يحيى محمد
نقصد بالاصل المولد هو تلك القضية القابلة لتفسير أكبر عدد ممكن من القضايا العائدة إلى ذات المنظومة المعرفية، سواء من حيث التوليد أو التوجيه أو الإتساق. إذ نفترض وجود انتظام تتولد فيه المعرفة بعضها من بعض، إعتماداً على عدد من القضايا المتصفة بالتوليد والتوجيه والتفسير ضمن اطار المنظومة نفسها. وكأن الأصل المولّد يستبطن سائر المعارف الأخرى، وكأنه الماهية التي تتحدد بها التفاصيل، مثلما يتحدد من اسم افلاطون كل ما نعرفه عن هذا الرجل الحكيم. وكذا الحال في الأصل المولّد، إذ ننتزع منه معارف كثيرة مختلفة، أو نفسرها طبقاً له دون غيره لإمتيازه بالتفوق. ويشترط أن يكون أساس الفهم وليس نتاجاً عنه.
إذاً فالأصل المولّد هو بمثابة البداية المنطقية لسائر المعارف، مقارنة بالبداية التاريخية وما ينشأ عنها من تطورات. وإذا كان البحث البراني يمكنه أن يحدد لنا البداية الأخيرة، فإن البحث الجواني كفيل بتحديد البداية الأولى المنطقية. وبعبارة أخرى أن ما يجري من بحث على المنوال التاريخي في الأصول والبدايات هو غير ما يجري من بحث على المنوال المنطقي، بدلالة أن منطق كل علم لا يسعه أن يتقدم زماناً على تاريخ هذا العلم. فمنطق كل علم يأتي بعد مراحل تقدم هذا العلم، وبالتالي فإن البداية التاريخية للعلم تختلف عن بدايته المنطقية، كالذي كشفنا عنه في (علم الطريقة).
فهذا هو المعيار الذي نبني عليه اجتهادنا في انتخاب الاصول المولدة كقضايا اساسية لا يمكن تجاهلها عند بحثنا للدوائر والانظمة المعرفية، وبالتالي فان الصفة التي نبني عليها هذا الحكم هي صفة (هندسية) او منطقية، بحيث تندرج سائر القضايا اما كمشتقات نابعة من الاصل المولد، او على الاقل انها تتسق معه بما لا ينافسه عنصر اخر.
***
بعد هذا التمهيد يلاحظ ان محور ما يشغل التفكير في علم الكلام هو البحث عن العلاقة التكليفية التي تربط بين المكلِّف والمكلَّف، وذلك من حيث الحقوق والواجبات. وينطبق هذا الامر ليس فقط على الدائرة البيانية، بل وعلى الدائرة العقلية ايضاً. ونحن سنقتصر في البحث على هذه الاخيرة لكونها الاكبر من حيث الوساعة والتأثير مقارنة مع الاولى.
بداية سنحدد العلاقة التكليفية وفق الدائرة العقلية (الكلامية) طبقاً للنقاط التالية:
أولاً:
من وجهة نظر منهجية، إن المبدأ الذي تتأسس عليه أبرز مقالات الدائرة العقلية هو مبدأ (الحق) المتضمن لفكرة الإلتزام والواجب التكليفي.
لكن هذا المبدأ منقسم إلى أصلين مولّدين ينشأ عنهما إتجاهان متضادان يستقطبان أغلب نشاط هذه الدائرة، أطلقنا على أحدهما (الحق الذاتي)، وعلى الآخر (حق الملكية). إذ يراعي الأول منهما اعتبارات (الحق في ذاته) دون قيد أو شرط، وأبرز من يمثله المعتزلة والزيدية والإمامية الإثنا عشرية. أما الثاني فيقيد فكرة الحق بمبدأ الملكية، إذ يرى - من الناحية العقلية - أن المالك المطلق له حق التصرف بملكه ما يشاء. والأشاعرة هم أبرز من يمثل هذا الإتجاه.
وإبتداءاً نتساءل: ما المقصود بفكرة الحق لينشأ عنها الإتجاهان الآنفا الذكر؟
والجواب هو أنه يُقصد بالحق الفعل الحسن، وبالباطل هو الفعل القبيح. وأن معنى الحسن هو ما يستحق فاعله المدح والثناء، وعلى خلافه معنى القبيح.
ويلاحظ في هذا التعريف أن كلاً من الحسن والقبح يتوقف على الاستحقاق، وهو مشتق من لفظة (الحق)، فيكون التعريف بذلك دائرياً، حيث يصبح الحق هو الحسن، والحسن هو الحق، كذلك إن الباطل هو القبيح، والقبيح هو الباطل. وهو تعريف الشيء بنفسه.
وبغض النظر عن التعريف[1]، بإستطاعتنا ايضاح الفكرة بإفتراض أنه لو كانت هناك سلطة فوقية (حكيمة) تشرف على الأفعال، فتسمح لبعض الأفعال وتحاسب على البعض الآخر، فسيكون الفعل الحق أو الحسن - بمقتضى الإفتراض المذكور - هو ما تسمح به هذه السلطة، والفعل المخالف هو ما تذمه أو تحاسب عليه. ونرى أن الدساتير القانونية المعمول بها على مر العصور إنما تستمد شرعيتها بايحاء من هذه الفكرة الايضاحية.
وبعبارة أخرى نقول: إن الحق هو ما يأذن بفعله العقل العملي دون إنكار، وإن الباطل هو ما يشجبه هذا العقل ولا يأذن به.
وطبقاً لذلك يصبح معنى «الحق الذاتي» هو أن الفعل في نفسه، أو من حيث صفاته وأحواله واعتباراته، يكون منشأً للسماح والقبول دون قيد أو شرط (خارجي). كما يصبح معنى «الحق المشروط بالملكية» هو أن الفعل لا يكون منشأً للسماح والقبول بمقتضى ذاته وأحواله، بل تبعاً للقيد الخارجي المسمى (الملكية الحقيقية).
إذاً، فالحق في التعريف الأول مُستمد من ذات الفعل، أو صفاته، أو أحواله واعتباراته. وعلى خلافه يكون الحق حسب التعريف الثاني، حيث يستمد من القيد الخارجي المتمثل في الملكية.
وقد يضاف إلى ذلك أن معنى الحق الذاتي هو أن يكون الفعل في نفسه، أو صفاته اللازمة، أو أحواله واعتباراته، مقتضياً للغرض والمصلحة. وعلى خلافه الحق المشروط بالملكية، حيث لا يكون الفعل في نفسه منشأً للغرض والمصلحة.
ثانياً:
لنعد الآن إلى بحث العلاقة التكليفية، حيث يلاحظ ان كلاً من الاتجاهين السابقين يمتلك مبررات من الالتزامات والواجبات قائمة على النهج العقلي؛ إلا أن ما يتضمنه اتجاه (الحق الذاتي) من الإلتزامات والواجبات التكليفية هو غير ما يتضمنه اتجاه (حق الملكية). فالأول يؤسس مقالاته على الواجبات العقلية، مما يعني أن الحق الذاتي يقتضي الواجب الذاتي، والواجب الذاتي لا يدرك بطريق آخر سوى العقل، لأن ما يدرك ذاتياً من غير قيد أو شرط لا يكون إلا بالعقل. فهذا الأخير - إذاً - هو أساس الواجبات التكليفية ومقتضيها. وعلى عكس ذلك اتجاه حق الملكية، حيث إن تقييد الحق بالملكية وإن كان يبدأ بفعل عقلي هو هذا التأسيس المشروط؛ إلا أن ذلك يستلزم اللجوء إلى طرف آخر غير العقل يتعين من خلاله الكشف عن إرادة المالك المطلق لتعيين تلك الواجبات كما يفرضها الحق المشار إليه. وبالتالي فإن الواجبات التكليفية بحسب هذا المنطق هي واجبات غير عقلية، وإن كان تبريرها مستمداً من الدليل العقلي ذاته.
هكذا إن المنطق الأول يجعلنا ندور في حلقة الواجبات العقلية، بينما يحوّلنا المنطق الآخر إلى حلقة الواجبات غير العقلية المستندة إلى المالك المطلق.
وهناك فارق آخر، وهو أن مجال البحث في المنطق الأول يتحدد بالحقوق والواجبات لكل من المكلِّف والمكلَّف على السواء، لأنهما يخضعان معاً تحت سلطة اعتبارات الحق الذاتي، دون قيد أو شرط. الأمر الذي يختلف فيه الحال مع المنطق الآخر، لكونه لا يساوي بين المالك والمملوك من حيث الخضوع لتلك السلطة، بل على العكس، إنه يجعل الحق محكوماً وفق ما عليه سلطة المالك. وبالتالي كان الحق بيد المالك دون المملوك.
وضمن نطاق الحق الذاتي لا بد من التفريق بين طبيعة الواجبات التي تلوح المكلِّف وبين تلك التي تلوح المكلَّف. فهي في حدود دائرة الأخير تتضمن اعتبارات التكليف فضلاً عن اعتبارات الحسن والقبح. لكنها في دائرة الأول تخلو من الإضافة التكليفية، فلا تتضمن سوى مبدأ الحسن والقبح، بإعتباره الأصل الذي يتوقف عليه التكليف ومترتباته من الثواب والعقاب.
أما ضمن نطاق حق الملكية فإن الإنقسام المشار إليه غير موجود، فليس هناك واجبات والتزامات في دائرة المكلِّف، بل إن هذه الاعتبارات تصدق على دائرة المكلَّف فحسب. كما أن معنى (الحق) لدى هذا المنطق يتضمن كلا العنصرين: التكليف والحسن والقبح من غير فصل، وإن كان لا يمانع – مبدئياً - أن يكون الحق معبّراً عن مضامين الحسن والقبح بلا تكليف، توقفاً على إرادة المالك المطلق. فالحق هنا قد يستلزم الواجبات التكليفية، وقد لا يستلزمها. في حين إن هذا الحال لا يصدق مع فكرة المنطق الأول للحق، باعتبارها تستلزم العلاقة التكليفية، مثلما تستلزم مضامين الحسن والقبح، طالما دلت عليها العلاقة الخلقية بما تحمله من دلالات تتوفر فيها كل الشروط التي تصحح نظرية التكليف.
إذاً، نحن أمام منطقين مختلفين لتحديد هوية الحق المتعلق بالرابطة الدائرة بين الخالق والمخلوق، أو المكلِّف والمكلَّف. وقد جاء هذا التحديد لدى المنطقين بصورة مسلمات أولية.
فلدى أصحاب المنطق الأول تكون الفكرة الذاتية للحق فكرة عقلية أولية لا تحتاج إلى نظر وتفكير، وكذا هو الحال مع أصحاب المنطق الثاني، حيث لديهم أن تحديد الحق بحسب الملكية هو تحديد أولي لا يحتاج بدوره إلى نظر وإستدلال. هذا بالرغم من أن هذين الإعتبارين يختلفان إختلاف الضد من الضد، وأنه تتأسس لدى كل منهما قضايا تتناقض مع القضايا التي تتأسس لدى الآخر.
المهم إننا ملزمون بتقبل هذه الإفتراضات الأولية، أو التعامل معها وكأنها بديهية فعلاً، وذلك ريثما يتبين لنا ما يترتب عليهما من نتائج. ولنقل أننا نعدهما اعتبارات خاصة غير مشتركة. فهي ليست أولية بالمعنى الذي يتفق عليه كل من نظر فيها، أي أنها تختلف عن القضايا الأولية المشتركة مثل مبدأ عدم التناقض وغيره من المبادئ العقلية، بل هي أولية لدى أصحابها من حيث أنهم سلّموا بها دون أن يُلزموا أنفسهم بإرجاعها إلى قضايا معرفية أخرى سابقة.
هكذا فإن هذه الأصول تتصف بالبداهة الأولية لدى أصحابها، وهي من هذه الناحية تشكل اعتبارات خاصة غير مشتركة.
وبعبارة أخرى، يعوّل منطق (الحق الذاتي) على بداهة ما يتضمنه السلوك الحر من حسن وقبح، أو حق وباطل، دون قيد أو شرط. فنحن نصف الفعل والسلوك بأنه حسن أو قبيح بما يحمل من معان عقلية واضحة، وأن القضية التي تقرر وجوب الفعل أو حسنه هي قضية حقة لا تحتاج إلى شروط أضافية تقيدها كتلك التي سار فيها الإتجاه العقلي الآخر، بل يكفي العقل أن يراها لذاتها من غير قيد أو شرط. فلا فرق هنا بين خالق ومخلوق، ولا بين مالك ومملوك، ويظل الحق حقاً، ومنه ينشأ الفعل الحسن والعدل واللطف والواجب وغير ذلك مما له علاقة بالأفعال. الأمر الذي يختلف فيه الحال مع البداهة التي يعتمدها منطق حق الملكية، فهو لا يستكشف معاني الحسن والقبح في الممارسات الفعلية للسلوك الحر، إذا ما كانت مجردة عن الشرط الخارجي الخاص بالملكية المطلقة. فلا يوجد حق في ذاته دون اعتبارات أخرى تقيده، مما يعني أنه لا يمكن استكشاف ما يحمله السلوك من حق وباطل، أو حسن وقبح إلا عند شرط الملكية المطلقة. فالحسن هو ذلك الذي يترتب على فعل المالك المطلق، كائناً ما كان هذا الفعل، وبالتالي فإن تقويم سلوك المملوك إنما يعتمد على ما يقرره المالك، أما في حد ذاته فهو لا يتضمن الحق والباطل، أو الحسن والقبح. فهنا أن القيم عارضة على هذا السلوك بحسب إرادة المالك، ولو نُظر إلى الـسلوك في حد ذاته لكان خالياً منها، وبالتالي ليس للقيم – ذاتها - معنى عند تجريدها عن إرادة المالك.
ثالثاً:
لقد أثّر الخلاف المذكور بين المنطقين على الفهم الخاص بالتكليف. فتارة يُنظر إليه بأنه تكليف ديني بحت، بإعتباره مناطاً بإرادة المالك المطلق، كما في اتجاه حق الملكية. وأخرى أنه عبارة عن تكليفين: عقلي وديني، وأن الأول أساس الثاني دون العكس، كما في اتجاه الحق الذاتي. وقد تضاربت الأقوال حول الصيغة المناسبة للتعريف لدى الاتجاه الأخير، فمن ذلك ما حدده أبو هاشم الجبائي المعتزلي في كتابه (نقض البدل) حيث ذكر بأن التكليف هو «إرادة فعل ما على المكلَّف فيه كلفة ومشقة»، وفي كتاب (العسكريات) حدده بأنه «الأمر والالزام للشيء الذي فيه كلفة ومشقة على المأمور به»[2].
وأشكل القاضي عبد الجبار الهمداني على لفظ (الأمر) في التعريف الأول، وعلى لفظ (الإرادة) في التعريف الثاني. حيث يوهم التعريف الأول أن التكليف محصور بالقضايا البيانية الدينية دون العقلية، بإعتباره ينص على لفظ (الأمر) الذي هو قول مخصوص بالأمور الشرعية[3]. مع أن رجال الإعتزال أجمعوا على وجود التكاليف العقلية. أما إشكاله على التعريف الثاني فلوجود لفظ (الإرادة)، فعلى رأيه أن الإرادة لا تتعلق ببعض الأفعال؛ رغم أنها مما يتناولها التكليف، من قبيل عدم مطالبة الدائن بدينه، وغير ذلك في كل ما يتعلق بالنفي[4].
لكن من الممكن أن يجاب على الإشكال الثاني بأن عدم المطالبة يُخرج الفعل عن حد التكليف. كما أنه على رأي السيوري الحلي أن إستخدام لفظ الإرادة ليس مناسباً[5]، حيث إن إستعمالها في الترك خلاف الإصطلاح، كالذي يجري في الأفعال المحرمة ضمن التكليف [6].
كما قدّم الهمداني نقداً آخر للتعريفين، فهما لم ينصّا على نفي الإلجاء بالنسبة للمكلَّف، إذ لو كان مُلجئاً إلى الفعل لما صحّ التكليف. وعليه حدد التكليف بأنه: «إعلام المكلَّف أن عليه في أن يفعل أو لا يفعل نفعاً أو ضرراً مع مشقة تلحقه بذلك إذا لم تبلغ الحال حد الإلجاء»[7].
