-
ع
+

صراع العقل مع العقل

يحيى محمد

إن التأسيس القبلي للنظر العقلي لم يتخذ منظومة مشتركة ولا قاعدة متحدة. فقد كان هناك عدد من الاعتبارات جعلت من هذا التأسيس يتعدد بتعددها، بل ويتناقض بتناقضها. ففي الغالب كان العقل منقسماً إلى إتجاهين متضادين تولد عنهما الصراع والنزاع، وهو ما نطلق عليه (صراع العقل مع العقل)، تمييزاً له عن صراع آخر جرى بين العقل والبيان. فقد واجه العقل نوعين من الصراع ضمن النظام المعياري، أحدهما ذاتي لا يتعدى حقل الاعتبارات العقلية، والآخر عارض لأنه خارج عن هذه الاعتبارات، وبالتحديد أنه واجه صراعاً مع الدائرة البيانية التي أنكرت عليه ممارساته المعرفية. وإذا كان الصراع الأول جرى حول تأسيس النظر مما ترتّب عليه حالات النزاع الأخرى الخاصة بقضايا الانتاج المعرفي وفهم الخطاب (الديني)، فإن الصراع الثاني جرى حول هذا الفهم قبل أي اعتبار آخر، أي أنه صراع فهم لا تأسيس.

إشكالية العقل والقيم

لقد تولّدت عملية الصراع الذاتي للعقل المعياري بفعل النشاط العقلي المضاد، فالعقل انتج ما هو ضد له؛ استناداً إلى اعتبارات التأسيس القبلي للنظر، إذ كنا نعلم بأن الأشاعرة خرجت من رحم المعتزلة كرد فعل عليها، وأن كلاً منهما يحمل مشروعاً للتأسيس القبلي، وأن الصراع بينهما بدأ منذ لحظات المخاض التي اسفرت عن انفصال العقل الجديد عن القديم. فقد حسمت آخر محاورات الأشعري مع استاذه أبي علي الجبائي - حول المؤمن والكافر والصبي – الموقف بينهما، وعملت على بلورة روح التفكير لكلا العقلين، مثلما حددت نوع التناقض الذي أصاب العقل المعياري بمجمله. إذ بدأ الأشعري حياته العلمية بتبني الفكر الاعتزالي، واستمر على هذا النحو سنين طويلة، حتى جاء اليوم الذي نفض يده من ذلك الفكر ليؤسس قباله فكراً آخر مضاداً، رغم أنه وقف على نفس الخشبة التي وقف عليها الأول، وأعني بذلك أنه جعل اعتباراته الأساسية قائمة على العقل. فالإعتبارات العقلية بين الطرفين مختلفة، إذ كانت مع المعتزلة داخلة ضمن ما أطلقنا عليه الحق الذاتي، لكنها تحولت مع الأشعري إلى اعتبارات حق الملكية. وبالتالي فالخلاف بينهما هو خلاف «اعتبارات» ضمن الدائرة العقلية نفسها.

ومع أن الأشعري حمل بعض الإعتقادات التي كانت متبناة من قبل السلف، ومن أبرزها مسألة قِدم كلام الله وصفات اليدين والعينين والوجه وما إليها، كذلك الصفات الإلهية السبع التي قال بها أبو حنيفة، بل وحتى نظرية الكسب التي اعتقد البعض أنها ترجع في الأساس إلى هذا الإمام الفقيه[1].. لكن جميع هذه الإعتقادات جاءت - مع الأشعري - ضمن سياق خاص من التنظير القائم على الاعتبارات العقلية. وهي ذات الاعتبارات التي وضعت حدوداً للممارسة العقلية لدى العديد من القضايا، وعلى رأسها تلك المتعلقة بالحسن والقبح وما يترتب عليها من مسائل فرعية، خلافاً لما لدى المعتزلة من تنظير أفضى إلى نفي مثل هذه الحدود والقيود. فالسؤال ما زال قائماً حول ما يرد في الخطاب الديني من مدح وذم وثواب وعقاب: هل كان ذلك لحسن الأفعال وقبحها، سواء في ذاتها أو صفاتها أو اعتباراتها؟ أم أن اعتبارات الحسن والقبح جاءت بسبب مدح الخطاب وذمه، فكل شيء مدحه الخطاب فهو حسن، وكل شيء ذمه فهو قبيح؟ وبالتالي فأي رأي من هذين الرأيين هو الراجح والصحيح؟

واضح أن الإختلاف حول الاعتبارات العقلية قد جعل من علاقة المنطقين السابقين بالخطاب علاقة مختلفة. فلو عوّلنا على اعتبارات حق الملكية لكانت مسألة الحسن والقبح غير خاضعة للتقدير العقلي، بل تخضع للخطاب الديني، بإعتباره الناطق الوحيد باسم المالك الحقيقي. مما يعني أنه لا مجال للأخذ بالتشريع العقلي في قضايا الحقوق والواجبات، وذلك على عكس ما عليه اعتبارات الحق الذاتي والذي يجعل دائرة هذا التشريع مفتوحة بلا حدود.

ولدى الغزالي تمييز واضح للنتائج المتضادة المترتبة على المنطقين السابقين، فمن ذلك ما صرح به: «قول المعتزلة إن الإنسان خالق لأفعاله؛ لأن الله لو خلقها ثم نسبها إليه، ولأنه لو فعلها مع أنه لم يفعلها، وعذبه عليها مع أنه لم يوجدها، لكان ظالماً له، والظلم نقصان، وكيف يصح أن يفعل شيئاً ثم يلوم غيره عليه، ويقول له كيف فعلته ولِمَ فعلته؟ وأهل السنة يقولون وجدنا كمال الإله في التفرد ونفي العيب والنقصان، وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم، بدليل تعذيب البهائم والمجانين والأطفال، لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يسأل عما يفعل، والقول بالتحسين والتقبيح باطل، فرأوا أن يكون هو الخالق لأفعال العباد، ورأوا تعذيبهم على ما لا يخلقون جائزاً من أفعاله غير قبيح». كذلك: «ايجاب المعتزلة على الله أن يثيب الطائعين كي لا يظلمهم، والظلم نقصان. وقول الأشعري ليس ذلك بظلم، إذ لا يجب عليه حق لغيره، إذ لو وجب عليه حق غيره لكان في قيده، والتقييد بالأغيار نقصان». كذلك: «قول المعتزلة إن الله تعالى يريد الطاعات وإن لم تقع، لأن إرادتها كمال، ويكره المعاصي وإن وقعت، لأن إرادتها نقصان. وقول الأشعري لو أراد ما لا يقع لكان ذلك نقصاً في إرادته لكلالها عن النفوذ فيما تعلقت به، ولو كره المعاصي مع وقوعها لكان ذلك كلالاً في كراهته، وذلك نقصان». أيضاً: «ايجاب المعتزلي على الله تعالى رعاية الأصلح لعباده لما في تركه من النقصان. وقول الأشعري لا يلزمه ذلك لأن الإلزام نقصان، وكمال الإله أن لا يكون في قيد المتألهين»[2].

ويفهم من التناقضات العقلية السابقة التي أدلى بها الغزالي، أن اعتبارات الكمال تارة تتجلى في مسألة القيم الأخلاقية تبعاً لمنطق الحق الذاتي، وأخرى تتمثل في التفرد والسلطنة والملكية المطلقة، ومن ثم المشيئة والإرادة التي لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود، حتى وإن لم تتوافق مع القيم الأخلاقية كما يراها الناس، طبقاً لمنطق حق الملكية. إذ يتمثل النقص بحسب الاعتبارات الأولى بدواعي القيم الأخلاقية، في حين يتمثل بحسب الاعتبارات الثانية بالقيود التي تكبل إرادة المالك الحقيقي وتحدد من فرادته وسلطته وفعله المطلق.

إذاً، هناك صراع حول التأسيس القبلي للنظر ضمن الدائرة العقلية، أو بين البداهتين الأوليتين للحق الذاتي وحق الملكية. والسؤال هو: كيف يمكن التأكد من مصداقية أيٍّ من هاتين البداهتين المتضادتين؟

لنعد إلى العقل، بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى، ومنها الاعتبارات الدينية، ونتساءل: هل هناك ما يمكن التوصل إليه من صدق أحد هذين التصورين؟ فهل بمقدور العقل تشخيص طبيعة الحق فيدرك ما إذا كان يتوقف على قيد خارجي، كشرط الملكية، أو أن له اعتباراته الذاتية الصرفة من غير قيد أو شرط؟

وبعبارة أخرى، هل الحق هو ما يحدد سلطة الملكية، أم الملكية هي ما تحدد سلطة الحق؟ فمَن يحكم مَن؛ سلطة الحق في ذاته أم الملكية؟

دعنا نفترض أن العلاقة بين المالك المطلق والعبد المملوك هي علاقة تقبل الحكم من طرف آخر هو العقل. فطالما أن أصحاب البداهتين ارتكنوا إلى العقل لتحديد كل منهما بداهته كما رآها؛ فهذا يعني أن العقل مدرك لطبيعة ما عليه الحق، وأن العلاقة بين المالك والمملوك هي علاقة محكومة به ككاشف، سواء قُدّر الأمر بنحو اعتبار الملكية، أو باعتبار الحق الذاتي.

والسؤال هو: كيف يتاح لنا التأكد عقلاً من صدق إحدى المقالتين وكذب الأخرى؟

بادئ ذي بدء، لا بد من التذكير بأننا أمام مسألة قيمية معيارية، ولسنا بصدد حقيقة موضوعية خارجية. ففي الموضوعات الخارجية نستخدم أدوات الحس والتجربة والخبرة للكشف عن الحقائق. فمثلاً إن القضية التي تقول بأن المطر سيهطل غداً هي قضية تقبل الفحص والإختبار، فعلى الأقل يمكن الانتظار إلى يوم غد لنتأكد إن كان المطر سيهطل أم لا؟

وعلى هذه الشاكلة لو ادعى شخص بأن هناك حياة في كوكب المريخ من منظومتنا الشمسية؛ فإن هذا الإدعاء قابل للتحقيق والفحص الخارجي ليُعرف من خلال البحث إن كان صادقاً أو كاذباً. في حين أننا في القضايا القيمية لا نواجه حقائق خارجية مادية أو طبيعية، فليس هناك شيء نطلق عليه (حق، حسن، عدل.. الخ) ليمكن فحصه والكشف عن مضامينه إن كان محكوماً بقضايا أخرى مثل الملكية أو عارياً عنها؟

وفي الدراسات الغربية للقيم ظهرت مذاهب متعددة حول علاقتها بالواقع. فقد اعتبرتها بعض المذاهب زائفة غير قابلة للتحليل، لأنها لا تُخبر بشيء جديد في الواقع، وبالتالي فهي تعود إلى القضايا التي لا معنى لها؛ كما صرح بذلك الاستاذ آير من الوضعية المنطقية، مبرراً ذلك بأنها لا تعدو أن توضح المشاعر البشرية دون أن يكون لها قابلية على التحقيق أو الإثبات والنفي، وعليه لا توصف بالصدق والكذب. فمثلاً إذا قلتُ: (لقد فعلتَ خطأً في سرقتك النقود) فإني لم أقرر شيئاً أكثر من القول بأنك سرقت النقود. وعندما أعمم القول بعبارة (إن سرقة النقود خطأ) فإني أنتج جملة لا تحمل معنى حقيقياً، لأنها لا تتضمن الصدق والكذب، بل هي مثل كتابتي لعبارة (سرقة النقود)[3].

وذهب المفكر الاسترالي جون ليزي ماكي إلى ذات النتيجة من إنكار وجود مبدأ للتحقيق وإثبات القضايا القيمية، باعتبار أن هذه القضايا تفتقر إلى المعنى الوصفي، لكنه لا يعتبرها بلا معنى، بل يراها كاذبة أو غير موضوعية[4].

وقد طرح ماكي بهذا الصدد عدداً من المشاكل التي تبين كذب القضايا القيمية أو عدم موضوعيتها، أهمها إعتباره أنه لو كان لهذه القضايا صفة موضوعية لكان من الممكن إيجاد ما يوصلها بالحقائق الطبيعية ذات الوجود الخارجي[5].

كذلك إعترض الاستاذ هير على موضوعية الأحكام القيمية، فاعتبر أنه لو افترضنا عالمين أحدهما يمتلك قيماً موضوعية دون الآخر، فإن الناس في الحالتين سيتعاملون مع الأشياء نفسها بلا فرق، سوى أن الفرق في ذلك يعود إلى الناحية الذاتية للناس فحسب[6].

كما اعتبر الفيلسوف الامريكي جلبرت هارمان بأن هناك حاجة لصنع الفرضيات حول الحقائق الفيزيائية لتفسيرها، لكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالحقائق القيمية، فهي لا تحتاج إلى مثل هذه الفرضيات بإستثناء ما يخص الأمور النفسية للشخص الذي يتعاطى مع مثل هذه الحقائق، كما أن الأخيرة لا تعد جزءاً من مراتب الطبيعة لتقام عليها المعرفة العلمية[7].

وكذا ميّز هارمان بين المبادئ العلمية والمبادئ القيمية، فبرأيه أن الأولى ترتكز على معيار الرصد والمشاهدة observation كجزء مهم لقبول التفسير والنظريات، في حين ليس الأمر كذلك فيما يخص المبادئ الخلقية، إذ لا تشكل المشاهدة عنصراً من عناصر تفسير النظريات فيها أو قبولها[8].

وفي قبال ذلك اعتبر البعض أن معيار الحدس في المبادئ القيمية يلعب نفس الدور الذي تلعبه المشاهدة في العلم الطبيعي[9]. بل أكثر من هذا ذهب الباحث بويد إلى أن للقيم حقائق موضوعية، وأن المشاهدة فيها تلعب الدور نفسه الذي تلعبه في العلم، معتبراً أن القيم - كالحسن مثلاً - هي خاصية property تشابه تماماً سائر الخاصيات التي يبحثها علماء النفس والتاريخ والإجتماع[10].

وبحسب تقدير بعض الباحثين، فإن في الغرب تيارين قائلين بموضوعية القيم، أحدهما يماثل في الموضوعية بين خواص القيمة للحسن والقبح من جهة، وخواص الطبيعة للأشياء الفيزيائية من جهة ثانية، مع أنه لا توجد اشارة تدل على الوجود الخارجي للقيم خلافاً للحال مع الواقع الفيزيائي. أما التيار الآخر فيكتفي بموضوعية القيم من حيث أنها غير قابلة للتحليل، كالذي يقوله الاستاذان مور وروس[11].

وحقيقة الأمر إنه لا يوجد في الواقع الموضوعي الطبيعي ما يمكن أن نطلق عليه (قيم) لنبحث عنها من خلال الحواس والآثار الخارجية. فعالم القيم هو غير عالم الواقع والوجود، رغم الصلة الوثيقة والتلازم بين العالمين، إذ لا يمكن التحدث عن القيم بمعزل عن وجود الأشياء، والعكس ليس صحيحاً، إذ يمكن التحدث عن الأخيرة بمعزل عن الأولى.

وعندما نتحدث عن القيم الأخلاقية فإننا لا نتحدث عنها من حيث صلتها بالمادة الخارجية الجامدة، ولا بعلاقتها بالحياة النباتية والحيوانية، بل ولا بارتباطها بالحياة العاقلة؛ ما لم تمتلك القدرة والإرادة والإختيار والقصدية. وبالتالي فإن تحقق القيم لا يكون إلا بارتباطها بالشرط الأخير دون غيره، وهو شرط يتضمن وجود الحياة العاقلة. فمثلاً لا يمكن الحديث عن القيم عندما يتعلق الأمر بشيء خارجي كالنار. فلا يقال للنار أن فعلها حسن أو قبيح، أو أن فعلها يمتلك حقاً أو يفتقر إليه. وكذا لا يقال للحيوان مثل هذه النعوت، بل ولا يقال للعاقل المدرِك فاقد القدرة والإرادة إن فعله حسن أو قبيح. إنما يقال ذلك للعاقل الذي يمتلك القدرة والإرادة، حيث يُنعت فعله بالحسن والقبح، أو الحق والباطل.

فالقيم قائمة - إذاً - على شرط الإرادة المدرِكة، وبالتالي لو كانت أفعالنا جبرية لما صدق عليها هذه الأحكام. كذلك لو لم تكن لله القدرة على أن يفعل غير ما فعله في خلقه - رغم سعة علمه وعظمته- لما صدق عليه هو الآخر تلك الأحكام، بل لكان فعله كفعل النار التي ليس بوسعها فعل شيء غير الحرق، كما يراه النظام الوجودي.

القيم والضرورة العقلية

لكن مع هذا تظل مشكلتنا متعلقة بطبيعة الأحكام الصادرة عن هذه القيم. فهل هي أحكام عقلية كتلك التي لها علاقة بالموضوعات المنطقية والخارجية، أم أنها شيء آخر مختلف؟ إذ للمعرفة العقلية أقسام؛ منها ما هو ذهني صرف، كما منها ما هو واقعي، كالتالي[12]:

1ـ المعرفة الذهنية البحتة، مثل قضية مبدأ عدم التناقض والواحد المضاف إلى مثله يساوي إثنين. وهذه المعرفة لا علاقة لها بالواقع عندما تعبّر مقدماتها عن قضايا مفترضة.

2ـ المعرفة الإخبارية الضرورية، مثل مبدأ السببية العامة القائل إن لكل حادثة سبباً ما يوجدها، أي من المحال أن توجد حادثة من دون سبب. كذلك أن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في أكثر من مكان في الوقت نفسه، ومثله لا يمكن أن يكون شيئان في ذات المكان الواحد في الوقت نفسه.

وتتصف هذه المبادئ بالضرورة العقلية، بمعنى أن العقل يدرك حتمية ما تتضمنه هذه القضايا، لكن الضرورة فيها ليست منطقية كما هو حال القسم الأول من المعارف العقلية العامة، بل هي من نوع آخر، إذ عدم التسليم بها لا يفضي إلى مشكلة منطقية، كالتناقض، وكل ما في الأمر أن عقلنا يستبعد تماماً أن يجد شاهداً يكذبها، وبالتالي يمكن وصفها بأنها غير قابلة للتكذيب، ومن يشك في ذلك فعليه التحقيق، خلافاً للقضايا المنطقية التي لا تقبل مثل هذا الشك والتحقيق[13].

فالفارق بين المجموعتين من القضايا، هو أن المعرفة في القضايا الإخبارية تتميز بالضرورة الوجدانية، وأن اللابدية فيها تتصف بالتحدّي، في حين تتصف الضرورة في المجموعة الأولى بالمنطقية، وأن اللابدية فيها لا تقبل التحدي.

