-
ع
+

موقف السلف من الصفات الإلهية

يحيى محمد

لقد تعددت إتجاهات السلف حول الموقف من القضايا التي كانوا يشعرون بأنها تثير مشكلاً عقلياً، وبالتحديد قضايا النعوت الإلهية. فهناك الكثير من النصوص، سواء في القرآن أو الحديث، تلوّح إلى صفات التشبيه، كالوجه والعينين واليدين والقدمين والأصابع والحزن والفرح والضحك والغضب والغيرة والاستهزاء والتقرب والنزول والهرولة وغيرها[1]، وقد تشعبت آراء السلف حولها وإفترقوا إلى إتجاهات ثلاثة، فبعضهم أقرّها على ما هي عليه من تشبيه، وبعض آخر أوّلها كتأويل المتأخرين، في حين ذهب أغلب السلف إلى الإيمان بخبرها مفوضاً معناها أو حقيقتها إلى علم الله؛ طلباً للسلامة والاحتياط، وإن جرى ذلك أحياناً بعد نفي الظاهر من المعنى، أو على الأقل أنهم تحفظوا من ذكر المعنى ومالوا إلى إمرار النصوص الخاصة بها كما جاءت من دون بحث ولا تنقيب. ويبدو أن هذا الإتجاه ينقسم إلى فرقتين، لإختلاف معنى التفويض لدى السلف، فتارة يُقصد به تفويض المعنى والتفسير، وأخرى تفويض الحقيقة والكيفية الخارجية لا المعنى. فقد ورد هذان المعنيان للتفويض عن السلف، مثلما ورد التأويل، وقد تجد العالم السلفي يعمل بالتأويل في صفة من الصفات، وبتفويض المعنى في غيرها، أو بتفويض حقيقتها دون المعنى. وبحسب الآثار فإن تأويل الصفات سابق على التفويض، ومن ذلك أن الصحابة مارسوا تأويل بعض الصفات دون أن يُؤْثَر عنهم شيء من التفويض[2].

وبذلك تكون الإتجاهات السابقة أربعة، وقد انعكس ظهورها والخلاف فيما بينها على رؤى المتأخرين من الدائرة البيانية. ويمكن إجمال إتجاهات السلف الأربعة بحسب النقاط الثلاث التالية:

1ـ جاء حول أصحاب الإتجاه الأول، وهم المشبهة، أنهم أثبتوا لله تعالى صورة كصورة الآدمي في أبعاضها، فله وجه وفم ولهوات وأضراس ويدان واصبعان وكف وخنصر وابهام وصدر وفخذ وساقان ورجلان، وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس. وحُكي عن داود الجواربي أنه اعتبر معبوده جسماً ولحماً ودماً، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأذنين، ومع ذلك فهو جسم لا كالأجسام، ولحم لا كاللحوم، ودم لا كالدماء، وكذا سائر الصفات، وهو لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء، وهو أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك، وأن له وفرة سوداء، وله شعر قطط. ونقل عنه أنه قال: «اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك»[3]. والبعض نسب هذا القول الأخير إلى القاضي أبي يعلى الحنبلي (المتوفى سنة 458هـ)، إذ كان إذا ذُكر الله سبحانه يقول في ما ورد من ظواهر في صفاته: «الزموني ما شئتم، فإني التزمه إلا اللحية والعورة»[4]. وهو ما حفّز أبا الفرج بن الجوزي (المتوفى سنة 597هـ) لأن يؤلف كتابه (دفع شبه التشبيه) للرد على مثل هذه الآراء[5].

ولا شك أن هذا الموقف للمشبهة الحشويين لا يعبّر عن وجود مشكلة ما في النص. فعلى ضوئه يكون النص واضحاً وكامل الدلالة لا يحتاج إلى توجيه، ولا إلى عرضه على معيار آخر.

