-
ع
+

موقف الإخبارية من الدليل العقلي

يحيى محمد 

لقد إعترض الإخباريون على مجمل الدليل العقلي الذي تمارسه الدائرة العقلية كما في الأصول والعقيدة، وعلى المترتبات التي خلفتها هذه الدائرة كما في الفروع والفقه، إلى الدرجة التي لم يتقبلوا فيها الممارسة العقلية إلا في حدود ضيقة كالبديهات. فمثلاً إعترض الإسترابادي على طرق أهل الكلام والفلسفة وغيرهم ممن يزاولون النظر العقلي للتحقيق في المسائل الميتافيزيقية، وعلى رأسها المسألة الإلهية وما يترتب عليها من المسائل الدينية الأخرى، ورأى «أن سبب أغلاط الحكماء والمتكلمين وتحيراتهما في العلوم التي مباديها بعيدة عن الإحساس؛ إما الغلط في مادة من المواد، وإما التردد فيها، وإما الغفلة عن بعض الإحتمالات، ومن المعلوم أن المنطق غير عاصم عن شيء منها»[1]. لذا اعتقد أنه لا مجال للإستدلال بالأدلة العقلية على إثبات المسألة الدينية. فعوضاً عن الدليل العقلي رأى أن علاج هذه المسألة يتحقق بما وصلنا من الأخبار المتواترة عن أئمة أهل البيت، وفيها يتضح أن المعرفة المطلوبة لإثبات هذه المسألة هي معرفة وهبية غير كسبية، وذلك على الضد مما يقوله أصحاب الدائرة العقلية. فبرأيه أن هذه الأخبار تبين بأن معرفة الله تعالى من حيث كونه خالق العالم وأن له رضاً وسخطاً وأنه لا بد من معلم يعيّنه ويبعثه ليعلّم الخلق ما يرضيه ويسخطه، إنما كل ذلك من الأمور الفطرية التي تجري في القلوب بإلهام قطعي إلهي، أي أن الله قد ألهم خلقه بدلالات واضحة على مثل هذه القضايا الأساسية، قبل بلوغ الخطاب الديني إليهم.

وقد إعترض الإسترابادي على العقليين الذين اعتبروا التكليف والوجوب حاضراً قبل بلوغ الخطاب الديني، مذكراً بأن التكليف لا يكون إلا بعد هذا البلوغ، وقبل ذلك تكون المعرفة بالله والقضايا الأخرى إلهامية وممهدة لمرحلة التكليف عند تلقي الخطاب. واستدل على قوله هذا بما أشار إليه من تواتر الأخبار عن الأئمة الدالة بأن على الله التعريف والبيان، إذ يُلهم الناس أول الأمر بالقضايا الإلهية الواضحة، وبعد ذلك يبلغهم دعوة النبي والدلالة على صدقه، وعندها يتوجب الإقراروالإعتراف قلباً ولساناً بالشهادتين، فتكون الشهادتان أول الواجبات، ومن ثم تترتب عليهما سائر الواجبات الأخرى. مما يعني أن من لم يصادف هذه الأمور، سواء كان من أهل الفترة أو لمانع ما، فإنه لا تكليف عليه في الدنيا، بل يجري تكليفه في الآخرة؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيا عن بينة[2]. واستشهد الإسترابادي على ذلك بما روي عن الإمام الصادق قوله بأن الله احتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب وأمر فيه ونهى[3].

وواضح من هذه الطريقة أنها تستلزم الدور، فحجية أخبار الأئمة مشروطة بتفويض الكتاب أو السنة وقبولهما، وأن حجية هذين المصدرين متوقفة على العلم بالمسألة الإلهية ومترتباتها، وأن العلم بهذه المسألة إذا كان مأخوذاً عن الأخبار المتواترة للأئمة، كالذي استدل به الإسترابادي، فإن ذلك يعود بنا إلى الدور من جديد.