المعرفة الإحتمالية، وتتصف بأن إخبارها عن الواقع الموضوعي لا يطابق غالباً ما عليه الواقع، خلافاً للمعرفة الإخبارية الضرورية التي تشترط مطابقة الواقع حتماً. فمثلاً إن قيمة إحتمال ظهور وجه الصورة لرمية واحدة لنقد متماثل الوجهين تساوي (1\2)، وهي قضية ضرورية لا شك فيها، لكن يتفرع عنها بعض القضايا والنتائج المفارقة حسب القياس المنطقي كالتالي:

إن قيمة إحتمال ظهور وجه الصورة لكل نقد منتظم تساوي (1\2) بالضرورة، وحيث أن هذه قطعة نقد منتظمة، لذا فقيمة إحتمال ظهور الصورة فيها تساوي (1\2) بالضرورة أيضاً، طالما كنا متأكدين من انتظام القطعة. وبالتالي فقد استنتجنا الجانب العقلي للقضية الجزئية. لكننا حين نرمي هذه القطعة النقدية عدداً من المرات، ولنفترض عشر مرات، فسوف نلاحظ أن نتائج ظهور وجه الصورة لا يؤدي بالضرورة إلى القيمة الإحتمالية النصفية، فقد تكون أكثر أو أقل من ذلك، بل الغالب أنها لا تكون نصفاً، لأسباب ذكرناها في بعض من دراساتنا المستقلة[14].

هذا هو حال القضية الواقعية في الحسابات الإحتمالية، إلا أنه لا يغير شيئاً من ضرورة الحكم العقلي السابق. فالقضية المنطقية في المبادئ الإحتمالية ضرورية، خلافاً للقضية الواقعية المستندة إليها. والسبب في هذا الإختلاف يرجع إلى طبيعة القضايا الإحتمالية ذاتها، حيث تقتضي أن تكون القضايا الواقعية فيها غير محتّمة، كما تقتضي أن تكون قضاياها المنطقية ذات صبغة ضرورية.

المعرفة الحضورية الوجودية، وتتمثل في معرفتنا بأنفسنا مباشرة دون حاجة للدليل، وبالتالي فهي لا تتقبل كوجيتو الاستدلال الديكارتي القائلة: (أنا افكر فإذاً أنا موجود). رغم أن كتابات ديكارت ممتلئة في التعبير عن تجربة ذاته المدرِكة واسترسالاته الطبيعية من دون حاجة للحجاج المنطقي، كما يلاحظ مثلاً في (تأملات)[15]، حيث أظهر بأن الكوجيتو هو مبدأ بديهي تام الوضوح وليس استدلالاً منطقياً، لذلك ردّ على ناقده جاسندي بهذا الخصوص[16].

المعرفة الإخبارية الوجدانية، مثل الإعتقاد بالواقع الإجمالي للعالم. فهذه المعرفة ليست ضرورية، كما لا يمكن الإستدلال عليها، وبالتالي فهي من المعارف الوجدانية الصرفة[17].

6ـ أما بخصوص المعرفة القيمية، كالحسن والقبح، فهي لدى الفلاسفة القدماء من المشهورات، ولدى أصحاب منطق الحق الذاتي من العلوم الضرورية التي تتوقف عليها متفرعاتها من الأحكام[18]. لكن البعض خلط بين هذين الإتجاهين ونقل لنا المفهوم الذي تبنّاه أصحاب منطق الحق الذاتي (العدلية) ودافع عنه دفاعاً تاماً، في الوقت الذي رآه بعين الفلاسفة واستشهد عليه ببعض عباراتهم، كالذي نقله عن ابن سينا في (الإشارات والتنبيهات) وما وافقه عليه شارحه نصير الدين الطوسي. لذا اتصفت عباراته بالتهافت وعدم الإتساق أحياناً.

فالشيخ محمد رضا المظفر عرّفنا بالمشهورات بأنها قضايا لا عمدة لها في التصديق إلا الشهرة وعموم الإعتراف بها، كحسن العدل وقبح الظلم، حيث لا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها، فلو خلي الإنسان وعقله المجرد فسوف لا يحصل له حكم بها، ولا يقضي عقله فيها بشيء كما يقول ابن سينا. وليس الأمر كذلك مع قضايا الضرورات الأولية كالحكم بأن الكل أعظم من الجزء، إذ لو خلي الإنسان وعقله فإنه لا يتردد في صدقها، إذ يكفي تصور طرفي هذه القضية لقبولها من دون شك.

لذا فالمعتبر في مثل هذه القضايا الأولية للعقل النظري هو أنها مطابقة لما عليه الواقع. أما المعتبر في المشهورات فهو أنها مقبولة لتطابق الآراء عليها، حيث لا واقع لها غير ذلك، وأنّ هذا التطابق هو لأجل المصلحة العامة، إذ بها يكون حفظ النظام وبقاء النوع، كقضية حسن العدل وقبح الظلم. فمعنى حسن العدل هو أن فاعله ممدوح لدى العقلاء، ومعنى قبح الظلم هو أن فاعله مذموم.

فهذا هو المفهوم الوجودي للفلاسفة عن العقل العملي للحسن والقبح، وهو ذاته الذي جعل المظفر يعتبر العدلية - أصحاب منطق الحق الذاتي - قائلين به، إذ يدل عندهم على كونه من المشهورات لا الضرورات، واستشهد عليه بقول ابن سينا وما وافقه عليه تابعه نصير الدين الطوسي[19]. هذا بالرغم من أنه تبنى في بعض كلماته مذهب القائلين بالحق الذاتي، ومن ذلك إعتباره قضايا الحسن والقبح من القضايا الذاتية، وأن ما كان ذاتياً لا يقع فيه إختلاف، فالعدل بما هو عدل لا يكون قبيحاً أبداً، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون حسناً أبداً، أي ما دام عنوان العدل صادقاً فهو ممدوح، وما دام عنوان الظلم صادقاً فهو مذموم[20].

ويلاحظ أن المعنى الفلسفي الذي تبنّاه المظفر يثير مشكلة، وهي أنه إذا كانت قضية الحسن والقبح من المشهورات، فكيف جاز لهذه القضية أن تتحكم في ظواهر النص الديني، بل وتتأسس عليها حجية هذا النص، سواء من الخارج أو الداخل، تبعاً لمنطق الحق الذاتي الذي تبنّاه الشيخ المذكور؟

فالقول بأن قضية الحسن والقبح من المشهورات يعزّز فكرة منطق حق الملكية، إذ يترتب على ذلك غياب الأساس الذي تستند إليه هذه القضية، باستثناء ما ألفناه من الاعتبارات الإنسانية، وهو ما يعني إلغاءاً للبعد العقلي المجرد.

فلو أن الله أدخل المؤمن الصالح في النار، وجعل الكافر الشرير في الجنة، فإننا سنعتبر هذا الفعل قبيحاً، لا لأنه كذلك بحكم العقل المجرد، بل لأنه من الأمور المشهورة المتعارف عليها بين الناس، أو لأنه مما توافقت عليه آراء العقلاء. وهذا ما يُسقط القيمة العقلية لهذا الحكم عند مقارنته بالاعتبارات المتعلقة بالله تعالى، وعلى رأسها المشيئة وحق التصرف المطلق في مُلكه. إذ ما الذي يضمن أن ما يراه الله من اعتبارات، هو عينه ما نتوافق عليه نحن البشر من خلال الشهرة والمرتكز الجمعي؟

فلو قيل بأن الله من جملة العقلاء «بل رئيسهم، بل خالق العقل، فلا بد أن يحكم بحكمهم بما هم عقلاء»[21]؛ لأجبنا: كيف عرفنا أنه يحكم بحكمهم، لا سيما ونحن من عالم وهو من عالم آخر مختلف؟ وإن قيل إننا علمنا ذلك مما دلّ عليه الخطاب الديني، أي أن الخطاب أخبرنا بأن حكم الله مطابق لحكم العقلاء في هذه القضايا، لكان هذا الكلام دورياً، إذ إن إثبات حجية الخطاب نفسه متوقف على صحة تلك القضايا ابتداءً.

أما لو قيل إننا عرفنا ذلك بالعقل، فإن كان المقصود هو الإدراك بحسب الشهرة والتوافق على الآراء بين العقلاء، فذلك لا يقدّم شيئاً، إذ قد يكون المشهور باطلاً، كما قد تكون اعتبارات المشهور لدينا هي غير اعتبارات من هو أعلى منا عقلاً وعلماً. وهنا تنقلب المسألة إلى المفهوم المتعلق بمنطق حق الملكية، وبالتالي يصبح من المحال إثبات المسألة الدينية وفق منطق الحق الذاتي، كما لا يمكن الحكم على الأفعال الإلهية وفق الحقوق والواجبات، وكذا الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، مادامت لا تخرج عن حد الشهرة واتفاق العقلاء.

***

ومن حيث التحليل، عندما نقول إن المسألة عقلية، فهذا يعني أن الوجدان العقلي يشهد على صدقها؛ سواء شهد بذلك على نحو الضرورة، أو على نحو التأكيد فحسب.

وهنا نلحظ أن القضايا القيمية هي أيضاً مما يشهد لها الوجدان العقلي بالصحة والصدق، رغم أنها لا تُعنى بالإخبار عن الواقع الموضوعي أو التطابق معه، ولا تنتمي إلى صنف القضايا المنطقية المجردة، بل إنها تُعبّر عن حالة مغايرة لما سبق أن تناولناه، إذ تتضمن بعداً كيفياً قيمياً خاصاً.

وليس في ذلك ما يبعث على الغرابة، فقد رأينا أن بعض القضايا في مجالات معرفية معينة تمتاز بالضرورة العقلية، رغم أن معظمها لا يتطابق مع مصاديقها الواقعية، كما هو الحال في القضايا الإحتمالية، وكأنها بذلك تتضمن المفارقة وعدم الإتساق، لكن حالها ليس كما يبدو. فبحكم اعتباراتها المنطقية والرياضية يتحتم أن لا يتطابق معظمها مع الواقع الموضوعي، من دون خلل أو تناقض.

كذلك ثمة قضايا تصلح أن تكون محلاً للإعتقاد الراسخ بناءً على حكم العقل والوجدان، رغم أنها ليست من الضرورات المعرفية، ولا من المعارف التي يمكن الإستدلال عليها، مثل الإيمان بوجود واقع موضوعي عام.

وعليه، يتعذر اختزال الإدراك العقلي وأحكامه في وتيرة معرفية واحدة، إذ تتعدد صوره وكيفياته بحسب طبيعة الموضوعات وشروط إدراكها. ومن بين هذه الصور، تبرز القضايا التي تصدر عن العقل العملي، بما لها من خصوصية في التقييم والحكم.

فمثلاً لا يتردد العقل في أن يستقبح قتل الوالدين، أو ذوي الإحسان، أو النظراء، من غير سبب موجه. لكن من الواضح أن مثل هذه الأمثلة تتضمن إفتراض أن يكون بين الأفراد نوع من التماثل والاستقلالية. فالعلاقة بينهم ليست قائمة تبعاً للملكية الحقيقية، إذ إن بعضهم لا يمتلك البعض الآخر، وبالتالي فإن هذه الصورة يمكن أن يتفق عليها كلا المنطقين المتنازعين (الحق الذاتي وحق الملكية). وهي مؤشر على صلاحية العقل العملي في الحكم على الأشياء وفقاً للشروط المطلوبة. إلا أن المشكلة تكمن في الشرط الميتافيزيقي المتمثل في إفتراض وجود علاقة من الملكية المطلقة، خلافاً لحالة التماثل السابقة. وبحسب هذا الإفتراض فهناك كائن يتمتع بامتلاك غيره امتلاكاً مطلقاً، والسؤال هو: هل يحق له تعذيبه والعبث به من غير سبب موجه؟

لا شك أنه ليس أمامنا في هذه الحالة إلا أن نفترض وجود طرف ثالث مجرد و«محايد» يتصف بقدرته على الإدراك والحكم، وأعني بذلك العقل أو الوجدان. فلو رجعنا إلى الوجدان العقلي، وبغض النظر عن كل الاعتبارات الخارجية، كالدينية وما شاكلها، نجد أنه يقطع بإدراك حالة القبح أو النقص القيمي لمثل ذلك الفعل رغم إتصاف الفاعل بالملكية المطلقة. وهو ما يبرر الواجبات العقلية، سواء كانت متعلقة بالمكلِّف أو المكلَّف.

وتبعاً للأمر المنطقي لا بد لكل معرفة من قيود وشروط، ومن هذه القيود ما يتعلق بطبيعة القضايا ذاتها.

فمثلاً يتعلق القيد في القضية القائلة بأن الواحد المضاف إلى واحد مثله يساوي إثنين، بالواحد البسيط أو المجرد، وبالتالي لا يمكن نقضها بقضية أخرى لا تحمل هذه البساطة أو التجريد، كإن يقال أحياناً بأننا لو جمعنا حجم غاز بآخر مثله فإنه يمكن أن نحصل على حجم واحد منهما، أي أن الواحد المضاف إلى مثله يساوي واحداً لا إثنين.

كذلك فإنه في قضية السببية العامة يشترط أن تكون هناك حادثة ما، كإن تعبّر عن تغير غير ثابت أو وجود بعد عدم، وهذا يعني أن هذا الشرط لا ينطبق على مبدأ الوجود الأول، ليقال أنه لا بد له من سبب غيره، بإعتباره ليس حادثة، فهو موجود في الأصل دون أن يسبقه عدم، كما أنه لا يتغير كي يقال أن هذا التغير لا بد له من سبب. وأيضاً فإن من قيود هذه القضية أنها لا تتحدّث عن نوع السببية وتعيين السبب، وبالتالي فهي وإن كانت حالة عامة يمكن تطبيقها على مختلف ظواهر الكون وحوادثه، وأنها كذلك شرط للمعرفة البشرية من دونها يتعذّر الوثوق بأي علم طبيعي، إلا أنها غير كافية لتفسير هذه الظواهر والحوادث، باعتبارها لا تشخّص طبيعة الأسباب الكامنة وراء ما يحدث. فهذا هو قيدها كما يدركها العقل النظري القبلي.

كذلك الحال مع قضية الإيمان بواقعية العالم من غير دليل، إذ إن هذا الإيمان مشروط بكونه يصدق في حدود العالم المجمل للواقع الموضوعي، دون أن يمتد إلى تفاصيل هذا العالم. فأي عنصر جزئي فيه يمكن التحقق من كونه واقعًا أو مجرد إفراز ذهني من خلال الدليل الاستقرائي والقرائن الاحتمالية.

أما ما يتعلق بالعالم في عموميته وكليته، فهو مفترض سلفًا، ولا دليل يثبت واقعيته، رغم إيماننا الجازم به. ومهما بلغ بنا الشك، فإننا من الناحية الغريزية أو الفطرية نتعامل معه تعاملاً موضوعيًا، أي نفترض وجوده خارج حدود الذهن وإفرازاته الذاتية. وهذا هو القيد الذي يضبط المعرفة الوجدانية بوجود الواقع الموضوعي العام.

وأيضاً مع القضية العقلية الخاصة بالإحتمالات، فإنها مقيدة بتماثل الحالات الممكنة، ولولا هذا التماثل لانتفت الضرورة المعرفية، ولأصبحت المعرفة «تقديرية».

وبصفة عامة، تشهد أغلب حالات الواقع على عدم تحقق هذا الشرط، وبالتالي فهي لا تخضع للحكم العقلي، في حين توجد قضايا بسيطة يمكن أن ينطبق عليها الحكم العقلي، كالسحب العشوائي لبعض الكرات المختلفة الألوان مع علمنا بعددها وألوانها وتساوي أوزانها وأحجامها وأشكالها، إذ يكون الحكم فيها حكماً عقلياً غير قابل للنقض والتبديل[22].

ومعنى الضرورة للقضايا المختلفة السابقة هو أن تكون غير قابلة للخرق والتجاوز، فهي بالتالي صحيحة صحة مطلقة وإن بإعتبارات مختلفة. والحكم فيها لا يستند إلى ما يتفق عليه الناس، إذ لو اعتمدنا على ما يقوله الآخرون لما وجدنا قضية يمكن الإتفاق عليها، بما في ذلك مبدأ عدم التناقض، فضلاً عن مبدأ السببية العامة وغيرها. وعليه كان لا بد من النظر إلى القضية ذاتها بحسب التجريد العقلي، أي العمل على رؤيتها مباشرة من الداخل قبل محاكمتها بحسب الاعتبارات المختلفة تبعاً لطبيعة هذه القضايا وقيودها.

وعموماً يشهد العقل أشكالاً مختلفة للضرورة العقلية كما قدمنا، خلافاً لما يُعرف لدى المفكرين والفلاسفة بوجود نمط واحد منها هو الضرورة المنطقية، وأحياناً يشار بشكل مجمل إلى الضرورة العقلية ليضم فيها عدد من الضرورات، كتلك التي تخص مبدأ عدم التناقض ومبدأ السببية العامة.

فتارة تكون الضرورة منطقية كما في عدم التناقض، وثانية غير قابلة للتكذيب كما في السببية العامة، وثالثة إحتمالية مثلما تنشأ في الحالات المتماثلة؛ كتماثل وجوه عملة النقد. ونضيف إلى ذلك ما نطلق عليه (الضرورة القيمية).

فهذه الضرورات الأربع بعضها يختلف عن البعض الآخر، والصفة المشتركة فيما بينها هي عدم إمكان تغييرها وإبدالها، لِما لها من طبيعة شمولية مطلقة، بما فيها النوع الأخير من الضرورات الخاصة بالعقل العملي تمييزاً له عن سائر الأنواع التي يتضمنها العقل النظري.

والإختلاف بين هذه الضرورات هو أن الأولى (المنطقية) لها علاقة بالقضايا النظرية التجريدية، وأن الثانية تحدّية أو غير قابلة للتكذيب؛ لِما لها من علاقة بالواقع الموضوعي مباشرة، باعتبارها إخبارية وكاشفة عن الواقع بالقيد الذي ذكرناه، أما الثالثة (الإحتمالية) فهي وإن تحدثت عن الواقع إلا أنها تتميز بعدم مطابقتها للواقع بالضرورة، بل وإختلافها عنه في أغلب الأحيان.

تبقى الضرورة القيمية، فهي أنها لا تتحدث عن أشياء الواقع الوجودي والتكويني، وبالتالي لا يمكن محاكمتها كما يحاول البعض محاكمة الضرورة غير القابلة للتكذيب، إنما المهم مشاهدتها بالرؤية المباشرة تبعاً لما يُفضي إليه الحدس العقلي المدرك لشموليتها المطلقة ضمن قيودها الخاصة، كغيرها من ضرورات العقل النظري.

فلو تحقق للعقل إثبات جزئية واحدة موجبة من قضايا الضرورة القيمية أو غيرها من القضايا العقلية؛ لكان ذلك دالاً على صدقها بنحو كلي. في حين ينبغي على المنكرين لصدقها أن ينفوا حقيقتها كلياً بما يُعرف منطقياً بالسالبة الكلية. ومن الأمثلة الواضحة عليها نذكر ما يلي:

ـ العقاب من غير بيان في التكليف قبيح.