ويلاحظ على هذا التحديد ثلاثة أمور كالتالي:
1ـ إن التعريف قد ربطَ التكليف بالإعلام، وهو الإخبار. ولدى المعتزلة إن الإعلام في التكليف قد يكون سماعياً كالإخبار بوجوب الصلاة والصيام مثلاً، كما قد يكون عقلياً، كإدراك وجوب معرفة الخالق والنهي عن الظلم مثلاً. إلا أن ذكر الإعلام كقيد في التعريف لا يصح ما لم تذكر نظائره من الشرائط الأخرى كالتمكين مثلاً.
2ـ إن التعريف قد جعل المشقة حالة غير منفكة عن التكليف. وفي هذا القيد نظر. صحيح أن التعبير بالمشقة منتزع عن معنى التكليف لو كان المستند في ذلك هو الاعتبار اللغوي، بيد أن البحث لم يكن لغوياً، فالمنظور إليه هو المعنى المندرج ضمن عنوان المأمور به والمنهي عنه، ولكي نحدد انضمام المشقة أو عدم انضمامها في التكليف ينبغي إستقراء مختلف أنواع التكاليف، وعند القيام بذلك نجد جملة منها لا تتقيد بشيء من المشقة والكلفة، ومن ذلك مسألة النهي عن قتل الآباء والأولاد إذ ليس فيه مشقة عادة.
وقد حاول البعض أن يصحح القيد السابق تبعاً لإعتبار جنس المشقة، فذكر في تعريف التكليف أنه «بعث واجب الطاعة إبتداء على من شأنه المشقة جنساً من حيث هو مشقة كذلك، فاعتبرنا المشقة في جنسه ليدخل التسبيحة الواحدة، واعتبرنا الحيثية ليدخل الهدي ونكاح الحليلة»[8]. وهو تعريف ناظر إلى طبيعة التكليف بما لا يخلو من مشقة، حتى لو كانت هذه المشقة شكلية لا أثر لها، وذلك باعتبار أن الفعل الذي يتطبع عليه الفرد يخلو من المشقة غالباً، سواء كان تكليفاً أو غيره، وبالتالي لا يلزم تقييد التعريف بها.
3ـ إن التعريف السابق قد حدد التكليف بشرط أن لا يبلغ حد الإلجاء إلى الفعل المكلَّف به، وفي هذا نظر لا يختلف عن السابق، إذ الملاحظ أن جملة من التكاليف تتضمن حالة الإلجاء والإضطرار، كالنهي عن قتل الآباء والأولاد وحرمة الانتحار وشرب السموم... الخ.
إضافة إلى أن الفعل المتطبع عليه هو فعل يتضمن الإلجاء، كما هو الحال مع مدمني المخدرات والخمور والدخان وغيرها. والأمر لا يقتصر على مثل هذه الحالات، بل ينطبق على جميع أنواع السلوك، ومنها السلوك المتعلق بصفات الخير والشر، وهي من التكاليف التي أولاها القرآن الكريم عناية خاصة.
هذا ما يتعلق بالمفاهيم التي تتضمن الاعتبارات العقلية للتكليف، كما يراها المعتزلة وعدد من المذاهب الكلامية. لكن بعض المذاهب لا تعترف بالتكليف العقلي واعتباراته، وتقتصر على التكاليف البيانية كما تشير إليه الأشاعرة. فهي تعتبر التكليف عبارة عن الأمر والنهي وأن مصدره محدد بالخطاب الديني فحسب، إذ تنكر التكاليف العقلية وترى الواجبات كلها سمعية، وأن العقل لا يوجب شيئاً، ولا يقتضي تحسيناً ولا تقبيحاً[9]، كما أنها لا تشترط تضمّن التكليف للمشقة وعدم الإلجاء والتمكين؛ خلافاً للإعتبارات العقلية السابقة.
لكن لو ثبتت التكاليف العقلية، كما سنرى، فإن الصيغة المناسبة لتعريف التكليف ستتخذ الشكل التالي:
هو الأمر بالفعل أو النهي عنه، سواء كانا عقليين أو شرعيين، مع التقيد ببعض الشروط كالتمكين والإعلام، حيث بدونها يصبح التكليف صورياً واسماً بلا مسمى.
الحق الذاتي وإشكالية التكليف
تتضمن فكرة الحق الذاتي - كما عرفنا - وجود حقوق وواجبات بين طرفي العلاقة التكليفية. فالحقوق في طرف هي ذاتها عبارة عن واجبات في الطرف الآخر، والعكس بالعكس.
وبعبارة ثانية، إن كل واجب إلهي يعني في الوقت ذاته حقاً إنسانياً. وبالعكس، فإن الواجب الإنساني هو في حد ذاته حق إلهي. وبالتالي إذا صدق الحق كله في طرف؛ تعيّن الواجب كله في الطرف الآخر، كما لو انعدم أحدهما في أحد الطرفين؛ انعدم الآخر في الطرف المقابل.
وبحسب هذا المنطق هناك واجبات عقلية تُفرض على دائرة المكلِّف، وهي لا تخرج عن مضامين الحسن والقبح، دون أن يكون لها معنى تكليفي. كما أن هناك واجبات عقلية أخرى تُفرض على دائرة المكلَّف، إذ يمتزج فيها الأمران: التكليف والحسن والقبح. وتتفرع من هذين النوعين للواجبات العقلية مسائل عدّة.
ويمكن تصور الواجبات الإلهية بأنها ذات نسغ نازل، حيث تستقطب جميع القضايا المراد تنزيلها لتصحيح العملية التكليفية حسب التخطيط الإلهي، فطالما أن الله اختار التكليف منهجاً للحياة؛ فذلك يستلزم خطوات معيارية تصحح العملية التكليفية وتجعلها سائرة في الطريق المرسوم.
وفي القبال يمكن تصور الواجبات الإنسانية بأنها ذات نسغ صاعد، حيث تستقطب جميع التكاليف التي تستلزم إرضاء المكلِّف وتوفية الحق الخاص به على المكلَّف.
وبتكامل عمليتي النزول والصعود تتحقق ظاهرة التكليف بما يضمن لها القيام على مبدأ الحق الذاتي. لذا فسوف نتناول كلا هذين المسارين المتكاملين على التوالي، كما يلي:
1ـ واجبات المكلِّف
يمكن تحديد هذه الواجبات بحسب الفقرات التالية:
أولاً:
إن أول ما يتبادر لنا من سؤال هو كيف تتأسس الواجبات العقلية وفقاً لمنطق الحق الذاتي؟
نعلم أن صياغة نظرية التكليف قد تمت ضمن الشروط العقلية، وأن بعض هذه الشروط يصدق على المكلِّف، والبعض الآخر على المكلَّف، وأنه من الناحية المنطقية لا بد أن تكون الشروط الخاصة بالمكلِّف سابقة على الشروط التي تخص المكلَّف، بل إن هذه الأخيرة متوقفة من الناحية الوجودية على الأولى، فلولا الأولى ما كانت الأخيرة. وأول الشروط والواجبات العقلية التي ينبغي حضورها في دائرة المكلِّف هو «العدل».
فبدون هذه القيمة لا تتصحح العلاقة التكليفية. بل يمكن القول إن العدل هو أساس سائر الواجبات العقلية الخاصة بالمكلِّف، فمن حيث عدله ينشأ عدد من القواعد الحقوقية المراعية لطبيعة ما عليه التكليف، مثل الإعلام والتمكين والإقدار والثواب والعقاب وغير ذلك. بل وفقاً لمبدأ الحق الذاتي، وفي حدود دائرة المكلِّف، فإن العلاقة التكليفية لمّا كانت لا تستقيم إلا بقاعدة العدل الإلهي، فإن ذلك يجعل من هذا الحق عين العدل.
ويُقصد بعدل الله، حسب المنطق المذكور، هو أن الله لا يفعل القبيح ولا يخلّ بما يجب عليه[10]. فالعدل بهذا أصل مقوّم ولا يتقوّم بغيره، وهو كالتوحيد في أصالته، والعلاقة بينهما وإن تضمنت صفة «اللزوم» إلا أن الأخير ليس من النوع التكويني أو الذاتي، بل هو من نوع آخر نطلق عليه (اللزوم المعياري). فأحدهما لا يستتبع الآخر على نحو الطبع والتكوين، بل يستتبعه وفقاً لمنطق (القيم)، وهو أن ضمان حفظ العدل ناتج عن التوحيد لإعتبارات الغنى وعدم الحاجة؛ رغم القدرة والمشيئة المطلقة، وبالتالي فاللزوم القائم بينهما هو لزوم معياري قيمي.
هكذا يكون التوحيد شرطاً لتحقق العدل، والشرطية هنا ليست وجودية بما تعبر عن العلاقة التكوينية، بل معيارية قيمية. وبذلك يمكن فهم ما تعنيه العلاقة بين هذين الأصلين (العدل والتوحيد)، ولماذا أكّد أصحاب منطق الحق الذاتي عليهما دون سواهما من القضايا والأصول، وهو ما سنخصص له الفقرة التالية..
ثانياً:
يتفق أهل الإعتزال على خمس قضايا إعتقادية، هي العدل والتوحيد والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين. ورغم أن الشائع بأن هذه القضايا تشكل الأصول عندهم، إلا أنهم يختلفون حول ضوابط تحديد هذه الأصول بما يسفر أحياناً عن بعض الإضطراب.
ومن ذلك أن القاضي عبد الجبار الهمداني، وهو أبرز رجال المعتزلة، اعتبر في كتابه (المغني في أبواب التوحيد والعدل) ورسالته (المختصر في أصول الدين) أن المنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كلها داخلة ضمن العدل. ولم يكتف بهذا بل أضاف أصلين آخرين؛ هما النبوات والشرائع، حيث قال: «فإن قيل ما الذي يجب على المكلَّف معرفته من أصول الدين؟ قيل: أربعة أشياء: التوحيد والعدل والنبوات والشرائع. فعلى هذه الأصول مدار أمر الدين».
ثم قال: «فإن قيل: ألستم تقولون: الأصول خمسة، وتعدون فيها: الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قيل له: كل ذلك يدخل في العدل»[11].
مع أنه في (مختصر الحسني) اعتبر تلك الأصول داخلة في باب الشرائع، حيث عدّ الأصول أربعة، هي: التوحيد والعدل والنبوات والشرائع، وجعل ما عدا ذلك من الوعد والوعيد، والأسماء والأحكام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلها مندرجة ضمن الشرائع[12].
وفي كتابه (المجموع المحيط بالتكليف) اعتبر كل ما يعد ضمن النبوات من التكاليف الشرعية داخلاً ضمن العدل، فإذا علم الخالق أن صلاح عباده يتعلق بأمر من الأمور لا تعلم بالعقل، فلا بد أن يبعث إليهم من يعرفهم ذلك، فيكون من باب إزاحة العلة ويدخل في جملة العدل، وأن مسائل الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلها تدخل في الشرائع، وبالتالي فإنها مندرجة ضمن العدل[13].
ويمكن القول، إن التأكيد على خماسية الأصول يجد تبريره تاريخياً لدى نشأة الإعتزال، إذ عُرفت هذه الفرقة بتلك الأصول تمييزاً لها عن غيرها. أما من الناحية المنطقية فإن هذه الأصول تفتقر إلى التبرير، لأن من تلك الأصول - كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين - ما يعتمد على النبوة باعتبارها سماعية، كما يعترف أصحاب المذهب بذلك. ولهذا تصبح النبوة أولى بالإلتحاق إلى الأصول مما يتفرع عنها.
كما أن موقف المعتزلة من مسألة النبوات والشرائع يسوده الاضطراب، فتارة يعدونها ضمن الأصول، وأخرى خارجها.
وقد كانت هذه النقطة محطة نظر الشريف المرتضى - وهو من الإمامية الإثني عشرية - في نقده لغيره من أصحاب الإعتزال، فذكر يقول:
«إن الذي سطره المتكلمون في عدد أصول الدين هو أنها خمسة: التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يذكروا النبوة. فإذا قيل: كيف اخللتم بها؟ قالوا هي داخلة في أبواب العدل من حيث كانت لطفاً، كدخول الألطاف والأعواض وما يجري مجرى ذلك. فقيل لهم: فالوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً من باب الألطاف، ويدخل في باب العدل كدخول النبوة، ثم ذكرتم هذه الأصول مفصلة، ولم تكتفوا بدخولها في جملة أبواب العدل مجملة، وحيث فصلتم المجمل ولم تكتفوا بالاجمال فهلا فعلتم ذلك بالنبوة؟ وهذا سؤال رابع، وبها اقتصر بعض المتأخرين على أن أصول الدين اثنان: التوحيد والعدل، وجعل باقي الأصول المذكورة داخلاً في أبواب العدل. فمن أراد الإجمال اقتصر على الأصلين: التوحيد والعدل، فالنبوة والإمامة، التي هي واجبة عندنا ومن كبار الأصول، هما داخلتان في أبواب العدل. ومن أراد التفصيل والشرح وجب أن يضيف إلى ما ذكروه من الأصول الخمسة أصلين: النبوة والإمامة، وإلا كان مخلاً ببعض الأصول، وهذا بيّن لمن تأمله»[14].
لكن هذا المفكر الإمامي لم يعط ضابطاً في معالجته للموضوع.
فمع ما لاحظنا قبل قليل أنه افترض الأصول سبعة - حيث أضاف النبوة والإمامة إلى أصول الإعتزال الخمسة - نجده في رسالة (جمل العلم والعمل) يشير إلى اعتبار الأصول تتمثل في مختلف المعارف الإلهية والألطاف[15].
ومع ذلك فالمتفق بين أصحاب هذا الإتجاه، هو اعتبار العدل والتوحيد أصلين أساسيين؛ قيل إنهما مقتبسان من كلمات الإمام علي (ع) وخطبه[16].
فالثابت لدى المعتزلة هو أن معرفة العدل والتوحيد لا تصح إلا بالعقل، بينما تعرف بقية الأصول بالسمع، وإن كان من الممكن معرفة الوعد والوعيد بالعقل أيضاً. وبهذا يصبح العدل والتوحيد أساس بقية المعارف الأخرى من الأصول.
وكذا الحال مع أصول الإمامية الخمسة، فالنبوة والإمامة والمعاد تتفرع عن العدل كما أشار إليه الشريف المرتضى، وبالتالي فإن الأصول الأساسية لدى أصحاب منطق الحق الذاتي لا تتعدى العدل والتوحيد، لهذا وُصفوا بأهل التوحيد تارة، وبأهل العدل تارة أخرى، كصفة يتميزون بها عن غيرهم.
أما لوازم هذين الأصلين وعلاقتها بمنطق الحق الذاتي ونظرية التكليف فسنتعرف عليها من خلال الفقرة التالية..
ثالثاً:
مثلما للتوحيد لوازم، فكذلك الحال مع العدل.
فمن حيث التوحيد نفى المعتزلة الصفات المستقلة واعتبروها عين الذات الإلهية. مما يعني أنه ليس لله شبيه ولا مثيل، فدلّ هذا عندهم على التوحيد، حيث ردوا الصفات إلى صفتي العلم والقدرة، وهما صفتان ذاتيتان.
وأول من قال بذلك هو أبو الهذيل العلاف، إذ عدّ علمه وحياته وقدرته نفس ذاته، معتبراً أنه عالم بعلم وعلمه ذاته، وقادر بقدرة وقدرته ذاته، وحي بحياة وحياته ذاته.
وبرأي الشهرستاني ومن قبله الأشعري، أن العلاف اقتبس هذا الكلام عن الفلاسفة الذين قالوا أن ذاته واحدة لا كثرة فيها أبداً[17].
كذلك كان النظّام ينفي العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وصفات الذات، ويقول: إن الله لم يزل عالماً حياً قادراً سميعاً بصيراً قديماً بنفسه؛ لا بعلم وقدرة وحياة وسمع وبصر.
كما أن ابن الإيادي، وهو من المعتزلة، كان يزعم بأن الله سبحانه عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة[18].
ومن مترتبات التوحيد عند المعتزلة نفي التشبيه بجميع الوجوه، فهم نفوا الجسمية والصفات الزائدة والحدوث والانتقال والتحيز، كما نفوا إمكان رؤيته بالأبصار لكونه ليس جسماً، باعتبار أن كل ما يقبل الرؤية هو جسم بالضرورة، ولأن الرؤية تستلزم الجهة ولا جهة فيه.
