يحيى محمد
جاء أنه سُئل كل من الإمام مالك والشافعي وإبن حنبل عن معنى إستواء الله على العرش كما في قوله تعالى: ((الرحمن على العرش إستوى)) فأجاب مالك: «الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة»[1]. وقال سفيان بن عيينة: سُئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن: كيف إستوى؟ فقال: الإستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق[2]. كما أجاب الشافعي قائلاً: «آمنت بلا تشبيه، وصدقت بلا تمثيل، واتهمت نفسي في الإدراك، وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك». وأجاب إبن حنبل قائلاً: « إستوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر». كما ونقل عن إبن حنبل أنه قال بشأن مختلف النعوت الإلهية: «التشبيه أن تقول يد كيد أو وجه كوجه، فأما يد ليست كالأيدي ووجه ليس كالوجوه فهو إثبات ذات ليست كالذوات وحياة ليست كغيرها من الحياة وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار..»[3]. كذلك الحال مع المحدث إبن خزيمة، فهو يعتقد بكل ما جاء به الشرع من غير تأويل، إذ يرى أن الله لا شبيه له ولا نظير، مع أن له صفات كصفة الوجه والعينين واليدين وأنه مستو على العرش وفوق السماوات السبع، وأن يديه يمينان لا شمال فيها كما أخبر النبي[4]. كما جاء عن عثمان بن سعيد الدارمي قوله: «لا نكيف هذه الصفات، ولا نكذب بها، ولا نفسّرها»[5]، وعنه أيضاً أنه قال: «ما خاض في هذا الباب أحد ممن يذكر إلا سقط ، فذكر الكرابيسي فسقط حتى لا يذكر ، وكان معنا رجل حافظ بصير، وكان سليمان بن حرب والمشايخ بالبصرة يكرمونه، وكان صاحبي ورفيقي - يعني فتكلم فيه - فسقط »[6]. كما قال: «على تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا لا ينكرها منهم أحد ولا يمتنع من روايتها حتى ظهرت هذه العصابة فعارضت آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم برد وتشمروا لدفعها بجد فقالوا كيف نزوله هذا؟ قلنا لم نكلف معرفة كيفية نزوله في ديننا ولا تعقله قلوبنا وليس كمثله شيء من خلقه فنشبه منه فعلا أو صفة بفعالهم وصفتهم، ولكن ينزل بقدرته ولطف ربوبيته كيف يشاء، فالكيف منه غير معقول والإيمان بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزوله واجب ولا يسأل الرب عما يفعل كيف يفعل وهم يسألون»[7]. وجاء عن أبي عثمان النيسابوري الصابوني أنه قال: «ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى اللّه، وكذلك يثبتون ما أنزل اللّه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة..»[8].
ويلاحظ من النصوص التي ذكرناها أن بعض السلف كان يميل إلى الإيمان بما ورد بشأن الصفات دون تفسير ولا تكييف، فهو موقف تفويضي بحت، كما هو واضح مما نقلناه عن الشافعي والدارمي. أما البعض الآخر فقد التزم بتفويض أمر تكييفها وإن لم يتوقف عن تفسيرها أو فهمها على النحو العام، والذي إستند إليه إبن تيمية متذرعاً بأنه لو صحّ الرأي الأول كما نسبه إليهم المتأخرون من أهل الكلام لكان الأنبياء – ومنهم نبينا محمد (ص) - وأتباعهم وحتى جبريل جهالاً لا يعرفون مراد الله تعالى؛ وفقاً لآية ((وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا))[9]، كما سنبين ذلك لاحقاً[10].
وهناك محاولة لبعض العلماء تجعل من موقف السلف التفويضي لا يختلف جذراً عن موقف الخلف من أصحاب الدائرة العقلية، والمقصود بهم الأشاعرة. فهما بحسب هذه الوجهة من النظر «متفقان على التأويل، وأن الخلاف بينهما لفظي لإجماعهم على صرف اللفظ عن ظاهره. ولكن تأويل السلف إجمالي لتفويضهم إلى الله تعالى في المعنى المراد من اللفظ الذي هو غير ظاهره المنزّه عنه تعالى. وتأويل الخلف تفصيلي لاضطرارهم إليه لكثرة المبتدعين فلم يريدوا بذلك مخالفة السلف الصالح، معاذ الله أن يظن بهم ذلك. وإنما دعت الضرورة في أزمنتهم لذلك لكثرة المجسمة والجهمية وغيرها من أهل الضلال واستيلائهم على عقول العامة فقصدوا بذلك ردعهم وبطلان قولهم، ومن ثم اعتذر كثير منهم وقال: لو كنا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمانهم لم نخض في تأويل شيء من ذلك، وقد جاء التأويل التفصيلي عن السلف في بعض المواضع وجاء عن كثير من محققي المتأخرين عدم تعيين التأويل في شيء معين من الأشياء التي تليق باللفظ ويكلون تعيين المراد بها إلى علمه تعالى»[11].
وشبيه بهذا ما جاء عن الكوثري في تعليقه على (تبيين كذب المفتري) لإبن عساكر، حيث هو الآخر صرح بوجود الإتفاق بين السلف المفوضين والممسكين عن تعيين المراد وبين الخلف الذين رجحوا أحد المعاني المحتملة مما يوافق التنزيه طبقاً لقرائن النص واستعمال أهل اللسان، فعلى حد قوله: «فالسلف والخلف متفقان في صرف المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه. فالفريق الأول يكتفي بالتأويل الإجمالي، ويتورع عن الخوض في تعيين المراد»، بينما اضطر الفريق الثاني إلى ممارسة التأويل وتحديد المراد «دفعاً لتمويهات المشبهة»[12].
