-
ع
+

أزلية الأشياء لدى إبن تيمية والتأثر بالفلاسفة

يحيى محمد 

اعتقد إبن تيمية أن الحوادث الكونية لا بداية لها، وهو إقرار بأزلية الأشياء من حيث النوع لا الأفراد. الأمر الذي يتفق مع ما ذهب إليه الفلاسفة. فبرأيه أن كل فرد حادث يسبقه فرد حادث قبله وهكذا من غير بداية محددة، وهو ذات ما يقره الفلاسفة. ومع أن ما ورد في التراث من وجود عدد محدود من الأشياء قد سبق خلقها قبل السماوات والأرض، إلا أنها تعد بحسب هذا الرأي ليس لها بداية بإطلاق، ومن ذلك العرش، حيث نقل الدواني عن إبن تيمية أنه اعتقد بقدم العرش من حيث النوع[1]، أي أن كل عرش يسبقه عرش آخر قبله دون بداية محددة، وذلك ليثبت بأن الله فاعل أزلاً وأنه مستقر من عرش إلى عرش أزلاً أيضاً.

وقد نسب إبن تيمية نظريته هذه إلى أئمة السنة والحديث، ونقل ما يقوله بعض المتكلمين من ذهاب بعض من وصفهم بالمشبهة بأنهم قائلون بإثبات حوادث لا أول لها[2]. كما نقل بعض أتباعه ما قاله عثمان بن سعيد الدارمي: «كل حي فعال، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل»[3].

ويعد هذا المنقول من الشواذ، حيث لم ينقل عن غيره من السلف ما يفيد النص الصريح في إثبات حوادث لا بداية لها. بل ليس من البيانيين قبل إبن تيمية من يثبت ذلك بشكل واضح لا غبش فيه. فإن من يعزى إليهم القول بذلك هم الفلاسفة. لذلك شنّع عليه الخصوم وعدّوه متأثراً بهم لكثرة الإهتمام بمباحثهم والرد عليهم، كالذي جرى عليه الحال مع الغزالي الذي قيل فيه أنه أمرضه (الشفاء)[4]، ووصفه معاصره أبو بكر بن العربي في مقولته الشائعة: شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. وهو القول الذي إستعان به إبن تيمية في الرد على الغزالي[5]، مع أنه في رأي المخالفين قد وقع بما وقع به سابقه[6]. وعادة ما ينسب مثل هذا الإعتقاد إلى الملاحدة، ومن ذلك ما قاله أبو يعلى الحنبلي في المعتمد: الحوادث لها أول ابتدأت منه خلافاً للملاحدة[7]. وكان من ضمن ما أُحتج به على إبن تيمية أنه قد ابتدع فكرة لم ترد عن أهل البيان بإستثناء بعض الشذوذ، وبنظر البعض أنها مخالفة للإجماع، بل وأن الإجماع على تكفير من يقول بها، كالذي حكاه الشيخ عياض وغيره. كما قال إبن دقيق العيد بأنه وقع هنا من يدعي الحزق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة وظن أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا أن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواتراً عن صاحب الشرع. ثم قال: وهو تمسك ساقط إما عن عمي في البصيرة أو تعام؛ لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل[8].

وفي جميع الأحوال ليس في الكتاب والسنة ما يشير إلى هذا المعنى الذي تحدث عنه إبن تيمية، بل جاء في بعض الأحاديث ما هو خلاف ذلك، حيث أخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه، وكذا إبن ماجه وإبن جرير وإبن المنذر وأبو الشيخ في العظمة وإبن مردويه والبيهقي في (الأسماء والصفات) عن الصحابي أبي رزين أنه سأل النبي بقوله: أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ فأجابه النبي: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء. وعلق الترمذي الذي حسّن الحديث بأن معنى العماء هو ليس معه شيء[9].

ومما يزيد في إقتراب هذا الإتجاه من النظام الوجودي ما ذكره إبن القيم الجوزية من أن أسماء الله الحسنى تقتضي مسمياتها ومتعلقاتها، فحيث هناك أسماء فلا بد من ظهور أثر هذه الأسماء ووجود ما يتعلق بها، فاقتضت حكمة الله أن يتم إنزال الأبوين من الجنة ليظهر مقتضى أسمائه وصفاته فيهما وفي ذريتهما، إذ لو تربت الذرية في الجنة لما ظهرت أثار جملة من هذه الأسماء وتعلقاتها، والكمال الإلهي يأبى ذلك، فالله يأمر وينهى ويكرم ويهين ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل، لذا أنزل الأبوين والذرية إلى دار تجري عليهم هذه الأحكام[10]. وهذا المعنى يتسق والقول بأزلية الصنع والخلق، كما ويتفق من وجه مع ما يقوله العرفاء في النظام الوجودي من إقتضاء أن يكون لأسماء الله تبعياتها، واعتبروا ذلك من حتميات الوجود، وهو خلاف ما يذهب إليه إبن تيمية وأتباعه[11].

 

 



[1]  تكملة الرد على نونية إبن القيم، مصدر سابق، ص85.

[2]  درء تعارض العقل والنقل، ج1. ولاحظ أيضاً: النبوات، ص60. ومنهاج السنة، ج1، ص121.

[3]  شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص156. وشرح العقيدة الطحاوية، فقرة (قوله: ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه). وقد قيل أن عثمان بن سعيد الدارمي كان فيما سبق لا يخوض في صفات الله سبحانه كما هي طريقة السلف، ثم انخدع بالكرامية  وأصبح مجسّماً عند تأليفه النقض على المريسي (تكملة الرد على نونية إبن القيم، ص81).

[4]  إبن تيمية: رسالة في علم الباطن والظاهر، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن فصل حول العلم الباطن (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته).

[5]  درء تعارض العقل والنقل، ج1، الفصل الأول، حول تعارض الأدلة السمعية والعقلية.

[6]  نسب إلى الذهبي، رغم أنه من تلامذة إبن تيمية، رسالة شديدة اللهجة في الرد على مسلك شيخه، ومن ذلك تنطعه في المباحث الفلسفية وغيرها. فقد جاء في رسالته الذهبية قوله وهو يخاطبه بهذا الخصوص: «يا رجل بالله عليك كف عنا فانك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام، اياكم والاغلوطات في الدين، كره نبيك صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وعن كثرة السؤال وقال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان) وكثرة الكلام بغير زلل تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام فكيف إذا كان في العبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمي القلوب؟ والله قد صرنا ضحكة في الوجود، فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد عليها بعقولنا، يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات، وبكثرة إستعمال السموم يدمن عليها الجسم وتكمن والله في البدن (الذهبي: النصيحة الذهبية، نشرت ضمن: التوفيق الرباني في الرد على إبن تيمية، الحراني لجماعة من العلماء، ص205ـ206).

[7]  تكملة الرد على نونية إبن القيم، ص84.

[8]  دفع شُبه من شبّه وتمرّد، ضمن التوفيق الرباني، ص21. علماً أن هناك من بالغ واتهم إبن تيمية بأنه خرق الإجماع بنحو ستين مسألة في الأصول والفروع، كما هو الحال مع الشيخ ولي الدين العراقي (المصدر السابق، ص22).

[9]  الدر المنثور، ج3، ص322.

[10]  شفاء العليل، ضمن الباب الثالث والعشرون.

[11]  أنظر الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية، خاصة الفصل السادس.

comments powered by Disqus