والغرض من هذه الآراء هو نفي الشبيه عن الله من كل وجه؛ جهة ومكاناً وصورة وجسماً وتحيزاً وانتقالاً وزوالاً وتغيراً وتأثراً.
لذلك أوجب المعتزلة تأويل الآيات المتشابهة في هذه الوجوه وسمّوا هذا النمط توحيداً[19].
والذي يهمنا هو أن المعتزلة نفوا الصفات الزائدة باعتبارها تفضي برأيهم إلى التشبيه والشرك، مثلما نفوا أن يكون كلامه من صفاته القديمة كي لا يترتب عليه الشرك بوجود قديمين[20]. وهذا النفي للصفات الزائدة جعل بعضهم يعتبر الله بلا ماهية على الإطلاق؛ تأثراً بالمقالات الفلسفية للنظام الوجودي[21].
هكذا فالتوحيد أصل تترتب عليه الكثير من المسائل، ومن بينها أنه لا يمكن الحديث عن العدل ما لم يسبقه الحديث عن التوحيد.
فقد رأى القاضي الهمداني أن أول العلوم التي يلزم على المكلَّف تعلمها هو علم التوحيد، وأن العدل قائم عليه، حيث يتم الإستدلال على العدل بكونه عالماً وغنياً، وكل ذلك يعود إلى علم التوحيد، وعليه لا بد من تقدم هذا العلم ليبنى عليه العدل، لكن العلم بالتوحيد لا يتم إلا بالعلم بحدوث الأجسام وكذلك صفاته[22].
وذهب المعتزلة القدماء إلى أبعد من ذلك حينما اعتبروا أن إثبات الصانع أو التوحيد يتوقف على قضية الحسن والقبح، إذ رأوا أنه لو كان فعل الفاعل ليس لمحض الحسن لما كان بالإمكان إثباته، حيث دلت الدلالة على أنه لا يفعل إلا الفعل الحسن، وبالتالي لو كان هذا الفعل لا يتحقق إلا عندما يكون هناك غرض معين غير الحسن؛ لوجب أن لا يقع منه الفعل أصلاً لغناه، وحيث أنه وقع منه الفعل فعُلم أن ذلك كان لحسنه فحسب، وعند نفيه سيفضي الأمر إلى عدم إثبات الصانع[23].
ويمكن صياغة المسألة بطريقة أخرى، وهي أن إثبات الصانع يتوقف على إثبات كونه لا يفعل إلا الحسن، إذ لو لم يفعل الحسن لفعل القبيح، وهو لا يفعل ذلك إلا لحاجة ونقص فلا يكون صانعاً، وحيث أنه ليس بجسم كي تعتريه الحاجة والنقصان، فدلّ ذلك على أنه غني، وكونه غنياً يتوقف على أن فعله للشيء الحسن لا يكون لغرض آخر غير الحسن، فلو فعله لغرض آخر لاحتاج إليه، فيقع المحذور من نفي الغنى ومن ثم الصانع.
وعموماً إنه إذا كانت قضايا التوحيد تختص - غالباً - بالعلاقة مع الصفات الإلهية، فإن العدل في القبال يشمل جميع القضايا الأخرى المناطة بالخلق؛ وعلى رأسها مسألة التكليف. وبالتالي فإنه بحسب هذه المسألة لا بد من تحديد العديد من القضايا الفعلية التي تفرض نفسها على المكلِّف فيما يجب فعله لتصحيح عملية التكليف طبقاً للأصل المتمثل في العدل؛ والذي بدونه تفقد المسألة الدينية معناها وجدواها. والأمر قد ينسحب على عملية الخلق ذاتها، أي على العلاقة التي تربط الخالق بالإنسان وحكمة وجود الأخير وغاية خلقه.
لذلك حرص أصحاب منطق الحق الذاتي ليس فقط على تصحيح العملية التكليفية، ومن ثم تأسيس المسألة الدينية خارجاً وداخلاً، وإنما أيضاً على تصحيح عملية خلق الإنسان تبعاً لتلك الصورة من الهدف التكليفي، إعتماداً على أصل العدل دون سواه من الأصول.
وللعدل تفريعات كثيرة كتلك التي تجمعها قاعدة اللطف، فعليها تتقوم معرفة الواجبات، كما يلاحظ لدى الفقرة التالية..
رابعاً:
تعتمد نظرية اللطف والصلاح على قاعدة العدل، كما تتفرع عنها قواعد ومسائل عديدة، أبرزها مسألة النبوة وما يترتب عليها من العصمة والإمامة كما لدى بعض الفرق، بناءاً على اعتبار النبوة، وكذا الإمامة، نوعاً من اللطف، واللطف واجب، فالنبوة واجبة بالتبع.
ويُقصد باللطف أنه «عبارة عما يدعو إلى فعل الواجب ويصرف عن القبيح»[24].
وقد يسمى اللطف توفيقاً أو عصمة، فإذا كان داعياً لغرض فعل الطاعة سمي توفيقاً، وإذا كان يدعو إلى غرض اجتناب القبيح سمي عصمة[25].
وواضح أن اللطف بهذا المعنى له غرض في التكليف؛ لأنه يعزز الداعي لفعل الواجب والصرف عن القبيح. وهذا التحديد ينسجم مع ما عمد إليه أغلب منظّري الإتجاه السابق بحصر الواجب في اللطف بما يكون بعد جعل التكليف. ففي حدود هذا الشرط يجب على المكلِّف أن يلتزم به كالتزامه بالتمكين والثواب، وذلك بأن يفعله لكل من يعلم أنه لا يختار الطاعة إلا به.
أما ما كان قبل التكليف، أو مقارناً له، فهو غير واجب رغم أنه يفعله من باب التفضل والإحسان، خلافاً لما ذهبت إليه بعض فِرق منطق الحق الذاتي؛ كمعتزلة بغداد الذين اعتبروا أساس جعل التكليف من الواجبات على المكلِّف بإعتباره من أصلح الأمور بعد أن تمّ خلقنا بهذه الصورة التي تميل فيها طبائعنا إلى فعل القبيح[26].
ويتمثل حسن التكليف - هنا - بحالة تعريض المكلَّف للثواب، لأن فيه منافع عظيمة لا طريق للوصول إليها إلا به[27]. لذا فمعنى الثواب هو العوض المستحق المقترن بالتعظيم والتبجيل[28]. فهو الغاية التي تبرر جعل التكليف - دون غيره - من السنن الممكنة، رغم أن التصور البشري يألف ترجيح اسلوب الإنعام والإحسان على الثواب، لأن في هذا الأخير ما يقتضي فتنة البلاء وخطر الوقوع في العذاب.
على أن اعتبار ثواب الآخرة من الواجبات المستحقة للعبد يحتاج إلى دليل مستقل غير ما ذُكر حول التكليف، إذ يمكن أن يجاب بأن الإلتزام بالتكليف هو في حد ذاته شكر لله في ما يناله العبد من النِعم في الدنيا، وبذلك يتساوى الحساب بين الطرفين. ويبقى ثواب الآخرة بحاجة إلى دليل منفصل غير ما طُرح بأنه العوض المستحق للعبد.
كما أخطأ هذا المنطق حينما حوّل الخيارات الإلهية بشأن الأمور الدينية - كمسألة التكليف - إلى واجبات ملقاة على عاتق المكلِّف. وهذا التحديد لا يصح ما لم تُعرف بالضبط حكمة الله في خلقه، مع أنها من الأمور التي يتعذّر على العقل إدراكها.
مهما يكن، فإن حصر اللطف في دواعي فعل الواجب والانصراف عن القبيح، يثير تساؤلاً حول مدى تحققه في الحياة الواقعية. إذ يُلاحظ أن دواعي الانصراف عن الواجب وارتكاب القبيح تتكرر كثيراً. وبناءً عليه، لو كانت نظرية اللطف صحيحة، لوجدنا في المكلَّف غلبةً لدواعي فعل الواجب واجتناب القبيح، لا سيما وأن هذه النظرية تتبنى وجوب اختيار الأصلح في ما يتعلق بأمور الدين والتكليف. ولهذا، لم تصمد أمام بعض اعتراضات الخصوم، كاعتراض الغزالي المستلهم من روح النقد التي عبّر عنها الأشعري في محاوراته مع أستاذه الجبائي.
وترد الشبهة بصورة أخرى، كالتي عرضها الشيخ الهمداني ومن بعده الطوسي، حول تصحيح عملية التكليف لمن علم الله أنه سيكفر، حيث اعتبرا أن شرط التعريض للثواب حاصل مع اللطف به وتمكينه من فعل الطاعة بحرية[29].
وقدّم كل منهما تبريراً للعقوبة يختلف عن الآخر. فقد اعتبر الهمداني أن علتها تعود إلى فعله للقبيح واخلاله بالواجب. في حين اعتبر الطوسي أن العلة تعود إلى عدم إنتفاع المكلَّف باللطف المعروض عليه، وقدّم مثالاً برر من خلاله حسن مثل هذا التكليف المفضي إلى الكفر والعقوبة، فلو ظننا بأن ما نقدّمه من طعام إلى جائع سيردّه، وما نمدّه من حبل إلى غريق سيتركه، فإن ذلك لا يخدش في حسن صنيعنا.. والحال يجري مع التكليف أيضاً[30].
غير أن الفرق بين الحالين بيّن، إذ في المثال لا يحق لنا معاقبة من أردنا له الإحسان، وفي التكليف يحق ذلك. والطوسي يرى أن من يردّ ما هو بحاجة إليه من الإحسان يستحق الذم من العقلاء والعقاب من الله[31].
ومن حيث الاستدلال بالشاهد على الغائب، تبرز بعض الشواهد التي تُضعِف من حسن تكليف الكافر، وقد جرت عادة أصحاب هذا المنطق الإشارة إليها والجواب عنها، ومن ذلك ما عرضه الشيخ أبو جعفر الطوسي من مثال مفاده؛ لو أن رجلاً أرسل ولده في تجارة لكسب المال، وكان يظن أنه سيُقتل أو يموت، فهل يحق له هذا الإرسال؟
مبدئياً، وافق الطوسي على قبح مثل هذا الفعل أو الارسال، لكنه رأى أن حاله يختلف عن التكليف، معللًا ذلك بأن المولى لا يعود إليه نفع في تكليفه للغير، بخلاف المثال الذي يعود فيه النفع إلى الأب في كسب المال، ومن ثم نفى وجود مصداق في الشاهد يماثل الغائب، إذ أنكر أن يُعرّض أحدٌ غيره لنفع لا يعود عليه بشيء من النفع أو الضرر [32].
غير أن هذا الفارق لا يغير من جوهر المسألة، ولا يمس مناطها، إذ يمكن إفتراض أن الإرسال تم دون قصد نفع، فهل يحسن الفعل في هذه الحال؟!
هذا من جهة علاقة اللطف بالتكليف كما يفهمه أغلب أصحاب منطق الحق الذاتي.
لكن هناك اتجاهًا آخر يرى وجوب اللطف على الله حتى قبل التكليف، وهو الرأي الشائع بين معتزلة بغداد وبعض علماء الإمامية، حيث اعتقدوا أن وجوب الأصلح لا يقتصر على قضايا التكليف والدين، بل يتعداها إلى ما قبله، كخلق العالم، وجعل التكليف، والإغداق بالنعم... إلخ، ومبررهم في ذلك هو أن الله تعالى لو لم يفعل الأصلح لكان بخيلاً؛ ما دام يملك القدرة التامة مع وجود الداعي وانتفاء الصارف[33]. وكما قال بعضهم: «كيف يحسن من العاقل أن يمنع الإنسان العطشان من بحر يملكه لا يقل شربه منه، أو يمنعه من السكون والاستضلال بظل داره، أو أن يلقط ما تناثر من حَبّه، أو الإنتفاع بما يلقيه مما يأكله رغبة عنه، ولا ريب أن ملك الله تعالى كالبحر وما يتناوله الإنسان مما يفيضه عليه أقل من نسبة الجنة إلى الحَب المتناثر»[34].
ومن الواضح إنه لو صدق هذا التفكير؛ لما كان هناك داع لعناء التكليف والبلاء، ولا صحّ إيجاد سنّة للحساب والعقاب. وهو لا أقل من أن يقف عاجزاً أمام الكثير من التساؤلات الوجودية الكبرى، كتلك التي تُعرف بشبهات ابليس السبع[35].
وعلى العموم، ثمة جوابان يُطرحان حول نظرية الأصلح بالشكل المعروض:
الأول، أن ما نراه من عناء وبلاء هو من حتميات الوجود ولوازمه، كما ذهب إليه النظام الوجودي. وبهذا يتحول التفكير المعياري السابق إلى تفكير وجودي يصادر القدرة الإلهية ولا يجد لها سعة على فعل الأصلح دون الوسائل الدنيوية طبقاً لمقولة (ليس بالإمكان أبدع مما كان)[36].
أما الجواب الثاني، فيقر بأن نظرية الأصلح - بصورتها المعروضة - لم تكن أساس الخيار الإلهي، بل إن هذا الخيار قد تجسّد في قانون الفتنة والاختبار والبلاء، وهو لا يشكل الأصلح للجميع، إذ يفضي إلى مآلات لا تُحمد عقباها لكثير من الناس. هكذا جرت سنة الله في خلقه، كما تشير إليه الكثير من الآيات، وما يبدو من الواقع أيضاً.
نعم، قد يُؤسس لنظرية الأصلح ضمن اعتبارات البلاء والإختبار وليس في عرض منها. فلو تأملنا هذه النظرية مطلقًا دون قيد اعتبارات البلاء والإختبار، لوجدنا أن المسألة الدينية المبنية على التكليف ليست هي الخيار الأصلح. كذلك فإن حياتنا كما نعيشها ليست هي المثال الأفضل، بل إن الخيار الأصلح يتمثل في سعادة شاملة لا يشوبها بلاء أو عناء. وإذا كان الخيار الأخير غير ممكن؛ لذا فإن ما يجنح إليه النظام الوجودي يغدو الاحتمال المنافس لنظرية الاختبار الديني، كالذي يدعو إليه منطق حق الملكية مثلاً.
وبحسب التصور العقلي تكون اطروحة النظام الوجودي أكثر قبولاً من غيرها، لكن عيبها أنها تتضمن الحتمية التامة، وهذا ما دعانا إلى اقتراح اطروحة جديدة تتلافى العيب المذكور، وصككنا لها مصطلح نظرية (عجز المادة الأصلية). وهي ترى بأن ظواهر العالم وحوادثه مدينة في وجودها إلى القدرة الإلهية الشاملة مع افتراض أزلية المادة المشتركة أو الأصلية للكون. فرغم أن قدرة الله هي أساس وجود العالم بمظاهره المختلفة، لكنها – في الوقت ذاته – ليست علة لوجود هذه المادة.
وبناءً على هذه النظرية تصبح الإرادة الإلهية متعلقة بأفضل السبل الممكنة لتحقيق الغايات الطبيعية. فمع افتراض قِدم المادة التي هي محل التخليق والتكوين يصبح الموجود هو الأصلح والأفضل وفقاً للخيارات الإلهية. في حين لو افترضنا فكرة خلق المادة الأصلية لأدى بنا الحال إلى الاعتقاد بأن أفعال الله لا تخضع للحكمة ولا للأصلحية والأفضلية، كما هو معتقد منطق حق الملكية أو الأشاعرة. كذلك لو لم نعترف بقدرة الله وإرادته الحقيقيتين لأفضى الحال إلى أن تكون قوانين الطبيعة حتمية صارمة كما يصورها النظام الوجودي.
في حين إن الخيار الثالث يخالف اعتقاد منطق حق الملكية في نفي حكمة الله ومراعاته لخلقه، كما يخالف قول النظام الوجودي في جعل الإرادة والقدرة الإلهية مجازيتين. وبالتالي جاء الخيار الثالث جامعاً لأمرين لا يجتمعان لدى غيره، وهما: أزلية المادة الأصلية، والقدرة الإلهية الشاملة. وهو خيار لا يتنافى بالضرورة مع الرؤية الدينية التي تشدد على فكرة البلاء والإمتحان كغاية لخلق العباد. فيمكن لهذه الرؤية ان تنضوي تحت القوانين والخيارات التي شاءها الله مصلحة لعباده؛ كأفضل السبل الممكنة، وبموجبها يمكن للشرور أن تتناقص عند الإلتزام بتعاليم الخير والمثل الدينية[37].