ومن إعتراضات الإخباريين على الدليل العقلي إعتبارهم أن هذا الدليل يفضي إلى الإختلاف والأوهام دون أن تتحصل منه نتيجة يُتفق عليها. فالدليل العقلي بنظرهم قابل للنقض والإبرام، لإختلاف العقول في الإستعداد قوة وضعفاً[4]. كما أن الدليل العقلي عندهم يدعو للإستغناء عن الخطاب الديني أو تركه بدعوى أنه يعارض ما عليه العقل. وهي التهمة التي اتهموا بها أتباع الدائرة العقلية. ومن ذلك أن الشيخ البحراني اتهم أكثر أصحابه من الإمامية بأنهم يعتمدون على الأدلة العقلية في الأصول والفروع ويرجحونها على الأدلة النقلية، ووصفهم بأنهم لا يترددون في ترجيح الدليل العقلي على النقلي عند التعارض، مع تأويل الثاني بما يرجع إليه وإلا طرحوه بالكلية، وهم يفعلون ذلك في أصول كل من الدين والفقه[5].

كما اتهم نعمة الله الجزائري الأكثرية من علماء المذهب بأنهم اتبعوا جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول وإستدلالاتها، فطرحوا النصوص أو تأولوها إعتماداً على الدليل العقلي. ووصفهم بأنهم في مسائل الأصول يذهبون إلى أشياء كثيرة قد قامت الدلائل النقلية على خلافها، لوجود ما تخيلوا أنه دليل عقلي، كقولهم بنفي الإحباط في العمل، ونفي سهو النبي في الصلاة، تعويلاً على المقدمات العقلية التي لا تفيد ظناً ولا علماً[6].

وقد أنكر نعمة الله الجزائري أن يكون للعقل دور في تأسيس الخطاب الديني، سواء من الداخل أو الخارج. فهو يطعن بقيمته المعرفية حول إثبات أصول الدين، ويستشهد على ذلك بما آل إليه الفلاسفة والمتكلمون من مصير لا يفضي إلى نتيجة حاسمة، كما في إبطال التسلسل ومعرفة حقيقة الصفات وعلاقتها بالذات الإلهية وغيرها. كما أنه يطعن بقيمته المعرفية فيما يخص تأسيس الخطاب من الداخل، مثل القضايا المتعلقة بأصول الفقه، ومناهج تأويل البيان وتحويله إلى متشابه. وبالتالي فهو يرفض تقديم الدليل العقلي على دلالة النص والنقل حين المعارضة، وينكر على أصحاب الإتجاه العقلي ما اضطروا إليه من طرح الكثير من المسائل البيانية التي أثبتها النقل، بحجة أن ذلك يخالف ما عليه العقل[7].

وقد صنّف الجزائري تقييمه للدليل العقلي إلى أصناف ثلاثة كالتالي:

 1 ـ ما كان بديهياً لا يقبل النقض، كالواحد نصف الإثنين.

 2 ـ ما كان يعاضده دليل نقلي وآخر غيره معارض له، حيث رجح الأول على الثاني، معتبراً الترجيح عائداً إلى التعارض في النقل لا العقل.

 3 ـ ما تعارض فيه محض العقل مع النقل، وفيه رجح الأخير على الأول[8].

وسار الشيخ يوسف البحراني على خطى المحدث الجزائري، وأيده في نقده وتقسيمه للدليل العقلي[9]، وإن كان قد استثنى من ذلك «العقل الفطري» الذي وصفه بأنه خال من شوائب الأوهام، فاعتبره حجة من حجج الله تعالى، واستشكل أن يرجّح عليه «البيان» أو الدليل النقلي، ولم يُظهر جواباً حاسماً وصريحاً حول ترجيح وتقديم أيّ من هذين الدليلين، سيما أنه عدّ جميع الأحكام الشرعية موقوفة على السماع أو البيان[10]، لذلك اعتبر العقل الفطري موافقاً للشرع، بل هو الشرع من الداخل، إستناداً إلى ما جاء من بيان متمثل ببعض الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت. ففي حديث عن الإمام أبي الحسن حين سئل عن الحجة على الخلق اليوم، قال: «العقل، يعرف به الصادق على الله فيصدقه، والكاذب على الله فيكذبه». وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنه قال: «حجة الله على العباد النبي، والحجة في ما بين العباد وبين الله العقل». كما جاء عن الإمام موسى الكاظم أنه قال: «يا هشام أن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول»[11].

