-
ع
+

التحليل اللغوي لدى إبن تيمية والرد على العقليين

يحيى محمد 

استخدم إبن تيمية طريقة تحليل اللغة مع الألفاظ التي لم ترد بالشرع للرد على خصومه العقليين، فهو عند ذكر الخصوم لألفاظ معينة كالجسم والجوهر والجهة والتحيز والتركيب وما إليها، يسأل عن المقصود بها، فإن كانت توافق ظاهر الشرع لم يعترض عليها، وإلا اعتبرها منكرة مع لوازمها. فمثلاً إذا ذكر الخصم ألفاظاً مجملة مثل أن يقول لو كان الله فوق العرش لكان جسماً، أو لكان مركباً، وهو منزه عن ذلك، ولو كان له علم وقدرة لكان جسماً ومركباً، وهو منزه عن ذلك، ولو خلق واستوى وأتى لحلّت به الحوادث، وهو منزه عنها، ولو قامت به الصفات لحلته الأعراض، وهو منزه عنها أيضاً.. ففي جميع هذه الحالات يقال للخصم: «ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة»؟ فإن أراد بها حقاً وباطلاً قُبلَ الحق ورُدَّ الباطل، مثل أن يقول «أنا أريد بنفي الجسم نفي قيامه بنفسه وقيام الصفات به، ونفي كونه مركّباً». وعندها يكون الجواب هو قائم بنفسه وله صفات قائمة به، سواء سمي ذلك تجسيماً أم لم يُسمَ. وأما قول الخصم أنه ليس مركّباً، فإن أراد به أن الله تعالى ركّبه مركّب، أو كان متفرقاً فتركّب وأنه يمكن تفرقه وإنفصاله، فالله تعالى منزه عن ذلك، وإن أراد أنه موصوف بالصفات مباين للمخلوقات، فهذا المعنى حق ولا يجوز ردّه لأجل الإصطلاح عليه بالمركّب[1].

على هذا أوصى إبن تيمية بأن من أراد أن يناظر مناظرة شرعية بالعقل الصريح ينبغي عليه أن لا يلتزم لفظاً بدعياً، ولا يخالف دليلاً عقلياً ولا شرعياً، بل يسلك طريق أهل السنة والحديث والأئمة الذين لا يوافقون على إطلاق الإثبات ولا النفي، إنما يقولون: ماذا تعنون بقولكم هذا، مثل أن يسألوا بالقول: ما تعنون بقولكم (إن كل مرئي جسم)، فإن فسروا ذلك بأن كل مرئي يجب أن يكون قد ركّبه مركّب، أو أن يكون متفرقاً فاجتمع، أو أنه يمكن تفريقه، فعند ذلك يجاب بمنع المقدمة الأولى والقول أن هذه السماوات مرئية مشهودة ونحن لا نعلم أنها كانت متفرقة مجتمعة، وإذا جاز أن يرى ما يقبل التفريق فما لا يقبله أولى بإمكان رؤيته، فالله تعالى أحق بإمكان الرؤية من السماوات ومن كل قائم بنفسه، فإن المقتضي للرؤية لا يجوز أن يكون أمراً عدمياً، بل لا يكون إلا وجودياً، وكلما كان الوجود أكمل كانت الرؤية أجوز.

ومثل هذا الأمر يمكن أن يجاب على مسألة الجهة، حيث يمكن أن يقال للخصوم: ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة والجهة ممتنعة على الله «أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟ فإن أردتم أمراً وجودياً، وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق والله فوق سماواته بائن من مخلوقاته، لم يكن والحالة هذه في جهة موجودة، فقولكم: أن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة هو قول باطل، فإن سطح العالم مرئي وليس هو في عالم آخر». أما لو قصد بالجهة الأمر العدمي بمعنى التحيز، فهو لا يعتبر شيئاً وجودياً، وليس فيه إشكال حيث لا يوجد إلا الخالق والمخلوق[2]. وذكر في إحدى مناظراته: أنه لم يرد لديه ذكر نفي الجهة والتحيز عن الله، وقال: «ليس في كلامي إثبات هذا اللفظ، لأن إطلاق هذا اللفظ نفياً بدعة، وأنا لم أقل إلا ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه الأمة»[3].

