأ اليك مما صنع خالد). وبنظر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ان النبي (ص) إنما لم يعاقب خالداً على فعله وذلك لحسن بلائه ونصره للاسلام[4].

كما ذكر ابن القيم ان الله نصّ على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم، وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحراب بالتوبة الصحيحة بطريق الاولى[5]. إذ جاء بخصوص حد المحارب قوله تعالى: ((الا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم))، والذين ذهبوا إلى اسقاط الحدود بالتوبة قبل القدرة على المسك بالجاني إنما حملوا هذه الآية على جميع الحدود، كحد السرقة الذي نص العديد على سقوطه بالتوبة، كما هو الحال مع عطاء وجماعة غيره، وذهب اليه بعض الشافعية وعزاه إلى الشافعي قولاً[6]. علماً بانه كثيراً ما كان حد السرقة يعطل لأسباب خاصة، كالحال عند الحروب وفي عام المجاعة[7]. وحد الشرب عليه اختلاف بين ما كان يُعمل به في عهد النبي وابي بكر وبين ما سار عليه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رض) باشارة من الإمام علي (ع) كما يقال. كما ظهر هناك عدد من الإجتهادات التي حددت احكاماً تتصف بالشدة تبعاً لمراعات الظروف السائدة آنذاك، وتحقيقاً لما يراد من مصلحة عامة، رغم ان هذا كان على خلاف ما عليه السيرة النبوية. ومن ذلك ما جاء بأن الإمام علياً قام باحراق الزنادقة الغلاة، بينما كان الأمر في عهد النبي هو قتل الكافر، لكنه وجد خطورة المسألة فشدد العقوبة لزجر الناس عن ان يفعلوا مثل ذلك[8]. وسبق للامام (ع) ايضاً ان نصح الخليفة الصديق في احراق اللوطية بدل قتلهم باعتبار ان العرب لم تكن تبالي بالقتل وهي قد ألفته بخلاف الحرق بالنار حيث لم تألفه بعد[9].

على هذا لا يصح اسقاط الحدود على الواقع بعد كثرة التحولات من غير دراسة مفصلة لأوضاعه؛ سيما تلك التي تلوح اوضاعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية، طالما أنها من أحكام الوسيلة التي تتأثر بمجريات الحياة والواقع. بل حتى مع التنفيذ والتطبيق يراعى جانب الإطلاع على المخلفات والنتائج المترتبة على تلك الأوضاع ومن ثم محاكمتها ومقايستها بالحجم الذي يمكن تحقيقه من المقاصد العامة. فمثلاً ليس من المتوقع أن يحقق حد السرقة المقاصد المرجوة في البلدان التي تكون اوضاعها الاقتصادية متردية بالفقر والحاجة. وبخلافها يمكن أن يحقق هذا الحد غرضه لدى البلدان المتقدمة في الأوضاع المشار اليها، على فرض أن سائر الأوضاع تكون ملائمة هي الأخرى.

علماً بأن بعض ما يعتبر من الحدود ليس عليه دليل شرعي إلهي، كما هو الحال مع حد شارب الخمر، كما أن بعضاً آخر مشكوك فيه؛ كحد الرجم.

فالحد الأخير غير مجمع على اعتباره لدى المذاهب الاسلامية، فقد أبطله كل من الخوارج وبعض المعتزلة، منكرين ما دار حوله من روايات، باعتبارها من الآحاد المعارضة للنص القرآني، فقد استدلوا بالقرآن على نفي اعتباره وأنه لا عقوبة في الزنا غير الجلد، فكما تقول الآية الكريمة: ((فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب)) النساء/25. ووردت الآية في الإماء وجاء فيها ذكر (أحصنّ) أي (تزوجن)، كما جاء فيها ذكر (المحصنات) أي المتزوجات. ومعنى النص هو أنه اذا تزوج الإماء فعليهن من العقاب نصف عقاب المتزوجات الحرائر عند الزنا. مما يعني أنه لا يمكن تنصيف عقوبة الرجم على فرض أنها تصدق على المتزوجات الحرائر، فالرجم شيء واحد كيف يقبل التنصيف[10] ؟!