ـ التكليف بما لا يطاق إن لم يكن عقوبة فهو قبيح.

ـ الإعتداء على الآخرين من غير ذنب ولا إضطرار قبيح.

ـ شكر المنعم الخيّر حسن.

ـ الإعتراف بجميل المحسن حسن.

ـ التعاون مع الأخيار في العمل الصالح حسن.

ـ مساعدة المحتاجين الأخيار حسن.

ـ ترجيح الأهم على المهم حسن.

ـ دفع الضرر عن غير المستحقين حسن ما لم يفضِ إلى ضرر أكبر.

ـ رد المظالم إلى أهلها المستحقين حسن ما لم يؤدِّ إلى ضرر أكبر.

ـ الإنتصاف من الظالم للمظلوم حسن ما لم يؤدِّ إلى ضرر أكبر.

ـ الصدق حسن ما لم يضطر إلى الكذب.

الضرورة القيمية والإعتراض عليها

كان من بين الإعتراضات العقلية التي قدّمها أصحاب منطق حق الملكية على قضايا الحسن والقبح، هو أنها لو كانت عقلية لما وقع التفاوت بينها وبين الضرورات الأولية للعقل، كقضية أن الكل أعظم من جزئه، إذ لا تتفاوت العلوم الضرورية فيما بينها في الحكم. وكما نقل ابن القيم هذه الحجة عن النافيين لعقلية الحسن والقبح، وهو قولهم: لو أن الإنسان افترض نفسه قد خُلق تام الخلقة وكامل العقل دفعة واحدة، ولم يتخلق بأخلاق قوم، ولا تأدب بتأديب الأبوين، ولا تربى في الشرع، ولا تعلم من متعلم؛ ثم عُرض عليه أمران أحدهما (الإثنين أكثر من الواحد) والثاني (الكذب قبيح)، بمعنى أنه يستحق اللوم عليه؛ ففي هذه الحالة سوف يتوقف في الأمر الثاني دون الأول، ومن حكم بأن الأمرين سيان خرج عن قضايا العقول، وعاند كعناد الفضول[23].

وهذا الإشكال غير صحيح، إذ هناك تفاوت في العلوم العقلية، كما أن فيها قيوداً يجعل بعضها يختلف عن البعض الآخر، ويظل المشترك فيما بينها هو القول بالضرورة بمعناها العام عندما يدركها العقل مجرداً، أو عند تصور طرفيها. فالعقل يحكم بضرورة صدق قضية الحسن والقبح، مثلما يحكم بهذه الضرورة للقضايا المنطقية والعقلية والإحتمالية، مع الأخذ بنظر الاعتبار القيود والإعتبارات الخاصة لكل منها.

ومن الباحثين الغربيين من شكك بالضرورات العقلية، سواء في القضايا القيمية أو غيرها من القضايا الأخرى؛ بما فيها الأحكام الرياضية، معتبراً أن منشأ ما تتصف به هذه القضايا من الصدق والثبات والكلية والإطلاق، سواء في الرياضيات أو القيم، هو عقولنا نحن البشر، وما يدرينا فلو أن هناك عقولاً أخرى؛ فلربما ظهر لها الأمر مختلفاً؟ فمثلاً نعلم بأن الضرورة الرياضية لعقولنا تقر بأن جمع الإثنين مع الثلاثة يساوي خمسة، لكن ما الذي يضمن هذه النتيجة لعقل آخر مختلف عنا؟ وكذا يقاس الشيء نفسه بالنسبة للأحكام القيمية، فما يراه عقلنا حسناً؛ قد لا يكون كذلك لدى عقل آخر مختلف[24]؟

ولا ريب في أن هذا التشكيك يفضي إلى إسقاط المعرفة البشرية قاطبة، إذ تتأسس الأحكام الرياضية على مبدأ عدم التناقض، وأن التشكيك بهذا المبدأ لا يدع مجالاً للإستدلال، ومنه الإستدلال المذكور، فلا يتم الإستدلال ما لم يقر ضمناً صدق ذلك المبدأ، والإعتراف بصدقه يعني الإعتراف بصدق الأحكام الرياضية القائمة عليه.

كما هناك إعتراض آخر، وهو أن قضايا الحسن والقبح تتباين أحكامها طبقاً للظروف والأحوال المختلفة، فما يكون حسناً في ظرف قد يكون قبيحاً لدى آخر.

وبحسب بعض الغربيين من المدافعين عن المذهب الإجتماعي تصطبغ قضايا الحسن والقبح وفق ما عليه التقاليد والأعراف، بعيداً عن الإحساسات الفردية والتقييمات الذاتية، فقد رأى الاستاذ (روث بينيدكت) أن البشر يفضّلون التعبير عن الفعل في القضايا القيمية بأنه حسن – مثلاً - بدل التعبير عنه بأنه عادة وتقليد، وكما يرى أن العبارتين السابقتين مترادفتان[25].

وتتعمق المسألة أكثر عند لحاظ التزاحم الحاصل بين مصاديق قضايا القيم، كالتزاحم بين صدق القول وإنقاذ نفس محترمة أو بريئة، ففي بعض الأحيان يكون الصدق سبباً لهلاك هذه النفس، والكذب سبباً لإنقاذها، فكيف تكون مثل هذه القضايا عقلية ضرورية، لا سيما وأن من شروط القضية العقلية أن تكون مطلقة غير مقيدة بزمان ومكان، ولا مخصصة بحالات دون أخرى؟

والجواب عن هذا الإعتراض يستمد مما سبق عرضه بشأن الإختلاف بين أنواع القضايا العقلية، فلكل نوع شروط وقيود تختلف عن غيره، وأن الجامع الذي يجمعها هو كونها صحيحة بحسب النظر القبلي للعقل، وأنها من هذه الناحية تكون مطلقة وشاملة وغير قابلة للتخصيص، وينطبق هذا الحال على قضايا القيم والحسن والقبح، فهي من حيث نفس الأمر وبغض النظر عن مصاديقها تظل صحيحة صحة مطلقة، فلا تعارض بينها في نفس الأمر، إنما ينشأ التزاحم بين مصاديقها الفعلية. فالصدق حسن، وكذا انقاذ النفس المحترمة حسن أيضاً، ولا تعارض ولا تزاحم من حيث الذات بين هذين الواجبين، بل ينشأ التزاحم بالعرض بين المصاديق.

لكن السؤال المطروح: هل يؤثر مثل هذا التزاحم على ذاتية الصدق من حيث كونه منشأً للحسن؟ أو أننا أمام حالة جديدة لم نألفها من قبل؟

لو اعتمدنا على المعنى السابق لكان التزاحم لا يضر بذاتية الصدق كمفهوم قبلي يتصف بالكلية والاطلاق.

وثمة إجابات أخرى مختلفة. فمثلاً طرح ابن القيم، وهو في معرض دفاعه عن منطق الحق الذاتي، إجابتين قويتين لحل هذه الإشكالية:

أُولى الإجابتين من إبداعات ابن القيم، وهي أن القضايا القيمية من الحسن والقبح تكون إطلاقية من غير تخصيص، ودلل على ذلك بشاهد الصدق والكذب؛ معتبراً أن الصدق حسن بإطلاق، والكذب قبيح بإطلاق، حيث للكلام نسبتان، إحداهما إلى المتكلم وقصده، والأخرى إلى السامع وإفهامه، فإذا أخبر المتكلم بخبر مطابق للواقع وقصد إفهام المخاطب فهو صدق من الجهتين، وإن قصد خلاف الواقع وأفهم المخاطب خلاف ما قصد فهو كذب من الجهتين بالنسبتين معاً، وإن قصد معنى مطابقاً صحيحاً وأفهم المخاطب خلاف ما قصده فهو صدق بالنسبة إلى قصده وكذب بالنسبة إلى إفهامه، ومن هذا الباب التورية والمعاريض.

وانتهى من ذلك إلى القول بأن الكذب لا يكون إلا قبيحاً، وأن الذي يحسن ويجب إنما هو التورية التي هي صدق، وقد يطلق عليها الكذب بالنسبة إلى الإفهام لا إلى العناية[26].

لذلك ففي حالة التزاحم بين الصدق وإنقاذ نفس بريئة، لا يجوز إخبار السامع بحقيقة الحال للمفسدة المترتبة على ذلك، لكن لا يقتضي هذا أن الصدق قبيح، حيث القبح ينشأ من الإعلام بالحقيقة وليس من النسبة الصادقة، والإعلام ليس ذاتياً للخبر ولا داخل في حدّه، فالخبر غير الإخبار، ولا يلزم من كون الإخبار قبيحاً أن يكون الخبر قبيحاً مثله[27].

هذا ما أفاده ابن القيم وأبدع فيه رغم أنه لا يخلو من مناقشة، لكنه في جميع الأحوال لا ينفع عند تطبيقه على التزاحمات الأخرى التي لا علاقة لها بمقولة الصدق والكذب، حيث ليس لها علاقة بالخبر والإخبار.

أما الإجابة الثانية التي عرضها ابن القيم، فتقريبها كالتالي: إن للقيم الأخلاقية صفة اقتضائية، فتخلّف القبح عن الكذب أحياناً؛ بسبب فوات شرط أو قيام مانع يقتضي مصلحة راجحة، لا يخرج الكذب عن كون ذاته تقتضي القبح. فحاله كحال الميتة التي حرّم الله أكلها إلا عند الضرورة، إذ تقتضي ذاتها المفسدة التي حُرّمت لأجلها، وأن حلية أكلها عند الضرورة لا يغير من الأمر شيئاً، وهي أن ذاتها منشأ للمفسدة. وعلى هذه الشاكلة أن العلل العقلية والأوصاف الذاتية المقتضية لأحكامها قد تتخلّف عنها لفوات شرط أو قيام مانع، ولا يوجب ذلك سلب اقتضائها لأحكامها عند عدم المانع وقيام الشرط[28].

وقديماً كان يقال إن نبات السقمونيا يُسهل الصفراء، وهو حكم عقلي صحيح من وجهة نظر المنطق الأرسطي رغم علمه أن فيه إستثناءات عارضة، لكنها لا تغير من جوهر كون السقمونيا من شأنه إسهال الصفراء، وهو ما يقصد به من حكم الإقتضاء[29].

على أن للقيم الأخلاقية دلالة عقلية ببعض الاعتبارات، أحدها حين النظر إليها في ذاتها كمفاهيم عامة ومطلقة. وثانيها عند تقييدها بعدم المزاحم، وهذا ما يجعلها تتطابق مع مصاديقها من غير تخصيص، مثلما تقيّد سائر القضايا الضرورية بقيود تجعلها نافذة، كعدم التناقض المقيد ببعض الشروط، كإختلاف الموضوع أو المحمول أو الزمان أو المكان أو غيرها[30]. وثالثها بحسب الإقتضاء كما ورد في الإجابة السابقة، رغم أن الاقتضاء لا يُعلم بشكل قبلي، فهو يعتمد على النظر البعدي أو إلى الواقع الموضوعي. ورابعها من خلال خضوعها إلى قانون الخير الأعظم كالذي نظّرنا له في بعض الدراسات المستقلة.

ووفق هذه الاعتبارات المختلفة تمثّل القيم الأخلاقية قضايا كلية صادقة. وهي من هذه الناحية لا تختلف عن سائر الضرورات. وفي بعض من هذه الاعتبارات تتخذ القيم شكل الاطلاق غير القابل للتخصيص. وهي أقرب ما تشابه القضايا الإحتمالية بكونها ضرورية واطلاقية لا تقبل التخصيص، وإن لم تتطابق مع مصاديقها الخارجية.

فمثلاً نحن لا نتوقع مطابقة قضايا الإحتمالات التماثلية لمصاديقها إلا عند الحوادث غير المتناهية، ومع ذلك فإنها تظل صحيحة من الناحية العقلية، وكذا فإن وجود التزاحم في القيم وترجيح بعضها على البعض الآخر، ومن ثم اعتبار المصاديق في بعض الحالات حسنة، وفي أخرى قبيحة، كل ذلك لا يغير من جوهر ثبات صدق المسألة الكلية لهذه القضايا وعقليتها.

الصلة بين القيم والواقع

قد يُطلق على التزاحم بين مصاديق القيم بتزاحم المصالح، فيُذكر بأن كل شيء فيه مصلحة أعظم فهو حسن، وكل شيء فيه مفسدة أكبر فهو قبيح. ومن هذه القاعدة نعلم أن الفعل الذي لا يزاحمه أمر آخر يظل على حاله؛ إن كان مصلحة فهو حسن ومطلوب، أو ضرراً فهو قبيح ومنكر.

وإذا كنّا قد لا ندرك بعض المصالح، أو حتى لا نستطيع أن نحدد الترجيح بين تزاحم المصالح أو مصاديق القيم الحسنة، فكل ذلك لا يبطل الضرورات التي يدركها العقل القبلي لهذه القيم. ففي كل قضية مساحة واضحة للإدراك العقلي، وفي قبالها أطراف أخرى متشابهة، وأن وجود هذه الأطراف لا يلغي مصداقية الإدراك الأول.

ونشير إلى أن قوة المصلحة الظاهرة ليست مرجحة دائماً على ما يبدو انه أقل منها. فقد تحصل مصلحة أعظم في قبال حق متعين، ومع ذلك يرجح فيها الحق على المصلحة وإن عظمت. فمثلاً لو توقفت حياة شخصين من الناس على قتل ثالث بريء؛ لما جاز هذا القتل لأجل إنقاذ الشخصين.

لكن وكما توصلنا إليه في بعض الدراسات المتأخرة انه عند التأمل في هذا المثال وما على شاكلته نجد ان الاعتداء المشار إليه وإن كان فيه مصلحة شخصية أعظم بالنسبة للحفاظ على حياة شخصين في قبال شخص ثالث، إلا ان فيه ضرراً باطنياً عظيماً بالنسبة للمصلحة البشرية العامة. ففيه تشويه للفطرة البشرية من الداخل وهتك ضمني للصالح العام. وبالتالي فهو مضر عند النظر الى صميم ما عليه فطرة الانسان. لذلك لن يكون مثل هذا الفعل صلاحاً للبشرية ولا خيراً أعظم، بل شر أعظم. لذلك انتهينا إلى وجود قانون عام وشامل سميناه بقانون الخير والصلاح[31].

واستناداً إلى هذا القانون تظل القيم الحسنة منشأً للغرض والمصلحة. وهي من هذه الناحية ترتبط بالواقع ارتباطاً وثيقاً. فالعقل الذي يقدّر حسن الأفعال يتفق مع آثار هذه القيم في الواقع، كالذي يجري مع سائر الضرورات كالسببية وغيرها. فللقيم الحسنة آثارها الواقعية من المصلحة الأكيدة، وأنّ كشف العقل عن قضايا الحسن هو كشف عن المصالح أيضاً، فما من شيء حسن إلا وفيه مصلحة راجحة. فمثلاً يعتبر مبدأ الصدق حسناً إذ تترتب عليه آثار المصلحة العامة؛ حتى وإن كان مفصولاً عن النية والدافع الأخلاقي، فلو أن الأصل في الحياة هو الكذب لعجز الناس عن معرفة الحقائق إلا ما ندر، ولترتب على ذلك فقدان الثقة التي يتوقف عليها إمكان التواصل في العلاقات الإنسانية. وقد اتضح من خلال الدراسات الحديثة مدى أهمية مبدأ الثقة في العلاقات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والعلمية وغيرها[32].

وفي الإعتقادات الدينية يتعاطى أغلب الناس مع ما تزخر به البيئة الإجتماعية من تصورات شائعة نتيجة الثقة برجال هذه البيئة دون تعويل على الأدلة والبراهين، وبذلك يكون التعاطي القائم على التقليد والثقة مورداً لإختلاف الناس بإختلاف البيئات.

على أن الفارق بين الثقة وعدمها ليس فارقاً يتعادل في نتائجه الطرفان، بل بينهما مسافة عظيمة غير قابلة للتقدير. وتوضيح ذلك أنه لو أخبرنا شخص عن مكان زيد وكنّا نحتمل وجوده في واحد من عشرة مواقع مثلاً، فإذا كنّا نثق بإخبار الشخص فإن الإحتمال سيتعين في أحد هذه المواقع، إذ يكون هو المتوقع دون غيره. في حين لو كنّا لا نثق بالخبر؛ فإن ترددنا سيظل دائراً بين المواقع العشرة المحتملة.

وبالتالي فنحن لم نواجه إحتمالين متضادين، بل أمامنا إحتمال متوقع قبال عشرة إحتمالات يجري فيها التردد. فكيف إذا كان حال الإحتمالات والترددات منفتحاً غير قابل للحصر، كإن يتجاوز المائة أو الألف إحتمال؟! إذ سيدعو ذلك إلى الضلال والحرمان من إدراك الصواب؟! الأمر الذي يؤكد على ما للثقة من أهمية عظمى في الحياة.

ومع أن الحياة تتحمل ظاهرة خرق القيم الحسنة، كخرق قاعدة الصدق والعدل والأمانة وما إليها، لكنها لا تتحمل إبطالها كلياً. مما يكشف عن أن عالمنا مصمم على ترجيح القيم الحسنة بغض النظر عن النوايا والدوافع السلوكية. ومن الحكمة البالغة أن تكون الحياة مصممة بهذا الشكل دون غيره من الأشكال الممكنة. إذ لو كانت مصممة على مصاديق القيم الحسنة بإطلاق دون شذوذ ولا إستثناء لما حصل التطور، وكما قال أحد الغربيين أنه لو كان الإنسان يسير وفق ما تدعو إليه الأخلاق لظل يعيش في الكهوف دون أن يبرحها[33]. وكذا لو كانت الحياة مصممة على غلبة مصاديق القيم السيئة قبال الحسنة؛ فسوف لا تصمد أو تدوم. وقديماً كان العرفاء يقولون: لا فتى إلا أحمد وابليس.

ويتسق هذا الحال مع ما عليه الوجود الكوني، إذ لو كان الأخير يتصف بالكمال التام لما حصل التطور، كما لو كان متنافراً وغير منتظم لما بقي لحظة واحدة، بل لصار مآله الفساد والدثور، فتجلت حكمة الله بأن يكون منظماً مع إبقاء هامش ضئيل لفعل العوامل المتحركة العشوائية التي مهما فعلت فإنها لا تؤثر على النظام الكلي.

وقد ينطبق على هذه العملية التصور البرنولي للتوزيع الإحتمالي[34]، فمثلاً إن رمي قطعة نقد متكافئة الوجهين لمرات كبيرة العدد يعطي انتظاماً يقترب فيه الإحتمال البعدي من القبلي مع وجود هامش ضئيل للعوامل المتحركة العشوائية؛ التي مهما فعلت فإنها لا تخلّ بالثبات وانتظام السير للإقتراب من الإحتمال القبلي باضطراد كلما زاد عدد الرميات[35]. وكذا هو الحال مع قوانين الوجود الكوني، فهي تتضمن الدواعي القوية للنظام العام مع وجود هامش متحرك للعشوائية التي لا تؤثر على مجرى النظام العام وما يتضمنه من تطور.

