-
ع
+

علم الكلام والكلام الجديد: الهوية والوظيفة

يحيى محمد

هل هناك ما يطلق عليه علم الكلام الجديد؟

سؤال يمكن تفكيكه الى ثلاثة اسئلة بقدر ما تتضمنه مفردات صيغة (علم الكلام الجديد): فهل في عصرنا الحاضر ما يمكن ان يطلق عليه (الكلام)؟ وهل ان هذا (الكلام) جديد فعلاً؟ ثم على فرض ذلك فهل نحن امام (كلام) قد حقق مرحلة التخصص العلمي، ام انه لا زال في طور الثقافة الممهدة؟

تلك هي اسئلة احسب انه لا يمكن ان يجاب عليها ما لم تتضح سلفاً ماهية الكلام باعتبارين مختلفين يصح اجراءهما على أي علم من العلوم البشرية: اولهما كموضوع قائم في ذاته، أي بغض النظر عن تحققه فعلاً، فسواء تحقق ام لم يتحقق، وسواء كان علماً ام لا زال ثقافة؛ فان من الممكن افتراض موضوعه وتحديده بما يجعله متميزاً ومختلفاً عن غيره. وثانيهما هو ان من الممكن النظر اليه بما هو موضوع متحقق له خصائص وصفات موضوعية محددة تضاف الى هويته الذاتية المفترضة بحسب الاعتبار الاول.

فتحديد هذين الاعتبارين يحقق لنا الشرط الذي لا غنى عنه في الاجابة على السؤالين الاولين من الاسئلة الثلاثة المطروحة. اما السؤال الاخير فشرطه التعرف على طبيعة التخصص العلمي وتمييزه عن مجرد الثقافة.

هكذا كان لابد من اجراء التفكيك السابق، اذ نحن امام قضية مركبة مما يطلق عليها علم الكلام الجديد. فهل ان هذه القضية تنتمي فعلاً الى دائرة الكلام بما هو موضوع قائم في ذاته؟ أي هل ينطبق عليها مواصفات الكلام كهوية ذاتية؟ ثم هل ان هذا الكلام المفترض جديد بحيث له من الخصائص ما يجعله مختلفاً تماماً عن سالفه من الكلام التقليدي؟ واخيراً ما هو نوع البناء الفعلي له: فهل هو بناء من طراز العلم المتخصص، ام هو مجرد بناء ثقافي لم يصل بعد الى مثل ذلك المستوى من العلم؟

طبقاً لما سبق ان القول بوجود كلام جديد يجعل منه والكلام التقليدي ينتميان الى حقل واحد مشترك هو الذي نصفه بالكلام على اطلاق. فصفة الاشتراك هذه انما يبررها وحدة الموضوع كأمر قائم في ذاته بغض النظر عما يطرأ عليها من عوارض خصوصية تأذن وصفها بالقدم والجدة والاسلامية والمسيحية والاشعرية والاعتزالية، وكذا العلمية التخصصية والثقافية وما الى ذلك من صفات، مما يبرر اجراء المقارنة بين مثل هذه الخصوصيات المختلفة للموضوع المشترك الواحد، أي حينما يكون لدينا اكثر من كلام متحقق.

اذن لابد من ان نحدد سلفاً ما يُقصد بالكلام، وذلك من حيث الهوية والوظيفة الذاتية، أي كموضوع مفترض قائم في ذاته. فما المقصود بالكلام؟ او ما هو علم الكلام؟ ونحن هنا قيدنا الكلام في السؤال بلفظة (علم) تسامحاً، اذ غرضنا هو التعرف على الكلام كهوية ذاتية مفترضة بغض النظر عن سائر الاعتبارات الاخرى. والتقييد بالعلم انما نريد به العلم العام سواء كان تخصصياً او ثقافة.

ما هو علم الكلام؟

لقد اعتاد المفكرون المسلمون تحديد هذا العلم طبقاً للوظيفة التي انيطت به؛ وهي اثبات قضايا العقيدة الاسلامية والدفاع عنها ضد شبهات الخصوم. وفي بعض هذه التحديدات نجد الوظيفة الكلامية لم تتوقف عند ذلك الشكل العمومي من العقيدة وانما تجاوزته في التخصيص ضمن بعض الصور المذهبية. فقد أخذ التحديد بُعداً مذهبياً خالصاً وهو الدفاع عن المذهب والرد على خصومه ممن وصفوا بالمبتدعة. الامر الذي ألبسه طابعاً آيديولوجياً أبعده عن هويته الحقيقية، مما جعله مساغاً سهلاً للطعن والاعتراض. فالغزالي يرى ان هذا العلم مناط بالكشف «عن تلبيسات اهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة : فمنه نشأ علم الكلام واهله»[1]. ولا شك ان هذا التحديد الذي اخطأ عن تقديم تصور حقيقي لنشأة علم الكلام؛ فكذلك أنه لم يقدّم تحديداً دقيقاً لتعريف هذا العلم وهدفه، مما أثّر على تصور المتأخرين، ومن ذلك أن ابن خلدون ضمّنه مفهوماً مذهبياً ذا طابع اشعري. فقد اعتبره علماً «يتضمن الحجاج عن العقائد الايمانية بالادلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف واهل السنة»[2]. فالتعريف كما هو واضح يتضمن عدم الاعتراف بغير الكلام الاشعري وما على شاكلته كممثل وحيد لعلم الكلام. وبالتالي فهو يتجاهل سائر الممارسات الكلامية بما فيها تلك التي سبقت الاشاعرة بمدة طويلة، كالمعتزلة وغيرها. وواضح ايضاً ان هذا التعريف الممذهب لا يتقبل الاعتراف بحقيقة ما ينطوي عليه علم الكلام من خصوصية (الاجتهاد) الذي يعمل على تبرير اختلاف الرأي في مختلف العلوم الانسانية. فضلاً عن انه لا يسمح لهذا العلم من ان يمارس وظيفته في التحقيق والابداع العلمي المستقل.

من جهتنا يمكننا ان نحدد علم الكلام كهوية تجعله يختلف عن غيره من العلوم والمعارف، وذلك في ما لو اخذنا بنظر الاعتبار هويته الذاتية المفترضة كموضوع قائم في ذاته بغض النظر عما يلحق به من عوارض طارئة.

إن هوية كل علم تستمد من امرين متلازمين هما الموضوع والوظيفة، شرط أن تكون الأخيرة مقيدة بالبحث والكشف المعرفي دون الوقوع في المصادرة على المطلوب. فالفيزياء مثلاً هو علم موضوعه الظواهر الطبيعية ووظيفته تفسير هذه الظواهر، لذا  فتحديده كهوية يأتي من حيث اعتباره علماً لتفسير الظواهر الطبيعية. فهو بهذا الافتراض يعد موضوعاً قائماً في ذاته، اما ما يلحق به من خصائص اخرى، مثل كيفية تفسير هذه الظواهر ودقتها العلمية والمناهج المتبعة في التفسير وكذا النتائج والنظريات المتخذة في ذلك؛ فكلها امور لاحقة لا تمثل جوهر ما عليه هذا العلم في ذاته. وبالتالي فهي ان تبدلت فلا يقتضي منها تبدل العلم المفترض. والفقه – كمثال آخر - هو علم موضوعه الاحكام الشرعية، وله وظيفة تتمثل باستنباط الاحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة. لكن كيفية الاستنباط والمناهج المتبعة فيها وكذا النتائج المترتبة عليها؛ فكل ذلك يعد من الامور التي لا تتعلق بجوهر موضوع الفقه بما هو في ذاته، وهي بالتالي عرضة للتغير والتبدل دون ان يطرأ تغيرّ على اصل هذا الموضوع. لكن لو تبدل موضوع العلم او وظيفته فان ذلك سيبعث على ايجاد علم آخر مفترض غير السابق بما هو في ذاته. ويمكن ان ينتزع من العلم علم آخر اضيق او اوسع دائرة من الاول، فتكون لكل منهما هويته الذاتية، رغم ان احدهما يكون متضمناً في الآخر. وكمثال على ذلك الفيزياء النووية باعتبارها فرعاً لعلم أعم هو الفيزياء العامة.

وعندما نبحث عن الكلام كهوية ذاتية نجد ان له موضوعاً هو العقيدة الدينية، وبالتحديد مبادئ التكليف. وكذا ان له وظيفة هي التحقيق في أرجاء هذه المبادئ. فمبادئ التكليف التي تبشر بها الاديان لا تعدو عن اربعة كالآتي: المكلِّف (التوحيد)، والمكلَّف (العبودية)، والواسطة او الصلة بينهما (الرسالة)، ومن ثم ثمرة التكليف (الحساب). وبالتالي فكل علم يبحث في اطار العقيدة الدينية او مبادئ التكليف فهو من علم الكلام، والا كان خارجاً عن هذه الهوية. فمثلاً ان البحث الدائر حول التحقيق في وجود اله لهذا الكون بشكل منفصل ومستقل عما تقوله العقيدة الدينية التي تتضمن الاطار المعياري لنظرية التكليف؛ لا يمكن ان يكون بحثاً كلامياً بالمعنى الذي تحدده تلك الهوية الذاتية من الموضوع الكلامي، انما يمكن ان يكون بحثاً فلسفياً او منطقياً او أي بحث آخر مختلف.

من هنا فأن تحديدنا لعلم الكلام - كموضوع في ذاته - يتصف بعدد من الصفات والخصائص كالآتي:

1ـ اهم صفة يتصف بها هذا العلم هو انه ذو طابع معياري. فهي خصوصية تنبعث من مركز الدائرة التي يدور حول محيطها البحث الكلامي. فالمبادئ الاربعة لا تُبحث كقضايا وجودية مستقلة ومجردة عن دائرة التكليف، وهي دائرة معيارية مستمدة من الصبغة الدينية. الامر الذي يميز هذا العلم عن غيره من العلوم الاخرى المنافسة كالفلسفة[3].

2ـ يلاحظ ان التحديد الآنف الذكر هو تحديد ابستمولوجي لا ينطوي على التسليم سلفاً بأي قضية يراد الاستدلال عليها. وبالتالي فهو على خلاف التحديدات المألوفة التي تعرّف هذا العلم بما ينطوي على قضايا مسلم بها سلفاً ويراد الاستدلال عليها في الوقت ذاته، مثل اعتباره علماً يراد منه اثبات العقيدة الدينية والدفاع عنها والرد على خصومها. وهو تحديد يفترض التسليم بالعقيدة سلفاً قبل اقامة الدليل عليها.

نعم لو قلنا ان الايمان بالعقيدة نابع من مصدر آخر لا يمت الى الكلام بصلة؛ لكان يمكن مجاراة مثل ذلك التعريف بشرط ان تتوضح الوظيفة المعرفية بما يخرجها عن المصادرة على المطلوب. لكن الاشكال: من اين يأتي الايمان بالعقيدة ما لم تمارس فيه الادلة الموضوعية التي هي محل اهتمام ذلك العلم!