2ـ وحول أصحاب الإتجاه الثاني، فقد مارس بعض من علماء السلف عملية التأويل شبيهاً – أحياناً - بذلك الذي كان يجري على يد الخلف. فحتى أولئك المعروفين بالتفويض كإبن حنبل ومالك وغيرهما مارسوا التأويل لبعض الآيات أحياناً، كما هو الحال مع آيات المعية وال إستواء وغيرها. فقد أوّل إبن حنبل قوله تعالى: ((وهو الله في السماوات وفي الأرض)) (الانعام/ 3)، معتبراً أن الله هو «إله من في السماوات وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط بجميع ما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان..». كما أوّل آية ((ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم)) (الكهف/ 22)، حيث وجّهها إلى معنى الإحاطة العلمية. وكذا قوله تعالى: ((ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم))، بمعنى علمه تعالى فيهم، ولما كانت هذه الآية تنتهي بقوله تعالى: ((ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم)) (المجادلة/ 7)؛ لذا اعتبر هذه الخاتمة ختم الخبر بالعلم، كما استفتح الخبر بعلمه أيضاً. فكل ذلك أوّله لأنه يعتقد بأن الله في السماء العليا وليس في كل مكان[6]. وهو مع هذا لم يأوّل هذه الآيات بدافع معيار آخر خارج حدود النص، بل أوّلها بدافع آيات أخرى ولصالحها. فإيمانه بأن الله في السماء مستمد من عدد من ظواهر الآيات، كقوله تعالى: ((أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً)) (الملك/ 17).. ((وإليه يصعد الكلم الطيب)) (فاطر/ 10).. ((إني متوفيك ورافعك إلي)) (آل عمران/ 55).. ((بل رفعه الله إليه)) (النساء/ 158).. ((وله من في السماوات والأرض ومن عنده)) (الأنبياء/ 19).. ((يخافون ربهم من فوقهم)) (النحل/ 50).. ((ذي المعارج)) (المعارج/ 3).. ((وهو القاهر فوق عباده)) (الانعام/ 18).. ((وهو العلي العظيم)) (البقرة/ 255، الشورى/ 4).. وما إليها من الآيات الكريمة، وهي ذات الآيات التي إستند إليها أبو الحسن الأشعري في اتباعه لمسلك الإمام إبن حنبل[7].

وقد نُسب مثل ذلك التأويل لآيات المعية إلى تفسير إبن عباس والضحاك وسفيان الثوري فضلاً عن إبن حنبل، فنُقل أنهم يقولون بأن الله معهم بعلمه[8]. وأخرج البيهقي في (الأسماء والصفات) تأويل السلف للمعية، ومن ذلك ما روي عن الثوري بأنه سُئل عن قوله تعالى: ((وهو معكم أينما كنتم))، فقال: علمه، ومثله ما روي عن إبن عباس بأنه سُئل عن تلك الآية فقال: «عالم بكم أينما كنتم»، كالذي نقله الشيخ الشنقيطي في (إستحالة المعية)، وروي على شاكلة هذا المعنى عن كل من الضحاك ومقاتل بن حيان[9].

كما أوّل إبن حنبل الحديث القائل: «إن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب، فيأتي صاحبه فيقول‏:‏ هل تعرفني‏؟‏ فيقول له‏:‏ من أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا القرآن الذي أظمأت نهارك، وأسهرت ليلك، قال‏:‏ فيأتي به الله؛ فيقول‏:‏ يارب»، حيث أوّله إلى أن القرآن لا يجيئ إلا بمعنى أن من قرأ آية فإن له كذا من الثواب، لا أن تأتيه الآية ذاتها، بل يأتيه ثوابها، حيث أن القرآن لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال‏، بل يأتي ثوابه، وهو المخلوق من العمل[10].

وربما كان هذا التأويل هو الآخر لا يستند إلى معيار يتجاوز حدود الطريقة البيانية. فعلى الأقل أن إبن حنبل يؤمن بأن القرآن هو كلام الله الثابت وغير المخلوق تعويلاً على كثير ممن سبقه من السلف[11]، فكيف يمكن أن يجيء ويذهب؟!