فكأن الوجود الكوني يحمل في أحشائه روحاً كلية تعمل على حفظ النظام رغم وجود الهامش العشوائي العاجز عن تعطيل فعل تلك الروح وهدم النظام الكوني. لذا فسواء في القيم أو الوجود الكوني، ثمة انتظام، كما ثمة هامش للعوامل المتحركة العشوائية.

وعموماً يتعذّر نفي التلازم الحاصل بين الواقع والقيم، وأن الأحكام التي تتعلق بهما لا تخلو من ترابط، وأن من الخطأ تصور وجود انفصال بين أحكام هذين العالمين كما ذهب إليه عدد من الغربيين وعلى رأسهم ديفيد هيوم، فأحكام القيم هي أحكام انشائية تتحدث عما ينبغي أن يكون، في حين إن أحكام الواقع تقريرية أو وصفية تتحدث عما هو كائن أو يكون.

وعلى هذا الضوء اعتبروا أن عبارة (أن تفعل أو لا تفعل) لا تدل على الفعل إن كان موجوداً أو غير موجود، كذلك إن كون الفعل موجوداً لا يدل على لزومه أو لزوم تركه، وبالتالي ليس هناك جسر يربط ما بين الصنفين من القضايا.

ومن ذلك استنتج البعض أن الرصد عنصر ضروري للكشف عما هو كائن أو يكون، وهي بهذا لا تناسب أن تدلّ على القضايا الأمرية أو ما ينبغي أن يكون، أو أن القضايا الأخيرة هي غير قابلة للفحص.

وبحسب وجهة النظر الذرائعية فإن القيم لا تصف العالم، وإنما تعمل على تغييره. وكما يقول ستيفنسون إن صنع المسائل القيمية ليس لغرض الكشف عن الحقائق الموضوعية أو تبيانها، بل لخلق التأثير عليها[36].

أما الصواب، فهو أنّ تعرّفنا على المصالح والمفاسد التي يتعرض لها الإنسان؛ يُمكّننا من إنشاء القيم الخاصة بها، فتصبح القيم - على هذا الأساس - إنشائية لا مجرد تقريرية أو وصفية، ويتحوّل (ما هو كائن) إلى (ما ينبغي أن يكون)، كما يصح العكس. وبذلك، تتلاشى فكرة القطيعة المزعومة بين القيم والواقع، ويتضح أنها مجرد وهم.

بل يمكن القول إن علاقة أحكام القيم بالواقع هي علاقة شرطية، حالها شبيه بحال مبدأ عدم التناقض وعلاقته بالواقع. فهذا المبدأ هو شرط للمعرفة، وليس مصدراً للإنتاج والتوليد المعرفي، ولا مصدراً للكشف عن الحقائق الخارجية، باستثناء مضمونه الخاص والمتمثل في نفي التناقض في الوجود.

وبالطريقة نفسها يمكن النظر إلى القيم: فهي شرط للحفاظ على الحياة، بل ولاستمرار التواصل المعرفي بين العقول. فبدونها تنتفي الثقة في المعرفة المتلقاة، وينعدم بذلك أصل العلم. إذ إن التواصل المعرفي قائم على الثقة، وبدون هذه الثقة يغيب الغرض من تحصيل العلم.

فلو كانت الحياة مؤسسة على قاعدة الكذب، لاستحال قيام العلم، مما يدل على أن هذا الأخير مشروط بقيم الصدق والثقة. ويصح العكس أيضاً، وهو أن بإمكان العلم أن يقدّر لنا المصالح والمفاسد في الأفعال، وبالتالي بإستطاعته أن يعرّفنا على القيم الحسنة. لذا فالترابط بين أحكام القيم وأحكام الواقع وثيق لا يقبل التفكيك.

تجليات الصراع العقلي

كان للتضاد الحاصل بين البداهتين تأثيره وإنعكاساته على عدد من الأصعدة: عالم الوجود والواقع، وعالم النظر والمعرفة، وعالم الفقه والتشريع، وأخيراً عالم التفسير وفهم النص. وهو ما سنتعرف عليه خلال الفقرات الأربع الآتية..

1ـ عالم الوجود والواقع

تعد مسألة السببية وعلاقاتها في الطبيعة أهم مسائل الخلاف العقلي بين منطقي الحق الذاتي وحق الملكية ضمن مجال الوجود والواقع. فإذا كان منطق حق الملكية يميل إلى تفسير السببية طبقاً للعادة واستناداً إلى مقولة (لا فاعل في الوجود إلا الله)، الأمر الذي يتسق مع البداهة الأولية لهذا المنطق، فإن الحال مع منطق الحق الذاتي مختلف، فطائفة من هذا الإتجاه اعتمدت في تفسيرها للسببية على مفهوم «التوليد» كالذي تناوله القاضي الهمداني في كتابه (المجموع المحيط بالتكليف).

فمفهوم السبب عند الهمداني يتضمن معنى الواسطة؛ مشبهاً إياها بالآلة أو الأداة، فتارة يعبر عن الواسطة بأنها ذات السبب، وأخرى يعد السبب واسطة بين الفاعل المختار وفعله[37]. وعلى هذا المعنى يجوز حصول سبب من غير مسبَّب، فقد يقع عارض يمنع وجود المسبَّب رغم وجود السبب، كما يمكن أن يكون هناك مسبَّب من غير سبب، إذ يحدث المسبَّب إبتداءاً بفعل الفاعل المختار، وكذا قد يكون المسبَّب حادثاً بفعل السبب والذي يطلق عليه التوليد. وكما يقول الهمداني بهذا الصدد: «قد ذكرنا أن في أفعالنا ما لا يصح منا أن نفعله إلا بسبب، وفي أفعالنا ما يصح أن نفعله إبتداءاً وبسبب، وفيها ما لا يصح أن نفعله إلا مبتدأ دون أن يقع بسبب، فالضرب الأول هو الصوت والألم والتأليف، والضرب الثاني هو الإعتماد والكون والعلم، والضرب الثالث هو الإرادة والكراهة والظن والنظر، وما كان من باب الإعتقاد الذي ليس بعلم»[38].

وما قصده الهمداني بـ «الاعتماد» هو حصول المتولد في غير محل القدرة؛ كما يحدث في الحركات والظواهر البعيدة المنفصلة عنا وعن كل فاعل مختار، كاحراق النار التي تولّد التفريق، ومثل ذلك ما يكون في الماء من خاصية الثقل الذي يوجب النزول. وتُسمّى هذه الظواهر عند بعضهم بـ «الطبع»، بينما تُطلق عليها طائفة من المعتزلة مصطلح «الاعتماد»، باعتبارها موقوفة على إرادة القادر، إذ يمكن منعها من التوليد والإيجاب[39].

وفي جميع الأحوال لا ينكر الهمداني ما يُعرف عند الفلاسفة بـ مبدأ السببية العامة؛ إذ يردّ السبب والمسبَّب معًا إلى الفاعل المختار، سواء كانا مقترنين أو منفردين. ويتمثل هذا الفاعل في كل من المكلِّف والمكلَّف. لذلك فهو يقول: «إذا كان المبتدأ احتاج إلى فاعل لحدوثه، فالمتولد إذا كان حادثاً يجب أن يجري مجراه في الحاجة إلى المحدث، ولا يمكن أن يقال أن حدوثه واجب، لأنه إنما يراد بالوجوب الاستمرار»[40].

وهذا القول يستلزم مضامين الحسن والقبح، سواء تعلق الفعل بالفاعل نفسه وسببه، أم بما قد يتولد عنه من مسبَّب، بل وحتى فيما لو كان فعل المسبَّب قد وقع دون سبب ظاهر. وكل ذلك لا يتعارض مع مبدأ السببية العامة، بل يؤكد حضورها ضمن تصور يقوم على إرجاع الحدوث إلى فاعل مختار.

ويعترف الهمداني بأن قدرتنا لا تسمح لنا في أغلب الأحيان اتيان المسبَّب من غير سببه، خلافاً للقدرة الإلهية المطلقة التي يسعها ذلك، مثلما يسعها فعل المسبَّب عن السبب بالتوليد.

وعليه فإن هذا المعنى يختلف كلياً عن المعنى الخاص بعلاقة العلية التي دعا إليها الفلاسفة، ذلك «إن المتولد ذات منفصلة عن السبب، حادثة كحدوث نفس السبب، فأمكن أن يقال أنه حدث من جهة القادر، وموجب العلة ليس بأمر يحدث فتصبح أضافته إلى الفاعل، بل ليس ينفصل عن المعلول»، لذا فالمعنيان مفترقان.

فالمسبَّب أو المتولد مرتبط بالفاعل المختار حسب ما يفعله من السبب أو الواسطة، وهو بالتالي أولى أن يناط بفاعله من سببه، لأن السبب واسطة بين الفاعل المختار وفعله، لذا لا يُطلق على الفاعل موجباً، حيث الفعلية تنافي الايجاب، كما لا يقال عن السبب مولِّد، لكون المولِّد من أسماء الفاعل، والفعل ليس حادثاً بالسبب، وإنما حدوثه بالقادر أو الفاعل المختار. وبالتالي يصح القول إن ما أحدث الفعل هو القادر بهذا السبب[41]. مما يعني أن للسبب تأثيراً على المسبَّب، وإن لم يكن هذا التأثير موجباً كالعلة بالنسبة إلى المعلول عند الفلاسفة.

والغرض من هذا التحديد هو تنقيح قاعدة الحسن والقبح، حيث لا تصدق فقط على الأفعال الإبتدائية، وإنما كذلك على ما يترتب عليها من متولدات ومسبَّبات.

هكذا إن المفهوم السابق للسببية والتوليد مفيد لأكثر من إعتبار:

فهو من جهة لا يتعارض مع الضرورات العقلية، بإعتباره يحافظ على مبدأ السببية العامة القائل بأن لكل حادث لا بد له من «سبب» يوجده، أو بحسب تعبير هذا الإتجاه هو أن لكل حادث لا بد له من فاعل، إبتداءاً أو توليداً، ومن ذلك أنه يعتبر العلم بتعلق الفعل بفاعله من الضرورات العقلية، مثل تعلق الجواهر والأعراض كالروائح والألوان والطعوم بالخالق[42].

أما من جهة ثانية، فهو أن هذا المفهوم يتسق تماماً مع البداهة الأولية للحق الذاتي، إذ يجعل من العلاقة بين الفعل والفاعل علاقة غير محتمة أو لزومية، وبالتالي فإنه يحفظ لنا إرادتنا وإختيارنا عندما تتولد عنهما الأفعال والمسبَّبات، فليس هناك ما يجبرنا ويلجئنا على الفعل، الأمر الذي تتصحح به صورة الحسن والقبح. ومن ذلك ما قاله القاضي الهمداني: «إن الذم يتوجه على المتولد من الأفعال، كما يتوجه على المبتدأ، وذلك لأن أحدنا يذم على الكذب والظلم والقتل وغيرها، وكل هذه الأفعال تقع متولدة، فلو لم تكن حادثة من جهتنا لقبح ذمنا عليها»[43].

ويلاحظ أن فكرة هذا الاتجاه عن السببية تختلف عن فكرة اتجاه حق الملكية التي حصرت التأثير في الأشياء بالله دون سواه. فعلى الرغم من أن اتجاه الحق الذاتي يرى أن ما يقوله الأول ممكن تبعاً للقدرة الإلهية غير المتناهية، إلا أنه مع ذلك إعترض عليه بإعتباره يتنافى مع العدل وغرض التكليف، وهو أنه لا بد أن يكون للغير تأثير كي يتصحح الفعل البشري وما يستحقه من الثواب والعقاب طبقاً لمنطق الحق الذاتي. وهو يطلق على هذا التأثير إحداث الفعل، كإن يكون مصدر هذا الإحداث هو الله، أو الإنسان بما أحدثه الله فيه من قدرة. وبهذا يتصحح تكليفه وما يستحقه من جزاء. وهو لا ينكر - في هذا المجال - تأثير الأشياء بعضها على البعض الآخر طبقاً لمنطق التوليد والإعتماد، وتبعاً لما أودعه الله فيها من قوى وخواص، ولو شاء لما كان لها هذا التأثير أو التوليد البتة، بل جعل ذلك من الأمور التي تتصحح بها معرفة المعجزة وإثبات النبوة، إذ لا تُعرف المعجزة بأنها معجزة ما لم تكن خارقة للعادة[44]، ومن ذلك خرقها لخواص الأشياء التي هي عليها، أي مبطلة لعلاقة التأثير بين السبب والمسبَّب.

وهذا ما لا يقره الإتجاه الأول؛ لأن الفعل عنده محصور بالله، وأنه لا تأثير للأشياء ولا توليد للمسبَّبات، كما ليس هناك من قوى فاعلة، بل كل حالة إقترانية بين شيئين هي نتاج فعل الله، فلا عرض حادث إلا والله خالقه وفاعله، إتساقاً مع البداهة الأولية لحق الملكية، إلى الدرجة التي ذهب فيها بعض أصحاب هذا المنطق إلى اعتبار الإعتقاد بتأثير الأشياء بعضها في البعض الآخر يعد كفراً وبدعة، ومن ذلك ما قام به السنوسي في (المقدمات) بتأويل قوله تعالى: ﴿الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء﴾ (الروم/48)، فقد نفى وجود تأثير الرياح على الغيوم، لتضمّنه إثبات العلل الوسيطة، معتبراً مثل هذا الإعتقاد أصل الكفر والبدعة. وعليه عدّ العلاقة بين الرياح والغيوم ما هي إلا «إسناد مجازي» عقلي محض[45].

وبالتالي فإن عموم أتباع حق الملكية يختلف رأيهم في السببية عن أتباع الحق الذاتي، فالإقتران السببي بين الظواهر العرضية للطبيعة لدى الأول؛ هو مجرد تتابع زمني دون أن يتضمن تأثيراً في العلاقة الإقترانية، في حين أنه لدى الأخير يتضمن هذا التأثير، فإحدى الظاهرتين العرضيتين تؤثر في الأخرى بقدرة الله، طبقاً لمنطق التوليد والإعتماد.

مع هذا فهناك من أصحاب منطق الحق الذاتي من قدّم تصوراً آخر يقترب بعض الشيء من التصور الفلسفي الوجودي. وقد نقل الأشعري في (مقالات الإسلاميين) عن المعتزلة بأنهم اختلفوا في السبب: هل هو موجب للمسبَّب أم لا على قولين؟ فذهب أكثر المعتزلة المثبتين للتولد بأن الأسباب موجبة لمسبَّباتها[46]، وهو قول الفلاسفة.

وعلى هذه الشاكلة جاء عن معمر بن عباد السلمي (المتوفى سنة 220هـ) أنه اعتبر الأعراض في الأجسام المادية من اختراعات الأجسام بحسب (الطبع)، كالنار التي تُحدث الإحراق، والشمس التي تُحدث الحرارة، والقمر الذي يُحدث التلوين. كذلك ذهب الجاحظ إلى إثبات الطبائع للأجسام، فأثبت لها أفعالاً مخصوصة مثلما هو رأي الفلاسفة[47].

كما اعتقد أبو القاسم البلخي (المتوفى سنة 319هـ) بأن الأجسام مخلوقة من طبائع لا يمكن تغييرها بعد أن خلقها الله كما هي عليه، ومما استدل به قوله تعالى: ﴿وهو الّذي يرسل الرّياح بشراً بين يدي رحمته حتّى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد مّيّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثّمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون﴾ (الأعراف/ 57)، فاعتبر أن كثيراً من الأشياء قائمة على الطبع؛ إذ بيّن الله بأنه يُخرج الثمرات بالماء الذي ينزله من السماء، وهو أمر غير منكر، إنما المنكر - بنظره - هو من يقول بقدم الطبائع وأن الجمادات فاعلة، خلافاً لمن قال بأن الله هو الفاعل لهذه الأشياء، فهو تارة يفعلها مخترعة بلا وسائط، وأخرى بوسائط. وقيل إن أكثر أهل العدل أنكروا هذا القول عليه، وقالوا إن الله أجرى العادة بإخراج النبات عند انزال المطر مع قدرته على إخراج ذلك من غير مطر؛ لما تقتضيه الحكمة من وجوه المصالح الدينية والدنيوية[48].

وأيّد الشيخ المفيد من الإمامية الموقف السابق للبلخي، فذهب يقول ضمن عنوان (القول في الثقيل: هل يصح وقوفه في الهواء الرقيق بغير علاقة ولا عماد): «أقول إن ذلك محال لا يصح ولا يثبت، والقول به مؤدٍّ إلى إجتماع المضادات. وهذا مذهب أبي القاسم البلخي وجماعة من المعتزلة وأكثر الأوائل، وخالفهم فيه البصريون من المعتزلة، وقد حكي أنه لم يخالف فيه أحد من المعتزلة إلا الجبائي وإبنه وأتباعهما».

كما قال المفيد تحت عنوان: (القول في الجسم: هل يصح أن يتحرك بغير دافع): «أقول إنه لو صحّ ذلك بأن توجد فيه الحركة اختراعاً كما يزعم المخالف، لصح وقوف جبل أبي قبيس في الهواء بأن يخترع فيه السكون من غير دعامة ولا علاقة. ولو صحّ ذلك لصح أن يعتمد الحجر الصلب الثقيل على الزجاج الرقيق، وهما بحالهما، فلا ينكسر الزجاج، وتخلل النار أجزاء القطن، وهما على حالهما، فلا تحرقه. وهذا كله تجاهل يؤدي إلى كل محال فاسد»[49].

وما زال لهذا الإتجاه أتباع وسط الإمامية الإثنى عشرية، ومنهم السيد الخوئي والمفكر الصدر في عدد من كتبه[50].

والخلاف الحاصل بين أصحاب هذا الإتجاه والفلاسفة، هو أن الأخيرين تصوروا بأن العلاقة بين المبدأ الأول والممكنات هي علاقة قائمة على الحتمية والايجاب، إذ يعدّ المبدأ الأول عندهم علة تامة من دون انتظار أمر آخر، فهو واجب من جميع الجهات بما في ذلك العلية[51]. والحال ليس كذلك لدى أصحاب الإتجاه السابق، لأن ذلك يعني عندهم نفي القدرة والإرادة رأساً، لكنهم مع ذلك يوافقون الفلاسفة على وجود الضرورة لعلاقات الطبيعة.