كما يخلو تحديدنا الآنف الذكر من السمات الآيديولوجية الممذهبة كتلك التي تجعل من وظيفته الرد على المبتدعة. بل ويخلو من صفة مطلق الرد على الخصوم، اذ الرد ليس من الصفات الذاتية للعلم بما هو علم ابستمولوجي قائم في ذاته، فالعلم بما هو علم وظيفته الذاتية للكشف المعرفي لا الرد الذي يفترض التسليم سلفاً بالقضايا التي ينبغي ان تكون ضمن دائرة البحث والتحقيق الكلامي.

وعليه فالتعريف الذي وضعناه يجعل من التفكير الكلامي بما هو موضوع في ذاته ليس فقط محل ممارسة اولئك المدافعين عن العقيدة الكلامية، بل كذلك محل ممارسة اولئك الذين يتصفون بالخصوم. فالمدافع والخصم ينطبق عليهما التفكير الكلامي حينما يتعلق الغرض بدراسة مبادئ التكليف او ما يلف حولها من قضايا. فضلاً عن انه شامل لكل كلام ديني، كالكلام الاسلامي والمسيحي واليهودي.. ولكل كلام مذهبي، كالكلام الاشعري والاعتزالي والامامي والكاثوليكي والبروتستانتي… الخ.

وتصحيحاً للموقف نعتبر التعريف التقليدي للكلام المتضمن لاثبات العقيدة والرد على خصومها؛ ليس تعريفاً للكلام بما في ذاته، وانما هو تعريف للكلام الديني المتحقق والمخصوص، كالكلام الاسلامي مثلاً. وحينما يوضع قيد آخر في التعريف؛ فانه لا يحتفظ بالكلام الديني الشامل كالكلام الاسلامي، بل يكون علم كلام مذهبي. وبالتالي فإن القيود الموضوعة في التعريف تعمل على تضييق هوية الكلام، وكلما زادت هذه القيود كلما زاد التضييق في الدائرة التي يعمل بها هذا العلم.

ومع كل هذا فان من المفارقة والتناقض ان يحتفظ التعريف بقيود تلك المسلمات دون ان يشار الى كونها تفريعاً او نتاجاً لعلم اشمل يتناولها بالبحث والتحقيق، وهو ما يمثل جوهر مهمة علم الكلام بما هو موضوع قائم في ذاته.

3ـ ان تحديدنا الآنف الذكر للكلام يحتفظ له بكونه علماً كلياً ليس معنياً بجزئيات التكليف كالذي يمارسه علم الفقه. وعليه ففي الدائرة الاسلامية ان قياس الكلام الى غيره من العلوم الاسلامية هو قياس الكلي الى الجزئي، وعلى حد قول الامام الغزالي : ان «العلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام، وسائر العلوم من الفقه واصوله والحديث والتفسير علوم جزئية، لأن المفسّر لا ينظر الا في معنى الكتاب خاصة، والمحدث لا ينظر الا في طريق ثبوت الحديث خاصة، والفقيه لا ينظر الا في احكام افعال المكلّفين خاصة، والاصولي لا ينظر الا في ادلة الاحكام الشرعية خاصة، والمتكلم هو الذي ينظر في اعم الاشياء وهو الموجود.. ثم ينزل بالتدريج الى التفصيل … فيثبت فيه مبادئ سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول، فيأخذ المفسر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحداً خاصاً وهو الكتاب فينظر في تفسيره، ويأخذ المحدّث واحداً خاصاً وهو السنة فينظر في طرق ثبوتها، والفقيه يأخذ واحداً خاصاً وهو فعل المكلف فينظر في نسبته الى خطاب الشرع من حيث الوجوب والحظر والاباحة، ويأخذ الاصولي واحداً خاصاً وهو قول الرسول الذي دل المتكلم على صدقه فينظر في وجه دلالته على الاحكام، اما بملفوظه او بمفهومه او بمعقول معناه ومستنبطه، ولا يجاوز نظر الاصولي قول الرسول عليه السلام وفعله، فان الكتاب انما يسمعه من قوله والاجماع يثبت بقوله والادلة هي الكتاب والسنة والاجماع فقط، وقول الرسول (ص) انما يثبت صدقه وكونه حجة في علم الكلام، فاذاً الكلام هو المتكفل باثبات مبادئ العلوم الدينية كلها فهي جزئية بالاضافة الى الكلام، فالكلام هو العلم الاعلى في الرتبة، اذ منه النزول الى هذه الجزئيات»[4].

الكلام كموضوع متحقق

اذا كنا قد عرفنا ان الكلام كموضوع في ذاته هو ذلك الذي يهدف للبحث والتحقيق في قضايا مبادئ التكليف وما يترتب عليها من مقدمات ونتائج؛ فانه كموضوع متحقق عبارة عن نمط الممارسة العلمية الخاصة حول قضايا تلك المبادئ، وذلك بما تنطوي عليه الممارسة من استخدام مفاهيم اجرائية محددة ومناهج معينة واصول تتكئ عليها ومواقف معرفية ترتضيها ومصادر علمية توظفها لاغراضها، وقد يترتب على ذلك ايضاً اجراء بعض الانماط من التعامل مع نص الخطاب الديني وما الى ذلك من ممارسات علمية ومعرفية. فما يظهر من طبيعة هذه الممارسات العلمية هو ما يحدد فعلاً هوية الكلام المتحقق، وهي هوية اضافية لا تعود في صميمها الى موضوع الكلام كما هو في ذاته. لهذا كان من الممكن ان ينشأ عدد من الهويات الفعلية التي يعبر كل منها بطريقته الخاصة عن الكلام المتحقق، وان تتنافس هذه الهويات وتتناقض، او يتجدد بعضها او يندثر ويموت، كل ذلك بغض النظر عن الكلام المفترض كما هو في ذاته. ومنه يظهر لدينا ما يطلق عليه الكلام الاسلامي والمسيحي واليهودي، كما يظهر لدينا ضمن الدائرة الاسلامية مثلاً كل من الكلام الاعتزالي والاشعري والامامي والسلفي، وكذا يظهر ما يطلق عليه التقليدي والجديد.

ان أي علم من العلوم ليس باستطاعته التحقق فعلاً من غير الممارسة الاجتهادية. فالاجتهاد متضمن في آلية التحقق ذاتها. وهو المبرر الموضوعي للتعددية التحققية، سواء اطلقنا على ذلك عبارة (نظريات)؛ كالذي يجري في العلوم الطبيعية والاجتماعية، او قلنا انها (مذاهب)؛ كمذاهب الفلسفة وعلم النفس وما اليها، او غير ذلك من التسميات التي لا تغير من حقيقتها الجوهرية وهي انها عبارة عن تعددية اجتهادية تتضمنها ذات الآلية التحققية. بمعنى انه لا يمكن صون هذه الآلية عن الاجتهاد والتعدد اطلاقاً.

وحيث ان حديثنا عن الكلام الاسلامي فلنعلم انه رغم وجود الاتفاق على قبول مبادئ التكليف؛ الا ان الممارسة الاجتهادية التي تتضمنها آلية التحقق جعلت فهم هذه القضايا مثاراً للتعددية  والاختلاف. فقد اختلف الكلاميون حول طبيعة (المكلِّف) من حيث ذاته وصفاته ونمط ارتباطه وعلاقته بخلقه وعباده. كما اختلفوا حول طبيعة (المكلَّف) من حيث قدرته وارادته ونمط التكليف الذي يخصه إن كان شرعياً محضاً او يضاف اليه التكليف العقلي. واختلفوا ايضاً حول (رسالة التكليف) في عدد من القضايا كالدليل عليها وصفاتها ووجوبها وما قد يترتب عليها من امور كالامامة. وكذا انسحب الاختلاف الى الموقف من المضامين البيانية للرسالة، وتعددت وجهات النظر حول التقنين الخاص في العلاقة بين العقل والنص، اذ هناك من عمل على رفض الممارسة العقلية في علاقتها مع النص، وهناك من اعتبر العقل في خدمة البيان، كما هناك من فعل العكس بجعل العقل قيماً على الظاهر البياني ولو افضى الامر الى تأويله واعتباره من المتشابه لا البيان. واخيراً انهم اختلفوا حول (ثمرة التكليف)؛ كاختلافهم المتعلق بمسائل الاحباط والوفاء والارجاء والوعيد وغيرها الكثير الكثير.

خصائص الكلام التقليدي

ان الرباط الذي شد الكلام الاسلامي التقليدي بنظرية التكليف هو رباط يمكن التعبير عنه على مستويين، احدهما له علاقة بتحديد التكليف بما هو (موضوع في ذاته)، والآخر له علاقة بتحديد هذا التكليف بما هو (موضوع لأجله) رغم وجود بعض المفارقات والمصادرات التي لاحت هذا الامر. فمن حيث التكليف بما هو (موضوع في ذاته) نجد هناك مباحث عامة عن التكليف وشروطه وعلاقته بالعدل وحرية ارادة الانسان، كما ان مقدمات الكلام التقليدي قد الفت ان تشرع بالبحث عن وجوب العلم، وعما يجب على الانسان ان يعرفه اولاً، وعن تحديد عقيدة الفرقة الناجية وسط فرق الظلال. فأصبح التكليف مقدمة للكلام، بل اصبح الكلام تكليفاً، اذ ان قضاياه الاساسية تعتبر في نظر اصحابه من التكاليف التي يجب على المسلم بحثها عيناً كي يحدد عقيدته سلفاً. ومن ذلك ان الباقلاني يذكر في كتابه (الانصاف) ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، فيعدد مختلف قضايا الكلام الاشعرية، بل ويظيف اليها حتى العلم بأوائل المعرفة واصول الادلة والمقصود بالاستدلال وانقسام المعلومات والموجودات والمحدثات، وكذلك يوجب على المكلَّف معرفة اول نعم الله على خلقه وافضلها عند المؤمنين المطيعين وغيرها من القضايا الاخرى. وحيث انه اذاع مبدأ (بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول) خلال القرن الرابع الهجري، فانه قد زاد من حمولة التكليف وشملت قضاياه حتى الادلة المحررة، اذ خرجت من كونها في دائرة ما هو (موضوع لاجله) لتدخل دائرة ما هو (موضوع في ذاته) من التكليف، الشيء الذي يعني ان الكلام قد اصبح (شريعة)، والاجتهاد (نصاً). فحيث ان الاستدلال على بعض العقائد كالقدرة والخلق متوقف عند الباقلاني على اثبات الخلاء والجوهر الفرد والعرض لا يبقى زمانين وغيرها، لذا كانت هذه القضايا ضمن العقائد الواجب اعتقادها، وبالتالي فهي قضايا وجودية مؤسسة على المعيار، بخلاف طريقة الوجوديين (اهل الفلسفة والعرفان)، لكونهم يؤسسون المعيار على الوجود لا العكس، بل لدى المعياريين ان مبرر وجود الخلق هو لغرض معياري يتعلق بالتكليف، حيث سخّرت الاشياء للانسان ليعتبر منها ويتخذها كمرشد ودليل على التكليف، بما في ذلك التكاليف العقلية، كما يلاحظ مثلاً لدى اولئك الذين يعتبرون الغرض من وجود الشهوات في الانسان انما هو لأجل التكليف[5].