وعموماً إنه بحسب المنظور الديني الخالص، تكون نظرية الإختبار هي المرجحة على غيرها، مثل نظرية الأصلح، رغم ما يحمله هذا الإختبار من ملابسات الفتنة والهلاك[38]. وبالتالي كان لا بد من العودة إلى ما تقوله نظرية الأصلح التي تحدد اللطف ضمن إطار عملية التكليف وليس خارجها أو ما هو سابق لها من خلق الدنيا والعالم.
***
استناداً إلى نظرية اللطف كما تقرّرها مباني منطق الحق الذاتي، ثمة شروط تُصحّح عملية التكليف وتُعدّ من الألطاف الواجبة على المكلِّف، أبرزها: الإعلام، والتمكين، والإقدار، والثواب، والعقاب. وهذا ما سنعالجه في الفقرة التالية:
خامساً:
يتصدر الإعلام قائمة شروط التكليف المتعلّقة بحق المكلَّف على المكلِّف، إذ إن انتفاء الإعلام يُفضي إلى انتفاء اللطف والعدل، فلا بد أن يعلم المكلَّف بما يُكلّف به. ويذهب القاضي الهمداني إلى أن الإعلام يتمّ على وجهين: أحدهما أن يكون بخلق العلم في نفس المكلَّف، أي بأن يُحدِث الله فيه علماً ضرورياً يُعرَف به التكليف، والعلم الضروري - على وجه الإجمال - هو ما لا يمكن للنفس دفعه أو نفيه بوجهٍ من الوجوه[39]. والوجه الآخر أن يكون الإعلام بنَصب الدلالة، ليستدل بها المكلَّف فيتعرّف من خلالها على ما كُلِّف به. وفي كلا الحالتين، يجب على المكلِّف أن يهيّئ للمكلَّف وسائل التمكين من المعرفة المتعلّقة بالتكليف.
ويُعدّ العلم الضروري مقدَّماً على التكليف، شأنه شأن التمكين والإقدار واللطف، إذ لا يتحقق التكليف إلا باجتماع هذه الأمور. فمن الضروري أن يُسبق التكليف بعلم ضروري يُثمر عنه سائر المعارف المكتسبة التي يُبنى عليها التكليف. وهناك نوعان من المعرفة يجب أن يتقدّما عليه: أحدهما ما يُتمّ به العقل، والآخر أصول الأدلة، وهي في الغالب علوم ضرورية لا ينفك عنها كمال العقل. والقول بضرورة هذه الأصول إنما هو لتفادي الوقوع في التسلسل الباطل، إذ لو لم تكن للأدلة أصول ثابتة، لَلَزِم أن يحتاج كل دليل إلى دليل، إلى ما لا نهاية، وهو باطل[40]. وفي المجال القيمي يرى هذا الإتجاه أن أبرز العلوم الضرورية هي العلم بوجوب رد الوديعة وشكر المنعم والإنصاف وقبح الظلم والكذب والعبث وما إلى ذلك[41].
واذا كان تمكين الإعلام مما لا غنى عنه في التكليف، وهو من الألطاف والعدل، فإن تمكين الإقدار هو أيضاً مما لا غنى عنه، فبدونه يصبح المكلَّف مجبراً لا يقوى على الفعل المطلوب، وهو ما يتنافى مع مبادئ التكليف من اللطف والعدل. وهنا تتصحح مسألة القضاء والقدر لدى أصحاب هذا المنطق، بنفي كل من الإلجاء والجبر في العملية التكليفية، وأن للإنسان قدرة مخلوقة من قبل الله تعالى، لكنها لا تبعث على الإلجاء في الفعل. فالإنسان حر في إرادته وإختياره ليستقيم بذلك التكليف وما يترتب عليه من الجزاء في الثواب والعقاب، ولولاه ما صحّ التكليف ولا الأمر والنهي، ولبطلت الرسالات والجزاء، ولانتفت حجة الله على العباد.
ولدى الشريف المرتضى، إنه لا يصح أن تكون أفعال العباد مخلوقة من قبل الله تعالى، وإلا لما صحّ الذم والمدح ولإنتفى غرض التكليف، بل لما صحّ حصول الأمر والنهي، مثل أوامره بالطاعة والإيمان والعبادة وعمل الخير وما إليها، إذ لو كان العباد مجبرين لما صحّ أن يخاطبوا بالأمر والنهي. وقد أكّد بأن العباد وإن لم يكونوا مجبرين على أفعالهم إلا أن هذه الأفعال غير مفوضة إليهم بإطلاق، فهم ليسوا مستقلين بانفسهم، إذ لو أن الله لم يقدرهم ويمكنهم بالآلات وغيرها لما تمكنوا من تلك الأفعال[42].
وبحسب القاضي الهمداني تعد هذه القضية أساسية، فبدونها لا يمكن الإستدلال على وجود الله أو الصانع. فقد رفض جواز الإستدلال بالسمع حول مسألة خلق أفعال الإنسان، كردّ على الأشاعرة، معتقداً أن صحة السمع تُبنى على كون الله حكيماً عادلاً لا يفعل القبيح، كما أن إثباته تعالى يعتمد على إثبات الشاهد محدثاً حتى يصح قياس الله عليه، ومن أنكر إحداث العباد لأفعالهم فقد منع - في رأيه - الإستدلال على الله أو الصانع[43].
مع هذا فإن أصحاب هذا الإتجاه لم يقفوا على حقيقة ما تتضمنه القضية الأخيرة، سواء من حيث ما تؤكده النصوص القرآنية من صور متعارضة يكمل بعضها البعض الآخر، أو من حيث ما يبديه الواقع من حقائق تتطابق مع تلك النصوص في تأكيد الحالتين من الجبر والتفويض، أو حتى من حيث ما تبديه بعض نصوص الرواية التي يستشهد بها جماعة من اتباع هذا المنطق ومنهم رجال الشيعة بطريقة غير صحيحة، ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق قوله: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين»[44]. فقد ذهب علماء الشيعة إلى اتجاه لا يختلف عن الإتجاه الذي ذهب إليه المعتزلة في نفي الإلجاء جملة وتفصيلاً، وأخذوا يأولون هذا الحديث رغم أنه يتسق مع مضامين النص القرآني وشواهد الواقع.
ونستثني من علماء الإمامية المرحوم مرتضى مطهري الذي تناول موضوع القضاء والقدر بطريقة أقرب إلى الواقع منه إلى ما كان يمارس تحت هيمنة علم الكلام. ففي كتابه (الإنسان والقدر) عالج القضية باتخاذ النص محوراً مركزياً للفهم والتأسيس، خلافاً لما اعتاد عليه المتكلمون من الإعراض عن ظواهر النصوص لصالح النظر القبلي المجرد، ومنهم متكلمو الإمامية الإثنى عشرية. وقد اعتبر الشيخ مطهري أن خطأ هؤلاء الأخيرين هو أنهم كانوا تحت تأثير كل من المعتزلة والأشاعرة[45].
ورغم أنه لم يشر إلى ما للواقع من أهمية في حل المشكل المبحوث؛ لكننا نعتقد بأن السلوك الذي اتبعه والعلاج الذي وضعه إنما كان بتوجيه الواقع؛ ولو بشكل لا شعوري. فقد فسّر حركة الإنسان ضمن اعتبارات السنن الإجتماعية، مشيراً إلى صراحة النص في التنبيه على الأثر الإلهي في السلوك البشري الخاص بالتكليف، وهي النقطة التي لم يقرّها كل من المعتزلة والإمامية لإعتقادهم بأنها تخالف العدالة الإلهية، لما تؤدي إليه من الإلجاء أو الجبر، لهذا فقد عملوا ما بوسعهم على تأويل الآيات الصريحة.
2ـ واجبات المكلَّف
وفقاً لمنطق الحق الذاتي، إنه إذا كانت الواجبات العقلية الإلهية تتأسس على قاعدة العدل، كما مرّ معنا، فإن الحال مع الواجبات العقلية الإنسانية شيء آخر مختلف. فبحسب هذا المنطق أن من يضع أصول العلاقة التكليفية يتوجب عليه جملة من الواجبات تمتاز بطابع (الفعل الموضوعي) كحق للمكلَّف على المكلِّف، إذ تتأطر بقاعدة العدل. وفي المقابل يتوجب على المكلَّف جملة من الواجبات العقلية التي يلزم الإتيان بها، وهي تتأسس على قاعدة أولية لا تحمل طابع الفعل الموضوعي كالذي عليه قاعدة العدل، بل إنها ذات اعتبارات ذهنية غرضها الكشف عن سائر التكاليف والواجبات الأخرى؛ بما في ذلك الواجبات الدينية.
فحقوق المكلِّف على المكلَّف تارة تكون عقلية، وأخرى دينية (شرعية) تقتضيها العلاقة التكليفية، لأن دائرة العقل تظل مجملة لا يسعها تفصيل كافة الواجبات والحقوق، فكان لا بد أن تتبعها الواجبات والحقوق الدينية. وكلها تعتمد على القاعدة الأولية ذات الاعتبارات الذهنية، وهي معدة من الألطاف باعتبارها تدعو إلى سائر الواجبات الأخرى، وبدونها لا يتم الكشف عن هذه الواجبات.
وبذلك فإن اللطف لا يتعلق بواجبات المكلِّف فحسب، بل بواجبات المكلَّف أيضاً. فقد حدد القاضي الهمداني المعرفة التي يجب على المكلَّف تحصيلها بثلاثة أنواع:
أحدها العلم بالأفعال المكلَّف بها، وثانيها العلم بالمكلِّف وصفاته وحكمته، أما ثالثها فهو العلم بما نستحقه بهذه الأفعال من منافع ومضار. وعند الهمداني أن العلم بالمكلِّف وصفاته وحكمته إنما وجب لوجوب العلم الثالث، حيث يتعذر تحصيل هذا الأخير ما لم يتم العلم الثاني المشار إليه. وأن العلم الثالث إنما يصير لطفاً في فعل الواجب وتجنب القبيح، واللطف متى كان من فعل المكلَّف جرى مجرى دفع الضرر عن النفس، فيلزم تحصيله لنفسه، حيث إن العلم باستحقاق الثواب على الفعل الواجب يدعو إلى فعله، وكذا أن العلم باستحقاق العقاب على الفعل القبيح يدعو إلى تركه وتجنبه، وكل ذلك لا يتم إلا بمعرفة الله[46]، وبالتالي كانت هذه المعرفة لطفاً لأنها تبعث على فعل ذلك الواجب وتدعو إلى ترك القبيح. فالمعرفة بالله لها غرض في التكليف من الفعل والاجتناب. أو أن الغرض من معرفة الله وصفاته هو لأجل العلم بما نستحقه بالأفعال من منافع ومضار، فالعلم بالمسألة الإلهية واجب لوجوب العلم بتلك الأفعال.
وبالتالي، يتبيّن أن نظرية اللطف، كما تُناط بما يجب على المكلِّف، فإنها تشمل أيضاً ما يجب على المكلَّف، وهي في جميع الأحوال مستمدّة من مبدأ الحق الذاتي.
وكما أسلفنا، فإن واجبات المكلَّف تقوم على قاعدة أولية تُعدّ من أول الإلزامات العقلية، وتمتاز بكونها غير مطلوبة لذاتها، بل لما يترتّب عليها من واجبات وتكاليف أخرى. وسنتناول هذه القاعدة من خلال الفقرتين التاليتين:
أولاً: أول التكاليف
للبحث عن أول التكاليف العقلية أهمية خاصة لدى اتباع منطق الحق الذاتي، فعليه تتأسس التكاليف العقلية الأخرى، كما أن من شأنه إقامة العلاقة التي تربط بين التكاليف العقلية والدينية. وقد اختلفت أقوال علماء المذاهب حول أول الواجبات إلى بضعة عشر قولاً، كالذي أفاده الزركشي في (البحر المحيط) [47].
ومن وجهة نظر القاضي الهمداني، فإن من علامات الواجب الأول هو أن لا يسبقه أمر آخر يؤدي إليه ضرورة، وإن كانت هناك شروط للتكليف سابقة عليه، مثل كمال العقل والخوف والخاطر وما شابه ذلك.
وهذا يدل على أن للواجب الأول بعض الامتيازات التي تجعله يختلف عن شروط التكليف وعن سائر التكاليف. حيث يتصف بأنه مقصود إليه بالإرادة والإختيار، وهو ما يميزه عن شروط التكليف التي لا تقبل القصد والإرادة، كما يشترط أن يكون غير مراد لذاته، بل يراد به واجب آخر أولى منه[48].
ومع ذلك لا نجد اتفاقاً بين أصحاب منطق الحق الذاتي حول هذا الواجب. فقد حدّده المعتزلة البغداديون بمعرفة الله[49]، وهو رأي يتميز عن قول الأشاعرة بأن معرفة الله هي أول التكاليف الفعلية رغم أنها ليست تكليفاً عقلياً، بل تكليف شرعي، ومثله ما ذهب إليه أهل الحديث والكثير من الفقهاء، فأول الواجبات عندهم هو معرفة الله على ما وردت به الأخبار، وأنه لا تجب معرفته قبل السمع[50].
لكن الرأي السائد بين مفكّري المعتزلة وغيرهم من أنصار منطق الحق الذاتي، هو اعتبار الواجب الأول مُحدَّداً بالنظر المؤدّي إلى معرفة الله. فالنظر يُعدّ أول التكاليف والواجبات العقلية، وهو ما التزم به القاضي الهمداني، إلى جانب عدد من علماء الإمامية، كابن النوبختي، والشريف المرتضى، والشيخ الطوسي، فضلاً عن الزيدية وغيرهم[51].
وفي مقابل هذا الرأي، ذهب بعض المعتزلة، كأبي هاشم الجبائي، إلى أن الشكّ هو أول الواجبات، إذ لا يتمّ النظر إلا بسببه[52]. غير أن القاضي الهمداني ردّ على هذا الرأي قائلاً إن الشك ليس بمعنى، ولو كان معنى لم يكن مقصوداً إليه، وأنه لا بد من وقوعه لما ترد عليه من أسباب الخوف[53].
وعلى رأي الهمداني إن «النظر» يمثل الإحتمال الوحيد المعقول دون غيره من الإفتراضات الأخرى. فقد اعتبر أنه لا يصح أن يكون ترك القبح والظلم هو أول الواجبات؛ باعتبار أن الترك أمر سلبي لا يمثل فعلاً، كما لا يصح أن يكون العلم بالله تعالى هو الأول؛ لأنه متأخر عن عملية حصول النظر، كما أن أول الواجبات لا يتمثل في القصد إلى النظر وإختياره كالذي ذهب إليه ابن فورك والجويني، باعتبار أن القصد يقع تبعاً للمقصود وليس له حكم في حد ذاته، فكيف يُجعل أول الواجبات؟ كما أنه ليس الخوف الذي ينتاب الإنسان بسبب تركه للنظر؛ باعتبار أن الخوف من شرائط التكليف، كما أنه من الغرائز التي يضطر إليها الإنسان فلا يكون واجباً على المكلَّف. وأخيراً فإن أول الواجبات لا يصح أن يتمثل في شكر المنعم على نعمه، بإعتباره متأخراً عن معرفة الله تعالى وصفاته وعدله وحكمته.
وعليه لم يبق إلا النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى[54]، وهو يحصل عن طريق الإستدلال على إثبات الأعراض وحدوثها، ومن ثم إثبات حدوث الأجسام حتى ينتهي الحال بمعرفة الله وما يتعلق به من صفات[55].
لكن من الناحية المنطقية إن توقف الواجب على اتيان أمر ما لا يدل على وجوبه. فمثلاً لو اعتبرنا معرفة الله واجبة، وهي متوقفة على نفي جملة أمور، كالتسلسل والشريك والجسمية... الخ، فإن من غير المعقول أن يكون الناس مكلفين بالنظر فيها مع علمنا أنها من الأمور التي لا يتداركها غير العلماء. فإنْ دلّ هذا على شيء؛ فإنما يدلّ على عدم ضرورة وجوب كل ما يخضع للنظر مما يتقدم على غيره من الواجبات. ومن ثم - وبغض النظر عن أي اعتبار آخر - قد يكون الواجب الأول مستمداً من الشرع.