ولا شك أن هذا الجمع بين نفي الضرورة من حيث الأصل، والإعتراف بها فيما بعد، يشكل ازدواجاً لا يخلو من إشكال، فنفي الضرورة من حيث الأصل يقتضي أن تكون العلاقة بين المبدأ الأول والكائنات علاقة أجنبية منفصلة، حيث يقوم المبدأ الأول بخلقها من لا شيء تبعاً لقدرته التامة، وهذا يعني أن مصدر هذه الموجودات هو العدم من غير أن يكون لها ارتباط حتمي بالحق تعالى، فلماذا تظهر الضرورة والحتمية فيما بعد؟ ولماذا لا يكون القادر على الخلق من لا شيء قادراً في الوقت نفسه على تبديل صفة العلاقة التي عليها الكائنات الموجودة دون تغيير لشروطها المادية؟ فالأمر في حد ذاته جائز، سواء بالنسبة للعلاقة الأولى الأصلية، أو بالنسبة للعلاقات اللازمة عنها، فكل ذلك يعني الخلق والتسوية من العدم، طالما أن الكائنات لا تحتفظ بشيء من الوجود المحتم كما يدعيه الفلاسفة.

وعلى العموم يلاحظ أن أصحاب منطق الحق الذاتي منقسمون على أنفسهم في الإعتقاد بين متأثر برأي الفلاسفة، رغم الخلاف الحاصل بين الفريقين كما لاحظنا، وبين صنف آخر يقابل ما عليه منطق حق الملكية.

وقد يكون تصنيف المعتزلة إلى بصريين وبغداديين له شيء من العلاقة بهذا الإنقسام، كما قد تكون الإمامية أقرب إلى التصور الذي عليه البلخي أو البغداديون منه إلى البصريين. وكما رأينا فإنه مثلما كان بعض المعتزلة متأثراً بفكرة الفلاسفة عن السببية أو العلية، فإن الأشاعرة بدورها تقترب من التصور العرفاني في فهمها لكرامات الأولياء؛ بناء على فكرة العادة والخلق المباشر المستمر وأنه لا فاعل في الوجود غير الله.

وهو أمر يجعلنا أمام تصورات عديدة مختلفة عن السببية.

2ـ عالم النظر والمعرفة

يترتب على الفقرة السابقة الخلاف المتعلق بالمعرفة قاطبة. إذ ترى الأشاعرة أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، وبالتالي فإن حدوث العلم عقيب النظر هو حدوث قائم على العادة، أي تجري عادة الله بأن يُحدث العلم عقيب النظر، كحصول الشبع عقب الأكل، والري عقب الشرب. فالمؤثر في وجود العلم هو الله تعالى. واحتجوا على ذلك بأن الإنسان لا يفعل إلا ما هو قادر عليه، وأن قدرة الإنسان لا توجد قبل مقدورها. فإذا ثبت هذا الأصل بطل أن يكون العلم الواقع عقب النظر من فعل الإنسان، لأنه لو كان من فعله لوجب أن يكون قادراً عليه بقدرة تقارنه، أو تقارن القدرة على سببه المتمثل في النظر، وهو محال لأنه يوجب تقدم القدرة على مقدورها[52].

لكنّ بسْط فكرة العادة على قضية العلم والنظر، يسفر عن بعض المحاذير، منها العجز عن إثبات المسألة الإلهية وما يترتب عليها من المسألة الدينية، إذ يتوقف إثبات المسألة الإلهية على التسليم بفكرة العادة والفعل الإلهي المطلق؛ طبقاً لذلك البسط والتعميم، مع أن هذه الفكرة تتوقف على إثبات المسألة الإلهية، فيحصل الدور أو التسلسل الباطل.

وادعى الأشعري أن حدوث العلم إنما يجري بلا وجوب منه تعالى ولا عليه، مع أن القول بالوجود من غير وجوب يعني عند البعض ترجيحاً بلا مرجح. في حين يتم حصول العلم بعد النظر عند المعتزلة بالتوليد، فالناظر يخلق النظر فيتولد منه فعل آخر من غير صنع الله عقيبه، كحالة حركة المفتاح عند حركة اليد.

وهو موقف يخالف موقف الفلاسفة الذين اعتبروا حصول العلم بعد النظر جاء بالإعداد، فالنظر الذهني هو علة معدة غير حقيقية، فإذا تم استعداد الذهن لقبول العلم بهذا الإعداد؛ تفيض عليه النتيجة من مبدأ الفيض وجوباً.

فعلى رأي الفلاسفة أن العقل الفعال المسمى (واهب الصور) هو الذي يهب الإنسان الضرورات الأولية للعلوم، كما صرح به الفارابي، فهو يمنح الإنسان «قوة ومبدأً به يسعى أو به يقدر الإنسان على أن يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر ما يبقى عليه من الكمالات. وذلك المبدأ هو العلوم الأول والمعقولات الأول التي تحصل في الجزء الناطق من النفس»[53].

وعند القاضي عبد الجبار الهمداني، أحد أعلام المعتزلة، إن العلم البشري ـ فيما عدا الضروريات ـ يتحصّل بالتوليد عبر النظر، ولا صلة له بأي قوة خارجية، سواء أكانت عقلاً فعّالاً كما يقول الفلاسفة، أو الله كما يذهب إليه الأشاعرة، بل يتم ذلك بفعل الإنسان نفسه، ضمن شروط معينة.

وكما قال: «لا يمتنع فيما نوجده متولداً من شروط يحتاج إليها، ثم الشرط تارة يرجع إلى الوجود وتارة إلى الإيجاب، فإذا تكلمنا في أن النظر مولّد للعلم فالشرط في توليده له وإيجابه هو أن يعلم الناظر الدليل على الوجه الذي يدلّ، والشرط في وجوده أن لا يكون عالماً بالمدلول لأنه لو علمه لتعذّر عليه النظر، فصار كل ما يصح وجود السبب من دونه فهو شرط في الإيجاب، وصار كل ما لا يصح وجوده فهو شرط في الوجود»[54].

وبذلك تتميز علاقة العلم بالنظر لدى الهمداني وعموم منطق الحق الذاتي بالثنائية المغلقة دون أن يكون معها طرف ثالث. الأمر الذي يتسق مع الأصل المولد بنفي الجبرية وتلافي الإشكالات التي ترد على منطق حق الملكية، والتي أبرزها التشكيك بالعلم الناتج عن النظر، وعدم القدرة على إثبات المسألة الدينية.

فلدى هذا المنطق يتصف العلم الناتج عن النظر الصحيح بأنه علم صحيح بالضرورة[55]، ولولاه لكانت النتائج العلمية غير مؤكدة ومعرضة للتشكيك، ومنها تلك المتعلقة بتأسيس المسألة الدينية، باعتبارها قائمة على النظر ووجوبه. وبالتالي فإن بين هذه النظرية والأصل المولد جذوراً صميمة.

أما لو عدنا إلى رأي الأشاعرة حول علاقة العلم بالنظر، فسنجد أن الفخر الرازي يعتقد بأن حصول العلم عقيب النظر يتم بالوجوب تبعاً للعادة، أي جرت عادته تعالى بايجاب وجود العلم وإحالة عدمه، خلافاً للأشعري الذي لا يقول بالوجوب أصلاً. وعلى رأي الفخر الرازي أنه لا دخل للنظر في هذا الإيجاب، إذ إن العلم والنظر كلاهما معلولان لله واجبان به، خلافاً للفلاسفة، فحصول العلم لديه وإن لم يكن واجباً إبتداء فإنه ليس متأثراً بالنظر، إذ لا قدرة للعبد في التأثير[56].

لكن نُقل عن إمام الحرمين الجويني وإلكيا والغزالي في (المنخول) أنهم عدوا ما يعقب النظر من المعرفة ليس بعادة، بل لزوم ضروري، فالله يخلق النظر ومنه يلزم عنه العلم بالضرورة[57].

كما يلاحظ أن الباقلاني يصنّف العلم إلى علمين: علم نظر وإستدلال، وعلم إضطرار وضرورة. فالضروري ما لزم نفوس الخلق لزوماً لا يمكنهم دفعه والشك في معلومه، نحو العلم بما أدركته الحواس الخمس، وما ابتدأ في النفس من الضرورات. فالعلوم الضرورية لها طرق ستة، خمسة منها عن طريق الحواس الخمس، أما الطريق السادس فهو العلم المبتدئ في النفس، نحو علم الإنسان بوجود نفسه وما يحدث فيها من اللذة والألم والغم وما إليها، وكذا العلم بأن الضدين لا يجتمعان وأن الأجسام لا تخلو من الإجتماع والإفتراق، ومثله كل معلوم بأوائل العقول، وكذا العلم بأن الثمر لا يكون إلا من شجر أو نحل.. وكل ما هو مقتضى العادات[58].

ويبدو أن الباقلاني يُدرج العلوم العادية ضمن دائرة المعارف الضرورية، وإن لم يمنع ذلك من اعتبارها من أفعال الله، إذ يمكن - بحسب هذا المنظور - أن يمنع الله ترتّب النتيجة على المقدمة، ما دامت النتائج مخلوقة له، وليست متولدة عن مقدماتها، كما هو مقتضى منطق حق الملكية.

فمذهب الأشاعرة في تحصيل العلم ينسجم مع مبدأها القائل: لا فاعل في الوجود إلا الله. الأمر الذي يتسق والبداهة الأولية لمنطق حق الملكية، حيث إن الله يفعل ما يشاء، ومن جملة أفعاله ما يجري بعنوان (العادة الإلهية). لكن هذا الحال يفتح بابًا للشك في قيمة المعرفة ذاتها، إذ ما الذي يضمن صحة النتائج إذا كانت جميعها من فعل الله مباشرة؟

وهنا تعود مسألة الحسن والقبح إلى الواجهة من جديد: فهل يجب على الله – بمقتضى الحسن العقلي – أن يضمن صدق النتائج المترتبة على النظر؟ أم لا واجب عليه وفق منطق حق الملكية، ومن ثم تصبح النتائج العلمية عرضة للشك بما فيها نظرية هذا المنطق وتصوراته؟ إذ تصبح جميع الآراء والنتائج المترتبة على هذا المنطق محلّ شك، باعتبارها تمثل عادة إلهية كسائر الأفعال دون وجود ضامن لصدقها.

مع هذا فإن الأشاعرة لا تنفي وجود جملة من المعارف العقلية التي تدخل فيها المحالات. فقد اعتبر الغزالي في (تهافت الفلاسفة) أن هناك عدداً من القضايا المعرفية المحالة، والمحال عنده غير مقدور عليه، وقد حصرها بثلاثة أمور: إثبات الشيء مع نفيه، وإثبات الأخص مع نفي الأعم، وإثبات الإثنين مع نفي الواحد. فكل ما لا يرجع إلى هذه الأمور الثلاثة فليس بمحال، وما ليس بمحال فهو مقدور.

فمثلاً إن الجمع بين السواد والبياض محال، لأنّا نفهم من إثبات صورة السواد في المحل نفي ماهية البياض ووجود السواد، فإذا صار نفي البياض مفهوماً من إثبات السواد، كان إثبات البياض مع نفيه محالاً. كذلك لا يجوز كون الشخص الواحد في مكانين، لأنّا نفهم من كونه في البيت عدم كونه في غير البيت. وكذا نفهم من الإرادة عند الشيء هي طلب فيه إدراك، فإن فُرض طلب دون إدراك فهذا يعني أنه لم تكن هناك إرادة عند الشيء. أيضاً أن الجماد يستحيل أن يُخلق فيه العلم، لأنّا نفهم من الجماد ما لا يدرك، فإن خُلق فيه الإدراك كانت تسميته جماداً بالمعنى الذي فهمناه محالاً. كذلك فإن مصير الشيء شيئاً آخر غير معقول، لأن السواد إذا انقلب كدْرة مثلاً، فالسواد إن كان معدوماً فهو لم ينقلب، ولكن إنضاف إليه غيره، وإن بقي السواد والكدرة معدومة فهو لم ينقلب أيضاً، بل بقي على ما هو عليه. وإذا قلنا إن الدم انقلب منياً، أردنا به أن المادة بعينها خلعت صورة ولبست صورة أخرى، حيث هناك مادة مشتركة تعاقبت عليها الصورتان. وإذا قلنا إن الماء انقلب هواء بالتسخين، وكذا العصا انقلبت ثعباناً، والتراب حيواناً، فمعناه أن المادة المشتركة خلعت صورة ولبست أخرى. لكن ليس بين العرض والجوهر مادة مشتركة، ولا بين السواد والكدرة، ولا بين سائر الأجناس، لذا فإن الإنقلاب فيها من المحالات[59].

ومن جملة المستحيلات عند الغزالي ما هو مستحيل على الله تعالى؛ كالمكان والجهة والصورة واليد الجارحة والعين الجارحة وإمكان الإنتقال والإستقرار، وقد أوجب فيها التأويل حسب الدليل العقلي، في حين اعتبر أمور الآخرة مما وعد بها الله ليست من المحالات على قدرته، وأوجب إجراءها على ظاهر الكلام وفحواه الصريح[60].

***

لقد وُجّهت إلى الأشاعرة انتقادات عديدة بسبب إنكارهم لعلاقة الضرورة والتأثير بين الأسباب والمسبَّبات في الطبيعة؛ إذ اتُّهِموا بنقض الأساس الذي تقوم عليه علوم الطبيعة، وبارتكاب السفسطة، بل وإنكار الأصل العقلي ذاته، الأمر الذي يُفضي إلى التناقض، لا سيما أنهم اعتمدوا على هذا الأصل في إثبات المسألة الإلهية[61].

والواقع أن الأشاعرة يلتقون مع ديفيد هيوم وأغلب رواد المنطق التجريبي الحديث في إنكار الضرورة في علاقة السببية الخاصة، دون أن يعني ذلك بالضرورة نفي المعرفة العلمية أو إبطالها. غير أن هذا الالتقاء لا يُلغي موضع الخلاف بين الطرفين حول مبدأ السببية العامة، وهو المبدأ القائل بأن الحادثة لا بد لها من سبب ما، فالأشاعرة يقرّون بهذا المبدأ، بخلاف أصحاب المنطق التجريبي، ويتّضح ذلك من استدلالهم على المسألة الإلهية بمبدأ استحالة الترجيح بلا مرجّح، وهو ما يفيد استحالة حدوث شيء ما من غير سبب. ومثلما عبّر الغزالي عن هذا المبدأ: إن كل حادث له سبب، هو مما يجب الإقرار به لأنه «أولي ضروري في العقل»[62].

وبعبارة أخرى، تتضمن السببية نوعين من المفاهيم، أحدهما السببية العامة، وهي موضع الخلاف بين الأشاعرة والتجريبيين، والآخر السببية الخاصة التي تحدد ماهية السبب بعينه، كما لو اعتبرنا الحرارة سبب تمدد الحديد لا غيرها. فهذه العلاقة بنظر الفريقين الآنفي الذكر لا تتضمن الضرورة، بل هي مجرد تتابع إقتراني تفسرها العادة. ولا شك أن نفي الضرورة في هذه العلاقة لا يؤثر على إثبات المسألة الإلهية، خلافاً للعلاقة الأولى العائدة إلى مبدأ السببية العامة، كما هو واضح.

كما تعرضت الأشاعرة لتهم كثيرة، ومن ذلك أنها أُعتبرت من المذاهب اللاعقلية. فثمة من أدرج الأشاعرة ضمن هذه المذاهب لكونها تعدّ مسائل الحسن والقبح راجعة إلى الخطاب الديني لا العقل. واعتقد البعض أنها عطّلت العقل حتى في المجال العقائدي، بل واتهمها بالقضاء عليه مطلقاً[63].

كما رأى صاحب (فلسفة الفكر الديني) بأن علم الكلام الأشعري يوجّب الرجوع إلى الخطاب الديني من حيث الأصل والأساس، ويشمل هذا الأمر حتى موارد إستخدام النظر العقلي[64].

وجاء عن دي بور أن الأشعري لا يعتبر النظر العقلي المستقل عن الوحي سبيلاً لمعرفة الشؤون الإلهية، إنما يمكن للعقل أن يدرك وجود الله، ويظل العقل آلة للإدراك فقط، أما الأصل الوحيد لمعرفة الله فهو الوحي[65].

لكن هذه الإعتقادات لم تتدارك كون المذهب الأشعري قد تأسس تبعاً للفكرة العقلية الخاصة بحق الملكية قبل أي اعتبار آخر، وهو وإن أبعد العقل عن قضايا الحسن والقبح، إلا أنه قد اعتمد عليه في الكثير من القضايا النظرية، ومنها تلك المتعلقة بإثبات المسألة الإلهية، وهي على رأس القضايا الإعتقادية. كذلك فإن هذا المذهب قد شهد تطوراً في ممارسته للنشاط العقلي، بما فيها تنظيره لجعل العقل حاكماً على نص الخطاب، فقد إلتزم المتأخرون بالقانون الكلي للمعارض العقلي، وهو يتضمن عرض مسائل النص على العقل لينظر فيها؛ إن كانت تُقبل أو يُجرى عليها التأويل.

ورغم كل ذلك نرى أن طريقة المذهب الأشعري ينتابها الاضطراب، فلا هي عقلية كالذي عليه المذهب الإعتزالي وغيره، ولا هي بيانية كسائر الطرق البيانية. وهذا الإزدواج الذي لجأ إليه الأشاعرة أوقع الكثير منهم في شرك الشك وفقدان اليقين، وعلى أثر ذلك احتمى عدد منهم بالدائرة العرفانية للنظام الوجودي، خلافاً للمذاهب العقلية الأخرى، ولسان حالهم يقول كما صرح الغزالي: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر فهو في العمى والضلال»[66].

3ـ عالم الفقه والتشريع

من تجليات التضاد بين البداهتين الأوليتين في الدائرة العقلية؛ تلك المتعلقة بعالم الفقه والتشريع. إذ تفتح الاعتبارات المختلفة للبداهتين باباً من التعارض حول طريقة الاجتهاد في القضايا الفقهية وتشريع الأحكام. فبحسب اعتبارات الحق الذاتي ينبغي أن يكون الاجتهاد قائماً في الأساس على العقل دون التوقف عند حدود الخطاب الديني، وذلك لجميع قضايا الحقوق والمصالح والمفاسد القابلة للإدراك. أما بحسب اعتبارات حق الملكية فلا مجال للاجتهاد العقلي إلا ضمن ما يسمح به الخطاب الديني.

فمثلاً لا مجال للاجتهاد في ما لا نص فيه من القضايا، ولا مجال للإستعانة بالقياس وغيره، ما لم يكشف عنه الخطاب الديني. ورغم أن واقع التشريع الفقهي لم يلتزم حرفياً بهذه الإنعكاسات المنطقية الناتجة عن البداهتين الأوليتين لإعتبارات مختلفة، إلا أنه توجد مؤشرات للتعارض المتسق بين المذاهب التشريعية يمكن عدها مستلهمة من إنعكاسات التضاد بين الأصلين المولّدين.