كان ذلك مما له دلالة على البحث الكلامي في التكليف بما هو (موضوع في ذاته). اما البحث الكلامي في التكليف بما هو (موضوع لاجله) فانه يستغرق ما تبقى من مواد علم الكلام، ويتوارى في كثير من الاحيان وراء الادلة المحررة، بما في ذلك ادلة اثبات اصول العقائد كالتوحيد والعدل؛ فهي مع تضاربها بحسب الميول المذهبية، تهدف سلفاً نحو التنزيه والتقديس، طاردة عنها شبهة التدنيس ومخالفة الشريعة، وذلك لاجل ضمان (صحة الاعتقاد)، في الوقت الذي لا يخلو لسانها من التعريض بكل من خالف (الاعتقاد الحق)، بالتكفير والتضليل، مما له دلالة على (التكليف) بوصفه معياراً يتوارى خلف لغة الكلام وعلمه.

مهما يكن فقد ظهر للكلام التقليدي خصائص وصفات على الصعيد المعرفي بعضها كان كفيلاً بأن يفضي به الى الوقوع في الشلل المزمن من غير قدرة على النهوض. واهم هذه الخصائص ما يلي:

1ـ الوقوع في خندق الآيدولوجيا (المذهبية). ذلك ان هذا العلم قد بنى نفسه بشكل تكون فيه المذهبية كانتماء اجتماعي هي اساس تكوين العلم لا العكس.

نعم، لقد نشأ الكلام وهو في طور الثقافة نشأة فردية غير ممذهبة، بل وفي اجواء هذه النشأة يعبّر عدد من الاراء عن اجتهادات حرة غير متأثرة بأيديولوجيا السياسة وما اليها؛ رغم ان المطارح الاولى كانت مطارح داخلية ولم تكن من ذلك الصنف المنشغل بتأسيس الخطاب الديني من الخارج. فمثلاً ان اقدم رسالة وصلتنا بهذا الخصوص هي الرسالة المنسوبة الى الحسن بن محمد بن الحنفية في القدر والذي يرجع تأليفها الى سنة 73هـ. فهي من جانب رسالة ثقافة لا علم متخصص. كما انها رسالة رأي فردي وليس اتجاه مذهبي، وهي اكثر من هذا لا تعبر عن المدلول السياسي، أي انها ليست متأثرة بالسياسة. وموضوعها يعبر عن مسألة جزئية من القضايا المتعلقة بمبادئ التكليف. وقد تناولت الرسالة مسائل الخلاف الداخلي دون أن يكون لها علاقة بالخلاف الخارجي. على ان ما يعنينا من هذه الرسالة هو انها تخلو من الدوافع الآيديولوجية على الصعيدين السياسي والمذهبي كانتماء اجتماعي، على عكس ما آل اليه الامر بعد تكوين المدارس والاتجاهات، بدلالة ان الحسن كان يخالف اباه في هذه القضية كما خالفه في مسألة الارجاء. والمخالفة في تلك الفترة ليست من نوع ما تمّ التعبير عنه فيما بعد بأنه مخالفة للاجماع او المذهب او ما تسالم عليه. اذ كانت الآراء آنذاك تعبّر عن مبادرات فردية لم تتبلور بعد على هيئة مذاهب متبعة جيلاً بعد جيل، والتي غالباً ما يتعطل عندها دور التحقيق والابداع.

لكن حيث ان الشاغل الاعظم للكلاميين الاوائل هو ليس تأسيس العقيدة الاسلامية من الخارج والرد على خصومها، بل هو تأسيسها من الداخل بالفهم والاجتهاد، لذا فقد سهل ذلك على صياغة منظومات تعددية افضت الى ان تكون مذاهب كلامية متبعة بحسب الانتماء الاجتماعي، وكذا السياسي، وليس بمحض البحث والتحقيق. الامر الذي ولّد حالة من الانغلاق حجبت الممارسات الكلامية عن القيام بدور اجتهادي، ولم يعترف للكلام بطابعه الاجتماعي بعد ان غدا عبارة عن ممارسات جدلية ممذهبة، واصبح العمل المعرفي مساقاً بايديولوجيا المذهب عوض ان يساق بابستمولوجيا الحقيقة، ومن ثم أُغلق باب البحث والتفكير وعلا مكانه باب التضليل والتكفير، رغم ما انطوت عليه تلك الممارسات من تناقضات مفضوحة[6].

2ـ لقد اعتمد الكلام التقليدي _غالباً- على العقل في علاجه للقضايا التي كانت موضع اهتمامه. لكنه مع ذلك لم يعمل على تحليل هذا العقل والكشف عن ابعاده وما يترتب عليها من نتائج. ومن ذلك انه لم يفرق بين العقلين القبلي والبعدي، فكلاهما تم التعامل معهما بنفس النسق والاعتماد، بل غالب الامر هو انه اتخذ من العقل القبلي اداة للنظر في توليد النتائج الاخبارية الكاشفة عن الابعاد الخارجية ومنها مداليل النص والواقع الموضوعي. وهو ما جعلها تحمل مضامين هشة وضعيفة، فأفضى بها الأمر الى الاعتراف بالعجز والتناقض حتى من قبل اولئك الممارسين لها، وكان على رأسهم الفخر الرازي خلال القرن السادس الهجري.

على انّا نعدّ مرحلة الفخر الرازي مرحلة حاسمة بالنسبة الى الحركة العقلية في علم الكلام. ذلك انها تمثل شكلاً من المفارقة بما تحتضنه من مظهرين متنافيين، فقد بلغت هذه المرحلة أقصى حد ممكن من التطور، وظهر اثرها في الصياغة الكلية لقانون العلاقة التي تربط العقل بالنص، لكنها مع ذلك أنهت دور العقل المعياري من الحياة الفكرية الفاعلة. فقد تم التخلي عن العقل والقضاء عليه بعد الاعتراف بعجزه وتناقضاته، وذلك من قبل ذات الشخص الذي سبق له أن بالغ في قيمة النتائج العقلية المحضة ورجحها على النص فيما سماه بالقانون الكلي للتأويل[7].

يظل ان نشير الى ان الممارسة الكلامية لها بعد آخر اقل تأثيراً، وهو المتمثل بالتيار البياني او السلفي، مثلما هو الحال لدى كل من ابن حزم وابن تيمية وابن القيم ومحمد امين الاسترابادي وغيرهم.

3ـ يلاحظ انه رغم الاتفاق الغالب لدى علماء الكلام حول اصالة العقل؛ الا ان القواعد والاصول المعرفية المعتمدة على هذا الاصل هي غير متفق عليها في الغالب، وكان من ابرز واهم ما اختلفوا حوله هو قاعدة الحسن والقبح، وهي قاعدة يترتب عليها الكثير من المسائل والنتائج.

4ـ هناك ثلاثة انماط من التأسيس العقلي في علم الكلام، احدها عبارة عن التأسيس القبلي للنظر، حيث يعبر عن التشريع الخاص بالعقل الكلامي بغض النظر عن علاقته بغيره. وثانيها عبارة عن التأسيس الخارجي للخطاب، والذي تتحقق به الحجة الدينية والاعتراف بصدق مدلولها. اما ثالثها فهو التأسيس الداخلي للخطاب والذي يتم فيه التحقق من طبيعة مضمون النص إن كان على توافق مع الرؤية القبلية للعقل فيقر عليه، او انه لا يتفق ظاهره معها فلا يقر عليه؛ بل يوجّه بما يتفق واياها. وهو الامر الذي افضى بالعقل الكلامي الى ان يرى في الخطاب صفات مثل المجاز والاحتمال والتشابه هي على الضد من صفات العقل المتمثلة بالحقيقة والقطع والاحكام. وهو ما يبرر ممارسة التأويل لصالح الرؤية القبلية[8]،  بل وحتى المذهبية. لكن ماذا تعني عملية التأسيس تلك من منظور علم الطريقة؟ واين يقع علم الكلام بحسب هذا المنظور؟ وكيف تدار قضاياه اذا ما ابتعدنا عن الأطر المذهبية المتشرنق بها وجعلناه يخضع الى اعتبارات ذلك العلم من الطريقة؟

تلك اسئلة هامة نحيل الجواب عليها الى التفصيل الذي اجريناه في كتاب (مدخل الى فهم الاسلام).

5ـ ان طبيعة العلاقة التي دشنها علم الكلام في اشكالية العقل والنص جعلته يختلف مساراً عن تلك العلاقة التي صيغت من قبل علم الفقه. فرغم انهما يعدان علمين معياريين، وانهما يهتمان اساساً في الدائرة المؤطرة بنظرية التكليف تحديداً؛ الا ان تقنين العلاقة التي تربط العقل بالنص وتحديدها جاءت مختلفة ومتعاكسة. فالعقل في علم الكلام هو المحدد في الغالب للعلاقة التي تربطه بالنص. فأول ما يبدأ الدليل في هذا العلم بالعقل، فهو بهذا يتقدم على الدليل المستمد من النص، وانه كذلك يباشر كلا التأسيسين الخارجي والداخلي للخطاب. وهو امر يختلف تماماً عما يجري في الفقه، ففيه يتقدم النظر في النص على غيره من المصادر الاخرى مما يطلق عليها الاجتهاد والقياس والعقل وما الى ذلك. بل غالباً ما ينظر الى العقل في علم الكلام بانه مصدر البداهة والقطع والاحكام، وان الدليل فيه قطعي لا يقبل التشكيك، وذلك بخلاف المنظور اليه في الفقه، حيث لا يملك العقل تلك المنزلة ولا دليله، فضلاً عن ان يتقدم فيه على الدليل المستنبط من النص. وعليه فاذا ما كان المحكم في علم الكلام هو العقل، والمتشابه هو النص، فان العكس هو الصحيح في علم الفقه، حيث يتموضع العقل بموضع (المتشابه) وذلك لعجزه عن ان يكشف عن الحكم الواقعي الا ما شذّ وندر. في حين يكون النص مشبعاً بروح الاحكام والبيان، بالرغم من دلالاته الظنية النابعة في الغالب من شروطه الخارجية كمشكلة السند التي تبعث على الحكم بظنية صدور الخبر عن النبي او الامام المعصوم.

مع هذا يلاحظ انه رغم النفور العام من الفقهاء الاوائل ازاء الكلام، الا ان ما تم ترسيمه فيما بعد هو ان تمت الموافقة على العلمين معاً، فلم يشهدا الصدام بوصفهما علمين رغم ما لكل منهما في الغالب من اتجاه مختلف ومعاكس لما لدى الآخر، وذلك في كل من المنهج والمصدر والاصول المعرفية. بل ان مظاهر الازدواج تبدو حتى لدى الشخصية العلمية الواحدة، ولها ما يبررها اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار طبيعة كل علم من هذين العلمين. حيث يفترض في علم الكلام ان يكون موضوعه الاساس هو مجموع التأسيسين الخاصين بالنظر القبلي والبعدي من الخطاب، وهو في ممارسته لهذا الموضوع يحتاج لا محالة الى العقل، خاصة في حدود التأسيس القبلي الذي يتوقف عليه فهم الخطاب برمته، وبالتالي فمن الضروري ان يكون العقل ملاصقاً للحقل الكلامي تبعاً للموضوع الذي يعالجه في التأسيس الخارجي للخطاب. بينما يختلف الحال في علم الفقه، لأنه يتوقف فقط على فهم الخطاب، مما لا يحتاج فيه الى سلاح العقل المستقل، خاصة وان عملية الفهم هذه قد اجمعت على ان دائرة العقل خالية من ان يمكنها تحديد مصالح الاحكام في الفقه، تبعاً للبيان الناهي عن تدخل الممارسات العقلية المستقلة.