أما حد شارب الخمر فقد اتفق الصحابة على ثمانين جلدة في عهد عمر بن الخطاب. وجاء في أحد الآراء أنه لم يرد هناك حد لتلك العقوبة في عهد النبي (ص)، ولما جاء عمر (رض) أراد تحديدها فاستشار الصحابة، فأشار عليه الإمام علي (ع) بثمانين جلدة مستدلاً بدليل قياسي هو أنه ‹‹اذا شرب سكر، واذا سكر هذى، واذا هذى افترى››. وقد نقل العلماء هذا الحد وقبلوه حتى ولو كان نتاج القياس، وعلى رأسهم الإمام مالك في (الموطأ) الذي نقل بأن الذي أشار عليه هو الإمام علي[11]. وعلى رأي بعض آخر أن مستند الصحابة في ذلك هو الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل[12]. إذ كان حد الشارب في عهد النبي وأبي بكر أربعين جلدة، لكن عمر شدد في العقوبة في الحد فأوصلها إلى ثمانين جلدة، بعد مشورته للناس. وذكر إبن تيمية بأن الذي دعاه إلى ذلك هو أن الناس في زمنه قد أكثروا من شربها واستخفوا بحدها، لذلك زادها عليهم مع النفي وحلق الرأس، وكل ذلك لم يكن في عهد النبي (ص)[13].

وقد ورد عن الشافعي أنه اعتبر ما زاده عمر لم يكن حداً وإنما تعزيراً، حيث قرر بأن أصل حد الخمر هو أربعون جلدة، وما زاده عمر على الأربعين إنما كان من باب التعزير[14]. كما نُقل بأن النبي لم يحد الشارب وإنما كان يضرب بالنعال ضرباً غير محدود، وأن ابا بكر هو الذي شاور أصحاب الرسول وسألهم: كم بلغ ضرب الرسول لشارب الخمر فقدروه بأربعين. لكن روي عن أبي سعيد الخدري أن النبي ضرب في الخمر بنعلين أربعين، فجعل عمر مكان كل نعل سوطاً[15]. وكذا طرح الغزالي إشكالاً حول ما إذا كان الصحابة رجحوا بالمصلحة تعيين الحد بالثمانين فأجاب بأن ‹‹الصحيح أنه لم يكن مقدراً، لكن ضرب الشارب في زمان رسول الله كان بالنعال وأطراف الثياب فقدّر الصحابة ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين، ورأوا المصلحة في الزيادة فزادوا، والتعزيرات مفوضة إلى رأي الأئمة، فكأنه ثبت بالإجماع أنهم أُمروا بمراعاة المصلحة وقيل لهم اعملوا بما رأيتموه أصوب.. ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله (ص) إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر هذى ومن هذى افترى، ورأوا الشرع يقيم مظنة الشيء مقام نفس الشيء كما أقام النوم مقام الحدث..››[16]. كذلك فإن الشوكاني هو الآخر عارض كون عمر قام بالزيادة على الحد، واعتبر أنه لم يكن هناك مقدار معين في عهد النبي، إذ في بعض الروايات أنه ضرب بنحو الأربعين، وهو على نحو التخمين، وبعضها لم يحدد العدد. واستدل على ذلك بأن عمر ذاته طلب المشورة من الصحابة فأشاروا عليه بآرائهم، ولو كان قد ثبت تقديره عن النبي لما جهله أكابر الصحابة[17]. ويؤيده ما ورد عن الإمام علي في استدلاله بالقياس على تحديد المقدار، ولو كان هناك حد ثابت لما صح الاستدلال.

 

 

 

 

 

 

 



[1] جاء في (شرح النيل) ان الإمام اذا ملك بعض المصر فقط فإن عليه ان لا يقيم الحد كجلد وقطع، بل يحبس حتى يملك المصر، وقيل يقيم الحد، وقيل هو مخير حتى تضع الحرب أوزارها، والحكم في ذلك كالحد، وقيل لا يدع الأحكام، وقيل يجوز ترك الحدود لئلا يشغله ذلك عن الفتح، وقيل لزمه ترك الحكم لئلا يشغل (موسوعة الفقه الإسلامي المعروفة بموسوعة جمال عبد الناصر، 1410هـ ـ1989م، ج2، ص214).

[2] اعلام الموقعين ج3 ص7.

[3] جاء في حادثة أنه قال عمر للنبي (ص): ارجم الذي اعترف بالزنا، فأبى النبي معللاً ذلك بانه قد تاب إلى الله. إذ روي ان امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مرَّ عليها، وفر صاحبها، ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم، فادركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فاخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه اليها، فقال: انا الذي اغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي الله (ص) فاخبرته أنه الذي وقع عليها، واخبر القومُ أنهم ادركوه يشتد، فقال: إنما كنت اغثتها على صاحبها فادركني هؤلاء فاخذوني، فقالت: كذب، هو الذي وقع علي، فقال النبي (ص): (انطلقوا به فارجموه) فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فانا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله (ص): الذي وقع عليها، والذي اغاثها، والمرأة، فقال: (أما أنت فقد غفر لك، وقال للذي اغاثها قولاً حسناً، فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنا، فأبى رسول الله (ص) فقال: (لأنه قد تاب إلى الله) (اعلام الموقعين، ج3، ص8).