ومن التأويلات الأخرى التي تُنقل عن هذا الإمام المحدّث، تأويله لآية ((إنما المسيح عيسى إبن مريم رسول الله وكلمته)) (النساء/ 171)، حيث اعتبر (كلمته) بمعنى أن عيسى بالكلمة كان، لا أنه هو الكلمة ذاتها، وذلك لأن عيسى مخلوق بكلمة (كن)، فلا يمكن أن يكون هو نفس الكلمة. كما أوّل آية ((وروح منه)) (النساء/ 171) معتبراً أن معنى (روح الله) هو روح بكلمة الله، إذ بأمره تكون الروح التي يخلقها «كما يقال عبد الله وسماء الله»[12]. وأوّل أيضاً آية المجيئ ((وجاء ربك والملك صفاً صفاً)) (الفجر/ 22)، بمعنى ظهور آيات قدرته أو ثواب قدرته التي يريد إظهارها يومئذ، معتبراً أن القرآن في تعبيراته تلك إنما هو أمثال ومواعظ[13]. كما ونُقل أنه سُئل عن حديث النزول إلى السماء الدنيا، أينزل بعلمه أم بماذا؟ فزجر السائل وقال: «اسكت عن هذا، ما لكَ ولهذا، امض الحديث كما روي بلا كيف ولا حد، قال الله تعالى ((فلا تضربوا لله الأمثال))، ينزل كيف شاء بعلمه وبقدرته وعظمته أحاط بكل شيء علماً»[14].

مع هذا فقد ذكر الغزالي بأنه سمع «الثقات من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون أن أحمد بن حنبل رحمه الله صرح بتأويل ثلاثة أحاديث فقط. أحدها قوله (ص): (الحجر الأسود يمين الله في أرضه). والثاني قوله (ص): (قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن). والثالث قوله (ص): (اني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن)».

وقد فسّر الغزالي اقتصار إبن حنبل على تأويل هذا العدد الضيق من الأحاديث هو لأنه لم يكن ممعناً في النظر العقلي، وبرأيه أنه لو كان من ذوي العقول الممعنة لقام بتأويل الكثير من الأحاديث[15]. مع أن إبن حنبل يمتعض من الطرق التي تتجاوز حدود ما يقره السلف والخطاب الديني. لذلك غلّط إبن تيمية فيما نقله الغزالي من تأويل الأحاديث الثلاث عن إبن حنبل، واعتبر الرواية عنه لا تصح[16].

لكن حتى على فرض صحة ما ينقل عن إبن حنبل فذلك لا يدل على كونه يستخدم أداة يتجاوز بها حدود دائرة النص أو من سبقه من السلف، سيما وهو معروف بمواقفه السلفية إلى الحد الذي يرى الكلام المحمود هو فقط ما كان في كتاب الله أو في حديث النبي أو عن الصحابة أو التابعين، وهو القائل: «إنما الأمر في التسليم والإنتهاء إلى ما في كتاب الله لا تعدُ ذلك»[17]، والقائل أيضاً: «لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصف به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث»[18]. لذلك فربما إستند في التأويلات المنسوبة إليه إلى سند من النص أو السلف المتقدم عليه، سيما وأنه جاء عن بعض الصحابة والتابعين ما له دلالة على هذا الشأن من التأويل.

ونفس الحال ينطبق على الإمام مالك، إذ يُنقل عنه بأنه أوّل حديث نزول الله إلى السماء الدنيا بمعنى تنزّل رحمته أو أمره أو ملائكته، معللاً بأن الله دائم لا يزول، كالذي نقله الذهبي[19]، ومن قبله عبد الله اليافعي الشافعي ليدعم بذلك طريقته العقلية في التأويل[20]. لهذا ذكر اليافعي تأويلاً سلفياً آخر للحديث وهو أنه كان على سبيل الإستعارة، فمعنى النزول في الحديث هو الإقبال على الداعي بالإجابة واللطف. وهو على العموم يرى بأن الإمام مالكاً والأوزاعي وغيرهما من السلف كلهم يتأولون بحسب ما يليق بالله تعالى[21]، كما هو الحال لدى الخلف من أصحاب الطريقة العقلية الأشعرية. لكن جاء في (الصواعق المرسلة) لإبن القيم (المتوفى سنة 751هـ) بأن مالكاً قال بصدد حديث النزول: «أمضِ الحديث كما ورد بلا كيف ولا تحديد إلا بما جاءت به الآثار، وبما جاء به الكتاب. قال الله تعالى ((فلا تضربوا لله الأمثال))، ينزل كيف شاء بقدرته وعلمه، أحاط علمه كل شيء»[22].