6ـ من وجهة نظر (علم الطريقة) فان الممارسة العقلية لعلم الكلام تتحدد بأصلين مولدين للمعرفة يجمعهما رابط عام هو (الحق)، وان اختلف الامر بينهما تحت عنوانين او اصلين مولدين هما: الحق في ذاته او (الحق الذاتي)، والحق المشروط بالملكية او (حق الملكية). فأغلب القضايا التي تتصف بالمنظومية والتي انتجها علم الكلام هي قضايا متسقة مع احد هذين الاصلين المتضادين او مستمدة منه[9].  لكن المسألة الجديرة في الاعتبار هو ان الكلاميين بمختلف اتجاهاتهم واعتباراتهم لذلك (الحق) لم يعالجوا موضوعاتهم الا على ضوء تبرير الفعل الالهي، وبالتالي فان شاغلهم المعرفي كان مكرساً في اطار المكلِّف لا المكلَّف، وان دائرة (الحق) يراد بها اساساً  البحث في اشكالية حق المكلِّف، مما يعني تغييب البحث المخصص باشكالية الحق العالق بالمكلَّف. فالجهد الكلامي هو جهد (ميتافيزيقي) حجب ذاته عن التفكير في الواقع ومعالجة اشكالياته.

7ـ يلاحظ ان الممارسة العقلية لعلم الكلام تقف على الضد والتنافي مع الممارسة العقلية للفلسفة التقليدية. فالنظام الذي ينتمي اليه كل منهما هو على الضد من الآخر. فبحسب الفهم الطريقي ان العقل الكلامي هو عقل معياري خلافاً لما يتصف به العقل الفلسفي من صفة وجودية غير معيارية. وبالتالي فإن الروح المعرفية وطريقة التفكير ونوع النتائج لكل منهما هي مختلفة تماماً.

وعموماً يمكن القول بأن منهج علم الكلام هو أقرب للتفكير الديني، أو أنه ممزوج بهذا التفكير، وأن أتباعه يحملون عقيدة آيديولوجية مذهبية دينية، وعلى خلافه منهج الفلسفة المتحرر غالباً من هذه المذهبية، وأنه أقرب للمنهج العلمي، لا سيما وأن العلوم الطبيعية كانت في ذلك الوقت تُبحث وتُدرس ضمن الفلسفة، وأن العلماء كانوا إما فلاسفة أو دائرين في فلكهم. لذلك فالتطور العلمي الذي حصل خلال تاريخ الإسلام إنما كان بفعل الفلسفة لا الكلام، رغم بعض مؤاخذاتنا على علاقتها بعلوم الطبيعة، كما سجلناها في كتاب (مدخل إلى فهم الإسلام). لذا ففي فهم القضايا الدينية يسهل الإنفكاك تماماً من الفلسفة، لكن من الصعب الإنفكاك من علم الكلام وتفكيره الديني؛ بإعتباره مختصاً في أسس وأركان هذه القضايا خلافاً للأولى.

وحقيقة، لولا أن الفلسفة ومعها العرفان قد تعرضا للخطاب الديني بالفهم والتبعية كمنهج؛ لكُنّا قد اعتبرناهما يقعان عرضاً وموازاة في منافسة منطق الدين ذاته. فهما ينافسان هذا المنطق ومدعياته الأساسية. لذا يصعب عليهما تبرير أصول المسألة الدينية وأركانها الأربعة، خلافاً لعلم الكلام.

لا يقال بان للفلسفة التقليدية المنهج البرهاني، اذ لا تسلّم بشيء ما لم تقم الدليل عليه، خلافاً للكلام. ذلك أن كلاً منهما يقيم المنهج الاستدلالي طبقاً للمسلمات الخاصة به، مثلما اشار الى ذلك ابن رشد[10]. بل يمكن القول ان الفلسفة التقليدية ليست برهانية باطلاق، بل هي مشروطة بحدود ما تتعامل به من ماهيات كلية مفترضة في الذهن، فهي بالتالي ليست برهانية من حيث علاقتها بالواقع او انطباقها معه. ويمكن تصوير هذه الناحية بمثال يعود الى الهندسة الكونية، فحينما نقول ان مجموع زوايا المثلث هو (180 درجة)، فهذا القول صحيح قياساً الى ما نحمله من تصور وافتراض ذهني، لكنه ليس معنياً بالواقع الموضوعي فعلاً. فنحن نتعامل مع سطح مستو على الصعيد الذهني، في حين ليس بالضرورة ان يكون مبنى الواقع بمثل هذا السطح. فلو لم يكن مبنى الواقع مستوياً لكان مجموع تلك الزوايا غير ذلك القدر بالضرورة. فمثلاً إن نظرية اينشتاين في النسبية العامة قد عوّلت على السطح المنحني للهندسة الكونية، وأخذت تصور الواقع على أنه أشبه بقطعة البطاطس، لهذا كان مجموع زوايا المثلث حسب هذا الافتراض مغايراً للدرجة السابقة، خلافاً لنظرية نيوتن في تصورها للهندسة الكونية[11]. وهكذا الحال يمكن قوله حول ما يتعلق بالفلسفة التقليدية.

ويترتب على ذلك ان الفلسفة والكلام لم يتعاملا تعاملاً محايداً ازاء القضايا التي اعترضتهما، لا سيما القضايا الرئيسة للعقيدة الدينية. ومع ذلك فإن لكل منهما اجتهاداته الخاصة، الى الدرجة التي يتفقان فيها غالباً على ترجيح الرؤية العقلية على النص، اذ يعتبرانها قاطعة خلافاً للأخير، لكنهما يختلفان في مضامين تلك الرؤية تماماً.

8ـ لقد اصبح علم الكلام علماً ميتاً شُلّت حركته نهائياً، ولم يعد ثمة من يجدد هذه الحركة طبقاً للموازين المعهودة سابقاً. فمن حيث الممارسة العقلية يلاحظ انها جسدت جملة من التناقضات كان آخرها تلك التي اعترف بها الفخر الرازي. فمنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لم يكن هناك من يجدد للعقل اعتباراته ويصحح مفاهيمه ومنهجه، بل ظلت الممارسة العقلية تتحرك على نفسها باللف والدوران، وتضاءلت هذه الحركة شيئاً فشيئاً باضطراد، واخذت المفاهيم الاجرائية التي وظفها هذا العلم بالضمور والاختفاء، كما ذهبت الكثير من موضوعاته ولم يعد بالامكان احياؤها من جديد. بل ولم يعد هناك من يحتفي بهذا العلم او يشيد باعتباراته مقارنة بغيره من العلوم الاسلامية الاخرى. لكن رغم هذا وذاك فان الكلام التقليدي قد نجح فعلاً في تحقيق ما استهدفه من تكوين عقائد مذهبية مغلقة يصعب زحزحتها او الاجتهاد فيها رغم مضامينها الضيقة والضعيفة. وهو امر جعل من الكلام الجديد مقيداً غالباً بقيود ذلك الكلام ضمن تشكيلة ازدواجية من الصعب حلها والقضاء عليها؛ مثلما سنشير الى ذلك فيما بعد.

 

هوية الكلام الجديد

لعلنا بعد ما بينا طبيعة الكلام كهوية او صفة ذاتية، وبعدما اطرنا وظيفته بتحديدات مخصوصة، ومن ثم جهدنا الى ان نتعرف عن شيء من طبيعة الكلام كما هو متحقق فعلاً في تاريخنا الاسلامي؛ يمكننا بعد ذلك ان نلقي بعض الضوء عما يطلق عليه علم الكلام الجديد. ولا ننسى اننا هنا بصدد الكشف عن ذلك الموضوع المتصف بصفتي المعيار والكلية والذي يهتم بمعالجة مبادئ التكليف بما يترتب عليها من مقدمات ونتائج. ونحن نعلم ان هذه المبادئ كانت حاضرة بوعي وقوة كموضوع يراد له البحث والتنظير في الكلام التقليدي، فوضعت لاجل ذلك المناهج المعرفية والمفاهيم الاجرائية وقدمت التعاريف الخاصة بالعلم والوظائف المناطة به، كما تم بيان العديد من القواعد والاصول المعرفية. لكن السؤال هو: هل اننا نجد مثل هذه المواصفات لدى الدراسات الحديثة؟ فهل هناك في هذه الدراسات من كلام جديد ميزته انه يهتم بالاطار العقيدي من الاسلام او مبادئ التكليف بطبيعتها المعيارية الكلية مع اخذ اعتبار جوانب الاختلاف عما كان سائداً في السابق؟ وهل ان حضور هذا الاهتمام من البحث يمكن ان يشكل اليوم ما يطلق عليه العلم المتخصص، ام انه لا زال في طور الثقافة دون ان يتحول بعد الى مثل تلك المرتبة من العلم؟

يمكن القول ان هناك فعلاً ما يسمى بالكلام الجديد. فمن حيث المنهج المتبع يلاحظ انه قد تغير كثيراً عما كان مألوفاً في السابق. ومن حيث المفاهيم الاجرائية يلاحظ انها تختلف عادة عما كانت عليه آنذاك. وكذا فان القضايا المطروحة هي في كثير من الاحيان مختلفة عما كانت تطرح من قبل. واذا اردنا ان نجمل بكلمة واحدة نوع المنهج المتبع وطبيعة القضايا المتداولة؛ فيمكن القول ان هذا المنهج هو عبارة عن ممارسة العقل البعدي المتكئ تارة على الواقع، واخرى على النص. أما القضايا المطروحة فغالباً ما عبّرت عن اشكاليات لها علاقة بحقوق الانسان والتوفيق مع العصر. بل يمكن القول ان هذه القضايا تتوزع على ما لا يقل عن ستة اصناف كالآتي:

1ـ قضايا عقدية إلهية، كالبحوث الخاصة باصول الدين، وهي وإن لم تكن جديدة من حيث الموضوع، لكنها عولجت معالجات مختلفة، كان من بينها تلك الردود الخاصة حول الشبهات الفلسفية والعلمية الحديثة. على أن أهم معالجة منهجية جديدة بهذا الصدد هي معالجة المفكر محمد باقر الصدر، اذ قام بتأسيس تلك الاصول طبقاً لمنهجة الاستقراء وحسابات الاحتمال، فقد وضع لهذا الغرض كتابين؛ احدهما يعد تبسيطاً وتوضيحاً للآخر، حيث عمد في كتاب  (الاسس المنطقية للاستقراء) الى تأسيس عملية الاستقراء تأسيساً جديداً يهدف من وراءه الى البرهنة على وجود القاسم المشترك الذي يثبت كلاً من العلوم الطبيعية والايمان بالله، ثم اردفه بكتاب (المرسل والرسول والرسالة) ليوسع من دائرة اثبات قضايا العقيدة عبر النظر الى الواقع من منطق الاستقراء[12]،  حتى قال بهذا الصدد: «ان قضايا اصول الدين والعقيدة ثبوتها لدينا كثبوت القضايا العرفية والتجريبية في الوضوح والحقانية، لانها تملك رصيداً من الدليل الحسي والاستقرائي على حد سائر القضايا الاستقرائية التجريبية»[13]. ومعلوم انه لا توجد ممارسة تنظيرية قائمة على الاستقراء وحسابات الاحتمال تلوح العقائد وتسوّي بينها وبين سائر القضايا العلمية والطبيعية قبل هذا الامام[14].