ففي بعض دراساتنا عرفنا كيف ذهب المعتزلة والزيدية والإمامية الأصولية إلى الإعتقاد بأن العقل يدرك جملة من الواجبات السابقة لأحكام الخطاب الديني، مثل وجوب رد الوديعة وشكر المنعم ووجوب النظر ومعرفة الخالق وما إلى ذلك، الأمر الذي يناقض ما لجأت إليه الأشاعرة. إذ يتأسس هذا الخلاف على الاعتبارات المتعارضة بين الأصلين المولّدين. وهو ما جعل الأمر ينعكس على الصعيد الفقهي، إذ كان المتكلمون وبعض الفقهاء يعطون للعقل صلاحيات الكشف عن الحكم، فأقرت بعض المذاهب عدداً من القواعد الأصولية الفقهية التي يستعان بها عند عدم وجدان النص، مثل قاعدة البراءة الأصلية التي تُسند عادة إلى القاعدة العقلية (قبح العقاب بلا بيان)، وكذا مسائل الحسن والقبح العقليين ونفي الضرر المحتمل وما إليها.

وعلى خلاف هذه القواعد والمسائل، ثمة قاعدة التوقف والإشتغال ومسألة الحسن والقبح الشرعيين، وجميعها يعارض القواعد الأولى. وإذا كانت القواعد الأولى تتسق ومنطق الحق الذاتي، فإن أغلب القواعد الأخيرة هي مما تتسق ومنطق حق الملكية.

لكن من حيث الواقع الفقهي نجد تجاوزات لدى بعض أصحاب كلا المنطقين بما لا يتفق مع ما يلجأ إليه من البداهة الأولية أو الأصل المولّد. فالغزالي مثلاً، وهو القائل بمنطق حق الملكية، يعتقد بالبراءة العقلية قبل التشريع أو ورود السمع[67]، وهو موقف يناقض الأصل المولّد الذي تبنّاه. ومثله ما ذهب إليه ابن فورك، حيث اعتبر أن المجتهد الذي لم يعثر على دليل نقلي بعد التقصي؛ فله أن يرجع إلى ما تقتضيه العقول من براءة الذمة[68].

كذلك ما ذهب إليه ابن كنج وهو ينتمي إلى نفس المنطق، من أن العقل يدل على أن ما لم يتعرض له الشرع فهو باق على النفي الأصلي، أو نفي الأحكام، فكما قال: قد ثبت عندنا أن حجة العقل دليل، فإذا لم نجد سمعاً علمنا أن الله لا يهملنا، بل أراد بنا الرجوع إلى العقل فصرنا إليه[69].

وعلى هذه الشاكلة ذهب الإمام الصدر وعدد من أصوليي الإمامية إلى الأخذ بالقاعدة العقلية لإشغال الذمة لكل ما هو محتمل عقلاً، لكنهم من حيث النتيجة تمسكوا بالبراءة بسبب تسامح التشريع الديني. ولا شك أن تعويلهم على القاعدة العقلية لإشغال الذمة يناقض قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن ثم فهو يناقض البداهة الأولية للحق الذاتي التي تشترط ضرورة الإعلام.

والمعلوم أن الإعتماد على العقل في قضايا الفقه التي لم يرد فيها نص هو خاصة المذهب الإمامي الذي لم يتقبل الأخذ بموارد الرأي الظني الشائعة لدى الإتجاه السني، مثل القياس والمصالح المرسلة والإستحسان وغيرها من المصادر الظنية. لذلك فإن المتقدمين من المذهب الإمامي اعتبروا أنه ما لم يتم الحصول على الحجة الشرعية من خلال النص، فإن مآل الأمر الرجوع إلى الحكم العقلي، تعويلاً على الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، إذ تنص قاعدة الحسن العقلية بأن «كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً»[70]، استناداً إلى البداهة الأولية للحق الذاتي.

ويقف الشريف المرتضى على رأس قدماء الإمامية الذين دافعوا عن هذا المسلك لأصالة التشريع العقلي للقضايا الفقهية. فقد صرح، وهو بصدد إستدلاله على عدم جواز العمل بخبر الآحاد، إنه إذا لم يوجد دليل شرعي في المسألة فسيتوجب العمل بما يقتضيه الحكم العقلي[71]. وقال في هذا الصدد: «قد ثبت أن المنافع التي لا ضرر فيها عاجلاً ولا آجلاً في أصل العقل مباحة».

وطبق هذا الحكم العقلي على مورد نكاح المتعة، مستفيداً في ذلك من الكشف الواقعي الذي يفيد عدم وجود الضرر لهذا المورد. فقال: «إن سألت الدلالة على انتفاء الضرر عن هذا النكاح الذي فيه إنتفاع لا محالة، قلت: الضرر العاجل يعرف بالعادات والأمارات المشيرة إليها، ويعلم فقد ذلك، والضرر الآجل إنما هو العقاب، وذلك تابع للقبح، ولو كانت هذه المنفعة قبيحة مستحق بها العقاب لدلّ الله تعالى على ذلك، لوجوب إعلامه المكلَّف ما هذه سبيله»[72]. واتبعه في هذا المقال ابن ادريس في (السرائر)[73].

كما استفاد المرتضى من كشف الواقع لصالح الحكم العقلي، في مورد ادخال الضرر على البهائم، فقال: «إعلم أن ادخال الضرر على البهائم، المؤذية لنا منها وغير المؤذية، لا يحسن إلا بإذن سمعي، إلا أن يكون ذلك الضرر يسيراً، أو النفع المتكفل به لها عظيماً فيحسن من طريق العقل. فإن كثيراً من الناس أجازوا ركوب البهائم عقلاً من غير افتقار إلى سمع».

ثم قال: «وإذا تكفلنا لها بما تحتاج إليه من غذاء وديار ومصلحة ربما كانت لها فائدة لولا تكفلنا جاز أن ندخل عليها ضرر الركوب، لأنه يسير في جنب ما نتحمله من منافعها»[74].

وعلى هذه الشاكلة ذهب معتزلة البصرة إلى الإباحة. بل قيل ذهب إلى ذلك أغلب المعتزلة، وفي طليعتهم كل من أبي علي وإبنه أبي هاشم الجبائيين وأبي عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار الهمداني، وكذا من تأثر بهم كأتباع أبي حنيفة وغيرهم[75].

مع ذلك لا نجد هذا الإتساق لدى جميع من ينتمي إلى منطق الحق الذاتي، ومن ذلك أن الكثير من معتزلة بغداد والإمامية الإثنى عشرية اعتبروا أن الحكم العقلي المستقل، سواء قبل ورود النص، أو بغض النظر عنه، يدل على الحظر في قضايا فقه الإنتفاع بالأشياء. فقد انشطر العلماء إلى ثلاثة اتجاهات كما يلي:

الاتجاه الأول: ويقول بالحظر ما لم يدل على ذلك نص من الخطاب الديني، واليه ذهب الكثير من البغداديين كالكعبي وأتباعه، وطائفة من الإمامية، وجماعة من الفقهاء، ومنهم من ينتمي إلى منطق حق الملكية كأبي عبد الله الزبيري والأبهري. لكنهم مع ذلك اختلفوا، فمنهم من قال: كل ما لا يقوم البدن إلا به ولا يتم العيش إلا معه فهو على الإباحة، وما عداه على الحظر. أما البعض الآخر فقد ساوى بين الكل في الحظر[76].

الاتجاه الثاني: ويقول بالإباحة وهو مذهب أكثر المتكلمين من البصريين وكثير من الفقهاء، وهو الذي اختاره الشريف المرتضى من الإمامية، كما ذهب إليه بعض من ينتمي إلى منطق حق الملكية كأبي إسحاق المروزي.

الاتجاه الثالث: وهو قد بنى رأيه على مبدأ الوقف حتى يرد سمع من النص الديني، وقد ذهب إليه أنصار منطق حق الملكية، وعلى رأسهم الأشعري وأتباعه، وعنوا به انتفاء الحكم لا التردد فيه. فهي مسألة مبتناة على أن العقل المستقل لا يدل على قضية الحسن والقبح، وبالتالي كان لا بد من سماع الشرع، فإليه يعود الحكم، سواء بالإباحة أو التحريم، وبدون وروده فإن المتعين هو الوقف من غير تحديد حكم معين.

ويتسق هذا الموقف مع ما جاء به منطق حق الملكية، خلافاً لمن ذهب منهم إلى الحظر أو الإباحة.

لكن من الأشاعرة من قام بتوجيه رأي الذاهبين إلى الحظر أو الإباحة بما لا يتنافى مع الخط المتسق والمتمثل في الوقف، إذ اعتبر الزركشي أنهم ذهبوا إلى ذلك إعتماداً على الخطاب الديني لا العقل المستقل، فكما قال:

«إعلم أن من قال من أصحابنا بالحظر أو الإباحة ليس موافقاً للمعتزلة على أصولهم، بل لمدرك شرعي. أما التحريم فلقوله تعالى: ﴿يسألونك ماذا أحل لهم﴾ (المائدة/ 4) ومفهومه أن المتقدم قبل الحل التحريم، فدلّ على أن حكم الأشياء كلها على الحظر. وأما الإباحة فلقوله تعالى: ﴿خلق لكم ما في الأرض جميعاً﴾ (البقرة/ 29). فهذه مدارك شرعية دالة على الحال قبل ورود الشرع. فلو لم ترد هذه النصوص لقال هؤلاء الفقهاء: لا علم لنا بتحريم ولا إباحة، بخلاف المعتزلة فإنهم يقولون: المدرك عندنا العقل ولا يضرنا عدم ورود الشرع»[77].

وممن ذهب إلى الوقف بعض المعتزلة[78]، والطوسي من الإمامية كما في (عدة الأصول)، إذ صرح بأن القضايا التي لم يرد فيها نص فطريقها العقل[79]، وهي بحكم هذا الأخير تكون على الوقف، ولا يمنع ذلك ما قد يدل عليه النص من الحظر أو الإباحة. ومن ثم فإن ما يقدّره العقل من الوقف لا يتنافى مع ما جاء به النص من الإباحة «بل عندنا الأمر على ذلك واليه نذهب، وعلى هذا سقطت المعارضة بالآيات»[80].

وهو المذهب الذي كان ينصره شيخ الطوسي أبو عبد الله المفيد[81]، ويُعدّ أقرب ما يكون إلى منطق حق الملكية، خلافاً لما انتهى إليه استاذه الشريف المرتضى من أن حكم العقل في الإنتفاع من الأشياء هو الإباحة لا الحظر ولا الوقف.

ومع أن الأصوليين من الإمامية كانوا يرون أنّ العقل قادرٌ على الحكم في القضايا التي لا نصّ فيها، سواء جرى حكمه وفق البراءة الأصلية أو من خلال الاشتغال والاحتياط؛ إلا أنّ المتأخرين منهم - منذ عصر الوحيد البهبهاني (المتوفى سنة 1206هـ) - أدركوا أنّ هذه القواعد ليست كاشفة عن حقيقة الحكم الشرعي، بل هي وظائف عقلية عملية غايتها إفراغ الذمّة وإبراؤها فحسب.

ووفقاً للمفكر محمد باقر الصدر فإن نواة اختمار هذه الفكرة بدأت بالظهور لدى المحقق جمال الدين، ثم نضجت وتبلورت لدى البهبهاني وتلامذته، وأطلقوا عليها اسم (الأصول العملية)[82].

وبذلك انفردت القضية العقلية المستقلة بالاندراج ضمن ما يُعرف بالحسن والقبح، أو ما يُعبَّر عنه بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وتتفرع عن هذه القضية قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، التي اعتمد عليها معظم الأصوليين، إذ يُستبعد عقلاً أن يعاقب اللهُ المكلَّف على ما لم يبيّنه له. وهي قاعدة راسخة في الوجدان العقلائي؛ فالناس لا يؤاخذ بعضهم بعضاً إلا ضمن حدود ما يتوفر لهم من العلم، وإلا فإن العقاب يُعدّ قبيحاً، الأمر الذي ينسجم تماماً مع منطق الحق الذاتي.

***

وإذا عدنا إلى الاتجاهات الثلاثة السابقة نجدها تتعارض في أدلتها العقلية. ورغم الانسجام الحاصل بين منطق الحق الذاتي وقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، إلا أن السجال الذي دار بين هذه الإتجاهات لم يكن معنياً بهذه النقطة الجوهرية.

فمن أبرز ما احتجّ به أصحاب مذهب الوقف أو الحظر إزاء الانتفاع بالأشياء التي لم يرد بشأنها نص، هو ما ثبت في العقول بأن الإقدام على ما لا يأمن المكلف قبحه، هو كالإقدام على ما يعلم بقبحه؛ تبعاً لقاعدة دفع الضرر المعلوم والمظنون عن النفس.

في حين أجاب أنصار مذهب الحلية: بأن المكلَّف يمكنه أن يأمن من قبح الإنتفاع بالأشياء؛ لأن القبح لا يتحقق ما لم تقترن به مفسدة. وإذا كانت هناك مفسدة؛ وجب على المولى تعالى إعلام المكلَّف بها، وإلا غدا التكليف قبيحاً. فما لم يعلمه بذلك؛ دلّ على أن الإنتفاع حسن لا قبيح، وهو ما يلزم عنه الإباحة.

لكن أورد بعضهم اعتراضاً على هذا الجواب، ومفاده أنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بشك المكلَّف، وأن المفسدة قد تكمن في إعلامه تفصيل الحكم، لذا يقبح هذا الإعلام، وتكون المصلحة في الوقف والشك[83].

غير أن جواب القائلين بالحلية ليس صحيحاً، وعليه يزول الاعتراض الذي طرحه القائلون بالوقف. فعدم إعلام المولى للمكلَّف بمفسدة الشيء لا يُستنتج منه إثبات الحسن ولا القبح، بل ما يعنيه هو عدم جواز المؤاخذة على فعل الإنتفاع به عقلاً ونصاً. فالعقل هنا لا يشرّع الحكم إن كان حلالاً أو حراماً، حسناً أو قبيحاً، بل يحدد فقط ما يبرئ الذمة، كما قرره المتأخرون من الأصوليين، وعلى رأسهم وحيد الدين البهبهاني. وهو ما يعني أن الإقدام على القبيح دون العلم بقبحه لا يُعدّ قبيحاً، ومن ثم لا يلزم عنه الحظر والإحتياط.

فبحسب منطق الحق الذاتي، إن من واجبات المكلِّف أن يبيّن للمكلَّف ما عليه فعله أو اجتنابه، متى ما انتفت موانع البيان، بما في ذلك الإعلام بالحظر أو الوقف أو الاحتياط، ودونه يسقط التكليف. وسبب ذلك هو أن عدم الإعلام يجعل المكلِّف مخلاً بواجبه، كما نلحظ ذلك في الشاهد حين يُقاس على الغائب. فالسيد لا يعاقب عبده على عدم إتيانه بشيء ما لم يُبلغه بذلك، والأمر يصدق في الغائب أيضاً، رغم أن الأشياء تظل على حالها بما تتضمنه من مصلحة ومفسدة، أو حسن وقبح، فكل ذلك لا يفي بتحقق التكليف ما لم يشترط فيه الإعلام.

هذا إذا كنّا نفكر ضمن دائرة الحق الذاتي، أما إذا جرى التفكير وفق اعتبارات حق الملكية، فالصورة تختلف. لذلك نجد التناقض واضحاً لدى من ينتمي إلى دائرة الحق الذاتي حينما يذهب إلى الحظر أو الإحتياط، وكأنه يخلط بين الاعتبارات المتناقضة لمنطقين متباينين لا يجتمعان: منطق الحق الذاتي ومنطق حق الملكية.

وعلى سبيل المثال، ما تبناه المفكر الصدر من مسلك أطلق عليه (حق الطاعة)، إذ ذهب إلى نفس الإتجاه القائل بالحظر والإحتياط ضمن الإتجاهات الثلاثة السابقة. واستدل بمثل ما استدل به اتجاه الحظر القديم، حيث عوّل على الحظر باعتبار أنه لا يجوز إستخدام ما هو عائد إلى ملكية الغير إلا بإذنه، مثل علمنا بقبح التصرف فيما لا نملكه في الشاهد[84]. كما استدل بدليل آخر سبق أن عوّل عليه القدماء ممن ذهب إلى الحظر والوقف، وهو عدم الأمان من الوقوع في الضرر لأيّ شيء جديد يراد منه الإنتفاع، فالتحرز من المضار واجب في العقول، وإذا كان ذلك واجباً لم يحسن الإقدام عليه، كإن يحتمل كون الشيء المنتفع به ضاراً لا نافعاً، حيث لا يُعلم إن كان سماً - مثلاً - أو غذاء.

وقد ناقش القدماء من الإتجاه الآنف الذكر أولئك الذين عولوا على التجربة لمعرفة النافع من الضار، من خلال العرض على الحيوانات، فمنعوا هكذا تجربة واعتبروها غير كافية لتحصيل العلم، لأن من الأشياء ما ينفع الحيوان ويكون له غذاء، مع أنه قد يكون للإنسان سماً. فالظب - مثلاً - تأكل شحم الحنظل وتغتذي به، في حين لو أكله الإنسان لهلك في الحال. وكذا تأكل النعامة النار وتستمرئها[85]، ولو أكل ابن آدم ذلك لهلك في الحال. أيضاً فإن الفأرة تأكل البيش وتعيش عليه[86]، ورائحة ذلك تقتل الإنسان[87].

والواقع إن مسلك المفكر الصدر في حق الطاعة، وقبله مسلك القائلين بالحظر وفق الملكية، إنما يتجه نحو الجهة التي يذهب إليها الأشاعرة في تبنيهم لمنطق حق الملكية. فرغم إعترافه بمبدأ الحسن والقبح العقليين، إلا أنه يستبعد في الوقت ذاته قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، لكنه لا يعزل العقل - بذلك - عن التشريع طالما يُفتي بلزوم الإحتياط وإعطاء الطاعة حقها، خلافاً لما أفضى إليه الأشاعرة من إبطالهم للعقل في التشريع بمنطق العقل ذاته.

ويشابه التبرير الموظّف لدى الصدر في بعض فقراته، ذلك المستخدم عند الأشاعرة، وهو أن لله ملكية مطلقة تفترض حق الطاعة التامة، حتى في موارد المحتملات والموهومات.

فالأشاعرة يجعلون الحق مطلقاً لله ويتوقفون عن التشريع في الأحكام عقلاً ما لم تأذن بذلك البيانات الشرعية الصادرة عن المالك المطلق. وقريب من ذلك ما فعله الصدر، فهو من حيث الواقع العرفي أقرّ بصدق قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) وفقاً للمرتكز العقلائي، إلا أنه رأى وجود فارق بين الشاهد والغائب، وهو أن الله مالك حقيقي، مثلما أنه منعم حقيقي، الأمر الذي يجعل مولويته حقيقية تختلف عن الحاصل في الشاهد المتعلق بالواقع العرفي، وهذا ما يعطيه الحق في معاقبة المكلَّف لعدم الإحتراز والإحتياط، وإن لم يرد عنه البيان. فللمالك الحقيقي مطلق الحق في الطاعة حتى في موارد القضايا المحتملة والموهومة.