ثانياً: الدليل على الواجب الأول
يتطلب البحث في النظر إثبات أمرين، أحدهما أنه واجب عقلي، والآخر أنه أول التكاليف. وليس لدى أصحاب منطق الحق الذاتي دليل خاص يثبت أن النظر هو أول التكاليف سوى ما قدمناه من نفي مجموعة الإفتراضات المرشحة لأن تمثل الواجب الأول كما أفاده الهمداني. مع أن هذا النفي لا يعني نفي كل إفتراض ممكن.
ومثل ذلك ما صرح به الشيخ الطوسي الذي اعتبر النظر أول الواجبات، لأن هذه الأخيرة على ضربين: عقلي وسمعي، فالسمعيات مبنية على معرفة الله ومعرفة النبي، وهذه الأخيرة متأخرة لا محالة، أما العقليات فإنها تخلو من جميع الإفتراضات الممكنة بإستثناء النظر، مما يدل على أنه أول الواجبات[56].
أما إثبات الوجوب العقلي للنظر، فعليه جملة من الأدلة الخاصة، وهي تُوجَّه ردّاً على من يجيز التقليد من غير نظر، كما تُعارِض رأي من يرى أن جميع المعارف ضرورية بطبعها[57].
ومن الأدلة المطروحة ما ذكره الهمداني من أن وجوب النظر هو من الألطاف الأساسية؛ باعتبار أن اللطف لا يتم إلا به، إذ إن علمنا باستحقاق الثواب والعقاب يتوقف على معرفتنا بالله تعالى، وهي تتوقف عليه، ولهذا كان واجباً لوجوب ما تقدم عليه من الألطاف[58]، وبه يثبت التكليف العقلي.
لكن هذا الدليل لا يخلو من إجمال، وعادة ما يطرح في التفصيل دليلان؛ أحدهما يبنى على قاعدة شكر المنعم، والثاني يتأسس على حالة الخوف، والمعول عليه عادة هو الثاني، حتى أن الهمداني جعل - في بعض مصنفاته - الأول متضمناً في الثاني[59]. ومع هذا سنذكر الدليلين منفصلين كما يلي:
الدليل الأول:
ومفاده أنه لما كانت هناك نعم كثيرة فلا بد من معرفة المنعم حتى نشكره، ولا طريق إلى ذلك إلا بالنظر، فيكون النظر واجباً لوجوب معرفة المنعم المترتب على وجوب الشكر.
وقد شرح العلامة الحلي هذا الدليل تبعاً لثلاث مقدمات:
«الإولى: إن معرفة الله واجبة لأن شكره واجب، ولا يتم إلا بالمعرفة، أما وجوب الشكر فلأن نعمه على العبد أكثر من أن تحصى، وشكر المنعم واجب بالضرورة، وأما أنه لا يتم إلا بالمعرفة فبالضرورة. الثانية: إن معرفة الله لا تتم إلا بالنظر، وهذه المقدمة بينة لا تفتقر إلى الإستدلال، لأن المعرفة ليست ضرورية قطعاً، بل نظرية... الثالثة: إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»[60].
ومن الناحية المنطقية إن هذا الإستدلال غير مقنع، فنحن أولاً لا نعرف وجوب النظر والشكر ما لم نعرف قبل ذلك بعض خصوصيات الربوبية كطبيعة الإله وكونه عادلاً ومريداً وقاصداً للإنعام... الخ، وهو ما لا يدرك دون نظر، فنكون بذلك قد صادرنا على المطلوب.
الدليل الثاني:
ومفاده أنه قد تقرر في العقول وجوب دفع الضرر عن النفس؛ سواء كان هذا الضرر معلوماً أو مظنوناً.
ففي كلا الحالين يجب على الإنسان أن يتحمل مسؤولية النظر، لا سيما عند الخوف. فدواعي خوف الإنسان كثيرة:
منها ما قد يسمع من الإختلافات المذهبية، حيث يرى أن كل مذهب يضلل أو يكفر ما عداه من المذاهب فيخاف أن يكون ممن ضل وخسر، فيدعوه ذلك إلى النظر ليعرف الحقيقة. ومنها ملاحظة ما في نفسه من أثار النعم فيخاف إنْ لم يعرف المنعم ويشكره فسوف يتعرض للعصيان ويكون مستحقاً للذم والعقاب. ومنها حصول الخاطر من قبل المكلِّف أو ملائكته[61].
فعلى رأي البعض إن عدم التفات الفرد إلى دواعي الخوف من العوامل الخارجية، يوجب على المكلِّف أن يلهمه الخاطر ليتنبه ويشعر بوجوب النظر[62].
ويقوم الدليل السابق على ثلاثة مرتكزات رئيسة كالتالي:
الأول: إن قاعدة وجوب دفع الضرر عن النفس هي التي تحدد صحة وجوب النظر، سواء كان الضرر معلوماً أو مظنوناً.
الثاني: يتمثل الدافع إلى النظر بالخوف، كشرط من شروط التكليف.
الثالث: إن عدم خوف الإنسان وتأثره بالعوامل الداعية إلى النظر يوجب على المكلِّف أن يلهمه الخاطر لتنبيهه على وجوب النظر وإقامة الأدلة.
وهذه المرتكزات في الدليل العقلي لا تخلو من مناقشة.
فالمرتكز الأول يحتاج إلى تحديد نوع الوجوب في دفع الضرر عن النفس، إذ لو كان القصد منه أن تاركه يستحق الذم والعقاب كما هو متعارف عليه لدى الكلاميين - وعنهم أخذ الأصوليون - لكان الأولى أن يكون هو أول الواجبات؛ بإعتباره الأساس في الدليل على معرفة وجوب النظر.
وهناك ملاحظة تتعلق بهذا المعنى، وهي أنه لا مانع من القول بأن وجوب دفع الضرر المظنون، الذي يدركه العقل، يعارضه مدرك عقلي آخر، هو ما يُعرف لدى الأصوليين بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).
فعلى هذا المعنى، لا يمكن لقاعدة الوجوب السابقة أن تحقق الهدف من إثبات وجوب النظر حينما يكون الضرر مظنوناً لا معلوماً، لا سيما إذا ما التفتنا إلى وجود إحتمال آخر هو تعلق هذه القاعدة بالمنافع والمضار الدنيوية فقط، ويكون جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان نافذاً فيما يتعلق بالمصالح الدينية التي يترتب عليها أثر في الآخرة، كما استصوبه بعض العلماء مثل الشيخ الطوسي[63]، وغيره على تقريب من بعض المعاصرين[64].
وبالنسبة للمرتكز الثاني، يلاحظ أن تبريره يقوم على أساس ذاتي غير منطقي، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إن الخوف بذاته لا يكشف منطقياً عن حقيقة الوجوب أو عدمه. وعلى الرغم من دوره النفسي المرتبط بمشاعر الإنسان وأحاسيسه، إلا أن الفرد في هذه الحالة لا يمكنه الاعتقاد بأن المكلِّف قد زرع الخوف في نفسه لتنبيهه على وجوب النظر، إذ إن هذا الاعتقاد لا يمكن أن ينشأ منطقياً إلا بعد النظر، وليس قبله.
ثانياً: يُعتبر الخوف من الأمور النسبية والمتفاوتة، إذ يختلف من إنسان لآخر بحسب الطبيعة والظروف المؤثرة في الأفراد.
ثالثاً: إن معظم الناس يندفعون في اعتقاداتهم تبعاً للتقليد، دون خوف أو نظر أو تفكير في الأدلة. وحتى الناظر في الأدلة غالباً ما يميل إلى هوى التقليد دون أن يتعداه. فالإنسان، في أغلب شؤون حياته، ومنها الشؤون العقدية والمعرفية، هو وليد بيئته، وعادة ما يفلسف هذه الحياة بناءً على الأُلفة والتفاعل مع الأشياء.
أما بالنسبة للمرتكز الثالث، فيُلاحظ أنه يحتوي على مصادرة غير بيّنة الثبوت، إذ ما الذي يدل على لزوم إلهام المكلِّف للإنسان بالخاطر حول وجوب النظر عندما لا تدعوه العوامل الخارجية إلى ذلك؟ والواقع الاجتماعي يستبعد هذا الأمر، حيث يميل الناس عادة إلى عدم التفكير في النظر الواجب، كما أشرنا سابقاً.
فضلاً عن ذلك، هناك مشكلة تكشف عن استبعاد ابتداء الوجوب العقلي بالنظر، وذلك إذا سلمنا بأن الشرع قد حدد لنا بداية التكليف عند البلوغ. فإذا كان النظر في الأدلة واجباً، لكان الفرد في سن مبكر من حياته العقلية حاملاً لواجب يفوق طاقته.
كذلك، لو كان الواجب على كل إنسان أن ينشغل في البحث لإقامة الأدلة العقلية لتصحيح عقيدته، لآدى ذلك إلى اختلال نظام الحياة الاجتماعية والمصالح البشرية، إذ لا يتهيأ البحث الجاد لإقامة الأدلة إلا للعلماء المختصين.
ولا ينفع القول بأنه يكفي البحث الإجمالي في إقامة الأدلة، إذ غالباً ما يُبرر هذا البحث ببقاء الناس على ما هم عليه من اتباع هوى المعتقد المألوف وأدلته، دون النظر بجدية أو اعتبار في أدلة المذاهب الأخرى. والإنصاف يدعونا إلى الإقرار بأن هذا هو دأب أغلب العلماء، كما أشار الإمام الغزالي في (الإقتصاد في الإعتقاد)[65]، فكيف الحال بالعامة من الناس؟
التكليف العقلي بين النفي والإثبات
يرى أصحاب منطق الحق الذاتي أن هناك واجبات عقلية يشهد العقل بضرورتها، وهي التي تدخل ضمن إطار الحسن والقبح. ويُعبّر عنها بالتكاليف العقلية، رغم الفارق بين الأمرين، حيث التكليف العقلي يفترض ضمناً وجود مكلِّف ومكلَّف، في حين إن الواجب العقلي لا يشترط فعلاً أن يكون هناك تكليف ومكلِّف ومكلَّف.
مهما يكن، فقد قدّم البعض تبريراً للتكليف العقلي معتبراً إياه من الواجبات المناطة بالفعل الإلهي، وفحواه أن الله تعالى خلق للإنسان شهوات لو خلي بينه وبينها لأغراه ذلك بفعل القبيح، وهو من العبث إن لم يكلفه بتجنب ذلك الفعل، وبه يتحقق الغرض من علة وجود تلك الشهوات[66].
ويعتمد هذا الإستدلال على المقدمات التالية:
1ـ إن طبع الناس يميل إلى فعل القبيح بسبب وجود الشهوات.
2ـ لو ترك الناس من غير تكليف لفعلوا القبيح.
3ـ إن ترك الناس على هذا الحال يعني اغراء لهم على فعل القبيح.
4ـ إن هذا الاغراء على فعل القبيح هو عبث وقبيح.
5ـ ومن ثم فإن العبث والقبيح لا يجوزان على المولى تعالى.
6ـ وحيث أنه إذا كان هناك غرض في فعله تعالى؛ فلا يحصل هذا الغرض إلا بالتكليف، وهو المطلوب إثباته.
لكن يرد على هذا الإستدلال أمران:
أولاً: ليس كل قبيح يغري، فهناك الكثير من الأمور القبيحة التي لا تغري الإنسان عادة، مثل قتل الآباء وخيانة الأحباء وما إلى ذلك من القبائح، مع أنها ليست خارجة عن حد التكليف، وبذلك فهي لا تخضع لما طُرح في الإستدلال المذكور. أيضاً إن درجات القبح متفاوتة، فهناك من القبائح ما لا يعتد به، كما هناك من القبائح ما يمكن اضعافه عبر بعض السلطات الرادعة، مثل سلطة الدولة والأعراف الإجتماعية التي تساعد على حفظ توازن المجتمع وإستقراره. مما يعني تضييق دائرة فعل القبيح.
ثانياً: من الناحية العقلية الصرفة قد تكون العبرة من وجود ما نعتبره من القبائح هي أنها قبائح من بعض الجهات، وأن ما فيها من مصالح يكفي لجعلها مصححة للفعل الإلهي بوجود الغرض وانتفاء العبث دون أن يكون لذلك علاقة بالتكليف؛ نظير ما يشاهد في سلوك الحيوان.
لذا فالأولى أن يقال بأن قضايا الواجبات العقلية هي من الواضحات، بمعنى أنها تدخل ضمن عنوان الحسن والقبح العقليين، وأن الإنسان يستحق عليها الجزاء. هذا من حيث الإجمال وبغض النظر عما إذا كان هناك تكليف أم لا؟
أما من حيث التفصيل، فعندما نثبت أن لهذا العالم صانعاً يتّصف بالعقل والقدرة والحكمة والإرادة، فإن هذا المعنى سيقرّبنا من فكرة الجزاء. وإذا علمنا أن الله قد بعث الأنبياء والرسل لتبليغ الدين، فعندئذ يمكن الوقوف على مدى التوافق بين الحكمين العقلي والديني.
فلو تبيّن لنا وجود تطابق واضح بين هذين الحكمين – من حيث إن كل ما يحكم به العقل يحكم به الدين أيضاً – فإن ذلك سيدلّ على استبعاد احتمال المصادفة والاتفاق العارض بينهما، اعتماداً على مبدأ الاستقراء ومنطق الاحتمال. بل لا بد أن يكون حكم العقل، من الناحية الإجمالية، حكماً صحيحاً لا ريب فيه، وهو المطلوب.
وبعبارة أخرى، يمكن صياغة السؤال والجواب بالشكل التالي:
هل بإستطاعتنا إثبات التكليف العقلي، على فرض علمنا بوجود المكلِّف، وترددنا بين أن يكون التكليف دينياً فحسب، أو أن يضاف إليه التكليف الأول؟ وكذا على فرض أننا نشك بعقلية الأحكام التي يدركها العقل مباشرة، بمعنى أنه لا سبيل للإعتماد على الزعم القائل بالضرورة العقلية للقضايا الواضحة؛ مثل حرمة الخيانة والإعتداء وما إلى ذلك؟
وللجواب نلجأ إلى قاعدة الإستقراء ومنطق الإحتمال ونطبقها على موقف الخطاب الديني من القضايا المفترضة ضمن التكاليف العقلية، فالتطابق بين الموقفين الديني والعقلي يدعم فكرة اعتبار القضايا العقلية صحيحة، وبغير هذا الاعتبار فستُفسّر المسألة طبقاً لمبدأ المصادفة والاتفاق.
ويُشترط في هذا الدليل التسليم بكون الخطاب الديني هو خطاب حقاني يعكس الحقيقة الموضوعية كما هي، وإلا فقد يكون مرجع الإتفاق والتطابق بين الموقفين عائداً إلى شيء آخر أجنبي؛ كالعرف الإجتماعي وما إليه.
فبحسب الطريقة الاستقرائية إنه كلما كثر عدد إقرار الخطاب الديني لما يدركه العقل من أحكام، كلما زادت قيمة إحتمال صحة الحكم العقلي لمجمل تلك الأحكام.
فمثلاً، لو كانت لدينا خمس قضايا مختلفة يُفتي فيها العقل مجرَّداً؛ كحكمه بحرمة قتل النفس البريئة، وعدم جواز السرقة، وقبح النفاق، ووجوب ردّ الوديعة، وحُسن شكر المُنعم، ثم نظرنا في الخطاب الديني فوجدناه يُطابق هذا الإدراك العقلي في جميع هذه القضايا؛ فإن هذا التطابق سيُعزز بدرجة عالية من قيمة احتمال صدق الحكم العقلي. وذلك لأننا، قبل الكشف الديني - وبصرف النظر عن أي مبررات أخرى - نفترض مبدئياً أن احتمال صدق الحكم العقلي يعادل النصف (1\2). لكن عندما يتطابق تقرير الخطاب الديني مع تلك القضايا، فإن ذلك يُسهم في زيادة الاطمئنان بسلامة الإدراك العقلي، نظراً لارتفاع قيمة احتمال صدقه.
ويمكننا، تحت بعض الشروط والافتراضات، حساب القيمة الاحتمالية التي يحظى بها الإدراك العقلي للأحكام رياضيًا، وذلك على النحو الآتي:
لنفرض أن القضايا الخمس المذكورة قد توافقت جميعها مع أحكام الخطاب الديني، لذا فإن احتمال أن يكون هذا التطابق قد وقع مصادفة يُعدّ احتمالاً ضعيفًا، ويُقدَّر بضرب إحتمالات تلك القضايا ببعضها.