وشعر إبن تيمية بأن التعامل مع هذه الألفاظ غير الشرعية يوقع المناظر في ورطة، بإعتبارها مجملة وكونها تتضمن حقاً وباطلاً، فالمناظر إما أن يجعل مناظرته قائمة على الإستفسار عما يقصد بهذه الألفاظ الملتبسة، وبالتالي يمكن قبولها إن وافقت القرآن، أو يردّها عند المخالفة، وإما أن يمتنع عن المناظرة والتكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً، وعند ذلك سينسبه الخصوم إلى العجز والإنقطاع، ولو «أنه تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً وأوهموا الجهال بإصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها». لذا رأى أنه ينبغي على المناظر لحاظ المصلحة لخيار أحد الأمرين: إجراء المناظرة أو الإمتناع عنها[4]. وأكد - بهذا الصدد - بأن علة نهي الكثير من السلف والأئمة عن الخوض في النزاعات التي مصدرها غير النصوص، وإمتناعهم عن إثبات شيء أو نفيه، لم يكن لقصور أو تقصير منهم في بيان الحق، بل لكون الألفاظ المستخدمة مجملة متشابهة تشتمل على حق وباطل، فإثباتها يعني إثباتاً لحق وباطل معاً، وكذا هو الحال عند نفيها، وبالتالي فهم يمتنعون عن الإطلاقين سوية، خلافاً للألفاظ الشرعية والنصوص الدينية لبيانها ودلالتها على الحق. الأمر الذي جعل السلف يعدّون النص الديني إماماً وفرقاناً يجب إتّباعه، حيث يثبتون ما أثبته هذا النص، وينفون ما نفاه، في حين كان موقفهم من العبارات المحدثة المجملة هو المنع من إطلاقها نفياً وإثباتاً، فهم لا يصرحون حولها بشيء إلا بعد الإستفسار والتفصيل، حيث إذا تبين المعنى أمكنهم الأخذ بما هو حق مع نفي الباطل. وإذا كان اللفظ الديني هو الحق الذي يجب قبوله حتى وإن لم يُفهم معناه، فإن اللفظ المحدث لا يجب قبوله حتى يُفهم معناه. وهذا هو الفارق بين اللفظ الديني وغيره[5].

هكذا يقرر إبن تيمية بأن الواجب يستدعي إثبات ما اثبته النص الديني من الألفاظ والمعاني، ونفي ما نفاه، أي يُعتصم بألفاظ النص في الإثبات والنفي. أما الألفاظ المبتدعة المتنازع حولها، كلفظ الجسم والجوهر والتحيز والجهة وغيرها، فلا تطلق نفياً ولا إثباتاً حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحاً موافقاً لما أخبر به الرسول؛ صُوّب المعنى الذي قصده بلفظه، ولكن ينبغي أن يعبّر عنه بألفاظ النصوص دون عدول إلى غيرها من الألفاظ المجملة المبتدعة، إلا أن يكون لها حاجة مع قرائن تبين المراد بها. أما لو أراد بها معنى باطلاً؛ لإقتضى الأمر نفي هذا المعنى، ولو جمع بين حق وباطل؛ لكان المطلوب إثبات الحق وإبطال الباطل. وإذا اتفق شخصان على معنى وتنازعا هل يدل ذلك اللفظ عليه أم لا؟ كان من الواجب التعبير عن المعنى «بعبارة يتفقان على المراد بها وكان أقربهما إلى الصواب من وافق اللغة المعروفة، كتنازعهم في لفظ المركّب هل يدخل فيه الموصوف بصفات تقوم به؟ وفي لفظ الجسم هل مدلوله في اللغة المركّب أو الجسد أو نحو ذلك؟»[6].

 



[1]  درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص238.

[2]  المصدر السابق، ج1، ص251 و253ـ254.

[3]  مجموع فتاوى إبن تيمية، ج5، ضمن فصل: في تمام الكلام في القرب.

[4]  درء تعارض العقل والنقل، ضمن  الوجه السابع عشر من وجوه الرد على أصحاب الدليل العقلي.

[5]  درء تعارض العقل والنقل، ضمن  الوجه الأول من وجوه الرد على أصحاب الدليل العقلي.

[6]  منهاج السنة النبوية، ج2، ص554ـ555.

comments powered by Disqus