-
ع
+

التنظير الإخباري والبيان السلفي

يحيى محمد 

لقد ظهر التنظير البياني على يد الاسترابادي كردّ فعل على الممارسات العقلية التي بدأت منذ القرن الرابع الهجري، واستمرت تتراكم طيلة قرون حتى مجيء القرن الحادي عشر الهجري. فعندئذ نهض الاسترابادي ليعيد للبيان هيبته، لا بنقد النزعة العقلية التي يمارسها الأصوليون ومحاولة ابطالها معرفياً ومعيارياً فحسب، بل كذلك من خلال إرجاع طريقته إلى عصر النص وظله، إبان عهد الأئمة ومن ثم أيام الغيبة كما في عصر الكليني (المتوفى سنة 329هـ) والشيخ الصدوق (المتوفى سنة 381هـ). ومن وجهة نظره فإن هذه الطريقة بدأت تتزعزع منذ أواخر القرن الرابع الهجري، حيث دبّ الإنحراف عندما بُذرت أواصر الإعتماد على العقل في العقيدة وإستنباط الأحكام ووضع علم الأصول للبحث الفقهي، تأثراً بنهج المذاهب الفقهية لدى الإتجاه السني[1].

فقد ادعى هذا المحدث أن لقدماء الإمامية مذهباً صريحاً في التسليم بالأخبار وعدم التعويل على العقل والإجتهاد، وصوّرهم بأنهم اعتمدوا على ما هو مقطوع الصحة والرواية المستفاضة عن العترة من دون التورط بأي إحتمال معارض لذلك القطع، فكل ما رووه فهو مقطوع بصحته وصدوره عن العترة. بل واعتبر أن كل ما تحتاج إليه الأمة توجد عليه دلالة قطعية من قبل الله تعالى إلى يوم القيامة[2]، إستناداً لفهمه لبعض الأخبار الخاصة بذلك. وأراد بهذا ردّ الحركة الإخبارية إلى عصر الأئمة حتى مجيء الأقدمين إبن الجنيد وإبن أبي عقيل، الذين نسج على منوالهما جماعة كالمفيد وإبن ادريس والعلامة الحلي، وهم الذين عرضهم إلى الطعن فاعتبرهم ناقضوا ضرورات المذهب بإبتداع الطريقة الإجتهادية المستندة إلى التفكير العقلي[3]. ووظّف كلمات لبعض العلماء ليشهد على قدم الطريقة التي اتخذها مسلكاً لفهم الإسلام، ومن ذلك أنه نقل ما جاء في آخر (شرح المواقف) من كلمات كالتالي:

«كانت الإمامية أولاً على مذهب أئمتهم حتى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعّب متأخروهم إلى المعتزلة والى الإخبارية»[4].

ومثل ذلك ما ذكره الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل)، إذ قال في فصل الإمامية: «كانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لما اختلفت الروايات عن أئمتهم وتمادى الزمان، اختارت كل فرقة منهم طريقة، فصارت الإمامية، بعضها معتزلة، إما وعيدية وإما تفضيلية، وبعضها إخبارية، إما مشبهة وإما سلفية»[5].

وكذا ما ذكره العلامة الحلي بالقول: «..أما الإمامية فالإخباريون منهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد المروية عن الأئمة (ع)، والأصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي وغيره، وافقوا على خبر الواحد ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه»[6].

لكن الإعتقاد السائد لدى غالبية المتأخرين هو أن هذا الإختلاف لم يُمنهج عقائدياً في تلك الفترة، بل كل ما يفيده هو إختلاف الذوق وسعة الذهن، إذ امتاز الأصوليون بقدر كبير من العلمية والعمق وسعة التفريع والإستنباط، بعكس ما عليه المحدثون القدماء، كما نصّ عليه المحقق محمد تقي (المتوفى سنة 1248 هـ) في تعليقه على كتاب (معالم الدين)، فذكر يقول: «فإن قلت: أن علماء الشيعة كانوا من قديم الزمان على صنفين، إخباري وأصولي، كما أشار إليه العلامة في النهاية وغيره. قلت: أنه وإن كان المتقدمون من علمائنا على صنفين، وكان فيهم إخبارية إلا أنه لم تكن طريقتهم ما زعمه هؤلاء، بل لم يكن الإختلاف بينهم وبين الأصولية إلا في سعة الباع في التفريعات الفقهية وقوة النظر إلى القواعد الكلية والاقتدار على تفريع الفروع عليها، فقد كانت طائفة منهم أرباب النصوص ورواة الأخبار ولم تكن طريقتهم التعدي عن مضامين الروايات وموارد النصوص، بل كانوا يفتون غالباً على طبق ما يرون ويحكمون على وفق متون الأخبار، ولم يكن كثير منهم من أهل النظر والتعمق في المسائل العلمية... وهؤلاء لا يتعرضون غالباً للفروع غير المنصوصة، وهم المعروفون بالإخبارية. وطائفة منهم أرباب النظر والبحث عن المسائل وأصحاب التحقيق في استعلام الأحكام من الدلائل، ولهم الاقتدار على تأصيل الأصول والقواعد الكلية عن الأدلة القائمة عليها في الشريعة والتسلط على تفريع الفروع عليها واستخراج أحكامها منها، وهم الأصوليون منهم، كالعماني والاسكافي وشيخنا المفيد وسيدنا المرتضى والشيخ – الطوسي - وغيرهم ممن يحذو حذوهم. وأنت إذا تأملت لا تجد فرقاً بين الطريقتين إلا من جهة كون هؤلاء أرباب التحقيق في المطالب وأصحاب النظر الدقيق في إستنباط المقاصد وتفريع الفروع على القواعد، ولهذا اتسعت دائرتهم في البحث والنظر وأكثروا من بيان الفروع والمسائل وتعدّوا عن متون الأخبار... وأولئك المحدثون ليسوا غالباً بتلك القوة من الملكة، وذلك التمكن من الفن، فلذا اقتصروا على ظواهر الروايات ولم يتعدوا غالباً عن ظواهر مضامينها ولم يوسعوا الدائرة في التفريعات على القواعد، وأنهم لما كانوا في أوائل انتشار الفقه وظهور المذهب كان من شأنهم تنقيح أصول الأحكام التي عمدتها الأخبار المأثورة عن العترة الطاهرة، فلم يتمكنوا من مزيد إمعان النظر في مضامينها وتكثير الفروع المتفرعة عليها، ثم أن ذلك إنما حصل بتلاحق الأفكار في الأزمنة المتأخرة»[7].