ومن الناحية الرياضية، فإن احتمال حدوث هذا التطابق على سبيل المصادفة، وفقاً لهذا الافتراض، سيكون كالتالي:
(1\2) مضروبة في نفسها خمس مرات، وتساوي: 1\32
وهذا يعني أن إحتمال نفي الصدفة وتقرير صحة حكم العقل سيساوي:
1 ـ (1\31) = 31\32
وهي نسبة كبيرة بلا شك. ويمكن استخراجها رياضياً كما يلي:
من الناحية القبلية، نفترض أن إحتمال مطابقة كل قضية لحكم الخطاب الديني يساوي نصفاً، نرمز إليه بـ (هـ). فإذا كانت لدينا خمس قضايا فإن هناك صوراً عديدة ممكنة للتطابق مع أحكام الخطاب الديني، فقد تطابقه القضية الأولى فقط، أو الأولى والثانية، أو الثانية والخامسة، أو الأولى والرابعة والخامسة... الخ.
وهذه الصور بعضها يساوي البعض الآخر في الإحتمال، وإحتمال كل واحدة منها يستخرج بقاعدة الضرب التالية:
(هـ)م × (1-هـ)ن-م
حيث (ن) تمثل مجموع القضايا الكلية، و(م) هي عدد القضايا المراد معرفة إحتمال تطابقها مع أحكام الخطاب الديني. واستخراج قيمة إحتمال مطابقة (م) لأحكام الخطاب يقدر بضرب تلك القاعدة بقانون التوافيق كالتالي:
ن!
ــــــــــــــــــ × (هـ)م × (1-هـ)ن-م
م! (ن-م)!
!5
ــــــــــــــــ × (1\2)5 × (1-1\2)5-5
!(5-5)!5
ويساوي: 1\32
هذا هو الإحتمال القبلي لتطابق خمس قضايا عقلية مع الخطاب الديني صدفة، مما يعني أن نفي الصدفة يساوي:
1 ـ (1\32) = 31\32
وهو ما يكون لصالح الحكم العقلي.
ولا شك أنه كلما كثرت شواهد التطابق مع الخطاب الديني كلما زادت قيمة إحتمال صدق الحكم العقلي، تبعاً لتناقص القيمة الخاصة باحتمال الصدفة؛ حتى لا يعود لها أي اعتبار. وبالتالي نقطع عملياً بصحة ذلك الحكم من حيث الإجمال لا التفصيل؛ باعتبار أن القضايا المفصلة قد لا تكون صحيحة رغم موافقتها للخطاب. لكن لو صدقت جزئية واحدة لصدقت القضية الكلية، وهي صحة الحكم العقلي.
وهنا يتضح أن صدق بعض الجزئيات يحظى بالقطع رغم عدم العلم بتشخيصها، وهو معنى صحة الحكم العقلي من حيث الإجمال.
وفي دراسة مستقلة قمنا بتحديد الصيغة الرياضية لقانون استخراج قيمة إحتمال الفرض المؤيد بالإختبارات الناجحة، وهو القانون الذي سميناه بالشد، ويمكن الإستفادة منه لإثبات قضيتنا الحالية. فمن الناحية الرياضية تتحول الدلالة المنطقية لحالة الشد بين المؤيدات والفرض المطروح إلى ما يلي:
س ن – 1 (س ن - 1) (ن - م)
ــــــــــــــــــــــــ - ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
س ن (س - 1) س ن (س-1) × ن
حيث (ن) هي عدد الإختبارات الكلية، و(م) مقدار الإختبارات الناجحة، و(س) هي عدد العوامل المفترضة قبلياً[67]. واستناداً إلى القانون السابق فإن تطابق خمس قضايا عقلية مع الخطاب الديني يعطي قيمة إحتمالية قدرها (31\32).
أما لو كان التطابق حاصلاً بين اربع قضايا فقط؛ فستكون النتيجة أقل من ذلك، حيث تُقدّر بـ:
5 2 - 1 1 × (1 - 52)
ـــــــــــــــــــ - ـــــــــــــــــــــــــ
5 2 5 × 5 2
ويساوي: 31\40
فهذه القيمة أقل من قيمة تطابق خمس قضايا، لكنها على أي حال أعظم من النصف.
ومن خلال الطريقة السابقة يمكن تقرير صحة الحكم العقلي إجمالاً؛ باعتبار أن التطابق بين أحكام الخطاب الديني وأحكام العقل هي من الكثرة في المجال الأخلاقي. ولا شك أن وظيفة حساب الإحتمال لا تتحدد بالتقرير الإجمالي لحكم القضايا المعهودة فحسب، بل تفرض كذلك القيم المناسبة لكل قضية مستجدة في الواقع.
إحتمالات الذم والعقاب
لا تخلو الحالات التي لم يتم التأكد منها بوجود عالم آخر للذم والعقاب، من وجود بعض الإحتمالات المحددة المتنافية. فبحسب منطق الإحتمال يتردد الأمر من الناحية القبلية بين وجود عالم للإستحقاق وعدمه. وكل فرد يمكن أن يواجه هذين الإحتمالين: إما بالعمل وفق الإحتياط، أو بتركه. لكن الذي لا يلتزم بالإحتياط؛ لا يضمن النجاة من الوقوع في دائرة الذم والعقاب.
ويمكن تمثيل العملية الإحتمالية بالشكل التالي:
- إحتمال وجود عالم آخر للذم والعقاب.
- إحتمال عدم وجود هذا العالم.
وطبقاً لهذين الإحتمالين فإن على الإنسان إما العمل بالإحتياط أو بتركه. لذا تتشكل لدينا أربعة عوامل ممكنة كما يلي:
1ـ العمل بالإحتياط مع وجود العالم الآخر.
2ـ العمل بالإحتياط مع عدم وجود العالم الآخر.
3ـ ترك الإحتياط مع وجود العالم الآخر.
4ـ ترك الإحتياط مع عدم وجود العالم الآخر.
والملاحظ من هذه العوامل الممكنة أنه لا توجد خسارة إلا في العامل الثالث المتضمن لترك الإحتياط. وفي حالة العمل بالإحتياط؛ إما أن يكون المكسب حاصلاً لوجود العالم الآخر، أو على الأقل ليست هناك خسارة لعدم وجود ذلك العالم[68].
وهناك من المفكرين الغربيين من حدد هذه المسألة بما يُعرف بـ (حجة الرهان)، وهي عبارة عن الإحتمالات المحددة التي تماثل تلك التي تحصل مع لاعبي القمار، فالضرورة فيها ليست إستدلالية عقلية، بل نفعية للربح والخسارة.
بهذا الاسلوب حكم الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال على الإنسان بأنه مراهن شاء أم أبى. وصوّر حجته في الرهان من خلال محاورة أجراها بين مؤمن (م) وملحد (ح)، ننقلها للفائدة كما يلي:
م: الله موجود، أو غير موجود، على ماذا تراهن؟
ح: إني لا أريد المراهنة.
م: ولِمَ ذلك؟
ح: لأن في الرهان مجازفة.
م: وبمَ تجازف؟
ح: بحريتي وإرادتي.
م: نعم، يجب عليك وضعهما في الميزان، بل القذف بهما في معترك الحياة. أنتَ حر وتستطيع أن تنكر وجود الله، وتضرب بحقائق الدين عرض الحائط، إذا أردت، كما تستطيع أن تقرر وجود الله وتقبل حقائق الدين، إذا شئت. ولكنك لا تستطيع تجنب الإختيار بين واحد من الأمرين.
ح: ولِمَ وجب الإختيار؟
م: لأنك في سفر والرحلة قصيرة، والموت قريب، وربما كان عاجلاً مفاجئاً. وإن أرجأت الإختيار لحظة أو دقيقة، ربما فوّتّ عليك الفرص.
ح: هذا صحيح، ولكن كيف أختار، ولا نور يهديني في الإختيار؟
م: لا عجب في ألا يدلك العقل على شيء، فالمسألة ليست مسألة معرفة وبرهان، بل مسألة مكسب أو خسارة، مكسب هائل، أو خسارة عظمى، مسألة حياة أو موت. ففي أي الناحيتين مصلحتك ومنفعتك؟ (الله موجود، أو غير موجود). لنضع الفرض الأول: (الله موجود). لو قبلت هذا الفرض واعترفت بوجود الله واتبعت وصايا الدين؛ كسبت الحياة الأبدية والسعادة اللامتناهية، أما إذا أنكرت وجود الله، وعصيت أوامر الدين، فقد خسرت كل شيء واوقعت نفسك في العذاب الأبدي. لنضع الآن الفرض الثاني: (الله غير موجود). أقول: سواء قبلت الفرض أو رفضته، ما كسبته ولا خسرت شيئاً. وعلى ذلك فإن راهنت على أن الله موجود، كسبت كل شيء في الفرض الأول، ولم تخسر شيئاً في الفرض الثاني.
ح: هذا صحيح، وجميل. ويحق لي أن اختار هذا الفرض، ولكني لو فعلت ذلك ضحيت بلذتي وسعادتي في هذه الدنيا.
م: لا تنسَ انك مراهن يضحي بشيء لنيل شيء أعظم.
ح: نعم، ولكني أجازف بكسب مؤكد في سبيل كسب غير مؤكد.
م: انك تجازف بكسب محدود في سبيل كسب لا محدود.
ح: ولكن الكسب المحدود مرغوب لي. إنه كل شيء عندي، أما الكسب اللامحدود فهو لا شيء.
م: ربما قررت ذلك لأنك فقدت بعض حريتك وأصبحت عاجزاً عن التطلع إلى شيء أسمى من ذلك الكسب المحدود.
ح: نعم، إني غارق في اللذات وحريتي ضائعة في الشهوات.
م: والرهان طريق يحررك منها. راهن إذاً وترقب نتيجة الرهان.
ح: إنك محق وكلامك يملأ قلبي حماسة وقوة.
م: إن كان ذلك صحيحاً، وكان كلامي يبعث الحماسة في نفسك، فاعلم إني ركعت قبله، وسأركع بعده للموجود اللامتناهي، متوسلاً إليه متضرعاً أن يضمك إلى أحضان الدين، كما ضمني إليه من قبل. والدليل على انك لن تخسر شيئاً أن الدين سيجعلك صبوراً، أميناً، صادقاً، مخلصاً، محباً. نعم إنك تفقد اللذات الموبوءة، ولكنك تكسب أخرى محلها، وأعظم منها[69].
***
ومن الناحية التاريخية نجد في بعض الروايات ما يطابق المعنى الوارد في (حجة الرهان)، إذ جاء في مخاطبة الإمام الرضا لأحد الزنادقة أنه قال: أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا واياكم شرعاً سواء، ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟... وإن كان القول قولنا - وهو كما نقول - ألستم قد هلكتم ونجونا[70].
كما نُقل عن أبي العلاء المعري أنه الآخر عبّر عن المعنى السابق في بيتين من الشعر:
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت اليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسر أو صحّ قولي فالخسار عليكما
وعرض الغزالي في (احياء علوم الدين) هذه الحجة ونقل بيتي المعري، ثم أعقبهما بنقل عن الإمام علي وهو يردّ على بعض النافين للمعاد: «إن صحّ ما قلتَ فقد تخلصنا جميعاً وإلا فقد تخلصتُ وهلكتَ»[71].
وقيل إن باسكال قد تأثر في حجته للرهان بالغزالي، كالذي يقوله عبد الرحمن بدوي[72].
وحديثاً تعرضت حجة باسكال لعدد من الانتقادات. فالبعض يراها لا تقوّي الإيمان والدين، ولا تؤدي إلى حب الله الذي يسمو على المقامرة والرهان، بل تشجع على الأنانية، لأن ما يهم المقامر هو عدم الخسارة، لا البحث عن الحقيقة[73]. وكما يرى وليم جيمس بأن التدين الذي يأتي بالمراهنة لا فائدة فيه[74]. كما أن باسكال لم يوضح أي إله يريده في حجته؟ فإذا كانت هناك آلهة مختلفة بحسب تعدد الأديان والمذاهب، فكيف يمكن المراهنة على إله معين؟ فكل رهان خاسر، لأنه يعطي قيمة إحتمالية تقترب إلى الصفر إزاء الفوز بالإصابة[75].
وعلى هذه الشاكلة رأى البعض بأن حجة الرهان قد تكون مقنعة في عصر باسكال، إذ لا يعرف الناس سوى دين الكنيسة، أما وقد تبين لهم اليوم وجود أديان كثيرة؛ فإن الحجة وإن أقنعت بضرورة التمسك بالدين من حيث المبدأ؛ لكنها لا تقول شيئاً عن أي دين مخصوص تريد[76].
مع ذلك، يمكن القول إن فائدة هذه الحجة تختص بالناس الذين لا يفكرون إلا بمنطق الربح والخسارة. فمنهم من يعبد الله خوفًا من ناره، وهم الغالبية، ومنهم من يعبده طمعًا في جنته، ومنهم من يعبده لأهليته للعبادة، وهم الأقلية[77]. ومهما كان التدين ضعيفًا، فإنه أفضل حالًا من عدم التدين، إذا أخذنا بعين الاعتبار آثاره النفعية في الواقع، ليس فقط من حيث الأخلاق وحسن التعامل - نسبيًا - بل حتى من جهة أن المراهن قد ينسى كونه مراهنًا، ويتصرف كما لو كان واثقًا من دينه، في معتقده وسلوكه، لا سيما حين يكون تدينه بسيطًا وغير مؤدلج.
أما في ما يخص كثرة الأديان، فقد يكون للحجة فائدة إجمالية على نحو العموم دون الخصوص، إذ يكفي من الناحية المنطقية أن يراهن الإنسان على إله لا يعرف عنه سوى احتمال أنه يعاقبه على الأعمال التي يدرك العقل قبحها، كالقتل العمد، وشهادة الزور، والخيانة، والإضرار بالآخرين، وما إلى ذلك.
الواجبات العقلية وتأسيس المسألة الدينية
وفقاً لمنطق الحق الذاتي، فإن الكشف عن الواجبات العقلية يفضي إلى تأسيس المسألة الدينية. فهو يجعل من علاقة التكليف محكومة بتلك الواجبات والحقوق، وبدونها لا يمكن تأسيس هذه المسألة وإثباتها. فمن خلال الواجبات الإلهية القائمة على العدل والألطاف يتحقق تبرير ثبوت المسألة، في حين أنه بفعل الواجبات الملقاة على المكلَّف يتحقق إثباتها. فالإثبات لا يكون من غير ثبوت، وما ليس بثابت لا يقبل الإثبات.
هذا من الناحية المنطقية، أما من حيث الكشف الذاتي فالأمر ينعكس، إذ يصبح الإثبات سابقاً للثبوت، كسبق صورة الشيء في أذهاننا مقارنة بالشيء الموضوعي، إذ لا يمكن معرفة الجانب الموضوعي للشيء ما لم يُدرك سلفاً، فنحن نتحسس الشيء أولًا كصورة ذهنية حاضرة، قبل أن نعلم حقيقته خارج الذهن، إن كان له وجود أو لا. وبعبارة أخرى، يتخذ إحساسنا بالصورة حضوراً مباشراً، خلافاً لعلمنا وبلغة الفلسفة، تكون للماهية أسبقية على الصعيد الذاتي مقارنة بالوجود المتصف بالبعد الموضوعي. لذا يصح القول إن الوجود يتقدّم على الماهية في الاعتبار الموضوعي، والعكس في الاعتبار الذاتي [78].
إذاً، لكي تتأسس المسألة الدينية لا بد أن تتخذ علاقة الواجبات بين المكلِّف والمكلَّف صورة الثبوت والإثبات. فإذا كان من مهام المكلَّف إثبات المسألة الدينية، فإن من مهام المكلِّف أن يجعل هذه المسألة ثابتة ليتم إثباتها. فالواجب الملقى على عاتق المكلِّف سابق على الواجب الملقى على عاتق المكلَّف، وما يجب على الأول هو جعل المسألة الدينية ثابتة بفعل ما عليه من واجبات الألطاف تبعاً لقاعدة العدل التي مرت معنا، مثل أن لا يفعل القبيح وأن يجري الجزاء ويهيء الألطاف للمكلَّف وما إلى ذلك. أما ما يجب على الثاني فهو أن يتخذ النظر وما يترتب عليه من لوازم، بما في ذلك إثبات المسألة الدينية وما يستلزمها من الطاعة التكليفية. وحتى الجزاء فهو بالنسبة للمكلِّف واجب ثبوتي، لكنه واجب إثباتي على المكلَّف.