2ـ قضايا التربية العقائدية، اذ هناك من اهتم بالعقائد على مستوى التربية الروحية والايمانية لترسيخ العقيدة في النفس المسلمة دون الاكتفاء بالاعتقاد المعرفي المنبني على الدليل والتحقيق. وقد كانت هذه القضايا تبحث في السابق ضمن كتب الاخلاق والعرفان العملي.

3ـ قضايا ايديولوجية، اذ وُظفت العقيدة لأغراض التغيير الاجتماعي، وكان من بين ذلك تحويل معاني العقيدة الى معاني اجتماعية غرضها اصلاح الواقع الاجتماعي للأمة. ومن هذا القبيل ما فعله محمد اقبال في (تجديد التفكير الديني في الاسلام)، اذ جعل من التوحيد الميتافيزيقي توحيداً قابلاً للتنـزيل بوصفه فكرة يمكن تنفيذها على مستوى المساواة والاتحاد والحرية[15].  كذلك ما فعله المفكر الصدر في بعض دراساته التي اعتبر فيها ان مطلب اقامة العدل في المجتمع ووحدة الامة هما مطلبان مستمدان من وحدة الله وعدالته.

كما كنّا في مطلع الثمانينات من القرن العشرين قد اعددنا دراسة لم تنشر بعنوان (نظرية العدل التوحيدي للمجتمع) حاولنا فيها الربط بين الاصول الخمسة للإمامية الاثنى عشرية وبين المطالب الاجتماعية والمباني الايديولوجية، فاعتبرنا عدالة المجتمع ووحدته من الغايات الرئيسة المستهدفة للانسان ضمن حركته التاريخية، وهما مستمدان من الأصلين الأساسيين لأصول الدين (العدل والتوحيد)، وان تحقيق هاتين الغايتين لا يتم الا عبر سلطات ثلاث يكامل بعضها البعض الاخر، وهي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وان هذه السلطات مستمدة من مفاهيم ما تبقى من اصول الامامية، وهي النبوة التي تمثل سلطة التشريع حيث تبليغ الاحكام، والامامة التي تمثل سلطة التنفيذ حيث الرئاسة الخاصة بتطبيق الاحكام، والمعاد الذي يمثل سلطة القضاء، حيث الحساب الخاص الذي يُعنى بامتثال ذلك التطبيق لاجل الغايتين المذكورتين.

4ـ قضايا نظمية، فهناك من اهتم بابراز ما يتضمنه الاسلام من نظم تضاهي قدرتها وقوتها فاعلية سائر النظم الحديثة؛ مثل النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والاداري والتربوي وغيرها من النظم المطروحة.

5ـ قضايا حقوق الانسان، وهي التي اخذت النصيب الاعظم من الاهتمام الكلامي بما تتضمن من بحث المفاهيم العامة التي اراد بها المثقف الديني تغطية حاجات المسلم المعاصر، كالبحوث المتعلقة بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والمواطنة والقومية والخصوصية والديمقراطية والاشتراكية وغيرها. وقد خضعت مثل هذه القضايا ضمن اطار مشروع النهضة منذ رفاعة الطهطاوي خلال القرن التاسع عشر، فظهرت على اثر ذلك مفاهيم عدة تم تداولها، وكان نصيب بعضها الاندثار والفشل، والبعض الآخر ما زال يشغل تفكير المثقف الديني حتى يومنا هذا. فالتي اصابها الفشل مثل اشتراكية الاسلام، أما تلك التي ما زالت تحتل موقعاً من التفكير والنظر والتجديد فمن قبيل الحرية والديمقراطية والمواطنة والهوية والخصوصية.

6ـ قضايا التوفيق مع العصر، وهي القضايا التي شغلت تفكير المثقف الديني منذ نشأته، والتي تجسّدت تارة باعتبارات ما يطلق عليه التوفيق بين الاصالة والمعاصرة، واخرى باعتبارات التوفيق مع قضايا العلوم الطبيعية. ومن ابرز الاهتمامات الحالية للتوفيق مع العلوم الطبيعية ما قدمته مؤسسة المعهد العالمي للفكر الاسلامي من نهج يخص الجمع بين كتابي الوحي والكون او النص والواقع.

تلك هي ابرز محاور الاهتمام في الكلام الجديد كما عالجها المثقف الديني، وهي تتفاوت في حضورها، والغالب فيها هو قضايا التوفيق مع العصر والحقوق الانسانية. لكن مع هذا فقد جاءت البحوث الخاصة بتلك المحاور متفرقة لا يربطها رباط منظم ولا غرض موحد يمكن ان يعود بها الى علم عام جامع. كذلك فانه لا يوجد ما يجمعها على صعيد المنهج، ولا الاصول المعرفية. وبالتالي فان نقطة ضعف الكلام الجديد هو انه لم يتأسس بعد على مستوى التخصص العلمي، انما ما زال في طور الثقافة الممهدة.

فعلاً انه لا بد لكل علم من ان يمر سلفاً بمرحلة الثقافة قبل ان يتشكل الى طور التخصص. فكل علم تخصصي لا يتأسس من فراغ، بل لا بد ان يسبق ذلك وجوده كمعلومات متشتتة من هنا وهناك تفتقر الى الرابط الذي يجمعها، كما وتفتقر الى النظام الخاص الذي يوضح فيه موضوع العلم وهدفه والمنهج الذي يتبعه والاصول والادوات المعرفية التي يتأسس عليها. وهو امر ينطبق على الكلام الاسلامي التقليدي، حيث نشأ في بداية الامر على شكل ثقافة قبل ان يتشكل ويصبح علماً منضبطاً يتقيد بما ذكرناه. فالبحوث الكلامية التي تناولت قضايا الجبر والاختيار والارجاء والعلم الالهي ومرتكب الكبيرة وغيرها من المسائل لم تطرح في البدء كأجزاء من رباط علمي واحد يجمعها اصول معرفية ومناهج محددة، وانما طُرحت باستقلالية كآراء ينفصل بعضها عن البعض الآخر. وهو ذات ما نواجهه في الكلام الجديد.

وبعبارة اخرى ان من الممكن اجمال شروط التخصص العلمي ضمن هاتين النقطتين:

أ- تأطير القضايا المستهدفة للبحث ضمن اطار واحد يجمعها هدف محدد يتعلق بموضوع العلم بما هو في ذاته.

ب- أن تتضح المفاهيم الاجرائية والطرق المنهجية والاصول والقواعد المعرفية مهما بدا الاختلاف بينها.

ويلاحظ في الكلام الجديد انه ما زال يفتقر الى كل من هذين الشرطين وذلك كالتالي:

1ـ الملاحظ ان قضايا الكلام الجديد لم تندرج ضمن تشكيلة واحدة مؤطرة باطار خاص لتمييزها عن غيرها. فكتابات المفكرين متناثرة وذوات دواع مختلفة.

2ـ إن العلم لا يكون تخصصياً ما لم يحمل على الاقل وضوحاً منهجياً في التعامل مع القضايا، الامر الذي يفتقر اليه الكلام الجديد كما زاوله المثقف الديني. ففي جملة من الكتابات نجد المثقف يدافع عن قضايا النص، كما يلاحظ في عدد من الدراسات التي غرضها دفع شبهات الغربيين والمستشرقين حول حقوق المرأة والإنسان والحدود وما إلى ذلك. لكنه في كتابات أخرى نراه يلجأ للتوفيق مع مقتضيات العصر، بتوجيه المفاهيم والنصوص الاسلامية توجيهاً يناسب الواقع الجديد؛ كتعامله مع قضايا المساواة والحرية والمواطنة والديمقراطية وما اليها. فمع ان القضايا الاولى هي كالقضايا الثانية تعود كلها الى قائمة حقوق الانسان؛ الا ان التعامل معها هو تعامل مختلف عادة، ومع ذلك لم يتوضح لماذا نجد مثل هذا الاختلاف من التعامل؟ وبالتالي وعلى نحو أعم أين هو الوضوح المنهجي في التقنين لمصادر المعرفة، فمثلاً ما هي العلاقات التي تربط كلاً من النص والعقل والواقع ؟ فمن يتحكم بمن، ومن يخضع لمن؟

3ـ لا يوجد في الكلام الجديد تأسيس واع يتعلق بالقواعد والأصول المعرفية التي تنبني عليها سائر القضايا، إذا ما استثنينا تلك المحاولة الشامخة التي أطلّ بها علينا المفكر الصدر في مشروعه الخاص بالدليل الإستقرائي وعلاقته بتأسيس الخطاب الديني.

***

هكذا يمكن القول إن كل ما هو مطروح مما يشكل كلاماً جديداً ليس إلا قضايا متناثرة يغلب عليها الوسع الثقافي. لكن مع هذا فليس من الصعب تشخيص خصائص هذه الثقافة ومقارنتها بالكلام التقليدي، سواء من حيث ما تمارسه من وظائف، أو ما تهتم به من إشكاليات، ضمن إطار مبادئ التكليف المحددة لهوية الكلام بما هو موضوع في ذاته، وعليه فالمقارنة بين الكلامين هي مقارنة لا علاقة لها بهوية الكلام الذاتية، وإنما لها علاقة بالكلام المتحقق[16]، وذلك كالآتي:

1ـ إن الكلام التقليدي هو علم تخصصي لا اشكال فيه، بينما الكلام الجديد ما زال في طور الثقافة ولم يتحول بعد إلى التأسيس العلمي التخصصي كما عرفنا.

2ـ إن سبب نشأة الكلام التقليدي يعود الى امرين: احدهما كون النص لم يغط المسائل الاعتقادية بالكشف المفصل، والآخر هو التأثير السياسي. وكلاهما من العوامل الداخلية. اما سبب نشأة الكلام الجديد فيعود الى دوافع الدفاع والنهضة لما فرضته الحضارة الغربية من تطور وثقافة جديدة، مثلما يلاحظ لدى رواد الحركة الثقافية الاولى كما تجلت لدى الطهطاوي ومبارك والتونسي ومن ثم الافغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم.

