-
ع
+

إبن تيمية والفارق بين التوحيد الربوبي والإلهي

يحيى محمد 

لقد أفضت طريقة إبن تيمية إلى إبتداع أمور لم تكن معروفة في العهد الأول، أهمها تقسيم التوحيد إلى توحيد ربوبية وإلهية، حيث الأول عبارة عن الإعتراف بالخالق الذي لا شريك له في الخلق، وقد عد إبن تيمية أن إثبات ربين للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم ولا أثبت أحد إلهين متماثلين ولا متساويين في الصفات ولا في الأفعال. أما توحيد الإلهية فهو الإعتراف بعبادة الخالق وحده ودعائه والتقرب إليه دون وسائط، وهذا الصنف من التوحيد هو الذي ابتلي به الخلق، وظهر فيه الشرك بأصناف مختلفة مثل عبادة الشمس والقمر والكواكب والأوثان، وكذا عبادة الأنبياء والأولياء والملائكة أو تماثيلهم وما إلى ذلك. وقد استدل بالآيات القرآنية من أن المشركين والكافرين كانوا يعترفون بأن الخالق للعالم واحد هو الله، لكن مشكلتهم أنهم جعلوا له وسائط وشركاء يشاركونه في العبادة أو الخلق دونه، كالذي جاء في قوله تعالى: ((ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)) (لقمان/ 25) وقوله: ((قل لِمَن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون للّه، قل أفلا تذكّرون، قل من ربّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم، سيقولون للّه، قل أفلا تتّقون، قل من بيده ملكوت كلّ شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون للّه، قل فأنّى تسحرون)) (المؤمنون/84ـ89)، وقوله: ((وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)) (يوسف/ 106). على ذلك اعتبر أن الرسل قد دعوا الخلق إلى توحيد الإلهية، وهو يتضمن توحيد الربوبية[1]. إذ لم يكن مشركو العرب يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، وجاء في حكاية عن قوم نوح قوله تعالى: ((وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً)) (نوح/23). وجاء في صحيح البخاري وكتب التفسير وقصص الأنبياء وغيرها عن إبن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب، ذكرها إبن عباس قبيلة قبيلة[2].

كما استدل إبن تيمية على مذهبه بقوله تعالى: ((لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً)) (الإسراء/ 42) حيث فيه نفي لوجود آلهة مشاركة لله دونه، ولو كانت الآلهة موجودة لسعت إلى التقرب إلى الله. وقيل لسعت إلى مغالبته، وهو على رأي إبن تيمية خلاف الظاهر[3].

لكن هذا شيء، وما نفته الآية الأخرى في التوحيد شيء آخر، وهي قوله تعالى: ((ما اتّخذ اللّه من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كلّ إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض)) (المؤمنون/91). فلو فرضنا أن الآلهة المذكورة لم تكن في عرض الله، وإنما دونه، أي لو كان دلالة الآية هي أن الآلهة ليست بصدد العلو على الله، بل العلو فيما بينها بالتغالب وذهاب كل منها إلى الخلق المستقل، فإن هذا النحو من الإفتراض يناقض ما في الآية التي قبلها، حيث في الحالتين يفترض وجود آلهة، لكن في الحالة الأولى أنها تسعى للتقرب إلى الله، في حين أنها في الحالة الثانية تتغالب بينها وتستقل في خلقها، وهو ما لا يتسق مع التقرب إلى الله، كما لا يتفق وقدرتها في الإستقلالية على الخلق. على ذلك لا يفهم من معنى الآية إلا إفتراض وجود آلهة مع الله بالتوازي والتنافس والتغالب، ومن ثم ذهاب كل منها إلى ما يخلق من عالم، فنفت الآية ذلك وإلا تعدد العالم ولأفضى الأمر إلى المغالبة أو علو البعض على البعض، وهو المعنى الذي يقرّه إبن تيمية. لكن هذا النفي قد يشير إلى وجود من يعتقد بأكثر من إله خالق للعالم من المشركين، لذلك أن الآية قد ردّت على هكذا إعتقاد، مما يعني أن ذلك جاء على خلاف المطلب الذي كرّس إبن تيمية جهده لإثباته. والشيء نفسه يقال في ما نص عليه القرآن بقوله: ((لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)) (الأنبياء/22).

