-
ع
+

نشأة التنظير الإخباري لدى الشيعة

 

يحيى محمد 

لقد تكرر ظهور التنظير في الدائرة البيانية وسط الإتجاه الشيعي، إثر ما وصلت إليه الدائرة العقلية مداها، فجاءت كرد فعل على التطورات العقلية، مثلما حصل نفس الأمر في الإتجاه السني على يد إبن تيمية. لكن الملاحظ أنه إذا كانت نزعة إبن تيمية البيانية قد اقتصرت في الغالب على مجال العقائد وعلم الكلام دون الفقه، فإن ما حصل مع البيان المنظّر الشيعي شيء آخر مختلف، فقد جاء كرد فعل على ما حدث من تطورات للتنظير العقلي، سواء في الفقه وأصوله أم في علم الكلام والعقائد، بل أن ردّ الفعل الأكبر كان من نصيب المجال الأول دون الثاني.

لقد بدأ التنظير البياني لدى الشيعة على يد فرقة أطلق عليها (الإخبارية) والتي أسسها المحدث محمد أمين الاسترابادي (المتوفى سنة 1033هـ). وقد إتّبعه الكثير من العلماء الكبار، كالشيخ الكركي (المتوفى سنة 1076هـ)، والحر العاملي (المتوفى سنة 1104هـ)، ويوسف البحراني (المتوفى سنة 1186هـ)، ونعمة الله الجزائري (المتوفى سنة 1112هـ) وغيرهم. واقترن وجود الاسترابادي بظهور معاصره المحدث الفيض الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ) الذي توصل بمفرده إلى أغلب نتائج النزعة الإخبارية لدى الاسترابادي، بل وشعر بنفس مشاعر هذا الأخير ضد طغيان الطريقة العقلية، وأدانها بالإبتداع والإنحراف عن سلوك نهج السلف في عصر الأئمة المعصومين وما بعده بقليل[1]. مع ذلك فقد عمل الفيض الكاشاني لصالح العرفان والذوق الوجودي، وسعى للجمع بين المعيار والوجود. كما أن طريقته اتسمت بالتوسط بين الإتجاه الإخباري الخالص كما يتمثل بمنهج الاسترابادي وأتباعه، وبين «الإتجاه العقلي» المعروف بالطريقة الأصولية أو الإجتهادية. وسار على هذا النحو من التوسط بين الإتجاهين الشيخ يوسف البحراني، وصرح بأنه اتبع الطريقة الوسطى بين المجتهدين والإخباريين، معتقداً بأنها على نهج ما ذهب إليه العلامة محمد باقر المجلسي المعروف بصاحب (بحار الأنوار)[2].

وأهم ما في النزعة الإخبارية للاسترابادي وأتباعه، هو ممارستها للتنظير لصالح البيان ضد الدائرة العقلية، فهي لم تمارس الأحكام المعيارية الخالصة ضد الطرق التي تخرج عن دائرة المعيار البياني كما هو شأن السلف المحدثين، بل أضافت ما هو أهم من ذلك بطريقتها التنظيرية التي جعلتها قادرة على مواجهة النزعة العقلية ومنافستها في احتواء النص وتوظيفه معرفياً. فالاسترابادي وجماعته لم يتهموا النزعة العقلية بالإبتداع والسير خلاف ما يريده الخطاب الديني فحسب، بل حاولوا أيضاً تفسير المدركات المعرفية ليبرروا للبيان موقفه ويجنبوا الفهم والتأسيس الداخلي للخطاب من الخطأ والتأويل.

فقد قسّم الاسترابادي العلوم النظرية إلى قسمين: أحدهما قائم على الحس، ويضم علمي الحساب والهندسة وأكثر أبواب المنطق، وعدّه بريئاً عن شائبة إختلاف أنظار العلماء وتناقضاتهم. واعتبر الآخر خلاف الأول لتجرده عن الإحساس، ويضم الفلسفتين الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وأصول الفقه والمسائل النظرية الفقهية وبعض القواعد المنطقية. وعلى رأيه فإن هذا القسم هو محل الأغلاط والإختلاف بين الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم من العقلاء، وقد عزا سبب ذلك إلى بُعْد مادته عن الحس وفقدان الضابط العاصم عن الخطأ. مما جعله يعتقد بأن علاج مسائله يتعلق بالبيان أو النص المتمثل بالأخبار الواردة عن أهل البيت؛ بإعتبارهم معصومين وعاصمين عن الخطأ[3].

ومع هذا فقد اضطر الاسترابادي إلى أن يستثني من ذلك كل ما يعود إلى ضرورات الدين الأساسية[4]، ليفصل عملية التأسيس الخارجي عن التأسيس الداخلي للخطاب كما يتمثل بالفهم، لئلا يقع في الدور والمصادرة على المطلوب. وهو مع ذلك لم يؤسس العملية الأولى طبقاً لإعتبارات العقل كما هو الحال عند إبن حزم وإبن تيمية. فقد اجتهد ليبعد العقل عن حقل المعرفة الصحيحة، سواء من حيث التأسيس في العملية الأولى أو الثانية. فاعتبر المصدر في ضرورات الدين - التي لها وظيفة التأسيس الخارجي للخطاب - يتمثل بالالهام لا الكسب، مثل إثبات الخالق وتوحيده، وأن له رضاً وسخطاً، بل وضرورة أن يكون له نبي يبعثه، ومعلم يجعله مرشداً للناس إلى ما يصلح نفوسهم ويجنبهم كل ما يفسدها من المضار والقبائح. إلا أنه مع ذلك لم يسلم من الدور والمصادرة على المطلوب، إذ أوكل مبرر إعتقاده بإلهامية هذه المعارف إلى ذات «البيان» مدعياً وجود التواتر عليه في الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت[5]، وكذا فعل الحر العاملي نفس الشيء[6]، فقلب بذلك عملية التأسيس للخطاب مما ينبغي أن يكون الداخل منها قائماً على الخارج كما يفعل أصحاب الإتجاه العقلي، إلى العكس، وهو ما يفضي إلى الدور الباطل.