3ـ إن اطار التفكير لدى الكلام التقليدي هو العقل في الغالب، وان الثقافة التي سادت لديه هي ثقافة عقلية تجريدية، اذ تم تأسيس قضايا الانتاج المعرفي طبقاً للعقل القبلي، وان اغلب الاشكاليات المطروحة كانت اشكاليات تجريدية. في حين ان اطار التفكير والثقافة والقضايا المطروحة لدى الكلام الجديد، وكذا عمليات التأسيس التي عولجت بها هذه القضايا انما تمت من خلال العقل البعدي، تارة بلحاظ الواقع وما أفرزه من اشكاليات، وأخرى بلحاظ النص. ومن ذلك البحث في قضايا المواطنة والشورى والديمقراطية والقومية والحاكمية والعلمانية والمرأة والمساواة والحرية والعدالة والعلم والتراث والنهضة وما اليها من مضامين اجتماعية تتأطر في الغالب ضمن ورقة (حق الانسان).

4ـ إنه لما كان الكلام التقليدي معولاً على قضايا تجريدية؛ فالملاحظ في نتائجه أنها كادت تكون ثابتة لصعوبة تمحيصها طبق موازين قابليتها على البطلان والتكذيب، وبالتالي فليس هناك ما يدعو إلى تغييرها وإيضاح الخلل فيها. لكن الحال مع الكلام الجديد يختلف تماماً. فأغلب قضاياه مستمدة من افرازات الواقع، وان الواقع متغير، وبالتالي كان من السهل ان يظهر التغير في هذه القضايا والنتائج المترتبة عليها، خصوصاً وانها مشبعة بآيديولوجيا الحاضر والحداثة. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك كيف اختفت دعوات كانت تملأ الواقع العربي في بعض فتراته الحديثة، ولم يعد لها اليوم من وجود، مثل تلك التي نادت بإشتراكية الإسلام، ومثلها الدعوة إلى الجامعة الإسلامية التي حل محلها الإقتناع بالخصوصية والوطنية. وقد كانت الديمقراطية موضع اجتذاب وتدافع منذ ان قبلها الطهطاوي وما زالت كذلك بين المد والجزر، وكذا أن تاريخ الواقع العربي الحديث يشهد بكونه مسرحاً لتداول الإشكاليات المعرفية على التناوب، يظهر بعضها ثم يختفي ليحل محله بعض آخر، وقد يعود أو لا يعود، وهكذا.. إذ بدأت مشكلة هذا الواقع بالتعليم والنهضة، ومن ثم الجامعة الإسلامية، وبعدها المرأة، ثم الخلافة، فالقومية، فالحاكمية، وبعد ذلك الخصوصية، فالديمقراطية، وهكذا.. وفي جميع الأحوال إنه لم تعد الأفكار التي أُتخذت خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي نفسها التي آل إليها المفكرون والمثقفون المسلمون فيما بعد، خصوصاً - وكما قلنا - أنها كانت مشبعة بروح الحاضر والحداثة ومتأثرة إلى حد كبير بتجددات الواقع الغربي.

5ـ لقد استقطب إهتمام الكلام التقليدي محور المكلِّف وطبيعة علاقته الميتافيزيقية بالمكلَّف، وذلك ضمن النسق الخاص بالحق الإلهي تبعاً للتضاد النظري بين الحق الذاتي وحق الملكية[17]. في حين استقطب إهتمام الكلام الجديد محور المكلَّف، ضمن البحث في حقوقه الطبيعية والإجتماعية. كما وآلت البحوث الحديثة إلى استهداف تنمية الروح الإيمانية للنفس المسلمة عوض الإكتفاء بالأدلة النظرية الموضوعة لإثبات العقيدة كما زاولها الكلام التقليدي الرسمي. كذلك أنها عملت على جعل العقيدة تنبسط على الواقع من خلال إلباسها معان إجتماعية غرضها تغيير الأمة وإصلاحها.

وعليه كان التفكير في الكلام التقليدي منصباً على الورقة الإلهية، على عكس الكلام الجديد الذي اشتغل على الورقة الإنسانية واهتم بها. وانه إذا كان المولد المعرفي للكلام العقلي القديم يتمثل بالحق المشروط أو غير المشروط بما يتضمنان من مداليل تجريدية متعالية غايتها البحث حول الذات الإلهية بالخصوص؛ فإن الحال مع المولد المعرفي للكلام الجديد لم يتبلور فعلاً، لكنه في جميع الأحوال ليس بمعزل عن القضية الجوهرية التي أرادها هذا العلم أن تكون محور إهتمامه، إلا وهي حقوق الإنسان.

6ـ لقد انشغل الكلام التقليدي بتقنين العلاقة التي تربط العقل بالنص، ومال غالباً إلى ترجيح الدلالة العقلية على دلالة الظهور النصي. أما في الكلام الجديد فلم يظهر أثر للإهتمام بالدلالة العقلية التجريدية، وإنما انصب الإهتمام على قضايا الواقع وإن لم يتبلور موقف واضح وصريح يبرر من خلاله نوع العلاقة التي تربط الواقع بالنص، إذا ما استثنينا بعض الإجمالات ممن صرح بترجيح الواقع على النص كحسن حنفي الذي آل إلى تسوية العلاقة بمنظار آيديولوجي مكشوف. لكن تظل عملية التقنين هذه هي موضع إهتمامنا ضمن إطار مشروعنا (النظام الواقعي وفهم الإسلام) [18].

مع هذا فقد مارس الكلام الجديد عملية التوفيق بين النص والواقع لحساب هذا الأخير، كما يظهر ذلك حول الحقوق المتعلقة بالحريات والمساواة والمواطنة التي أصبح التسليم بها أمراً مألوفاً لدى غالب المفكرين والمثقفين الدينيين. وهو أمر يبعث إما على توجيه النص وتأويله بما يتناسب ومضامين الواقع الحديث، أو أنه يبعث على إعادة فهم القضايا الإسلامية فهماً جديداً للتوفيق بينها وبين الواقع. أما الإتجاهات التقليدية للكلام القديم فقد كانت تنحو ناحية تأويل النص كلما وجدته يتعارض مع المضامين القبلية للعقل، رغم إختلافاتها الحادة حول هذه المضامين.

7ـ تبعاً لعلم الطريقة إن من الصعب تحديد المرتكزات المعرفية للكلام الجديد، لا سيما وانه ما زال يشكل ثقافة غير معلمنة بالعلم الاختصاصي، وهي تتفاوت وتختلف في الإتجاهات. فالمرتكزات المعرفية للكلام التقليدي واضحة تماماً، ففي الغالب إن المصدر المعرفي المعول عليه هو العقل أساساً، وإن الآلية المعرفية هي آلية قبلية تجريدية، أما المولد المعرفي فينقسم – غالباً - إلى اتجاهين أساسيين نطلق عليهما الحق الذاتي وحق الملكية. في حين نجد في الكلام الجديد تنافساً وتنازعاً حول المصدر المعرفي بين الواقع والنص، وتبدو الغلبة للواقع كما يشهد على ذلك تاريخ المثقفين، وأن الآلية المتبعة هي آلية بعدية لا قبلية، أما المولد المعرفي فمن الصعب تحديده، وإن كان الإهتمام الغالب بالحقوق الإنسانية يجعله ذا علاقة قوية بها، وأن العلم المذكور قد يتخذ نفس الأسس من المولدات والموجهات التي ذكرناها لبنية العقل المثقف، كما أوردناها في كتابنا (القطيعة بين المثقف والفقيه).

8ـ إنه على الرغم من الإختلاف بين المرتكزات المعرفية لدى كل من الكلام التقليدي والفقه؛ إلا أنه مع ذلك لم يتولد بينهما حالة من الصدام، لإختلاف القضايا المطروحة لدى كل منهما. فعلى الأقل ان موضوعات الكلام التقليدي تتصف بالتجريد بخلاف ما هو الحال في الفقه. بل على العكس كان للاتجاه الكلامي تأثير في المنحى الفقهي، وإن ظهر في قبال ذلك من المفارقات بين العلمين على ما اشرنا إليه في بحث مستقل[19]. أما حال الكلام الجديد فالمتوقع له غير ذلك بالتمام، إذ أصبح التعامل سواء لدى الكلام أو الفقه هو تعامل مرتبط بالواقع، ومنه حقوق الإنسان. فللفقه طريقة خاصة في التعامل مع القضايا بحسب ما يجده من البيان النصي، في حين يميل الكلام الجديد إلى تغليب العقل البعدي المستمد من الواقع، وهو أمر لا بد وان يفضي في النهاية إلى نوع من الصدام، طالما ان المرتكزات المعرفية لديهما مختلفة، وان هناك موضوعاً مشتركاً للبحث بينهما. ولا يقلل من هذه المسألة ما يتصف به البحث الفقهي من التعامل الجزئي على خلاف ما يتصف به البحث الكلامي من الاطار الكلي. كما لا يقلل منها ما تتصف به الحركة الفقهية اليوم من محاولات التوفيق غير المنظّر مع قضايا الحداثة الجديدة.

9ـ إن الكلام التقليدي مؤطر بالمذهبية ونزعتها الجدلية، في حين ليس للكلام الجديد مثل هذا الاطار لإعتبارين: أحدهما ان الكلام الجديد ما زال يعبّر عن ممارسات تتصف بالفردية، لا سيما وانه في مرحلة الثقافة دون ان تتبلور بعدُ الإتجاهات التي تحدد المنظومات المعرفية مثلما هو الحال مع الكلام التقليدي. والثاني هو ان القضايا المطروحة في الكلام الجديد تختلف عن تلك التي كان يطرحها سالفه.

إن الخطر التقليدي في الماضي هو خطر يهدد الإنتماء المذهبي من قبل المذاهب المنافسة الأخرى، وهو ما يبرر ظاهرة التشبث بالمذهب عبر الجدل الذي لا ينتهي، خصوصاً وان هذا الإنتماء قد فاق سائر الإنتماءات. أما مع الكلام الجديد فإنه لا يواجه مثل ذلك الخطر، بل ما يواجهه هو خطر الخصوم الخارجين عن الثقافة الإسلامية، وبالتحديد خطر الثقافة الغربية وهيمنتها. لذا فالتحدي في الكلام الجديد هو تحدي حضاري لا مذهبي. وبالتالي فالآيديولوجيا الجديدة هي آيديولوجيا حداثية تعبّر عن المطالب الإجتماعية وأحياناً السياسية. في حين إن آيديولوجيا الكلام التقليدي هي آيديولوجيا مذهبية تعمل على ارضاء سلطة السلف والإنتماء المذهبي، وأحياناً تكون مندفعة لأغراض سياسية.