لكن على ما يبدو هو أن للسلف موقفين من التفويض كما رأينا، وكل منهما يختلف عن موقف الخلف من أصحاب الدائرة العقلية. فصحيح أن موقف بعض السلف لا يختلف عن موقف الخلف حول نفي الظاهر من التشبيه، لكن مع هذا لم تحتمل الذهنية الأولى أن تضع في الإعتبار وجود معيار آخر خارج حدود النص. فالذي جعلها تركن إلى التنزيه من غير تشبيه هو كما يقول إبن خلدون لكثرة موارد التنزيه ووضوح دلالتها خلافاً لما هو الحال في أدلة التشبيه[13]. مما يعني أن هذه الذهنية تدور مدار النص، منه وإليه. فتوقّف السلف عن تحديد المراد وتعيينه، له دلالة على تمسكهم بما فهموه مما تأمرهم به آية المتشابهات ((فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كل من عند ربنا وما يذّكّر إلا أولوا الألباب))[14]. وقد سبق أن ذكرنا نصاً للشهرستاني يفيد هذه الدلالة من السلوك السلفي.
أما بخصوص الموقف الثاني للسلف من التفويض، فمن الواضح أنه يختلف تماماً عما آل إليه المتأخرون من الأشاعرة. فبحسب هذا الموقف أنه رغم نفي بعض علماء السلف للتشبيه لكنهم احتفظوا بالمعنى العام لظواهر النصوص، مما له دلالة واضحة على التحرك ضمن أجواء النص، ولعلهم بهذا السلوك يجمعون بين قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)) وبين سائر النصوص الأخرى الدالة على تعيين الصفات، وهو ما التزم به إبن تيمية كتنظير لطريقة السلف على ما سنرى. بل وفوق كل ذلك هو أن السلف كانوا لا يتكلمون بشيء يتجاوز حدود النص، بخلاف ما هو متعارف عليه في علم الكلام، فكما يُنقل عن الإمام إبن حنبل قوله: «.. لستُ بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله أو في حديث عن النبي (ص) أو عن أصحابه أو عن التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود»[15].
ولا شك أن هذا السلوك للسلف يعارض ممارسات الخلف، بل وسلوك الدائرة العقلية عموماً، ذلك أن هذه الطريقة لا تدور حول النص حيثما دار، بل ولا تتوقف توقف ما فهمه السلف من آية المتشابهات، فهي تفهم هذه الآية بدلالة أخرى، وتعدد معنى المراد من النص المتشابه خلافاً للمعنى العام الذي ذهب إليه السلف، إعتماداً على معيار آخر هو معيار الدليل العقلي الذي ترجحه على دلالة النص، بما في ذلك تلك الدلالة العامة التي يعوّل عليها السلف.
[1] محمد بن أحمد الذهبي: تذكرة الحفاظ، دراسة وتحقيق زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ ـ 1998م، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ج1، ص155. والجويني: الشامل في أصول الدين، تحقيق علي سامي النشار وفيصل بدير عون وسهير محمد مختار، ص551.
[2] تذكرة الحفاظ، ج1، ص119.
[3] مختصر الصواعق المرسلة، ص19.
[4] محمد بن سحق بن خزيمة: التوحيد وإثبات صفات الرب، مراجعة وتعليق محمد خليل هراس، مكتبة الكليات الأزهرية، 1387هـ ـ 1968م، ص7 و16 و19 و35.
[5] سير أعلام النبلاء، ج13، فقرة 324 .
[6] سير أعلام النبلاء، ج13، فقرة 325 .
[7] عثمان بن سعيد الدارمي: الرد على الجهمية، دار إبن الأثير، تحقيق بدر عبد الله البدر، الكويت، الطبعة الثانية، 1416هـ، عن برنامج مكتبة العقائد والملل، الاصدار الثالث، فقرة 147، ص49. ومحمد سعيد عبد المجيد سعيد الافغاني: شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري، دار الكتب الحديثة في مصر، ص207ـ208.
[8] إبن تيمية الحراني: شرح العقيدة الأصفهانية، تحقيق إبراهيم سعيداي، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ، عن الموقع العربي الإسلامي الإلكتروني: http://arabic.islamicweb.com، ص50. ومجموعة رسائل إبن تيمية، ج5، ضمن فقرة: (سئل عن حديث أخرجه أبو سعيد النقاش).
[9] آل عمران\ 7.
[10] درء تعارض العقل والنقل، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج1، ضمن الفصل الأول (لم تذكر أرقام صفحاته ولا فقراته).
[11] إستحالة المعية للشنقيطي، ص76، عن: إبن تيمية ليس سلفياً، ص105ـ106.
[12] عن: أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري، منشورة خلف الاربعين في دلائل التوحيد، حققها وعلق عليها وأخرج أحاديثها الفقيهي، حاشية، ص120.
[13] تاريخ إبن خلدون، ج1، ص831.
[14] آل عمران/ 7.
[15] إبن الجوزي: مناقب الإمام أحمد بن حنبل، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى، ص156. كذلك: أصول مذهب الإمام أحمد، ص73. وسير أعلام النبلاء، ج11، فقرة 286ـ287.