[4] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج28، ص255. واعلام الموقعين ج3، ص8.

[5] اعلام الموقعين، ج3، ص8.

[6] القرطبي: جامع أحكام القرآن، طبعة مؤسسة التاريخ العربي، 1405هـ ـ1985م، ج6، ص174. والشوكاني: فتح القدير، دار احياء التراث العربي، ج2، ص39.

[7] نُقل عن ابن تيمية وابن القيم انهما أجريا تعديلاً فيما يخص الحكم الخاص بتنفيذ حد السرقة حين ثبوتها، فكما قال الشيخ محمد الغزالي: (حسب ابن تيمية وابن القيم وما أفهمه أنا من السنن؛ استطيع ان اقول بأن القاضي يستطيع وقف التنفيذ في السابقة الاولى. فلو سرق تلميذ أو شاب، وكانت سرقته الأولى أو عثرة قدم زلت بصاحبها، فاذا وجده القاضي متألماً لذلك ونادماً أو شاعراً بالخجل؛ له ان يوقف العقوبة ويستتيبه ويقبل توبته، وله ان يعزره بالكلام أو بالجلد أو السجن، حسبما يرى، ولكن اذا عاد للجريمة مرة أو مرات أخرى تقطع يده) (محمد الغزالي: تطبيق الشريعة حل لأزمة الاستعمار التشريعي في بلادنا، منبر الحوار، العدد13، 1410هـ ـ1989م، ص15).

[8] الطرق الحكمية، ص22.

[9] ذكر أن خالد بن الوليد كتب لأبي بكر في خلافته بأنه (وُجد في بعض نواحي العرب رجل ينكح كما تنكح المرأة)، فاستشار ابو بكر الصحابة، وكان فيهم علي فقال: (ان هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم الا واحدة، فصنع الله بهم ما قد علمتم. أرى ان يحرقوا بالنار)، فكتب ابو بكر إلى خالد وأمره بحرقه (الطرق الحكمية، ص18. واعلام الموقعين، ج4، ص378). وجاء عن الإمام الصادق ان خالد بن الوليد كتب إلى ابي بكر عن رجل يؤتى في دبره، فاستشار ابو بكر علياً فقال: احرقه بالنار، فإن العرب لا ترى القتل شيئاً (انظر: رياض المسائل، ج2، ص475. وجامع المدارك، ج7، ص73. ومباني تكملة المنهاج، ج1، ص235. والبرقي: المحاسن، تحقيق جلال الدين الحسيني، نشر دار الكتب الإسلامية، المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص112. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج6، ص278).

[10] انظر: ابو زهرة: العقوبة، دار الفكر العربي، ص102 وما بعدها.

[11] المسوى شرح الموطأ، ج2، ص299. والخراج لأبي يوسف، ص167. والأحكام السلطانية، ص228. وأقضية رسول الله، ص19. ومجموع فتاوى إبن تيمية، ج28، ص336. علماً بأن النص المنقول عن الإمام علي قد ورد في المصادر الشيعية منقولاً ليس عنه وإنما عن الإمام الرضا ثامن الأئمة الإثني عشر (علل الشرائع، ج2، باب 335، ص264).

[12] علماً بأن هناك من فسّر الحد المذكور بتفسير آخر لا يمت إلى المصلحة. والحديث مروي في المصادر الشيعية فضلاً عن السنية (انظر: الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج28، ص220). وننبه بأنه جاء في (الاعتصام، ج2، ص118) للشاطبي ان الحادثة كانت في عهد عثمان. وهو على ما يبدو خطأ، إذ المعروف لدى مختلف المصادر الإسلامية أنها كانت في عهد عمر.

[13] مجموع فتاوى إبن تيمية، ج33، ص88.

[14] المسوى شرح الموطأ، ج2، ص300.

[15] ابن رشد الحفيد: بداية المجتهد، ج2، ص444.

[16] المستصفى، ج1، ص305ـ306.

[17] نيل الأوطار، ج7، ص320ـ321.

comments powered by Disqus