ويتكرر مثل هذا التضارب المنقول مع الإمام أبي حنيفة (المتوفى سنة 150هـ)، إذ نقل أنه يعتبر القصد من «وجه الله وحق الله» هو بمعنى الذات الإلهية، كما رأى أنه يمكن أن يراد بـ «وجه الله» هو ثوابه، ويراد بـ «حق الله» هو طاعته، والثواب والطاعة غير الله. في حين جاء في الكتاب المنسوب إليه (الفقه الأكبر) بأن لله يداً ووجهاً ونفساً كما مذكور في القرآن، وهي صفات له بلا كيف، فلا يقال «أن يده قدرته لأن فيه إبطالاً لصفة من صفات الله.. فيده صفته بلا كيف، وغضبه صفته بلا كيف، ورضاه صفته بلا كيف..»[23].

كذلك أوّل بعض السلف آية ال إستواء على العرش بأنها تعني قصد الإله إلى أمر العرش، مثلما هو الحال مع سفيان الثوري الذي استشهد على هذا المعنى بقوله تعالى ((ثم إستوى إلى السماء وهي دخان)) (فصلت/11)، إذ المعنى أنه قصد إليها، وهو تفسير لم يستبعده بعض المتأخرين من الأشاعرة مثلما هو الحال مع إمام الحرمين الجويني في كتابه (الإرشاد) [24].

وهناك من يردّ تأويل آية ال إستواء إلى بعض الصحابة والتابعين، كما هو الحال مع ما نقله الإمام ربيع بن حبيب في مسنده (الجامع الصحيح)، إذ صرح بأن السلف ذكروا معاني تليق بذات الله تعالى، كما في قوله تعالى: ((الرحمن على العرش إستوى))، ومن هذه المعاني التوجيهية ما نقله عن جابر بن يزيد عن إبن عباس بأنه سُئل عن هذه الآية فقال: «ارتفع ذكره وثناؤه على خلقه لا على ما قال المنددون أن له أشباهاً وأنداداً، تعالى الله عن ذلك». كما ونقل سنداً يتصل أخيراً بعبد الله بن عمر الذي قال في ما قال: «إن الله أعظم وأجل من أن يوصف بصفات المخلوقين، هذا كلام اليهود أعداء الله. إنما يقول ((الرحمن على العرش إستوى)) أي إستوى أمره وقدرته فوق بريته». كما نقل عن الحسن قوله في آية ((ثم إستوى إلى السماء وهي دخان)) بأنها تعني إستوى أمره وقدرته إلى السماء، كذلك قوله في آية ((ثم إستوى على العرش))، فذكر أنها بمعنى « إستوى أمره وقدرته ولطفه فوق خلقه ولا يوصف الله بصفات الخلق ولا يقع عليه الوصف كما يقع على الخلق..». كما ونقل عن إبن مسعود والضحاك بن مزاحم أنهما قالا في تفسير آية (ال إستواء على العرش) أنها تعني « إستوى عليه وعلى الأشياء كلها، فخضعت ودانت. وقد تقول العرب استوت لفلان دنياه، أي أتته دنياه على ما يريد، و إستوى بشر على العراق والحجاز، و إستوى لنا الأمر، و إستوى فلان على مال فلان؛ يريد أنه احتوى عليه وحازه، ونحو ذلك..» [25].

ويميل المفسر السلفي مجاهد المكي (المتوفى سنة 102ـ103هـ) إلى تأويل جملة من الايات، كآيات الرؤية مثل قوله تعالى: ((إلى ربها ناظرة)) (القيامة/ 23).. معتبراً ذلك تعبيراً عن الرغبة إلى الله أو الرغبة في إنتظار جزائه، إذ ينفي أن يكون هناك أحد يراه من خلقه[26]. وهو يفعل الشيء نفسه مع آيات المسخ كما في قوله تعالى: ((ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين)) (البقرة/ 65)، مشيراً إلى أن المسخ لم يحصل في أجسادهم، بل في قلوبهم، واعتبر ذلك تمثيلاً كما مثّل الله تعالى عن الذين حملوا التوراة بمثل الحمار الذي يحمل أسفاراً، في قوله: ((مثل الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، والله لا يهدي القوم الظالمين))[27].