مع هذا فالمحدث البحراني سلب الحجية والإعتبار عن هذا الصنف من العقل حال تغلّب ما وصفه بالأوهام الفاسدة والأهواء الناتجة عن بعض الأمراض الروحية، كالعصبية وحب الجاه، وإن كان لم يقدم لنا ضابطاً دقيقاً لتمييز العقل الفطري عن غيره ممن فيه شائبة الأوهام والأهواء. ففي تفصيله للعلاقة بين الدليلين العقلي والنقلي صرح قائلاً: «لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها، ولا سبيل إليها إلا السماع عن المعصوم (ع)، لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها... نعم يبقى بالنسبة إلى ما يتوقف على التوقيف، فنقول: إن كان الدليل العقلي المتعلق بذلك بديهياً ظاهر البداهة، مثل الواحد نصف الإثنين، فلا ريب في صحة العمل به. وإلاّ فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك، وإن عارضه دليل عقلي آخر، فإن تأيّد أحدهما بنقلي كان الترجيح للمتأيّد بالدليل النقلي، وإلا فإشكال. وأن عارضه دليل نقلي، فإن تأيّد ذلك العقلي بدليل نقلي كان الترجيح للعقلي، إلا أن هذا في الحقيقة تعارضٌ في النقليات، وإلا فالترجيح للنقلي، وفاقاً للسيد المحدث المتقدم ذكره - الجزائري - وخلافاً للأكثر. هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق. أما لو أريد به المعنى الأخص، وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجة من حجج الملك العلام - وإن شذّ وجوده في الأنام - ففي ترجيح النقلي عليه إشكال».

لكن الغريب هو ما فهمه الشيخ الأنصاري من هذا النص على خلاف صريح مراد المحدث البحراني، إذ علّق عليه في (فرائد الأصول)، قائلاً: «لا أدري كيف جعل الدليل النقلي في الأحكام النظرية مقدماًَ على ما هو في البداهة من قبيل (الواحد نصف الإثنين). مع أن ضروريات الدين والمذهب لم يزد في البداهة على ذلك. والعجب مما ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل كيف يتصور الترجيح في القطعيين، وأي دليل على الترجيح المذكور. وأعجب من ذلك الاستشكال في تعارض العقليين من دون ترجيح مع أنه لا إشكال في تساقطهما، وفي تقديم العقلي الفطري الخالي عن شوائب الأوهام على الدليل النقلي، مع أن العلم بوجود الصانع اما أن يحصل من هذا العقل الفطري أو مما دونه من العقليات البديهية، بل النظريات المنتهية إلى البداهة»[12].

والواقع أن نص المحدث البحراني في غاية الوضوح. فهو لم يقدّم الدليل النقلي على العقل البديهي كما فهم الأنصاري، بل العكس هو الصحيح. كما أن عجب هذا الشيخ من المحدث لم يكن في محله، ذلك لأن البحراني لم يسلّم بقطعية الدليل العقلي النظري في قبال قطعية النقل وبيانيته ليصدق الإشكال في ترجيح أحدهما على الآخر.

 



[1]  الفوائد المدنية، ص266.

[2]  المصدر السابق، ص202.

[3]  المصدر السابق، ص227ـ228.

[4]  الحدائق الناضرة، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج1، ص124.

[5]  الحدائق الناضرة، ج1، ص125.

[6]  نفس المصدر السابق، ج1، ص126ـ127.

[7]  الأنوار النعمانية، ج3، ص129ـ132. وكذا في: الحدائق الناضرة، ج1، ص126ـ128.

[8] الأنوار النعمانية، ج3، ص133.

[9]  الحدائق الناضرة، ج1، ص125ـ127.

[10]  نفس المصدر السابق، ج1، ص131ـ133. كذلك: مرتضى الأنصاري: فرائد الأصول، تحقيق وتقديم عبد الله النوراني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثالثة، 1411هـ، ج1، ص17ـ18.

[11]  الحدائق الناضرة، ج1، ص130.

[12]  فرائد الأصول، ص18.

comments powered by Disqus