ولكون الإتجاه الإخباري عموماً قد سلك موقفاً متشدداً ضد النظر العقلي، فإنه واجه الكثير من التهم والنقود. فالبعض، كالمرجع الديني البروجردي، اتهم الاسترابادي بأنه تأثر بالنظرية الحسية الغربية. وربما جاء هذا الإتهام لأن الاسترابادي كان معاصراً لفرنسيس بيكون (المتوفى سنة 1626م)، وهو الممهد الأساس للمذهب الحسي بزعامة جون لوك (المتوفى سنة 1704م). لذلك اعترض البعض على هذا الإتهام. فالإمام محمد باقر الصدر اعتبر الاسترابادي سابقاً على زمان ظهور النظرية الحسية بزمن قليل[7]، بل حتى مع إفتراض كون هذه النظرية تعود أساساً إلى فرانسيس بيكون، فإن غياب الوسائل الميسرة للاتصال بين الشرق والغرب والتي منها وسائل النقل والترجمة السريعة، كل ذلك يمنع من عملية التأثر بين المعاصرين. وإن كان هذا الإمام قد نزع - في بعض مؤلفاته المبكرة - على الحركة الإخبارية القالب الحسي محاولاً رميها بنفس النتيجة التي انتهت إليها الفلسفة الحسية في الغرب، كتلك المتعلقة بقضايا التأسيس الخارجي للخطاب، كقضية وجود الله وما إليها، إذ جعل لإختلاف الظروف التي اكتنفت كلاً من الفلسفات الحسية والحركة الإخبارية سبباً لعدم سقوط هذه الأخيرة في الالحاد، سيما أن لهذه الحركة دوافع دينية دعتها إلى الطعن والتنكيل بالطريقة العقلية، خلافاً لما عليه تلك الفلسفات التي نقضت التفكير العقلي لحساب التجربة[8]. لكنه لم يثبت على هذا الموقف في ما بعد، إذ سحب اتهامه وأبدى رأياً آخر، ضمن تناوله لجانب من بحوثه العلمية المتأخرة في علم أصول الفقه، فاعتبر الإخباريين ليسوا بصدد إنكار مطلق كاشفية الدليل العقلي. كما حَسِبَ كلام الاسترابادي لا يستفاد منه حصر المعرفة في مجال الحس والتجربة، بل على رأيه أن غرضه هو حصر المعرفة بالدليل الشرعي وإلغاء الدليل النظري للعقل في مجال إستكشاف الحكم الشرعي[9].

 

 



[1]  اعترف الفيض الكاشاني بأن الاسترابادي قد سبقه إلى النزعة الإخبارية، على ما ذكره في آخر رسالته الموسومة (الحق المبين، ص12)، بل وما لوّح إليه في مقدمة كتابه (الأصول الأصيلة)، حيث ذكر يقول: «إن هذه أصول أصيلة يبتنى عليها فروع جليلة... عليها كان عمل قدماء الطائفة... وأنها كانت برهة من الدهر تطوف حوالي خاطري تطوافاً وتجول في ميدان قلبي تجوالاً، واني كنت أصبر على ابرازها هوناً لأني لم أجد عليها عوناً، فلم أقدر لها إلا حفظاً وصوناً حتى استشممت من كلام جماعة من متأخري أصحابنا الإيمان بها والاذعان لها ثم الفيت بعض فضلائهم - يقصد به الاسترابادي - مصرّحاً بأكثرها في جملة خيالات مخترعة وآراء مبتدعة، عالياً صوته بالنداء، بل غالياً بكلامه في الأداء، حتى كاد يخطئ الحق بالاعتداء ويفرط عن وسط الحق إلى جانب الردى، فتجاسرت لإظهار الصواب وتمييز القشر من اللباب..».

[2]  يوسف البحراني: الدرر النجفية، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، ص165.

[3]  محمد أمين الاسترابادي: الفوائد المدنية، طبعة حجرية بتبريز، ص28 و200.

[4]  المصدر السابق، ص129ـ131 و266. 

[5]  المصدر السابق، ص226ـ238. 

[6]  الحر العاملي: الفوائد الطوسية، المطبعة العلمية بقم، 1403هـ، ص353.

[7]  بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4، ص125. علماً بأن الشيخ مرتضى مطهري ذكر بأنه سمع يوماً السيد البروجردي يقول بأن ظهور الفكرة الحسية عند الإخباريين جاء على أثر موجة الفكر المادي في اوروبا، لكن فاته أن يسأله عن دليله على هذه المسألة. لهذا فهو لا يدري إن كان عنده دليل أم أن رأيه حدس وتخمين. لكنه على العموم استبعد مثل هذا الرأي (مرتضى مطهري: مبدأ الإجتهاد في الإسلام، ترجمة جعفر صادق الخليلي، مؤسسة البعثة في طهران، الطبعة الأولى، 1407هـ، ص34).

[8]  المعالم الجديدة للأصول، ص44ـ45.

[9]  بحوث في علم الأصول، ج4، ص125ـ127.

comments powered by Disqus