-
ع
+

هل إبتدع إبن تيمية القول بإنقطاع العذاب؟

يحيى محمد

أُتهم إبن تيمية بأنه ابتدع فكرة أخرى نسبها إلى السلف، وهي الإعتقاد بانقضاء النار وفنائها، ومن ثم القول بعدم الخلود في العذاب. ومن خصومه من نفى أن يكون أحد من السلف قال ذلك، إنما روي عن بعضهم كلمات تتأول كما تتأول المشكلات التي ترد وتحمل على غير ظاهرها[1]. وأورد إبن تيمية عدداً من الروايات عن بعض الصحابة كيف أن الله يخرج في النار من فيها، مثل إبن مسعود وأبي هريرة وعمر وأبي سعيد الخدري، وردّ عليه الصنعاني واعتبر أنه لا دلالة في ذلك على فناء النار، كما لا دلالة فيه على خروج المشركين منها، لا سيما وأن من الآيات ما يشير إلى البقاء الدائم، مثل قوله تعالى: (( إن الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط وكذلك نجزي المجرمين)) (الأعراف/40). وفي الحديث يؤتى بالموت فيذبح بين الجنة والنار[2].

والمهم في الأمر أن هذا الإعتقاد جاء موافقاً لما يقوله الفلاسفة والعرفاء.

وقد استدل إبن تيمية عليه بعدد من الآيات، فاعتبر بعض الآيات دالة على إنقطاع العذاب مثل قوله تعالى: ((لابثين فيها أحقاباً)) (النبأ/ 23) وقوله: ((النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله)) (الأنعام / 128). أما الآيات التي تبدي الأبدية والخلود فقد فسّرها بقيود وشروط يجعلها دالة على الإنقطاع، ومن ذلك قوله تعالى: ((ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً)) (الجن/ 23) وقوله: ((خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون)) (البقرة/ 162).

فقد استدل بأن ما ورد في مثل الآيتين السابقتين من خلود وأبدية إنما مشروط ببقاء السماوات والأرض، كالذي يدل عليه قوله تعالى: ((وأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السماوات والأرض، إلا ما شاء ربك إن ربّك فعّال لما يريد)) (هود/ 106ـ107)، وعليه اعتبر الأبدية هي استمرار المعذبين في النار مادامت موجودة، مع أن الله - على رأيه - لم يصرح بأن النار باقية ابداً، وفرق بين الحالين كما هو واضح. يضاف إلى أن التأبيد جاء في القرآن مقيداً بما لا يتنافى مع الإنقطاع، كما في قوله تعالى عن اليهود: ((ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم)) (البقرة/ 95)، فإنما لا يتمنوه أبد مدة حياتهم في الدنيا، وإلا فهم في النار يتمنون الموت حيث يقولون كما في قوله تعالى: ((يا مالك ليقض علينا ربك)) (الزخرف/ 77)، كذلك ما جاء في قول العرب: لا أفعل هذا أبداً، ولا أتزوج أبداً «فإنما يريدون بذلك مدة منقطعة هي أبد الحياة ومدة عمرهم، وهكذا الأبد في العذاب كقوله تعالى: ((له نار جهنم خالدين فيها أبداً)) (الجن/23) إنما هو أبد مدة بقاء النار ودوامها»[3].

ولنا على هذه النظرية الملاحظة التالية:

إن الآيات التي وردت حول تعليق الخلود في النار على دوام السماوات والأرض قد أعقبها ذات هذا التعليق فيما يخص الخلود في الجنة، وكما جاء في النص القرآني: ((وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ)) (هود/108). فإذا كانت الآيات السالفة الذكر تدل على إنقطاع العذاب لأهل النار تبعاً للتعليق الوارد الذكر، فإن الحال ذاته يدل على الإنقطاع بالنسبة إلى أهل الجنة. الأمر الذي يحتاج إلى لون من التخريج والتمييز بين ما يصيب هؤلاء واولئك، ولا يكفي ما ذُكر من وجود قرينتين في الآية، إحداهما قوله تعالى: ((إنّ ربّك فعّال لما يريد)) (هود/107) حيث وردت متصلة مع قضية إنقطاع العذاب فقط، مما تدل على تأكيده، ولم تقترن مع الإستثناء المتعلق بقضية الخلود في الجنة. والأخرى قوله تعالى: ((عطاء غير مجذوذ)) حيث جاءت عقب الإستثناء المتعلق بالخلود في الجنة، وهي بهذا توحي إلى دفع توهم الإعتقاد بإنقطاع السعادة[4]. فلا شك أن وجود هاتين القرينتين لا يمحي صورة الإستثناء التي وردت في كلا الموردين من الجنة والنار. وقد كان الزمخشري صاحب (الكشاف) يرى أن آية الإستثناء من المعضلات على ما نقل عنه السمعاني[5]. كما أن إبن القيم رأى أن الإستثناء في آية الإستثناء مع أهل الجنة هو من المتشابه، وأن المحكم قوله تعالى: عطاء غير مجذوذ، وظلها دائم، وما إلى ذلك[6].

وعادة ما يأول العلماء الآية المتعلقة بتعليق الخلود في النار على دوام السماوات والأرض، وهو أنها تصدق فيما يخص العصاة من الموحدين دون المشركين، وأن بعض العلماء يأول الآية الأخرى حول الجنة، وهو أن المقصود بأن لأهل الجنة نعيماً أجل وأكبر هو رضوان الله عز وجل. في حين ذهب الصنعاني إلى أن الإستثناء في آية الجنة من باب (حتى يلج الجمل في سم الخياط) وهو تقييد بالمحال، وأن من دخل الجنة لا يخرج منها أبداً؛ بدليل الإجماع المعلوم بالضرورة من الدين، وبدليل قوله تعالى: ((عطاء غير مجذوذ))، وفي آية أهل النار محمول على ما ذكر من خروج الموحدين. ثم أنه استدرك فقال: «لا يقال أن هذا يوجب الإختلاف في نظم الكلام، حيث عدل بالإستثناء الثاني عما حمل عليه الإستثناء الأول، مع أنهما سيقا مساقاً واحداً، لأنا نقول تبعاً للمحقق الشريف أن الأول محمول على الظاهر، وقد عدل بالثاني عنه بقرينة واضحة مما ذكرنا فلا إشكال ولا إختلاف»[7].

 

 

 



[1]  السبكي: رسالة الإعتبار ببقاء الجنة والنار، ضمن التوفيق الرباني، ص149.

[2]  محمد بن إسماعيل الصنعاني: رفع الاستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص77 وما بعدها.

[3]  مختصر الصواعق المرسلة، ص234.

[4]  مختصر الصواعق المرسلة، ص238.

[5]  رفع الاستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، ص109. علماً أن ما ذكره الزمخشري في (الكشاف) هو أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد جاء قوله تعالى: ((عطاء غير مجذوذ)) عقب الإستثناء المتعلق بالخلود في الجنة، ومعناه أن عطاء الله لا إنقطاع له، حيث أن لأهل الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعاً وهو رضوان الله كما قال تعالى: ((وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر)) (التوبة/72)، ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو، لذلك جاء الإستثناء ((عطاء غير مجذوذ)) ليشير إلى هذا المعنى. وعلى نفس هذا السياق جاء قوله تعالى: ((إنّ ربّك فعّال لما يريد)) بعد الإستثناء الخاص بأهل النار، حيث أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار وبما هو أغلظ منها، وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم دون إنقطاع (الكشاف، ج2، ص430).

[6]  رفع الاستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، ص109.

[7]  رفع الاستار، ص108ـ110.

comments powered by Disqus