وكما قال: «هكذا يتخلص أنه لا أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا موجب للذهاب إلى البراءة العقلية في الشبهات، بل العقل يحكم بلزوم الإحتياط فيها جميعاً، لأن حق إطاعة مولانا الحقيقي ثابت بنحو مطلق ما لم يحرز إذن المولى في المخالفة فيرتفع موضوع الحق المذكور. ومن هنا يكون الأصل الأولي في الشبهات هو الإحتياط ولا نخرج عنه إلا بمقدار ما يثبت من الترخيص الشرعي والحكم الظاهري في موارد الأمارات أو الأصول الشرعية». وقال أيضاً: «المولوية عبارة عن حق الطاعة، وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات، كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية».

وينطبق الأمر السابق حتى على المشكوكات والمحتملات من التكاليف، بل ويمتد حتى إلى التكاليف الموهومة، لسعة مولوية المولى الحقيقي[88]. كما أنه ينطبق حتى على الشبهات الموضوعية، وإن كان مسلك حق الطاعة محكوم لأدلة البراءة الشرعية، حيث يحكم العقل بالإحتياط ما لم يرد ترخيص شرعي[89].

والتشابه بين موقف الصدر وموقف الأشاعرة واضح تماماً، مع وجود بعض الفوارق، فالأول يستند إلى مبرر الملكية المطلقة لإفتراض منطق حق الطاعة، كما ويبرر هذا المنطق بحجة عقلية. كذلك أن الأشاعرة تستند بدورها إلى مبرر تلك الملكية لإفتراض منطق ما يريده الحق على نحو مطلق من غير قيود، كما تبرر ذلك بحجة عقلية، وهي أن الله منفرد في ملكه وخلقه، الأمر الذي يختلف فيه الحال عن الشاهد، لإفتقاره إلى الإنفراد والملكية الحقيقية، وهو نفس التبرير العقلي الذي لجأ إليه المفكر الصدر.

لكن مورد الإختلاف بينهما هو أن ما يناسب منطق الأشاعرة هو القول بالوقف، بمعنى أن العقل لا يشرع شيئاً، سواء كان ذلك على نحو البراءة الأصلية، أو على نحو الإحتياط، ومن ثم لا مجال للقول بالحساب والعقاب. في حين إن العقل لدى مسلك حق الطاعة يتلبس بالتشريع الفعلي، وهو حكمه بإشغال الذمة ولزوم الإحتياط وما يترتب على ذلك من القول بالحساب والعقاب.

يبقى أن القول بالمولوية وحق الطاعة، حتى في دائرة المحتملات والموهومات، يثير عدداً من الإشكالات على صعيدي المكلِّف والمكلَّف.

فعلى صعيد المكلِّف، فإن إدراج هذه المحتملات ضمن دائرة التكليف، مع إخفائها عن المكلَّف، يفضي إلى ما يُعرف بمنطق (المصالح الخفية). إذ يُفترض، في هذه الحال، وجود مصلحة خفية اقتضت من المكلِّف إخفاء التكليف، وبالتالي لا بد من محاسبته على تركه. ولا ريب أن هذا المسلك غير معقول، بل مردود على الصعيد الأخلاقي تبعاً لمنطق الحق الذاتي، إذ كيف يمكن تصور وجود مصلحة خفية تبرر للمكلِّف الامتناع عن إعلام المكلَّف، مع إخفائه التنبيه إلى وجوب الإحتياط وإشغال الذمة؟!

وقد أكّد القرآن هذا المقتضى العقلي في قوله تعالى: ﴿رسلاً مبشرين ومنذرين لئِلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيماً﴾ (النساء/ 165)، والمعنى بيِّن، وهو أن الحجة لا تتم على الخلق إلا بعد التبليغ، وإلا انعكست الحجة على المكلِّف لا على المكلَّف، وهو ما ينقض أصل المولوية.

أما من جهة المكلَّف، فلتصوّر حال من لم يصله التشريع الإلهي، كأهل الفترة، كيف يمكنه التحرك في عالم يموج باحتمالات لا متناهية من التكاليف المحتملة؟! فعدم بلوغ الحجة يجعل المكلَّف محاطاً بشبكة لا نهاية لها من التكليفات الممكنة، مما يورثه العجز عن العمل، ويوقعه في ورطة (التكليف بما لا يطاق)، وهو ما لا يقبله العقل ولا الشرع، تبعاً لمعيار الحق الذاتي.

وحتى لو قيل إن هؤلاء مخاطبون بشرعٍ سابق، كما قد يُستفاد من قوله تعالى: ﴿وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾ (فاطر/ 24)؛ فذلك لا يغير من طبيعة الإشكال، سواء من حيث الإفتراض - وفرض المحال ليس بمحال - أو من حيث الواقع، وهو أن من الناس من لم يصلهم التبليغ. لذا فالإشكال وارد وثابت، عقلاً وشرعاً.

4ـ عالم التفسير وفهم النص

وفقاً للدائرة العقلية فإن الاعتبارات العقلية توجب أن يتوقف قبول الدليل اللفظي على نفي المعارض العقلي. فبدون الأخذ بهذه النتيجة يفضي الأمر إلى نوع من التناقض وعدم الإتساق، فالذي يدعو العقل لإثبات المسألة الدينية هو ذاته يدعوه لإثبات القضايا الأخرى، كتلك المتعلقة بفهم النص الديني. وبعبارة أخرى، إن من التناقض أن تُقبل الاعتبارات العقلية في تأسيس الخطاب من الخارج، وتُمنع في الوقت ذاته من تأسيسه من الداخل.

فهذا هو عذر الدائرة العقلية لممارسة وظيفتها في فهم النص الديني. والقاعدة التي اعتمدتها بهذا الشأن هي ملاحظة ما يتقرر لدى العقل من اعتبارات (الإمكان والإستحالة). فكل شيء يراه العقل في النص ممكناً فهو مقبول، وكل شيء يراه مستحيلاً فإما أن يتم طرحه أو يمارس في حقه التأويل.

وعليه فحقيقة التأويل لدى هذه الدائرة هي النفي لا الإثبات. فالتأويل لا يقطع بمضمون حقيقة ما يتضمنه الخطاب، لكن يكفيه نفي الظاهر منه فحسب. لذا فقد اعتاد أصحاب هذه الدائرة بأن يطرحوا وجوهاً ممكنة متعددة للتفسير والتأويل، كالذي فعله المفسر الزمخشري في (الكشاف)، والشريف الرضي في (حقائق التأويل).

وسبق لبعض المعتزلة أن اشار في جواب له على سؤال يتعلق بتأويل بعض آيات القضاء والقدر، فذكر بعض الأحكام العقلية التي ينبغي وضعها نصب العين؛ ليُبنى عليها التأويل - كيفما كان - من دون تحديد سوى هذا الضابط المعرفي[90]. وبالتالي ليس الغرض إثبات التأويل وتحديد معنى النص كما هو، بل يكفي نفي الظاهر المتعارض مع قبليات العقل المعياري، خلافاً للفهم الجاري وسط النظام الوجودي بشقيه الفلسفي والعرفاني، إذ يعمل على إثبات وتعيين صور التفسير من التأويل والإستظهار والإستبطان وفق ما تحدده منظومة القبليات الوجودية[91].

فمثلاً تختلف نظرية التمثيل الفلسفي عن التأويل الكلامي بأن ظاهر اللفظ وإن كان ليس مراداً لدى كلا المسلكين، إلا أن الأخير لا يعتقد بالظاهر ولا بالباطن، بل يرى الظاهر مجازاً لغوياً يرمي إلى حقيقة أخرى ليست باطنية بالمعنى المألوف، وإنما تشير إلى معنى آخر ضمن ما أطلقنا عليه (المجال)[92]، فتربطه بالظاهر اللغوي مناسبة لفظية أو سياقية تبعاً للإستعارة والتشبيه. في حين تعترف نظرية التمثيل الفلسفي بوجود لون من المماثلة والتشابه بين ظاهر اللفظ والحقيقة، فمع أن الظاهر غير مراد لكنه شبيه بالحقيقة لتقريب المعنى إلى أذهان العوام. وليس في التأويل الكلامي مثل هذا التقريب إلى الأذهان، إذ الظاهر يعارض الحقيقة المرادة، وبالتالي ليس بقدرة العوام معرفة المراد، لا على نحو الحقيقة، ولا على نحو التشبيه.

وقد انعكس هذا الفارق على تحديد علة وجود ما يعرف بالمتشابه، أو كون الظاهر اللفظي غير مراد. فالتبرير الكلامي قائم على أن ذلك جاء لتعريض العباد إلى تحصيل الثواب بالاجتهاد والبحث والنظر لمعرفة المطلوب[93]. في حين إن التبرير الفلسفي قائم على رعاية مشاعر الجمهور لقصورهم عن استيعاب الحقيقة كما هي، فقرّبها لهم الخطاب الديني على شكل صور محسوسة وخيالات وهمية[94]، كالذي فصلنا الحديث عنه في كتاب (النظام الوجودي).

وإذا عدنا إلى العقل المعياري وما يحمله من ضوابط (الإمكان والإستحالة) سنرى بأن مشكلته تكمن في اعتباراته المتضادة والمتناقضة، فما يكون لدى بعض الاعتبارات ممكناً، يكون لدى البعض الآخر مستحيلاً. فالإعتبارات التي يعوّل عليها منطق الحق الذاتي هي غير تلك التي يعوّل عليها منطق حق الملكية. والأمر لا يتوقف عند حدود التباين والإختلاف بين هذين النوعين للإعتبارات، بل يصل إلى حد التضاد والتناقض في تطبيق القاعدة العقلية الخاصة بـ (الإمكان والإستحالة). فالكثير من قضايا النص التي يفهمها المنطق الأول بأنها مستحيلة؛ يراها المنطق الثاني ممكنة، والعكس بالعكس.

وبعبارة أخرى، إن المعارض العقلي للدليل اللفظي يخضع لإعتبارين متضادين وفقاً للمنطقين السابقين، فتأويل النص الذي يحدده أحدهما طبقاً لإعتبارات المعارض العقلي هو غير ما يراه الآخر، لإختلاف طبيعة هذا المعارض. وهكذا فإن العقل يتناقض بتناقض اعتباراته، ومنه ينشأ التناقض في القانون الكلي للمعارض العقلي (أي ترجيح الدليل العقلي على الدليل اللفظي)، ومن ثم التناقض في فهم النص الديني.

ومن الشواهد على ذلك، التناقض الحاصل في فهم النصوص المتعلقة بالصفات الإلهية، ومنها رؤية الله وكلامه. فمثلاً إن المعتزلة والزيدية والإمامية الإثنى عشرية يحيلون الرؤية، ويعدونها دالة على الجسمية، بينما يذهب الأشاعرة إلى تجويزها، إذ إن مصحح الرؤية عندهم هو كون الشيء موجوداً[95]، مع أنه من الناحية المنطقية قد تكون طبيعة الموجود غير قابلة للرؤية والإدراك، وبالتالي فالوجود لا يدل بالضرورة على الوجدان.

وقد دفعت مثل هذه الاعتبارات العقلية المتعارضة كلاً من الإتجاهين إلى تأويل النصوص المخالفة لها. إذ قام الإتجاه الأول بتأويل النص القرآني: ﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ (القيامة/ 22ـ23)، واعتبره من المتشابهات، خلافاً لنصوص أخرى عدّها من المحكمات وتدل على الغرض، وأقواها قوله تعالى: ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار﴾ (الانعام/ 103)، وكذا اعتبر أن ما يقع ضمن هذه الدلالة قوله تعالى: ﴿قال ربي أرني أنظر اليك، قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين﴾ (الأعراف/ 143).

وفي المقابل منع الإتجاه الثاني حدوث الكلام الإلهي لإعتبارات عقلية متعلقة بإثبات المسألة الدينية. في حين تقبّل الإتجاه الأول هذا الحدوث لإعتبارات عقلية أخرى متعلقة بالتوحيد. وهذا ما اضطر الإتجاه الثاني إلى تأويل الآيات المتعلقة بهذا الصدد، والتي ظاهرها يفيد الحدوث لا القدم، ومن ذلك تأويله لنص القرآن: ﴿ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه﴾ (الأعراف/143)، إذ ذُكر بأن معنى الآية هو أن موسى قد سمع الصفة الحقيقية للكلام الأزلي، ولم يسمع شيئاً حادثاً باعتبار أن ذلك من المحالات لدى هذا الإتجاه[96].

ويبقى أن هذا التعارض في الاعتبارات العقلية يُخِلّ بجوهر ما تسعى إليه الدائرة العقلية من ترجيح الدليل العقلي على نظيره اللفظي. فكيف تُجعل هذه الاعتبارات مرجعاً يُعتمد عليه في مقام الحكم، وهي في ذاتها متضادة؟! وكيف تُبنى عليها المسألة الدينية، أو يُراد منها تأسيس الخطاب من الخارج، وهي لا تفضي إلى يقين موحد؟! بل ما هو وجه القطع والعلم الذي يُدّعى تحصيله عبرها، إذا كان العقل ذاته يتنازع بين مقولاتها؟! أليس من الجائز - بل الراجح أحياناً - أن تكون هذه الاعتبارات المسماة بالأدلة والبراهين العقلية، ليست سوى تصورات زائفة وهمية، كما يصفها أصحاب الدائرة البيانية؟!

إذاً، لا يمكن قبول القاعدة المنهجية لدى أصحاب هذه الدائرة والقائلة بضرورة القطع بعدم وجود المعارض العقلي في الدليل اللفظي. إذ إن هذا المعارض لا يستغني بدوره عن الحاجة إلى الفحص والنظر بمنطق آخر مختلف لملاحظة ما إذا كان مقبولاً أو لا[97]؟

وأول ما يتبادر إلى الذهن بهذا الصدد هو السؤال عن كيفية تحصيل العلم والقطع في القضايا العقلية؟ فالعبرة ليس بذات الإعتماد على العقل، بل ببلوغ تلك المرتبة العليا من المعرفة. فلو كان الدليل اللفظي يفضي إليها دون العقل لما تردد أحد في ترجيح الأول على الأخير، كالذي ذهب إليه ابن تيمية من أصحاب الدائرة البيانية.

وهنا لا بد أن نشير إلى عدد من الملاحظات تساعد في حل هذه الإشكالية كما يلي:

1ـ لا بد من التمييز بين العقل القبلي والعقل البعدي، وهو ما لم يكن معروفاً لدى التراث العربي الإسلامي. فما يعتمد على أحدهما هو غير ما يعتمد على الآخر، وأن القضية المدعمة بالأول لا تكون بقوة تلك المدعمة بالثاني؛ ما لم تكن من القضايا الوجدانية والبديهية واللوازم المستنتجة عنها، وعدا ذلك فإن القوة المعرفية التي يحظى بها العقل البعدي هي أكثر وثوقاً مما يحظى به العقل القبلي. وبحسب العقل البعدي فإن للدلالة الواقعية أهميتها الخاصة للكشف المعرفي، كما أن للدلالة النصية أهميتها للكشف عن مضمون الخطاب وبنيته. ويستعان في كلا الحالين بمنطق قرائن الإحتمال والإستقراء.

2ـ لا بد من تأسيس المعرفة - بما فيها تلك المعنية بتأسيس الخطاب من الخارج والداخل - طبقاً للإعتبارات المشتركة لا الخاصة، إذ كانت الإشكالية التي واجهت الدوائر المعرفية للفكر الديني، ومنها الدائرة العقلية للنظام المعياري، هي أنها شيدت أنظمتها وفقاً للإعتبارات الخاصة لا العامة، وهذا ما جعلها تلاقي الكثير من المشكلات والإعتراضات، وكان أهمها إفتقارها للوثوق المعرفي.

3ـ يتميز الكشف المعرفي الخاص بمنطق قرائن الإحتمال والإستقراء بطابع مزدوج يجمع بين السلب والإيجاب. فهو من جهة يبعث على قدر من الوثوق المعرفي مقارنة بما يُمارس من النشاط الذهني ضمن العقل القبلي. لكنه من جهة أخرى، يفضي إلى نتائج متواضعة للكشف عن مضامين الخطاب الديني. وعلى نحو التحديد، أنه متمكّن من تحصيل العلم والقطع في القضايا المجملة من دون تفصيل، ومن ذلك ما يتعلق بمقاصد الخطاب وأهدافه، كما جاء تفصيله في كتاب (النظام الواقعي).

4ـ إن إمكان تحصيل العلم والقطع من خلال الدليل اللفظي، لا يعني بالضرورة انكشاف الواقع الموضوعي من خلاله، بل غايته القصوى هي بيان حدود معنى الخطاب ذاته. فالدليل اللفظي، في حدّ ذاته وبغض النظر عن أي اعتبار آخر، لا يفضي إلى الكشف عن الواقع والوجود الخارجي، بخلاف العقل، بما في ذلك العقل القبلي؛ إذ يُفترض فيه أن يكون عند القطع كاشفاً عن الحقيقة الواقعية، مع لحاظ أن العقل القبلي لا يحتاج عند القطع إلى تأييد الواقع، كما هو الحال مع مبدأ السببية العامة وما على شاكلته من المبادئ القبلية.

وبالتالي فإن القاعدة القائلة: (إن الدليل اللفظي إن كان قطعياً فهو مرجح على الدليل العقلي) تتضمن عدداً من القضايا كما يلي:

أولاً: لا بد لهذه القاعدة أن تفترض كون الدليل العقلي غير قطعي؛ كي لا يحصل التناقض.

ثانياً: يقتصر المقصود بالترجيح في هذه القاعدة على معنى الخطاب الديني من دون علاقة بالكشف عن حقيقة الموضوع الخارجي للواقع والوجود، ما لم يُضف إلى هذا المضمون اعتبارات أخرى خارجية.

ثالثاً: إن الإقرار بقطعية كل من الدليلين اللفظي والعقلي؛ يعني أن كلاً منهما صحيح في ميدانه. فالمقصود من صحة الدليل اللفظي هو من حيث إصابة فهم معناه كما هو، عبر وجود التطابق بين ما هو (لذاتنا) وما هو (في ذاته). أما صحة الدليل العقلي فهو من حيث كشفه عن حقيقة الموضوع الخارجي. وهذا يفضي بالنتيجة إلى كذب الدليل اللفظي وتهافت النص، عند مقارنته بحقيقة الموضوع الخارجي التي يكشف عنها الدليل العقلي. إذ يصبح الدليل اللفظي في هذه الحالة صحيح من حيث مفهوم النص، لكنه كاذب في كشفه عن حقيقة الموضوع الخارجي. وبالتالي لا تناقض بين القطعين المتعارضين للدليلين الآنفي الذكر، فلكل جهته الخاصة، خلافاً لما يُدّعى لدى دائرتي النظام المعياري: العقلية والبيانية.