وإذا كانت لفظة (الإله) تستخدم في القرآن كدلالة على الخلق كما في الآية السابقة، مثلما تستخدم كدلالة على الوساطة بالعبادة والشفاعة، فإن ذلك لا يحتم تفسيرها طبقاً للمعنى الأخير عند فقد القرينة الدالة، مثلما التبس ذلك على إبن تيمية، حيث استدل على هذا المعنى؛ سواء بالقرينة الدالة أو بغير القرينة. ومن ذلك استشهاده على المعنى المذكور بمثل قوله تعالى عن المشركين: ((أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب)) (ص/5)، وقوله تعالى على لسان يوسف: ((أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)) (يوسف/39)، وكذا قوله على لسان ابراهيم: ((أئفكاً آلهة دون الله تريدون)) (الصافات/86).

فهذه الآيات لا تدل على أن المشركين نظروا إلى إلهتهم نظرة وسائطية أو شفعائية، وإن كانت هناك آيات أخرى كثيرة تدل على ذلك، وهي القرينة المطلوبة، لكن حيث أن القرآن أورد بعض الصور من الإعتقاد بالإلهة المتعددة المفترض فيها الخلق المستقل، فإن ذلك يبدي بأن الناس كانوا يختلفون في عقائدهم ومصادر شركهم.

على أن التقسيم الذي استحدثه إبن تيمية للتوحيد، ومن ثم جرى عليه تلميذه إبن أبي العز الذي أضاف في شرحه للعقيدة الطحاوية قسماً ثالثاً للتوحيد هو توحيد الصفات[4].. كل ذلك فتح الباب أمام الدعوة إلى تكفير المخالفين في مثل تلك الأصول، وما زلنا نعاني من تبعات ذلك حتى يومنا الحالي، مع أن هذا الأمر لم يكن مطروقاً لدى السلف وأن القرآن الكريم أظهر من صفات المشركين في التوحيد ما لا ينطبق على المسلمين، مثل قوله تعالى: ((وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً)) (الإسراء/46) وقوله: ((وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)) (الزمر/ 45) وقوله: ((إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون)) (الصافات/35ـ36)... الخ.

فالمسلمون يقرون بالإله الواحد الخالق، وأن العبادة مختصة به دون سواه، وأن الشريك في الفعل مملوك له لا يسعه أن يفعل شيئاً دونه وبما شاءت إرادته كالذي يوافق عليه إبن تيمية[5]. وكل ذلك يجعل المسلمين في طرف غير الطرف الآخر، آخذين بالإعتبار ما يرد عن بعض الجهلة من الأفعال التي تعود إلى شيء من الشرك، وأن بعض الأفعال ما تندرج ضمن حالات الخلاف بين العلماء. لكن في جميع الأحوال ليس هؤلاء كأولئك الذين نصّ عليهم القرآن الكريم من الشرك الواضح الصريح. فأي عذر يعذر به أولئك المكفرون[6] ؟!

 

 



[1]  درء تعارض العقل والنقل، ج9، في نقد الفلاسفة.

[2]  شرح العقيدة الطحاوية، فقرة (قوله: نقول في توحيد الله..).

[3]  درء تعارض العقل والنقل، ج9، في نقد الفلاسفة.

[4]  والمقصود به إقرار ما ورد في القرآن والحديث من الصفات بما فيها تلك الموهمة للتشبيه (شرح العقيدة الطحاوية، فقرة قوله: نقول في توحيد الله..).

[5]  قال إبن تيمية بهذا الصدد: «وأما إثبات الأسباب التي لا تستقل بالأثر، بل تفتقر إلى مشارك معاون وانتفاء معارض مانع وجعلها مخلوقة لله، فهذا هو الواقع الذي أخبر به القرآن ودل عليه العيان والبرهان، وهو من دلائل التوحيد وآياته ليس من الشرك بسبيل، فإن ذلك مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول من المفعولات» (درء تعارض العقل والنقل، ج9، في نقد الفلاسفة).

[6]  روي أنه سئل نافع: كيف كان رأي إبن عمر في الحرورية - وهم من الخوارج -؟ قال: يراهم شرار خلق الله، انهم انطلقوا إلى آيات انزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين (محاسن التأويل، ج1، ص22).

comments powered by Disqus