مع هذا فالظاهرة التي نشهدها اليوم هي أن ثقافة الكلام الجديد لما كانت منتجة عادة داخل الأوساط المذهبية، فإنها لذلك ليست مقطوعة الصلة عنها. فما زالت آثار الكلام التقليدي الممذهب في أذهان الكثير من أولئك الذين يمارسون الثقافة الكلامية الجديدة. ويمكن القول إن هؤلاء تجديديون في قضايا الحداثة، لكنهم تقليديون في قضايا المذهب التي تنزع منزع التجريد. ويصل الأمر أحياناً إلى نوع من المفارقة. فقد تجد المثقف أو المفكر أشعري النزعة من حيث الرؤية، إذ يؤمن بمبدأ حق الملكية وأن الحسن والقبح شرعيان، لكنه مع ذلك يرى أن الواقع يفرض عليه الإعتراف بالحقوق الطبيعية للإنسان؛ كالحرية والمساواة والخصوصية وغيرها من الحقوق التي ينتزعها من إلهام الواقع وليس من النص الديني. ولا شك أن مثل هذه المفارقة التي تجمع كلاً من الكلامين القديم والجديد وتضعهما معاً صفاً بصف تحتاج إلى من يطل عليها بضوء من الدراسة والتحليل.

وعموماً نرى أن المثقف السني يواجه تحدياً في تطلعه إلى الواقع من جهتين: عقدية ونصية. فهو يواجه مشكلة مع العقيدة الأشعرية عند تعامله مع الواقع المتعلق بالحقوق الإنسانية، إذ تفرض عليه هذه العقيدة – التي ينتمي إليها – أن تكون الحقوق متأسسة بالشرع؛ لا بالنظر الواقعي ولا العقلي، كالذي سبقت الإشارة إليه. كما أنه يواجه مشكلة ثانية مع النص، لا سيما ‹‹الحديث الصحيح›› وذلك عند حاظ تصادمه مع الواقع أحياناً - كالذي جرى مع المرحوم أحمد أمين - وبدرجة أقل مع بعض النصوص القرآنية.

أما المثقف الشيعي فحاله مختلف، فهو لا يواجه تحدياً على الصعيد العقدي، فانتماؤه إلى العقيدة الإمامية لا يؤثر شيئاً في تعامله مع الواقع. إذ يبقى الإعتقاد بالإمامة هو كالإعتقاد بالنبوة، سواء بسواء، وهي من الأمور المتعالية نسبياً. كما أنه لا يواجه – في الغالب – تحدياً على الصعيد النصي كالذي يواجهه المثقف السني بحدّة، وذلك لغياب ما يُعرف بكتب الصحاح من الحديث لدى الشيعة. لكنه مع هذا يواجه تحدياً من نوع آخر هو المشكلة المتعلقة بالمرجعية الفقهية الحيّة التي تطالبه بالإتّباع والتقليد، وإلا فسيتعرض إلى التضليل وربما التكفير، وشاهد المرحوم علي شريعتي ليس ببعيد عنّا!

 

اقتراحات

هناك عدد من الاقتراحات نطرحها على المثقف الديني المهتم بالكلام الجديد، حسب النقاط التالية:

1ـ ينبغي تحويل ثقافة الكلام الجديد إلى علم تخصصي، وذلك بجمع شتات القضايا المطروحة واظهار المناهج المتبعة في توليدها، ومحاولة وضع المفاهيم الإجرائية المناسبة، وعرض النظريات وإبراز أدلتها المعتمدة والأصول المعرفية التي تتخذها مع التحقيق فيها.

فمثلاً يمكن الاتكاء على قاعدة حسابات الإحتمال والإستقراء كمفهوم إجرائي للتحقيق؛ ليس فقط في القضايا المتعلقة بالتأسيس الخارجي للخطاب الديني مثلما وظفه المفكر الصدر، وإنما ايضاً ما يخص التأسيس الداخلي له، أيّ التحقيق في القضايا التي يطرحها النص من اجل الكشف عن مضامينه. فمبدأ الإستقراء وإن تم توظيفه بجدارة في الفقه وأصوله كما صنع الشاطبي في (الموافقات) إلا أنه لم يوظف في علم الكلام المتعلق بالنص. والشاطبي ذاته الذي يوظف المبدأ في الأول يتجاهله تماماً في الثاني. مع ما له من ثمار ونتائج مهمة تميل إلى المنطقية[20].

2ـ لا بد من التحرر معرفياً من النزعة المذهبية بالمعنى الدال على الانتماء الاجتماعي. فهي نزعة بقدر ما تحقق الغرض الايديولوجي؛ بقدر ما تنافي العلم الموضوعي ونزعته الابستيمية. فاذا ما اريد للكلام الجديد ان يتقدم خطوة باتجاه العلم الحقيقي المثمر فلا بد من ان ينزع عن جلده كل ما يعلق به من براثن مذهبية؛ كتلك التي حمّلته لوناً من الازدواجية، او ان يقطع صلته بظاهرة الاندماج والتماهي التي عمل الكلام التقليدي على تكريسها عندما وحد بين العلم والانتماء المذهبي وجعل من العلم مطية هذا الانتماء.

بل لا بد للكلام الجديد من ان يتخذ مسلكاً جديداً يكون فيه نواة للتحقيق الابستيمي؛ بقطع الصلة عن جميع الصيغ الايديولوجية التي تقف ضد ذلك الغرض النبيل، سواء كانت مذهبية او سياسية او أي ايديولوجية مصلحية غير تلك التي تهدف الى التحقيق في القضية الكلامية ضمن دائرة الاتفاق الاسلامي، وهي الدائرة التي تنطلق من الايمان بمبادئ التكليف الاربعة، والتي يُفترض ان تكون التفاصيل التي تتضمنها محوراً لعمليات الاجتهاد والفهم طبقاً للمنطق العلمي الآنف الذكر.

ويستحسن التنبيه الى ان العمليات الاجتهادية المشار اليها وإن كان من الممكن ان تتحول بالنتيجة الى مدارس ومذاهب اسلامية جديدة؛ الا ان ذلك لا ينافي صحيتها اذا ما كان الاتجاه المذهبي المشار اليه يعبر عن الانتماء العلمي او المعرفي دون الانتماء الاجتماعي، أي بالمعنى الذي يطلق عليه الرأي العام العلمي. ففي السابق كان الكلام التقليدي يرى في (الرأي العام) رأياً مذهبياً طبقاً للانتماء الاجتماعي. ولكي يتجنب الكلام الجديد هذه العقبة التي تصد عن المعرفة الحقة ويجعل من ذاته مختلفاً جذرياً عن الكلام التقليدي فانه لا بد من ان لا يقر ذلك المنحى بمختلف مسمياته كالإجماع وما إليه، وأن لا يحول الرأي العام مما هو علمي الى اطار اجتماعي. لكن ليس هناك من سبيل لتجنب الوقوع في ورطة الانتماء الاجتماعي غير اعتبار الاراء العلمية آراءاً اجتهادية خاضعة للفحص والمراجعة والتحقيق باستمرار دون ان يُعطى لها قيماً مطلقة ومقدسة.

 

3ـ ينبغي ان يكون شاغل المثقفين الدينيين في قضايا الغيب والميتافيزيقا منصباً على الكليات المجملة، وان يكون اهتمامهم في قضايا الشهود والواقع قائماً على التفصيل، نظراً لامكانات العقل المحدودة بالنسبة للقضايا الاولى، ودفعاً للجدل الذي يصعب حسمه مثلما حلّ في الكلام التقليدي.

كما ينبغي ان يتقيد المثقف في فهمه للحدود اللغوية للنص طبقاً لنفس القاعدة من الفهم المجمل، طمعاً في الوصول الى القطع ودفعاً لكثرة الاحتمالات الداعية الى كثرة الخلاف من غير حسم او ترجيح مثلما هو حاصل في الفقه. وتعويضاً لهذا التضييق يمكن للمثقف ان يتعمق في فهم الواقع (الكتاب التكويني) لتسديد الفقر الحاصل من الفهم المتعلق بـ (الكتاب التدويني)، اذ سيجد في ذلك فرصة للمراجعة والاختبار، ومن ثم الترجيح وربما الحسم، مهما طال الزمن. وهو أمر قدّمنا له تنظيراً في كتابنا (فهم الدين والواقع)[21].

وعلى العموم نقترح على المثقف الديني تعميق الاهتمام بالموارد التالية:

أ- تكثيف الجهود في التركيز على نظرية الاستخلاف وتوظيفها بشأن تحديد المواقف اللازمة من الاشكاليات الحديثة، لا سيما تلك التي لها علاقة بحقوق الانسان وكذا التوفيق بين النص والواقع.

ب- البحث في مصادر المعرفة الاسلامية (النص والعقل والواقع)، بتحليل مفاهيمها واشكالياتها وعلاقاتها.

ت- الانشغال باشكالية العلم والدين عبر الاستفادة من بحوث فلسفة العلم والبحث في بعض اشكالياته لتوظيفها في الكلام الجديد، فكما يقول اينشتاين: «ان العلم (science)  بدون دين اعرج، وان الدين بلا علم اعمى»[22]. فعلى الاقل هناك قضية هامة يمكن ان تدفع بالكلام الى ان يكون علماً يؤمل له الحضور على الصعيد العالمي. ويمكن عنونة هذه القضية بـ (العلم والمسألة الالهية)، والتي ينبغي ان تكون على عاتق المثقف الديني..

 

المثقف وعلاقة العلم بالمسألة الإلهية

يعلم الذين يقيمون في الغرب أبعاد علاقة العلم بالمسألة الإلهية واهميتها، حيث تنتشر حالات الإلحاد واللاأدرية، بشكل يبدو فيها الإعتزاز أحياناً للزعم بأنها تتسق مع شعار التقدم؛ خلافاً لمظاهر الإيمان التي تعد في نظر الكثيرين بأنها لا تتفق وطبيعة العلم، أو على الأقل ان العلم لا يجد وسيلة ليؤكد مصداقية مثل هذه المظاهر.

ويبدو لي ان جزءاً مهماً من المسؤولية عن انتشار ذلك الفهم وتلك الحالات يعود إلى النهج الذي كرسته (فلسفة العلم)، لا سيما التأثير الذي مارسته الوضعية المنطقية التي لم تجد للمسألة الإلهية مطرحاً للنقاش حولها؛ لا بالعلم ولا بغيره.

لا يعنينا هنا ما يواجهه العلم اليوم من مشاكل جسيمة جرّاء انحلاله عن الالتزام بالقيم الأخلاقية والروحية التي تجد فيضها نابعاً من الإيمان بالله. بل ما يعنينا هو التنبيه على امكانية طرح المسألة الإلهية والبحث فيها من خلال توظيف بعض قضايا العلم وإشكاليات فلسفته، وذلك على نحوين كالتالي:

 

الإشكالية العلمية ومسألة الإيمان بالله

لا شك أن التعرف على طرق البحث العلمي ومنطق التحقيق وانشاء النظريات، وكذا الموقف من قضايا فلسفية كمبدأ السببية، يمكنه أن يسهل معالجة المسألة الإلهية، فهي ليست مقطوعة الصلة عن المنهج المتبع في العلم كالذي حاول تأسيسه المفكر الصدر في كتابه (الأسس المنطقية للإستقراء) وكالذي لجأت إليه بعض المحاولات الغربية[23].