3ـ يبقى الإتجاه التفويضي، وهو الإتجاه الغالب على السلف، فقد شعر أغلبهم بوجود مشكلة ما تتعلق بالنص، وهو ما يبرر تفويضهم الأمر إلى العلم الإلهي. ومن هؤلاء مقاتل بن سليمان ومالك بن أنس والشافعي وإبن حنبل وداود الأصفهاني وغيرهم. فهم على ما يقول الشهرستاني قد «سلكوا طريق السلامة فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة، ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعاً أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات، وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدره. وكانوا يحترزون عن التشبيه إلى غاية أن قالوا من حرّك يده عند قراءة قوله تعالى: ((خلقت بيدي)) أو أشار باصبعيه عند روايته (قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن) وجب قطع يده وقلع اصبعيه. وقالوا: إنما توقفنا في تفسير الآيات وتأويلها لأمرين: أحدهما: المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى: ((فأما الذين في قلوبهم زيْغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللهُ والراسخون في العلمِ يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكر إلا أولوا الألباب)) فنحن نحترز عن الزيغ. والثاني: أن التأويل أمر مظنون بالإتفاق، والقول في صفات الباري بالظن غير جائز، فربما أوّلنا الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ، بل نقول كما قال الراسخون في العلم: ((كلٌّ من عند ربنا)) آمنا بظاهره، وصدقنا بباطنه، ووكلنا علمه إلى الله تعالى ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك، إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان وأركانه. واحتاط بعضهم أكثر احتياط حتى لم يقرأ اليد بالفارسية، ولا الوجه، ولا ال إستواء، ولا ما ورد من جنس ذلك، بل إن احتاج في ذكره إلى عبارة عبّر عنها بما ورد لفظاً بلفظ فهذا هو طريق السلامة، وليس هو من التشبيه في شيء»[28].

وهو ما يؤكده إبن خلدون، إذ اعتبر أهل السلف آمنوا بما ورد من كلام الله في المتشابهات دون أن يتعرضوا لمعناها، لا ببحث ولا تأويل، كل ذلك لإعتقادهم بجواز أن تكون محل ابتلاء يقتضي الوقف والإذعان[29].

إلا أن للغزالي رأياً مخالفاً لما سبق. فهو يرى أن التفويض في مذهب السلف يقصد منه عوام الخلق لا خواصه. ونسب هذا الحال إلى السلف في حق العوام متجسداً بسبعة أمور متتالية: التقديس، ثم التصديق، ثم الإعتراف بالعجز، ثم السكوت، ثم الإمساك، ثم الكف، ثم التسليم لأهل المعرفة. وأوضح كل واحد منها كالتالي:

التقديس هو تنزيه الرب عن الجسمية وتوابعها. والتصديق هو الإيمان بما قاله النبي وأن ما ذكره حق وصادق، وأنه حق على الوجه الذي قاله وأراده. وأما الإعتراف بالعجز فهو الإقرار بأن مراد قول النبي ليس على قدر طاقة العوام ولا من شأنهم ولا من حرفتهم. وأما السكوت فهو أن لا يسأل العوام عن المعنى المراد، ولا يخوضوا فيه، فسؤالهم بدعة، وخوضهم فيه مخاطر بدينهم، فكل من يخوض فيه يوشك أن يقع في الكفر وهو لا يشعر. وأما الإمساك فهو أن لا يتصرفوا بألفاظ النص من حيث التغيير والتبديل والزيادة والنقصان والجمع والتفريق والتحويل، بل ولا ينطقوا إلا بتلك الألفاظ وعلى هيأتها من الإيراد والإعراب والتصريف. وأما الكف فهو كف الباطن عن البحث والتفكر بالمراد. وأما التسليم لأهله فالمقصود به أن لا يعتقد العوام بأن المراد قد خفي على الأنبياء والصديقين والأولياء مثلما خفي عليهم.