والواقع أن إرجاع طريقة الاسترابادي إلى فترة النص وما بعدها بقليل لا يعدّ إرجاعاً إلى ذات الطريقة من التنظير والتقنين. لكن هناك امتعاضاً من صور الإجتهاد كما يظهر مما نقله النجاشي في رجاله عما كتبه بعض القدماء بهذا الشأن، والتي منها ما صنفه عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري لكتاب أسمه (الاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الإجتهاد والقياس)، وما صنفه هلال بن ابراهيم بن أبي الفتح المدني لكتاب سمّاه (الرد على من ردّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول)، وكذلك ما صنفه اسماعيل بن علي بن اسحاق بن أبي سهل النوبختي لكتاب ردّ فيه على عيسى بن أبان في الإجتهاد، بل ظهر هذا الأثر عما ذكره الشيخ الصدوق وهو يعقب على قصة موسى والخضر فقال: «إن موسى - مع كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى - لم يدرك بإستنباطه وإستدلاله معنى أفعال الخضر حتى إشتبه عليه وجه الأمر به، فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس والإستدلال والإستخراج كان من دونهم من الأُمم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك.. فإذا لم يصلح موسى للإختيار - مع فضله ومحله - فكيف تصلح الأمة لإختيار الإمام، وكيف يصلحون لإستنباط الأحكام الشرعية وإستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة»[8].

ويحتمل أن يكون مراد القدماء من نقد الإجتهاد والرأي متفاوتاً في المعنى. فبعضهم قصد به جميع صور الإجتهاد كما يدعيه الإخباريون والذي يظهر واضحاً لدى نص الشيخ الصدوق الآنف الذكر. وبعض آخر قصره على القسم الذي يمارسه أهل السنة من مبادئ، كالقياس والإستحسان، كما يزعمه الأصوليون. ويؤيده هو أن لفظة الإجتهاد والرأي ظهرت منبوذة محرمة التوظيف حتى لدى الذين عرفوا بممارستهم الإجتهادية بحسب المعنى الحديث لهذه اللفظة، كما يظهر لدى كل من الشيخين المفيد والطوسي، والسيدين المرتضى وإبن ادريس. مع ذلك اننا لو استثنينا الشيخ الطوسي، فإن علة رفض الإجتهاد، كالذي مال إليه المرتضى وتابعه إبن ادريس - وربما المفيد على الأرجح - هي لأنه يفضي إلى الظن، وهم لا يعولون على الظن في الشريعة، مما يجعل طريقتهم قريبة من الإخبارية، بإعتبار أن هذه الفرقة بزعامة الاسترابادي تذهب إلى أن البيان يفضي إلى القطع دون حاجة للإجتهاد. لكن تظل طريقة من ذكرناهم من القدماء بعيدة عن الإخبارية لأنهم يعولون على أصل العقل في ما لا نص فيه.

وعلى العموم تتصف فترة ما قبل الشيخ المفيد، وحتى ما بعدها، بالتلقائية البيانية من وجود الامتعاض العام والاستيحاش لكل ما هو خارج عن حدود البيان من الرواية والخبر، يصل أحياناً إلى درجة الوقف في «اللفظ»، فلم تتقبل ذهنية السلف تبديل اللفظ البياني إلى لفظ آخر[9]، لضيق الأفق والاستيحاش، وللتمسك بـ «حق الله» النابع من النقل والبيان، كما يتضح مما يقوله المفيد والمرتضى اللذان يؤاخذان السلف المحدثين على ضعف الإدراك وقلة الفطنة والتقليد والتسليم والتفويض خلافاً لما عليه المتكلمون[10]. لهذا فقد تعرّض هؤلاء السلف إلى النقد اللاذع من قبل هذين العَلَمين[11]. وكل ذلك يدل على النزعة البيانية التلقائية بلا تنظير كما حصل مؤخراً على يد الاسترابادي وأتباعه.