لهذا يُعدّ التكليف العقلي متقدماً على التكليف الشرعي؛ لإعتبارين، كما صرح بذلك القاضي الهمداني، أولهما أن الشرع يعتمد على العقل، وثانيهما أن النظر هو السبيل إلى معرفة الله وعدله وتوحيده[79]. وهذان الاعتباران مترابطان، إذ يكشف الثاني عن فحوى الأول جزئياً أو كلياً.
لكن من الناحية المنطقية، إنّ توقف الشرع على الإدراك العقلي لا يدل على ضرورة وجوب هذا الأخير، فربما كان بمثابة الشرط لتحقق الوجوب الشرعي لا غير، مع أنه ليس من المعلوم وجوب الشرط ما لم تحضر أمارات أخرى دالة عليه.
هكذا إن من بين الأغراض البارزة وراء الواجبات العقلية للمكلَّف، وعلى رأسها وجوب النظر، إثبات كلا المسألتين الإلهية والدينية. وقد أفضى الأمر إلى أن يكون لمنطق الحق الذاتي تشريع يوازي التشريع الديني، بل لولا الأول ما كان للثاني وجود، طالما أن تأسيس الخطاب من الخارج مدين إلى التشريع العقلي.
وبهذا يمكن تصور حالة المنازعة بين التشريعين، طالما أن لكل من الخطاب الديني والمنطق المذكور اعتباراتهما المستقلة في التشريع. بل من ضمن اعتبارات الدائرة العقلية عموماً كون العقل قيماً على التشريع الديني، ولها في ذلك بعض المبررات؛ أبرزها الإعتماد على الوثاقة العقلية عند التأسيس الخارجي للخطاب. فطالما أن العقل مقبول في هذا التأسيس، فلماذا لا يُقبل في تأسيسه الآخر؟! الأمر الذي أثار حفيظة الدائرة البيانية التي قلبت القضية رأساً على عقب، حيث بنظرها أنه لا أهمية للتشريع العقلي إن لم يصادف موافقة التشريع الديني، مما يعني أن القيمومة للأخير لا الأول.
حق الملكية وإشكالية التكليف
بحسب اعتبارات الحق الذاتي، عرفنا أن هناك تكافؤاً في الحقوق والواجبات بين طرفي العلاقة التكليفية، فحيث هناك واجبات إلهية، ففي قبالها توجد حقوق إنسانية، والعكس بالعكس. أما في منطق حق الملكية، فالأمر على خلاف ذلك؛ إذ إنّ الانفراد بالملك يستتبع بالضرورة التزامات على الطرف المقابل؛ وذلك بقدر ما للملكية من سلطة وحقوق من غير عكس. إذ تكون الحقوق محصورة في طرف، والواجبات محصورة في الطرف الآخر. لذلك سنتحدث عن الحقوق الإلهية، وفي قبالها الواجبات الإنسانية، طالما أنه لا يوجد ما يطلق عليه واجبات إلهية وحقوق إنسانية، كالذي شاهدناه لدى منطق الحق الذاتي.
وتتمثل نظرية السلطة الإلهية في المحور الذي تدور حوله رحى منطق حق الملكية، وذلك إستناداً إلى التفرد المطلق للإله. فلهذا الأخير مطلق الحق والمشيئة فيما يشاء ويفعل، دون قيد أو شرط، خلافًا لما ذهب إليه منطق الحق الذاتي. وهنا تتبدى الفوارق الحادة بين المنطقين، في الشروط والقيود التي يخضع لها كل منهما.
فإذا كان منطق الحق الذاتي قائماً على نفي الشروط والقيود الخارجية التي تبرر فكرة الحق وما يترتب على ذلك من واجبات، فإن نتائج هذه العملية مقيدة بهذه الشروط والقيود، فالحقوق والواجبات التي تلوح المكلِّف هي غير تلك التي تلوح المكلَّف، اذ يتعين على كل منهما حقوق وواجبات بحسب ما تفرضه شروط نظرية التكليف، شبيه بما عليه صيغة التعاقد بين المتعاقدين من البشر، كما عرفنا.
وعلى العكس من ذلك فيما يخص اتجاه السير لدى منطق حق الملكية. فالحق مشروط ومقيد بالملكية، وهو بهذا ليس له صفة ذاتية إطلاقية كالذي شاهدناه في المنطق الأول. ومع هذا فإن نتائج الحق المشروط تتسم بأنها غير مشروطة أو مقيدة، على العكس مما سار عليه الأول. إذ تتجه العملية مع (حق الملكية) باتجاه أحادي، أو إطلاقي ليس فيه نمط التعاقد، ولا صيغ الشروط والقيود. فرغم أن تحديد (الحق) هو تحديد مقيد في الأصل، إلا أن نتائجه تتعالى على التقييد والإشراط. وفي المحصلة، إن كل ما تحكم به السلطة الإلهية يُعدّ حقاً، كيفما كان.
ومثل ذلك يُلاحظ في موقف هذا الاتجاه من العقل في المجال المعياري. فمع أن العقل هو الأساس المتخذ في تبرير قيد الملكية لمنطق الحق، إلا أنه ما يلبث أن يتراجع ليخلي الساحة لغيره، أو ليشهد على عدم صلاحيته في الحكم على القضايا العملية، وبالتالي يُفضي إلى إبطال ذاته بذاته.
وهو أمر مفهوم تماماً، إذ لو لم يفعل ذلك لوقع في التناقض الصريح، لكونه سلّم مفاتيح العمل لغيره مطلقاً، وبالتالي فإن مزاحمته لهذا الغير تفضي إلى التناقض. وهو بهذا يغاير المنطق الأول الذي اعتبر الحق ذاتياً غير مشروط، رغم أن نتائجه محددة بالشروط والقيود.
وعليه، فإن الاستدلال العقلي وفق قاعدة (قياس الغائب على الشاهد) لا يجد له موضعًا في هذا السياق، أو لنقل أن الأدلة العقلية التي تبررها هذه القاعدة غير مقبولة؛ باعتبارها تتعارض مع المنطق السابق.
بل يمكن القول إن العقل العملي لدى هذا المنطق لا يعتمد على نفس اعتبارات العقل النظري الاستدلالي، فإذا كان الأخير مقبولاً، وهو في ذلك لا يختلف عن العقل الذي يعتمد عليه أصحاب منطق الحق الذاتي؛ فإن الحال مع العقل العملي أمر مختلف، طالما أن مبدأ حق الملكية لا يجيز له الحكم ولا الاستدلال، مثلما لا يجيز له الإعتماد على قاعدة (قياس الغائب على الشاهد). فكل قياس يوقع ذلك المنطق في التناقض، وكل عقل يقام يفضي إلى نفي ذاته، وبالتالي فمن حيث المرجعية يكون العقل العملي هو غير العقل النظري لدى هذا المنطق.
وبعبارة أخرى، إنه إذا كان العقلان النظري والعملي لدى منطق الحق الذاتي يسيران معاً باتجاه واحد من التوازي، وأنهما مقبولان في هذا المسار، وأن قاعدة قياس الغائب على الشاهد تتخذ مبررها العقلي في كلا الحالين، فإن الأمر مع منطق حق الملكية مختلف. فالاتجاه الذي يسير فيه العقل النظري ليس نفس الإتجاه الذي يسير فيه العقل العملي، فنتائج الأول مقبولة خلافاً للآخر، لأن نتائج الأخير تطعن في أصل الفكرة التي بنى العقل عليها منطقه، وهو حق المكلية، وبالتالي فقد وضع العقل مبدأ تخليه عن الميدان لمجرد هذه الفكرة، وذهب دون رجعة.
وعموماً فإن الفهم الذي يقيمه منطق الحق الذاتي للحقوق والواجبات بين طرفي العلاقة التكليفية هو فهم قائم على العرف العقلائي الإنساني بما يتضمن من علاقة بين السيد وعبده. وليس الأمر كذلك مع الفهم المبتنى على منطق حق الملكية، فالحقوق والواجبات لدى الأخير لا تقوم على الاعتبار السابق، لأن الصلة بين السيد وعبده لا تتضمن الملكية الحقيقية، وبالتالي لا يوجد شاهد يمكن أن تطبق عليه العلاقة التكليفية بين الخالق والمخلوق، فليس هناك غير مالك واحد حقيقي هو الله.
لذلك فإن نظرية منطق حق الملكية غير مقتبسة من العرف العقلائي، ولا مقتبسة مما يدل فيه الشاهد على الغائب، خلافاً لما عليه المنطق السابق.
وقد تكون قاعدة قياس الغائب على الشاهد التي يتوقف عليها أغلب نتاج الدائرة العقلية للنظام المعياري هي ما دعت الفارابي إلى إتهام العقل لدى الكلاميين بأنه على شاكلة ما يؤمن به عامة الناس خلافاً لما لدى الفلاسفة. فبحسب نظره أن آراءهم العقلية مستمدة من آراء العامة رغم دعواهم بأن العقل الذي يتحدثون عنه هو كالذي يتحدث عنه ارسطو[80].
حق الملكية والأصول المستنتجة عنها
إن النتائج التي تترتب على فكرة حق الملكية كثيرة، أبرزها ما يخص اعتبارات حسن الأفعال وقبحها. فقد عرفنا بأن هذه الاعتبارات لا تقوم على قاعدة قياس الغائب على الشاهد، لإختلاف طبيعة السلطة الإلهية ذات الملكية المطلقة عن غيرها من السلطات الاعتبارية. وهو ما يفضي إلى اعتبار الحسن والقبح من الخيالات العقلية المنزوعة على الأشياء والموهمة بأنها تحدد من مشيئة الله المطلقة.
وبهذا التفريق الذي سلكه منطق حق الملكية، يتحدد معيار حسن الأفعال وقبحها. فهو ينفي أن تكون هذه القضايا راجعة إلى طبيعة الفعل وصفاته وأحواله كالذي عليه منطق الحق الذاتي، بل يراها تعود إلى ما حسّنه الله وقبّحه عبر الخطاب الديني.
وبعبارة أخرى، إن مآل التكليف عائد إلى السمع دون العقل، وأن العقل بذاته لا يدل على تحسين شيء ولا تقبيحه، وأنه لا حظر ولا إباحة، ولا يعرف شيء من ذلك حتى يرد السمع فيه. فالعقل آلة تُدرك بها الأشياء، كما يُدرك بها الحسن والقبح عن طريق السمع[81]. وكما قال إمام الحرمين الجويني: «المعني بالحسن ما ورد الشارع بالثناء على فاعله، والمراد بالقبيح ما ورد الذم بذم فاعله»[82].
ومن حيث الدقة، صرّح الإمام أبو نصر القشيري في (المرشد) بأن مقولة: (لا يُدرك الحسن والقبح إلا بالشرع) هي من باب المجاز؛ لأنها توهم أن الحسن أمر زائد على الشرع، وليس كذلك، إذ الحسن - عند هذا الاتجاه - هو نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله، وكذلك القبيح هو نفس ورود الذم عليه[83].
وبهذا يتبين أن تبرير قضايا الحسن والقبح، بحسب اعتبارات حق الملكية، مردّه إلى العقل، وذلك إستناداً إلى فكرة الملكية المطلقة، غير أن نتائج هذه العملية تُفضي إلى افتراض مصدرٍ آخر يكشف عن دلالات هذه القضية لدى من له الحق المطلق، وهو المالك الحقيقي.
ولا شك أنه لا يمكن أن يكون المصدر المشار إليه هو الخطاب الديني ما لم يتم تأسيس هذا الخطاب تأسيساً خارجياً؛ مستقلاً عن البداهة الأولية لهذا المنطق، وإلا لزم الدور الباطل والمصادرة على المطلوب، إذ يكون الخطاب الديني مقرِّراً لمترتّبات الفكرة العقلية، في الوقت الذي يتوقف فيه إثباته على هذه المترتّبات ذاتها، وهو دور واضح لا خفاء فيه.
وعلى العموم إن الحديث عن مترتبات حق الملكية بنحو عقلي، لا يقتضي بالضرورة أن تكون له صلة بالخطاب الديني، فقد تحصل هذه المترتبات ويحصل معها نفي الخطاب الديني أو عدم وجود ما يدل عليه. الأمر الذي يختلف مع منطق الحق الذاتي، فهذا الأخير يجعل من الحق أداة العقل الذي يتأسس عليه الخطاب خارجاً وداخلاً.
ويتحدد الخلاف بين المنطقين حول مسألة الحسن والقبح بالتحليل الذي أفاده أصحاب منطق حق الملكية حولها. فعلى رأيهم أن هناك ثلاثة معان لهذه مسألة، فقد يراد بها ملائمة الطبع ومنافرته، وكذا موافقة الغرض ومنافاته، كحسن الحلاوة وقبح المرارة، كما قد يراد بها صفة الكمال والنقص، كحسن العلم وقبح الجهل، وقد يراد بها أيضاً ما كونه موجباً للثواب والعقاب وكذا المدح والذم. ومع أن الكل يتفق على أن المعنيين الأولين عقليان وتامان، أو أن العقل يدرك صفاتهما، إلا أن الإختلاف يرد حول المعنى الثالث[84].
فبحسب منطق حق الملكية لا تعود علة الحسن والقبح إلى ذات الفعل وصفاته، وبالتالي لا يمكن إدراك هذه القضية عن طريق العقل، خلافاً لمنطق الحق الذاتي الذي يعتبر علة الحسن والقبح تعود: إما إلى ذات الفعل، كالذي عليه البغداديون من المعتزلة، أو أنها ترجع إلى صفات الفعل والوجوه الإعتبارية فيه، كما لدى القاضي الهمداني ومعظم البصريين من المعتزلة[85].
وقد اتخذت الماتريدية موقفاً وسطاً حينما اعتبرت الحسن والقبح من الأمور العقلية والذاتية؛ دون أن يترتب عليهما تكليف أو جزاء، بل ذلك موقوف على ورود الشرع[86]. كما ذهب بعض الأشاعرة المتأخرين، مثل بدر الدين الزركشي مع جماعة من أصحابه وآخرين غيرهم، إلى أن الحسن والقبح ذاتيان لكن الوجوب والحرمة شرعيان، وأنه لا ملازمة بينهما. فقد صرح الزركشي بالقول: «إن حسن الأشياء وقبحها ثابت بالعقل، والثواب والعقاب يتوقف على الشرع، فنسميه قبل الشرع حسناً وقبيحاً، ولا يترتب عليه الثواب والعقاب إلا بعد ورود الشرع، وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصاً. وهو المنصور لقوته من حيث النظر وآيات القرآن المجيد وسلامته من التناقض وإليه إشارات محققي متأخري الأصوليين والكلاميين، فليتفطن له، حيث هاهنا أمران؛ أحدهما: إدراك العقل حسن الأشياء وقبحها، والثاني: إن ذلك كاف في الثواب والعقاب وإن لم يرد شرع. لكن لا تلازم بين الأمرين».
وقد استدل الزركشي على هذا الرأي بعدد من نصوص القرآن التي تشير إلى ذاتية الحسن والقبح مع نفي الثواب والعقاب من دون شرع، حيث دلل في بعضها على الحسن والقبح الذاتيين، وفي بعضها الآخر على النفي المشار إليه. ففي الحالة الأولى مثل قوله تعالى: ﴿ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون﴾ (الأنعام/ 131)، وقوله ﴿ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً﴾ (القصص/ 47)، وفي الحالة الثانية الخاصة بنفي الثواب والعقاب مثل قوله تعالى: ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾ (الإسراء/ 15)، وقوله: ﴿رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾ (النساء/ 165)[87].
وذهب إلى هذا الإتجاه المتوسط كل من ابن القيم الجوزية كما في كتابه (مفتاح دار السعادة) وبعض الأصوليين من الإمامية الإثنى عشرية[88]. وبالتالي فقد استقطب هذا الإتجاه من كل دائرة معرفية جماعة.