فهذه هي الوظائف السبع التي أوجبها الغزالي على العوام ونسب الإعتقاد بها إلى السف[30]، وذلك ليمرر من خلالهم عقيدته الوجودية حسب الطريقة العرفانية.



[1] من الأحاديث ذات الدلالة التشبيهية ما جاء ذكره في كتاب (الأربعين) لعبد الله الأنصاري الهروي، والتي منها المرويات التالية:

عن عمرو بن أوس أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله (ص): إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً.

وعن قتادة قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله (ص): ما من نبي إلا وقد حذّر أمته الأعور الكذاب، إلا أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه: ك، ف، ر.

وعن عائشة قالت: دعوة كان رسول الله يكثر أن يدعو بها «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، قالت عائشة يا رسول الله دعوة أراك تكثر أن تدعو بها، قال: ما من آدمي إلا وقلبه بين اصبعين من أصابع الرحمن، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه.

وعن أبي هريرة قال: ضحك الله من رجلين قتل أحدهما صاحبه ثم دخلا الجنة.

وعن أنس قال: قال رسول الله (ص): يلقى في النار فتقول هل من مزيد حتى يضع رب العالمين فيها قدمه، فتقول قط قط.

وعن أبي هريرة عن النبي أنه قال: قال الله: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني، إن تقرّب مني شبراً تقرّبت منه ذراعاً، وإن تقرّب مني ذراعاً تقرّبت منه باعاً، وإن جاءني يمشي جئته هرولة.

وعن رفاعة بن عرابة قال: قال رسول الله (ص): إذا مضى شطر الليل أو قال ثلثاه ينزل الله إلى سماء الدنيا.

وعن جرير قال كنّا مع النبي في سفر فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا.

وعن إبن عباس أنه قال: إن الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدّر أحد قدره.

وعن إبن عباس: إن آدم كان يسبح بتسبيح الملائكة ويصلي بصلاتهم حين هبط إلى الأرض لطوله وقربه إلى السماء فوضع الله يده عليه فطأطأت إلى الأرض سبعين ذراعاً.

وعن المغيرة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع أمرأتي لضربته بالسيف غيرة مني، فبلغ ذلك رسول الله (ص)، فقال: أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرته حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه الموحد من الله.

وعن إبن عباس قال: جاء رجل إلى النبي (ص) ومعه جارية أعجمية سوداء فقال: عليّ رقبة فهل تجزي هذه عني؟ فقال: أين الله؟ فأشارت بيدها إلى السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة.

وعن أبي موسى أن النبي قال: حجابه تعالى النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره.

(ابو اسماعيل عبد الله الهروي: كتاب الأربعين في دلائل التوحيد، حققه وعلق عليه وأخرج أحاديثه علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، الطبعة الأولى، 1404هـ ـ 1984م، ص52ـ84).

[2]  نستثني من ذلك ما روي عن أم سلمة في التفويض على شاكلة ما نُقل عن علماء القرن الثاني للهجرة حول مسألة ال إستواء، وهو المأثور عنهم لكثرة الرواية كالذي ينقل عن مالك وربيعة (انظر: جلال الدين السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج3، ص91. وإبن حجر العسقلاني: فتح الباري، دار المعرفة، بيروت، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج13، ص342، وج3، ص91. كذلك: الذهبي: سير أعلام النبلاء، شبكة المشكاة الإسلامية، ج8، فقرة 100ـ101 و106ـ107. والدر المنثور، ج3، ص91).

[3]  الملل والنحل، ص45.

[4]  أبو محمد اليافعي الشافعي: مرهم العلل المعضلة في رفع الشبه والرد على المعتزلة (لم يكتب مكان طبعه ولا سنة نشره)، ص260 ـ261.

[5]  إبن الجوزي: دفع شبه التشبيه، مطبعة الترقي، 1345هـ، ص10 وما بعدها.