مع ما يلاحظ أن المسألة الإلهية هي ليست على التماثل تماماً مع القضية العلمية. ولا أقصد بذلك الفارق الخاص بقابلية الإدراك المباشر، إذ نجد الكثير من القضايا التي يقدّر وجودها العلم هي مما لا تقبل مثل هذا الإدراك، بل تستنتج بحسب ما يبدو من الآثار الظاهرة، وهي بهذا تماثل المسألة الإلهية. فالذي أقصده فعلاً هو الفارق الخاص بالتفسير بين أن يكون مغلقاً ومحصوراً، أو مفتوحاً وغير محصور. فالنظام المتبع في التفسير العلمي هو نظام مفتوح، ففيه يتم افتراض نظرية ما وسط عدد غير محدد من النظريات الممكنة أو المحتملة، فإذا ما رُفضت إحداها يمكن أن تتقدم أخرى غيرها، وهكذا بإنفتاح غير قابل للحصر. أما نظام التفسير في المسألة الإلهية فهو من حيث الأساس نظام ثنائي مغلق، أيّ أنه قابل للحصر العقلي المجمل. لكنه مع هذا يمكن أن يخضع إلى ذات المنطق الذي يقوم عليه هذا العلم، وهو منطق الحساب الإحتمالي وكفاءة التفسير. حيث تنطلق الإشكالية فيه من البحث في طبيعة الأساس الذي تقوم عليه ظواهر الكون؛ إن كان يمكن تفسيرها طبقاً لمنطق المصادفة العشوائية أو تبعاً لمبدأ القصد والتصميم. ويلاحظ أننا هنا امام حصر عقلي ثنائي مثمر يختلف عما يطرح على الصعيد العلمي. ويماثل ما نحن بصدده ما يلاحظ – مثلاً - في ظاهرة الكتابة. فالحروف المصفوفة بين الجلدين لكتاب لا نعلم مصدره هي ما يتشكل عليها البحث أولاً، من حيث التساؤل إن كان من الممكن تفسير الحالة المفترضة طبقاً لمنطق المصادفة العشوائية، أو تبعاً لمبدأ القصد والتصميم؟ ولو أننا توصلنا إلى قبول الفرض الثاني وترجيحه على الأول؛ فإن من الممكن - بعد ذلك - البحث عن الإحتمالات الواردة حول طبيعة شخصية ذلك المصمم من خلال الأثر الذي أوجده. فهذا هو ما يماثل ما نحن بصدده في المسألة الإلهية.

وهناك إختلاف في القيمة المعرفية التي تترتب على الفارق الذي حددناه حول القضية العلمية والمسألة الإلهية. فالنظام العلمي المفتوح لا يبعث على القطع في القضايا غير المدركة مباشرة، وهو خلاف النظام المغلق لوجود الحصر.

ومن الناحية العلمية أخذت بعض الأفكار الدالة على القصد والتصميم مجراها في المناقشة والتداول وسط علم الفيزياء الكونية، ومن ذلك ما يُعرف بالمبدأ البشري (Anthropic Principle‏)، وهي أن هناك مخططاً كونياً سابقاً إستهدف إيجاد الإنسان أو الكائن الواعي الذكي، وبالتالي الإعتراف ضمناً بتدخل القوة الغيبية لصالح هذا المبدأ. وهو أمر سنوليه بعض العناية خارج هذه الدراسة.

الإشكالية العلمية وحكمة الخلق

للبحث عن القصد والحكمة في مظاهر الخلق أهمية عظيمة، لا سيما تلك المتعلقة بالشرور ومن بينها الصراع العام بين الكائنات. إذ يلاحظ أن هذه القضية هي الفجوة التي يتسلل منها رجال الإلحاد واللاأدرية، حتى وُصفت بأنها صخرة الإلحاد، حيث يحسبون الإيمان بالله ليس فيه فائدة، إذ إنه على فرض وجوده إما أن يكون غير قادر على إزالة الشر من العالم، أو إنه إله بلا رحمة وشفقة. وهي شبهة تطرح على الدوام في البحوث المناطة بفلسفة الدين، وبدأت حديثاً منذ منتصف الخمسينات على يد الباحث الاسترالي جون ماكي، وقد خصصنا لها دراسة مستقلة.

مع ذلك يلاحظ أن إشكالية القصد والحكمة غير مفصولة عن الإشكالية العلمية ونتاجها؛ لذا كان لا بد من طرحها عبر هذا المدخل. بل وحري أن يتقدم ذلك إيجاد علم متخصص يغاير النهج العلمي الممارس في الغرب حالياً، وهو ان يهتم بلحاظ النتائج المكتشفة للعلوم القائمة ويبحث عن تفسيرها تحت طاولة مبدأ القصد والحكمة؛ كأن يعمل في البدء بتتبع واستقصاء حالات الحكمة وأنواعها ومظاهرها، وكذا لا بد من أن يحدد الحالات التي ما زال الإنسان عاجزاً عن ان يتوصل إلى إدراك مغزاها وحكمتها، لا سيما ما يتعلق بالدراسات البايولوجية وعلاقات الصراع الخاصة في الكائنات الحية. مع لحاظ ضرورة ان يتضمن هذا العلم مقدمة كلامية تخص البحث عن مسلّمة ذلك المبدأ وإعتباره؛ كمبدأ السببية. فمثلما ان عدم إدراك سببية حادثة ما لا يدعو إلى التشكيك بالمبدأ العام للسببية أو التنازل عنه، وإنما يبعث على البحث والتنقيب، وهو المسلك الذي ما زال العلم يستظل به رغم محاولات التشكيك المنبعثة من بعض الفلاسفة الغربيين، فكذا هو الحال مع المبدأ الآنف الذكر، فعدم إدراك القصد في ظاهرة معينة لا يعني بالضرورة التشكيك في المبدأ أو التنازل عنه؛ بقدر ما يعني ضرورة البحث والتنقيب عنه، إنطلاقاً من الإقرار بكون النظام الدقيق الدال على وجود الخالق العظيم لا يسمح وجداناً للفرض القائل بوجود ثغرة في خلقه تتسق مع العبثية أو غياب القصد والحكمة. وهو أمر يبعث على الفوائد العلمية، فالإعتقاد بهذا المبدأ يشجّع على البحث، وبدونه يكون الأخير عبثاً بلا جدوى ضمن هذه الزاوية. فمثلاً نتوقع أن يكون لوجود الكواكب الشمسية بهذه التشكيلة فائدة كبيرة على الأرض والحياة. فهذا الإفتراض يبعث على البحث في العلاقات الدائرة بين هذه الكواكب، وبدونه لا جدوى من البحث إذا ما اعتقدنا سلفاً بأن هذا التجمع في نظامنا الشمسي خاضع للصدفة بلا فائدة تذكر.

ورغم تشكيك الكثير من العلماء وفلاسفة العلم في صدق مبدأ السببية وامكانية انطباقه على العالم الذري الإلكتروني؛ فقد ظهر ميل إلى قبوله كمبدأ ميتافيزيقي لا غنى عنه في تأسيس البحث العلمي، مثلما هو إتجاه كارل بوبر في كتابه (منطق الكشف العلمي)[24]. فكذا يمكن القول حول مبدأ القصد والحكمة وما يستلزمه من اعتراف بوجود الصانع الحكيم، حيث يفترض أن يُتخذ كمبدأ ميتافيزيقي للعلم؛ تصبح به كلمة (بسم الله) ليست مجرد كلمة تقال في الشعائر الدينية، بل الأهم من ذلك إنها تصبح حقيقة يتأسس عليها التصور العلمي؛ سواء من حيث تكوينه الذاتي، أو من حيث إعادة بنائه بالشكل الذي لا ينفصل فيه عن منظومة القيم التي قطع الصلة عنها، وإن اثبتت الأيام حاجته الماسة إليها.

هكذا مثلما ان الحاجة تدعو إلى تأسيس علم يخص مبدأ القصد وحكمة الخلق؛ فكذا ان الفلسفة التي تؤطر هذا العلم هي الوظيفة التي ينبغي أن تكون على عاتق علم الكلام الجديد كما يؤمل للمثقف الديني مزاولتها. وما أجلّها من وظيفة!

 


[1] المنقذ من الضلال، ص92.

[2] تاريخ إبن خلدون، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني ببيروت، الطبعة الثالثة، 1967م، ج1، ص821.

[3] انظر بهذا الصدد كتابنا: مدخل الى فهم الاسلام.

[4] المستصفى من علم الأصول، ج1، ص5ـ7.

[5] الهمداني: شرح الأصول الخمسة، ص510. وتمهيد الأصول في علم الكلام، ص161. ومقداد السيوري الحلي: إرشاد الطالبيين، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، 1405هـ، ص273ـ274.

[6] انظر الفصل الاخير من كتابنا: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر.

[7] انظر: مدخل الى فهم الاسلام.

[8] المصدر السابق.

[9] انظر كتابنا: العقل والبيان والاشكاليات الدينية.

[10] ابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية ببيروت، ص540ـ541.

[11] انظر حول ذلك:Madden, E. H. , Introduction; Philosphy Problems of Phisics, in: The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968, p. 57-58. And:  Hempel, Geometry and Empirical science, in: The Structure of Scientific Thought, p. 79-80.

[12] محمد باقر الصدر: موجز في اصول الدين، تحقيق عبد الجبار الرفاعي، ص127 وما بعدها.

[13] بحوث في علم الاصول، ج4، ص126. كذلك مقدمة الفتاوى الواضحة.

[14] وردت اشارة مجملة لابن القيم الجوزية يقول فيها: ‹‹تأمل حال العالم كله، علويه وسفليه بجميع أجزائه، تجده شاهداً بإثبات صانعه وفاطره ومليكه، فانكار صانعه وجاحده في العقول والفطر بمنزلة انكار العلم وجحده، لا فرق بينهما.. ومعلوم ان وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار، ومن لم يرَ ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما›› (أعلام الموقعين، مقدمة طه عبد الرؤوف سعد، ج1 ، ص ز).

[15] محمد اقبال: تجديد التفكير الديني في الاسلام، ص178.

[16] انظر حول ذلك: مدخل إلى فهم الاسلام. كذلك دراستنا: علم الكلام والكلام الجديد/الهوية والوظيفة، قضايا إسلامية معاصرة، عدد 14، 1422هـ ـ2001م، ص171ـ202.

[17] للتفصيل انظر كتابنا: العقل والبيان والإشكاليات الدينية.

[18] للتفصيل انظر كتابي: جدلية الخطاب والواقع وفهم الدين والواقع.

[19] انظر التمهيد في كتابنا: فهم الدين والواقع. وكتاب العقل والبيان والإشكاليات الدينية، الفصل السابع.

[20] انظر: مدخل إلى فهم الاسلام.

[21] انظر على وجه الخصوص الفصل الاخير من الكتاب وهو بعنوان: (منهج الفهم المجمل والمقاصد).

[22] انظر:Frank, Philipp, einstein, mach, and logical positivium, The structure of scientific thought, printed in Great Britian in 1968, p.93.

[23] انظر مثلاً الفصلين الثاني والثالث من كتاب:Richard Swinburne, Is There a God? OxfordUniversity Press, 1996.

[24] انظر:Popper, K. The Logic of Scientific Discovery, United Kingdom, Anchor Press, First Impression 1959, Seventh Impression, 1974, p.248.

comments powered by Disqus