***

نشير - أخيراً - إلى أنه ليس ثمة أدل على فشل الطريقة العقلية وتهافتها من الإعتراف الذي سجله الكثير من أتباعها المتأخرين، وهو إعتراف جرى لدى كل من أنصار المنطقين للدائرة العقلية، وأغلبهم كان ينتمي إلى منطق حق الملكية. فتارة عبّر هؤلاء عن هذا الفشل بما هو معهود في الممارسة الكلامية، وتارة أخرى بما هو صريح في الممارسة العقلية بإطلاق.

فقد وُصفت هذه الممارسة بأنها مُضِلّة تبعث على إثارة الشبهات، وتفضي إلى تحريف العقائد أو محوها. وكما صرح الإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين)، أنه تبعاً لتبحّره في كثير من العلوم، ومنها علم الكلام، انتهى إلى أن الطريق الموصل إلى حقائق المعرفة من جهة هذا العلم مسدود. وهو وإن أقرّ بأن فيه كشفًا وإيضاحًا لبعض القضايا، لكن - بحسب رأيه - أن ذلك لا يكون إلا في النادر[98].

والذين تضرروا من الممارسة العقلية الصرفة لهذا العلم كثيرون، ويجمعهم الإقرار بالعجز عن بلوغ الدراية والحقيقة رغم طول هذه الممارسة، وكان حصادهم المرير هو الشك والاضطراب والندم على ضياع الأعمار، كما جاء تفصيله في كتاب (نُظم التراث).


[1] علماً بأن هناك اخباراً متضاربة حول موقف أبي حنيفة من الكلام الإلهي، ففي بعضها أنه يعتبره ازلياً، وفي البعض الآخر أنه مخلوق (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص262ـ267).
[2] روضة الطالبين، ص155ـ156.
[3] Ayer, A. J. Critique of Ethics and Theology, (1988), in Essays on Moral Realism, ed. Sayre-McCord G. Cornell University Press, London. 30-32.
[4] Makie J. L. The subjectivity of Values, in Essays on Moral Realism. p. 112.
[5] Sayre-McCord, G. Introduction: The Many Moral Realism, in Essays on Moral Realism. p. 13.
[6] Makie J. L, p. 99-100.
[7] Sturgeon, N. L. Moral Explanations, in Essays on Moral Realism. p. 233.
[8] Harman, G. Ethics and Observation, in Essays on Moral Realism. p.123.
[9] Boyd, R. N. How to be a Moral Realist, in: Essays on Moral Realism. p.184-5.
[10]      Boyd, R. N, p. 206.
[11]      Sayre-McCord, G. Introduction: The Many Moral Realism, in Essays on Moral Realism. p. 21 .
[12]      للتوسّعة يمكن مراجعة: الإستقراء والمنطق الذاتي.
[13]      قد يعترض البعض على هذا الكلام لعدم اطلاعنا التام على الغيب، فحتى لو لم تظهر لنا مضامين هذه القضايا، مثل عدم ظهور الأسباب بالنسبة إلى قضية السببية العامة، فإن عقولنا تفترض وجودها، وهذا الأمر يجعل منها غير قابلة للتحدي ولا للفحص العلمي. وأكبر شاهد على ذلك حركة الإلكترون العشوائية في العالم الجسيمي. إذ قد يقال أن لهذه الظاهرة أسبابها المجهولة، مع أنه يقال أيضاً أن هذه الحركة تجري من غير أسباب. وهكذا يمكن أن يُكرر هذا القول مع أي ظاهرة لم تتكشّف لنا أسبابها. لكن يجاب على ذلك أن بعملية الفحص الإستقرائي والإحصائي يتوضح أكثر فأكثر بأن للظواهر أسباباً حتى ولو لم نعرفها بالضبط والدقة، وأن ذلك يُضعف من إحتمال عدم خضوع الظواهر (المعاندة) - وهي قليلة بطبيعة الحال - لهذا النظام باضطراد. أما العكس فهو وإن لم يدل على خرق السببية وامكان وقوع الحوادث من غير سبب مطلقاً، إلا أنه يبرر اعتبار هذا المبدأ عديم الفائدة والجدوى في الكشف المعرفي والعلمي. وهذا هو المقصود بالتحدي.
[14]      الإستقراء والمنطق الذاتي، ص310ـ313 و450.
[15] رينيه ديكارت: تأملات، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت - باريس، الطبعة الرابعة، 1988م.
[16] تناولنا تفاصيل هذا الموضوع في الكتاب المخطوط: الطاهية: مفارقات وتقلبات. كذلك: التداولية الطاهية (قراءة في النسق التداولي لمشروع طه عبد الرحمن)، تم نشره في موقع فلسفة العلم والفهم بتاريخ: 23-11-2024. انظر: https://www.fahmaldin.net/index.php?id=2771
[17]      راجع حول ذلك: الإستقراء والمنطق الذاتي، القسم الأخير.
[18]      المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص234. ولاحظ أيضاً: عدة الأصول، ج2، ص759.
[19]      محمد رضا المظفر: المنطق، دار التعارف، بيروت، 1400هـ ـ1980م، ص293ـ295. وأصول الفقه، ج1، ص195ـ196.
[20]      أصول الفقه، ج1، ص201.
[21]      المصدر السابق، ج1، ص197.
[22]      قد يقال إننا حتى مع هذه القضايا البسيطة لا يمكننا الحكم عليها بالتماثل المطلق، إذ لسنا على علم دقيق وكامل بأوزانها وأحجامها، حيث مهما حسبنا الوزن والحجم فيظل هناك بعض الفوارق التي تخص الحسابات الجزيئية الدقيقة، مثل عدم العلم بعدد ذراتها وأوزانها وما إليها..   والجواب عن ذلك يأتي بوجهين: أحدهما أن الإختلاف بين الأشياء التي نعدها متماثلة هو إختلاف ضئيل للغاية فإما أن يهمل، أو أنه لا يؤثر شيئاً على كون القضية العقلية ثابتة ضمن الحدود النسبية للقيمة الإحتمالية المستنتجة عن التماثل النسبي. وبعبارة أخرى تصبح القضية العقلية ذات قيمة إحتمالية محددة تحديداً مرناً بعض الشيء لما تتضمنه من إختلاف ضئيل، وبالتالي يمكن إضافة إليها قيمة ضئيلة تُقدر من الجهتين ارتفاعاً وانخفاضاً. وتعبّر القيمة الأخيرة عن جهلنا بدقة الإختلاف الحاصل، وتصبح القضية الأخيرة غير عقلية باعتبار تلك الإضافة المقدرة. فمثلاً من الناحية التقريبية إن قيمة إحتمال ظهور وجه واحد من وجهي قطعة نقد متماثل بقدر عال جداً تساوي نصفاً مع أخذ اعتبار الهامش الضئيل في الإضافة، ولنفرض أنه لا يقل عن واحد من ألف، فتكون القيمة الإحتمالية التقريبية نصفاً مع زائد ناقص واحد من ألف، أي تكون حسب التعبير الرمزي: 1\2 ± 1\1000.   أما الجواب الآخر، فهو أننا إزاء مشكلة عملية أكثر منها نظرية، إذ يمكن تطبيق القضية العقلية بشروطها على نموذج لا يخضع لمثل تلك الاعتبارات من الوزن والحجم. فمثلاً لو كانت لدينا خمس أوراق متشابهة ومرقمة من واحد إلى خمسة، وقد اُلقيت مصفوفة أفقياً دون أن تُرى الأرقام فيها، فستكون قيمة إحتمال معرفة أي رقم منها قيمة ثابتة عقلياً، وهي واحد من خمسة.
[23]      مفتاح دار السعادة، ج2، ضمن فصل حول كون الفعل حسناً أو قبيحاً بمعنى الملاءمة والمنافرة. ولاحظ أيضاً: المستصفى، ص39. والمظفر: المنطق، ص341.
[24]      Learm, J. Ethics Mathematics and Relativism, in Essays on Moral Realism. p. 82 .
[25]      Sayre-McCord, G. Introduction, p. 18.
[26]      مفتاح دار السعادة، ج2، فصل حول الحكمة في خلق الله.
[27]      المصدر السابق، ج2، ضمن الوجه الحادي عشر من وجوه الكلام على كلمات النفاة.
[28]      نفس المصدر، ج2، ضمن الوجه الحادي عشر من وجوه الكلام على كلمات النفاة.
[29]      لاحظ ابن سينا: البرهان، تحقيق أبو العلا عفيفي، ص96ـ97. والإستقراء والمنطق الذاتي، ص84.
[30]      يذكر بأن هناك ثماية شروط تفي بتحقق التناقض، والبعض اعتبرها تسعة شروط (المنطق، ص167ـ168).
[31]      انظر سلسلة حلقات (فلسفة النظام الاخلاقي)، لاسيما الحلقة الثالثة، وذلك في موقع فلسفة العلم والفهم، والتي بدأ نشرها بتاريخ 30-7-2023: https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=11
[32]      انظر على سبيل المثال الدراسات التالية:   Lewis D. J. and Weigert A. Trust as a Social Reality, in Social Forces, Vol. 63, No. 4, (1985). pp.967-985. And: Baier A. Trust and Antitrust, in Ethics, Vol. 96, No. 2, (1986). pp. 231-260. And: Cole, R. L. Toward as Model of Political Trust: A Causal Analysis, in American Journal of Political Science, Vol. 17, No. 4. (1973). pp. 809-817.
[33]      فقد اعتبر الفيلسوف الالماني (عمانوئيل كانت) أن الخبث والشر الذي في الإنسان هو عامل كبير لرقي البشر، ولو أن الناس اتبعوا الانجيل القائل: «ليحب بعضكم بعضاً» بدلاً من أن يتبعوا مبدأ الطبيعة الذي يشجع الناس على الاقتتال، لظلوا عاكفين في الكهوف (غوستاف لوبون: الآراء والمعتقدات، نقله إلى العربية عادل زعيتر، دار المعارف، سوسة - تونس، 1995م، ص90).
[34]      نسبة إلى العالم الرياضي جاكوب برنولي (المتوفى سنة 1705م).
[35]      انظر: الإستقراء والمنطق الذاتي، ص310.
[36]      Sayre-McCord, G. Moral Theory and Explanatory Impotence, (1988), in Sayre-McCord G. (ed.) Essays on Moral Realism, Cornell University Press, London, p. 257-258. And: Introduction, p. 8.
[37]      المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص384 و402.
[38]      المصدر السابق، ج1، ص391.
[39]      المصدر نفسه، ج1، ص102.
[40]      المصدر نفسه، ج1، ص384.
[41]      المصدر نفسه، ج1، ص382. وشرح الأصول الخمسة، ص389ـ390 و402.
[42]      شرح الأصول الخمسة، ص51 و90.
[43]      المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص383.
[44]      شرح الأصول الخمسة، ص571.
[45]      لويس غرديه وج. قنواتي: فلسفة الفكر الديني، تعريب صبحي الصالح وفريد جبر، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 1967م، ج3، ص214ـ215، وج3، هامش ص271.
[46]      مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، فقرة: واختلفوا في السبب هل هو موجب للمسبَّب أم لا؟
[47]      الملل والنحل، ص29 و32.
[48]      مجمع البيان في تفسير القرآن، ج4، ص276.
[49]      أوائل المقالات، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (4)، ص129 و130.
[50]      أبو القاسم الخوئي: محاضرات في أصول الفقه، حررها محمد اسحاق الفياض، مطبعة الاداب، النجف، ج2، ص92ـ93. ومحمد باقر الصدر: فلسفتنا، دار التعارف، بيروت، الطبعة العاشرة، ص208. والأسس المنطقية للإستقراء، مع تعليقات يحيى محمد، مؤسسة العارف، بيروت، الطبعة الأولى، 1428هـ ـ 2008م، ص70ـ71. والإستقراء والمنطق الذاتي، ص44 وما بعدها. كذلك دراستنا: المهمل والمجهول في فكر السيد الصدر، قضايا إسلامية معاصرة، عدد 11ـ12، 2000م، ص154.
[51]      صدر المتألهين الشيرازي: الشواهد الربوبية، مقدمة وتصحيح وتعليق جلال الدين اشتياني، مركز نشر دانشكاهي، الطبعة الثانية، ص37ـ38. وملا محمد جعفر اللاهيجي: شرح رسالة المشاعر، مقدمة وتصحيح وتعليق جلال الدين اشتياني، نشر مكتب الاعلام الإسلامي في طهران، ص221 وما بعدها.
[52]      البحر المحيط، فقرة 20.
[53]      الفارابي: السياسة المدنية، ص71ـ72.
[54]      المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص394.
[55]      الحلي: كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد، ص344.
[56]      فواتح الرحموت، ج1، ص24.
[57]      البحر المحيط، فقرة 21.
[58]      الباقلاني: الإنصاف في ما يجب إعتقاده ولا يجوز الجهل به، تحقيق وتعليق وتقديم محمد زاهد بن الحسن الكوثري، مؤسسة الخانجي، الطبعة الثانية، 1963م، ص14.
[59]      تهافت الفلاسفة، ص197ـ199.
[60]      المصدر السابق، ص238.
[61]      لاحظ: محمد حسن المظفر: دلائل الصدق، دار المعلم للطباعة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1396هـ ـ1976م، ج1، ص175ـ180. وإبن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص519ـ523.
[62]      الإقتصاد في الإعتقاد، ص43.
[63]      المعالم الجديدة للاصول، ص41ـ43.
[64]      فلسفة الفكر الديني، ج3، ص214ـ215.
[65]      دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمه وعلّق عليه محمد عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة، الطبعة الرابعة، 1377هـ ـ1957م، ص118.
[66]      الغزالي: ميزان العمل، تحقيق وتقديم سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، الطبعة الأولى، 1964م، ص408 و228.
[67]      المستصفى، ج1، ص100 و217ـ218.
[68]      البحر المحيط، فقرة 1533.
[69]      المصدر السابق، فقرة 1527.
[70]      أصول الفقه، ج2، ص 209.
[71]      رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص20.
[72]      المصدر السابق، ج2، ص127.
[73]      السرائر، ج2، ص618. أيضاً: محمد حسين كاشف الغطاء: أصل الشيعة وأصولها، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، الطبعة السادسة، ص126.
[74]      رسائل المرتضى، ج2، ص372ـ373.
[75]      البحر المحيط، فقرة 88.
[76]      المصدر السابق، فقرة 88ـ89.
[77]      المصدر نفسه، فقرة 89.
[78]      المصدر نفسه، فقرة 89.
[79]      ومن ذلك قوله: «الكلام في الحظر والاباحة فعندنا وعند أكثر من خالفنا طريقه العقل» (عدة الأصول، ج1، ص41).
[80]      عدة الأصول، ص750. والفوائد المدنية، ص238ـ239.
[81]      عدة الأصول، ص296. والمفيد: شرح عقائد الصدوق، وهو ملحق خلف أوائل المقالات، نشر مكتبة الداوري، قم، ص244. والطبعة الحديثة بعنوان: تصحيح الإعتقاد، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (5)، دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1993م ـ1414هـ، ص143.
[82]      محمد باقر الصدر: بحوث في علم الأصول، تحرير محمود الهاشمي، المجمع العلمي للإمام الصدر، الطبعة الأولى، 1405هـ، ج5، ص11. ويبدو أن ما قصده المفكر الصدر من المحقق جمال الدين هو الشيخ حسن العاملي صاحب كتاب معالم الدين (والمتوفى سنة 1011هـ). لكن إذا كان قصده المحقق محمد الخونساري (المتوفى سنة 1125هـ) فالملاحظ أنه سبقه في ذلك الفيض الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ).
[83]      عدة الأصول، ص296. والفوائد المدنية، ص233ـ234.
[84]      عدة الأصول، ص297. والفوائد المدنية، ص235.
[85]      قيل إن من عجائب النعامة أنها تبتلع الجمر فيكون جوفها العامل في اطفائه فتغتذي به وتستمرئه. وهي أيضاً تبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فتذيبه وتميعه كالماء. وقيل أيضاً إنه إذا حميت صنجة مائة درهم من الحديد حتى تحمر ورميت إليها فانها تبتلعها وتستمرئها (محمد بن موسى الدميري: حياة الحيوان الكبرى، منشورات الرضي، قم، الطبعة الثانية، 1368هـ، ج2، ص362ـ363. كما لاحظ خلف هذا الكتاب: زكريا بن محمد القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، ص286).
[86]      البيش هو نبات عشبي معمر وسام قاتل يعيش في المناطق الجبلية، ويستعمل في الطب كدواء لعلاج التشنج (المنجد في اللغة، دار المشرق، بيروت، الطبعة الخامسة والثلاثون، 1996م، مادة بيش). وقيل عنه إنه نبات بأرض الصين يؤكل في تلك البلاد وهو أخضر، فإذا يبس كان قوتاً لأهل الصين دون أن يضرهم منه شيئاً، لكن لو بعد عن هذه البلاد ولو مائة ذراع واكله آكل لمات من ساعته (حياة الحيوان الكبرى، ج1، ص573).
[87]      عدة الأصول، ج2، ص750ـ751. والفوائد المدنية، ص239ـ240.
[88]      بحوث في علم الأصول، ج5، ص28ـ29 و42 و24. كذلك: محمد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الرابعة، 1417هـ، ج3، ص35 وما بعدها.
[89]      المصدر السابق، ج5، ص79.
[90]      عبد الجبار الهمداني: فرق وطبقات المعتزلة، دار المطبوعات الجامعية، 1972م، ص81.
[91]      انظر الفصول الثلاثة الأخيرة من الحلقة السابقة: النظام الوجودي.
[92]      انظر ما سبق تقريره لدى حلقة (علم الطريقة).
[93]      شرح الأصول الخمسة، ص599ـ600. والزركشي: البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، ج2، ص75ـ76.
[94]      ابن سينا: رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي، مصر، الطبعة الأولى، 1368هـ ـ1949م، ص50ـ51. وإبن رشد: تهافت التهافت، ص285. وصدر المتألهين: المبدأ والمعاد، مقدمة وتصحيح جلال الدين اشتياني، انجمن حكمت وفلسفه ايران، 1976م، ص423ـ424.
[95]      لاحظ رأي الأشاعرة في كل من: اللمع، ص67ـ68. والتمهيد، ص266. ولمع الأدلة، ص101. والإقتصاد في الإعتقاد، ص72.
[96]      الفخر الرازي: التفسير الكبير، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، ج14، ص228.
[97]      انظر حول ذلك: علم الطريقة.
[98]      احياء علوم الدين، ضمن قواعد العقائد، الفصل الثاني. كذلك: شرح العقيدة الطحاوية، فقرة (قوله: فمن رام علم ما حظر عنه علمه).
comments powered by Disqus