[6]  انظر حول ذلك المصادر التالية: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص290ـ292. وأبو الحسن محمد بن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، دار المعرفة ببيروت، ج1، مادة (أحمد بن جعفر بن يعقوب الاصطخري). ودفع شبه التشبيه، ص141. والبداية والنهاية، ج10، ص361. والكوثري: تكملة الرد على نونية إبن القيم، نشر ضمن: السيف الصقيل في الرد على إبن زفيل، تقديم لجنة من علماء الازهر، مكتبة زهران، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص138. وكتابنا: العقل والبيان والإشكاليات الدينية، الفصل التاسع.

[7]  أبو الحسن الأشعري: الإبانة، دار الكتاب العربي ببيروت، الطبعة الأولى، 1985م ـ 1405هـ، ص69ـ70.

[8]  إبن تيمية: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص96.

[9]  أبو بكر البيهقي: الأسماء والصفات، تحقيق عبد الله بن محمد الحاشدي، موقع قلوب الإيمان الإلكتروني www.imanhearts.com، باب ما جاء في قول الله عز وجل: وهو معكم أين ما كنتم. ومنصور محمد عويس: إبن تيمية ليس سلفياً، دار النهضة العربية في القاهرة، الطبعة الأولى، 1970م، ص106.

[10] مجموع فتاوى إبن تيمية، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج8، باب‏:‏ ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق (لم تذكر أرقام صفحاته). ونشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص287. وانظر على هذه الشاكلة: الكوثري: تكملة الرد على نونية إبن القيم، منشور ضمن: السيف الصقيل في الرد على إبن زفيل، مصدر سابق، ص138.

[11] إبن حنبل: السنة، تحقيق أبي هاجر بن بسيوني زعلول، دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ ـ1985م، ص18 وما بعدها.

[12] مجموع فتاوى إبن تيمية، ج8، نفس الباب السابق. ونشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص285ـ286.

[13]  مرهم العلل المعضلة، ص262. كذلك: محمد بن الموصلي: مختصر الصواعق المرسلة لإبن القيم، تصحيح زكريا علي يوسف، مطبعة الإمام 13 بمصر ، ص402.

[14]  مرهم العلل المعضلة، ص263. كذلك: مختصر الصواعق المرسلة، ص400.

[15]  الغزالي: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، تحقيق سليمان دنيا، دار احياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1961م ـ1381هـ، ص184ـ185.

[16]  مجموع فتاوى إبن تيمية، ج5، فصل في تأول قوم من المنتسبين إلى السنة والحديث.

[17] عبد الله بن عبد المحسن التركي: أصول مذهب الإمام أحمد، دراسة أصولية مقارنة، مكتبة الرياض الحديثة، الطبعة الثانية، 1397هـ ـ 1977م، ص40.

[18]  أصول مذهب الإمام أحمد، ص78.

[19]  سير اعلام النبلاء، ج8، فقرة 105.

[20]  مرهم العلل المعضلة، ص251

[21]  مرهم العلل المعضلة، ص251.

[22]  مختصر الصواعق المرسلة، ص400. والشاطبي: الاعتصام، دار الكتب الخديوية بمصر، تقديم محمد رشيد رضا، 1332هـ ـ 1913م، ج3، ص242.

[23]  أبو المنتهى المغنيساوي: شرح الفقه الأكبر، ضمن الرسائل السبعة في العقائد، دار المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الطبعة الثالثة، 1400هـ ـ1980م، ص13ـ14. كذلك: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص265.

[24]  مرهم العلل المعضلة، ص245.

[25]  عن: إبن تيمية ليس سلفياً، ص102.

[26]  تفسير مجاهد، تقديم وتحقيق وتعليق عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتي، المنشورات العلمية ببيروت، ج2، ص708.

[27] الجمعة/ 5. المصدر السابق، ج1، ص77ـ78. وانظر أيضاً: جولد تسيهر: مذاهب التفسير الإسلامي، ص129ـ130.

[28]  الملل والنحل، ص44ـ45.

[29]  تاريخ إبن خلدون، ج1، ص849 ما بعدها.

[30]  الغزالي: إلجام العوام عن علم الكلام، ضمن القصور العوالي، دار الطباعة المحمدية بالأزهر، الطبعة الثانية، 1390هـ ـ 1970م، ج2، ص63.

comments powered by Disqus