 

 



[1]  رسالة الإجتهاد والأخبار، ص42. والمعالم الجديدة للأصول، ص80.

[2]  الفوائد المدنية، ص47 و49.

[3] الدرر النجفية، ص87. والأصول الأصيلة، حاشية ص116.

[4] الفوائد المدنية، ص43.

[5] الفوائد المدنية، ص43ـ44. والملل والنحل، ص70.

[6]  الفوائد المدنية، ص44.

[7]  المعالم الجديدة للأصول، ص81ـ82.

[8]  الصدوق: علل الشرائع، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج1، ص63. كذلك: الجزائري: النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص334 والمعالم الجديدة للأصول، ص24ـ25.

[9]  أبو جعفر الطوسي: الاستبصار، دار الكتب الإسلامية بطهران، الطبعة الثالثة، 1390هـ، ج1، المقدمة، ص2.

[10]  شبيه بهذا ما وصفه الغزالي لبعض رجال السلف من عدم إمعانهم بالنظر العقلي مما جعلهم يتمسكون بالرواية والخبر، كالحال مع الإمام إبن حنبل (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص184ـ185).

[11] بصدد نقد أصحاب الحديث يمكن الرجوع إلى بعض أقوال المفيد، كما في كتابه شرح عقائد الصدوق، باب (النفوس والأرواح). كما يمكن ملاحظة نصوص الشريف المرتضى ضمن مجموعة رسائله وهو يعرّض هؤلاء إلى ألوان من النقد اللاذع، منها ما يتعلق بموضوعنا في إعتبارهم جهلة ضعفاء الإدراك، إذ يصفهم بقوله: «فأما أصحاب الحديث فإنهم رووا ما سمعوا وحدثوا به ونقلوا عن اسلافهم، وليس عليهم أن يكونوا حجة ودليلاً في الأحكام الشرعية، أو لا يكون كذلك. فإن كان أصحاب الحديث من يحتج في حكم شرعي بحديث غير مقطوع على صحته، فقد زلّ وزوّر، وما يفعل ذلك من يعرف أصول أصحابنا في نفي القياس والعمل بأخبار الآحاد حق معرفتها، بل لا يقع مثل ذلك من عاقل وربما كان غير مكلف. إلا ترى أن هؤلاء بأعيانهم قد يحتجون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والامامة بأخبار الآحاد، ومعلوم عند كل عاقل أنها ليست بحجة في ذلك. وربما ذهب بعضهم إلى الجبر والى التشبيه، اغتراراً بأخبار الآحاد المروية، ومن أشرنا إليه بهذه الغفلة يحتج بالخبر الذي رواه ولا حدث به ولا سمعه من ناقله فيعرفه بعدالة أو غيرها، حتى لو قيل له في بعض الأحكام: من أين أثْبتّه وذهبتَ اليه؟ كان جوابه: لأني وجدته في الكتاب الفلاني، ومنسوباً إلى رواية فلان بن فلان. ومعلوم عند كل من نفى العلم بأخبار الآحاد ومن أثبتها وعمل بها، أن هذا ليس بشيء يعتمد ولا طريق يقصد، وإنما هو غرور وزور».

وقوله أيضاً: «فإن قيل: ليس كل من لم يكن عالي الطبقة في النظر، يكون جاهلاً بالله تعالى، أو غير عارف به، لأن فيه أصحاب الجملة من يعرف الله تعالى بطرق مختصرة توجب العلم، وإن لم يكن يقوى على درء الشبهات كلها. قلنا: ما نعرف من أصحاب حديثنا ورواياتنا من هذه صفته، وكل من نشير إليه منهم إذا سألته عن سبب إعتقاده التوحيد والعدل أو النبوة أو الامامة، أحالك على الروايات وتلى عليك الأحاديث. فلو عرف هذه المعارف بجهة صحيحة لا أحال في إعتقاده إذا سأل عن جهة علمها، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك، والمدافعة للعيان قبيحة بذوي الدين».

كذلك قوله بصدد نقده لأصحاب العدد ـ في رؤية شهر رمضان ـ من المحدثين: «والذين خالفوا من أصحابنا في هذه المسألة عدد يسير ممن ليس قوله بحجة في الأصول ولا في الفروع، وليس ممن كلف النظر في هذه المسألة، ولا ما في أجلى منها، لقصور فهمه ونقصان فطنه. وما لأصحاب الحديث الذين لم يعرفوا الحق في الأصول، ولا اعتقدوها بحجة ولا نظر، بل هم مقلدون فيها والكلام في هذه المسائل، وليسوا بأهل نظر ولا إجتهاد، ولا وصول إلى الحق بالحجة، وإنما تعويلهم على التقليد والتسليم والتفويض».

(رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص211ـ212، وج2، ص18، وج3، ص310ـ311. وانظر أيضاً: مشكلة الحديث، الفصل الرابع من الكتاب الثاني).

 

comments powered by Disqus