ونرى أن الصواب هو ما سبقت الإشارة إليه؛ من أن الحسن والقبح ذاتيان عقليان، وعليهما يترتب استحقاق الثواب والعقاب، رغم أن العقاب قد يُعطّل دون تنفيذ لاعتبارات خارجية، كاللطف والرحمة والمغفرة وما إلى ذلك، كالذي يبشر به البيان الديني.
ويمكن تصوير الخلاف بين المنطقين السابقين ضمن حدود ما أورده الخطاب الديني من مدح وذم، أو ثواب وعقاب: فهل ما ورد في الخطاب جاء لقبح الأفعال وحسنها؟ أو العكس هو الصحيح، وهو أن القبح والحسن ثبتا بسبب ما ورد في الخطاب؟
فإذا كنّا نعرف بأن منطق الحق الذاتي يرى أن ما أورده الخطاب الديني كان إمضاءاً لما أقرّه العقل لمثل هذه المسألة، فإن الأمر مع منطق حق الملكية هو العكس.
وبصورة أدق، فإنه وفقاً لمنطق حق الملكية، يكون ما حسّنه الخطاب الديني حسناً، وما قبّحه قبيحاً. فطالما سلّم العقل الأولي في هذا المنطق ببداهة حق الملكية؛ فلا مفرّ من قبول هذه النتيجة وما تترتب عليها.
وتظل هناك تفريعات كثيرة من القضايا المستنتجة تحتاج إلى بيان وجه ارتباطها بهذا المبدأ، لكننا سنختار عدداً منها حسب الفقرات التالية:
أولاً: حق الملكية وحكمة الله
وفقاً لمنطق حق الملكية، إن من المحال وجود واجبات على المكلِّف، إذ يجوز له إيلام العباد بغير عوض ولا جناية، ولا يجب عليه فعل الصلاح والأصلح، ولا ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وله المشيئة المطلقة من غير قيد؛ فلا يبالي لو غفر لجميع الكافرين وعاقب جميع المؤمنين؛ لأن التكليف ما هو إلا تصرف في عبيده ومماليكه[89].
وقد استدل الفخر الرازي على ذلك؛ بأنه لما كان الحكم لا يثبت إلا بالشرع، وحيث لا حاكم عليه، فلا يجب عليه شيء إطلاقاً[90].
ورغم أن تحديد ما يجب على المكلِّف من الفعل يعتبر تدخلاً سافراً فيما لا يجوز السؤال عنه ﴿لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون﴾ (الأنبياء/ 23)، إلا أن هناك فرقاً بين نفي الواجب عن المكلِّف بحسب هذا المنطق، وبين تقييد فعله بحدود الحكمة. فلو أنه عذب المؤمنين ونعّم الكافرين لحكمة ما معقولة؛ لما صحّ الإعتراض عليه، ولا عُدّ فعله قبيحاً. في حين لو لم تُشترط الحكمة في مثل هذه الحالة، وكانت أفعاله غير معللة، بل على سبيل الفوضى والعبث، كما يقتضيه هذا المنطق، لوجب حينئذٍ وصمها بالقبح بحكم الوجدان الفطري.
ونلحظ هنا ضربين من المغالاة في تمثل المنطق العقلي، كلّ بحسب مسلكه، فقد جنح منطق الحق الذاتي إلى تضييق مجال الحكمة الإلهية حول طبيعة الأفعال التي ظن أنها واجبة على الله تعالى، فكان عرضة للنقد والإنكار. وعلى الطرف المقابل، نفى منطق حق الملكية كل قيد وواجب عن الفعل الإلهي، فنتج عن ذلك نفي الغرض والحكمة عن الأفعال، وهو بذلك أشدُّ تطرّفاً من سابقه.
مع هذا، فإن الاعتراض على المنطق الأخير يستلزم تجاوز البداهة الأولية التي يتأسس عليها. وبالتالي لو كنّا نؤمن حقاً بأن أمور التحسين والتقبيح والعدل والظلم رهينة حق الملكية، لما جاز أن ننسب القبح والنقص والفوضى والعبث إلى فعل المكلِّف.
هذا من الناحية المنطقية، رغم أن الوجدان العقلي لا يحتمل أن يفعل المكلِّف غير ما يتصف به من الحكمة.
فمثلاً إن الفرض القائل بجواز فعل كل شيء، كائناً ما كان، كإدخال المؤمنين العدول النار والكافرين الظالمين الجنة، هو فرض غير مقبول من الناحية الوجدانية، وإن كان مقبولاً بحسب التسلسل المنطقي لتلك البداهة. إذ يصبح الظلم عبارة عن التصرف بملك الغير، أما تصرف المالك بملكه فلا يُعدّ ظلماً مهما كان نوعه، ولمّا كان الله مالك كل شيء، لذا فله حق التصرف بملكه مطلقاً، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
فهذه هي النتيجة الطبيعية لتلك البداهة، وهي التي أكّد عليها الأشاعرة في إستدلالاتهم، ومن ذلك ما ذكره اليافعي من أن الظلم هو التصرف في ملك الغير، والله لا يتصرف في ملك غيره، فكل ما يفعله هو عين العدل؛ كالعطاء والمنع، والنفع والضرر، والرفع والخفض، والجلب والدفع، والجمع والتفريق[91]. كما ذكر المهلب بأن لله تعذيب من لم يكلفه لعبادته في الدنيا؛ لأن كل شيء ملكه، فلو عذبهم لكان غير ظالم[92].
وكذا ما قاله الشيخ أبو بكر البيهقي، وهو أن الظلم عند العرب هو فعل ما ليس للفاعل فعله، وليس من شيء يفعله الله إلا وله فعله «ألا ترى أنه فاعل بالأطفال والمجانين والبهائم ما شاء من أنواع البلاء فقال تعالى: ﴿أُغرقوا فأُدخلوا ناراً﴾ (نوح/ 25) فأغرقهم صغيرهم وكبيرهم، وقال: ﴿وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم﴾ (الذاريات/ 41) وغير ذلك من الآيات الواردة في تعذيب الصغير والكبير والأطفال والمجانين بأنواع البلاء»[93].
ومثله ما قاله أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان: «وليس لقائل أن يقول إذا خلق - الله - كسبه ويسره لعمل أهل النار ثم عاقبه عليه كان ذلك منه ظلماً، كما ليس له أن يقول إذا مكّنه - الله - منه وعلم أنه لا يتأتى منه غيره ثم عاقبه كان ذلك منه ظلماً، لأن الظلم في كلام العرب مجاوزة الحد، والذي هو خالقنا وخالق أكسابنا لا أمر فوقه ولا حاد دونه، وكل من سواه خلْقه وملكه، فهو يفعل في ملكه ما يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون»[94].
ونقل الحافظ البيهقي نصوصاً عن جماعة من السلف تذهب هذا المذهب من منطق حق الملكية، ومن ذلك ما رواه من أن عمران بن حصين قال لأبي الأسود الديلمي: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه؛ شيء قُضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فأجاب الديلمي: بل شيء قُضي عليهم ومضى عليهم. فقال عمران: أفلا يكون ظلماً؟!
وتقول الرواية أن الديلمي فزع من ذلك فزعاً شديداً وقال: «كل شيء خلْق الله وملك يده؛ فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون».
وفي رواية ثانية عن أبي كعب أنه قال لإبن الديلمي: «يا ابن أخي إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم».
كذلك جاء في رواية أخرى أن عمرو بن العاص قال لأبي موسى الأشعري: وددت أني أجد من أخاصم إليه ربي، فقال أبو موسى أنا، فقال عمرو: أيقدّر الله عليّ شيئاً ويعذبني عليه؟ فقال أبو موسى: نعم، قال: لِمَ؟ قال: لأنه لا يظلمك، فقال: صدقت[95].
وبحسب هذا المنطق إن العقل معزول في مثل هذه المسائل من الحسن والقبح[96]. فقد جاء الخطاب الديني مشرّعاً للأحكام إبتداء دون سابقة، أما الحاجة إلى العقل فهي لتقرير مقدمات الشرع؛ كالتوحيد وجواز بعثة الأنبياء والنظر في المعجزات، ولمّا تمّ للعقل إثبات ذلك؛ فلم يبق إلا أن ينعزل ويصير مأموراً بامتثال ما يصدر عن الشرع[97].
إذاً وفقاً لمنطق حق الملكية، لا يمكن أن نفترض وجود غرض وراء الفعل الإلهي، فكل تحديد للغرض يعني تقييداً للمشيئة والإرادة المطلقتين. إذ لمّا كان المالك مستغنياً بذاته، وأنه المالك المطلق الذي له حق التصرف بكل شيء، فإنه على ذلك لا يتقيد بغاية وغرض من الفعل الذي يقوم به. وبالتالي فنفي قيد الغرضية عن فعل المكلِّف هو مما لا بد منه تبعاً لهذا المنطق.
وقد استدل الفخر الرازي على ذلك بقوله: «لا يجوز أن يفعل الله شيئاً لغرض.. لنا أن كل من كان كذلك كان مستكملاً بفعل ذلك الشيء، والمستكمل بغيره ناقص لذاته، لأن كل غرض يفرض فهو من الممكنات، فيكون الله تعالى قادراً على إيجاده إبتداءاً، فيكون توسط ذلك الفعل عبثاً. لا يقال: لا يمكن تحصيله إلا بتلك الواسطة، لأنا نقول: الذي يصلح أن يكون غرضاً ليس إلا إيصال اللذة إلى العبد، وهو مقدور لله تعالى، من غير شيء من الوسائط». وقال أيضاً: إن طلب اللمية عندنا باطل «لأنه ليس يجب في كل شيء أن يكون معللاً، وإلا لكانت علية تلك العلة معللة بعلة أخرى ولزم التسلسل، بل لا بد من الانتهاء إلى ما لا يكون معللاً البتة، وأوْلى الأمور بذلك أفعال الله وأحكامه.. فكل شيء صنْعه، ولا علة لصنعه»[98].
وربما يتفق ما قدّمه الفخر الرازي من الإستدلال مع المنطق الوجودي للفلاسفة أكثر من اتفاقه مع طبيعة النظام المعياري الذي ينتمي إليه منطق حق الملكية. لكن يظل أن ما يدعو إليه المنطق الأخير من نفي الغرضية لا يفسره سوى اعتبارات حق الملكية المطلقة مع غنى ذات المكلِّف. فحيث أن الله غني ومالك كل شيء، فله حق التصرف المطلق وعدم التقييد بقيود الغرضية. وفي جميع الأحوال يتصف فعله بالحق والعدل مطلقاً.
كما قد يقال إن الأدلة التي قدّمها الفخر الرازي يقابلها أدلة عقلية أخرى ترى العكس هو الصحيح. والأهم من ذلك ما قد يقال إنها لا تتفق مع ظواهر النصوص الدينية الدالة على غرضية فعل المكلِّف، ومن ذلك أن الله يفعل بالمؤمنين ما يشاء لغرض هدايتهم وإنزال السكينة والرحمة عليهم، فلو كان الغرض يستلزم - بالضرورة - استكمال فاعله لثبت بالخطاب الديني نقصه، وهو باطل.
علماً بأنه ليس بالضرورة أن يكون الغرض متمثلاً بإيصال اللذة كما هو مبنى المعتزلة، بل المهم أن يتضمّن حكمة معقولة، وبها ينتفي لزوم التسلسل، فيكفي مثلاً إن يخلق الله الناس ليبتليهم ويجزيهم على أعمالهم بالثواب والعقاب. وهذا الغرض كاف في تصحيح الفعل الإلهي دون حاجة إلى مزيد من التساؤل، رغم أن طبيعة الذهن البشري تأبى التوقف عند هذا الحد، وتظل تتطلع إلى معرفة السبب في اختيار هذا الفعل دون سواه من الأفعال الممكنة. لكن لا بد للسؤال من الإنقطاع مادامت أسرار الغيب لم تتكشف بعد، وذلك على طريقة ما سألت به الملائكة عن علة خلق البشر الذي وصفته بأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فجاء الرد الحاسم: ﴿إنّي أعلم ما لا تعلمون﴾ (البقرة/ 30).
فهذا الجواب يؤكد غرضية الفعل الإلهي وحكمته وإن تضمّن السر الذي احتفظ به المكلِّف لنفسه.
فالمهم أن ندرك بأن هناك غرضاً حكيماً وراء الفعل الإلهي، وجاء في هذا المعنى العديد من نصوص الخطاب الديني، من قبيل قوله تعالى: ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾ (الحجر/ 85).. ﴿وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون﴾ (الجاثية/ 22).. ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين﴾ (الأنبياء/ 16).. ﴿وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ (الجاثية/13).. ﴿وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون﴾ (الذاريات/ 56).. ﴿رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً﴾ (النساء/ 165).. ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾ (المائدة/ 6).
وما يلزم عن منطق حق الملكية تأويل أصحابه لهذه الآيات لدفعها عما تتضمنه من وجود الغرض في الفعل الإلهي. ومن تأويلاتهم انهم اعتبروا اللامات في القرآن الخاصة بالفعل الإلهي وأمره هي لامات عاقبة وصيرورة وليست لامات تعليل، مثلما اعتبروا كل الباءات المرتبطة بالأسباب والمسبَّبات هي باءات مصاحبة وليست باءات سببية[99].
وكما نقل ابن فورك عن الأشعري قوله: كل لام نسبها الله لنفسه فهي لام الصيرورة لإستحالة الغرض عليه[100].
كما لزم عنهم أيضاً فهم حكمة الله المصرح بها في كثير من الآيات بمعنى يخالف غرض الفعل الإلهي، باعتباره منفياً، وان الحكمة المترتبة على الفعل الإلهي منفية أيضاً. وعليه اختُزل معنى الحكمة في إتقان الصنع من جهة التكوين فقط[101]، أو ردّوها إلى العلم والقدرة، فجعلوا مطابقة المعلوم للعلم ووقوع المقدور على وفق القدرة هو الحكمة لا غير.
لذلك ردّ عليهم ابن القيم بقوله: إن تعلق القدرة بمقدورها، والعلم بمعلومه، أعم من كون المقدور والمعلوم مشتملاً على حكمة، أو مجرداً عنها. والأعم لا يُشعِر بالأخص ولا يستلزمه، وبالتالي فحقيقة هذا القول ما هي إلا نفي للحكمة[102].
مع هذا نجد بعض أتباع منطق حق الملكية لم يتقيدوا بالفهم السابق، واعترفوا بدور الحكمة في كلٍ من خلق الله وأمره، كما هو الحال مع الإمام الغزالي في موقفه المعياري[103]، ومثله أولئك الذين تمسكوا بمقاصد الشريعة وفي طليعتهم الإمام الشاطبي.
ثانياً: حق الملكية وإرادة الله
على شاكلة ما سبق، جاء عن أصحاب منطق حق الملكية أن الله تعالى مريد لكل شيء ما لم يكن مستحيلاً، كالخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والعصيان، وأن ما يريده يخلقه، وما لا يريده لا يخلقه أبداً[104]. لكن قد يقال إن ذلك يفضي إلى مقالة قِدم العالم، فحيث أن إرادة الله قديمة وهي من الصفات الذاتية، أو كونه مريداً، فلا بد من تعلق الإرادة بالمراد، فيثبت قِدم العالم، على شاكلة قول النظام الوجودي. وأجيب على ذلك بأن إرادة الله محددة بإرادة كل شيء في وقته المحدد دون لزوم قِدم الأشياء، كالذي أفاده الغزالي في رده على الفلاسفة[105].
كما قرر أصحاب هذا المنطق أنه على الرغم من أن الله يريد الكفر والسفه والجور، إلا أنه ليس بكافر ولا سفيه ولا جائر، وذلك على غرار الحالة التي يخلق فيها الشهوة لغيره مع أنه غير متصف بها. وعلى العموم ليس كل ما يخلقه لغيره ينبغي أن يتصف به[106].
ومن الأدلة التي قدمها هؤلاء على الإرادة المطلقة، ما ذكره الشيخ أبو الحسن الأشعري بقوله: «إن الإرادة إذا كانت من صفات الذات بالدلالة التي ذكرناها وجب أن تكون عامة في كل ما يجوز أن يراد على حقيقته، كما إذا كان العالم من صفات الذات وجب عمومه لكل ما يجوز أن يعلم على حقيقته. وأيضاً فقد دلت الدلالة على أن الله تعالى خالق كل شيء حادث ولا يجوز أن يخلق ما لا يريده. وقد قال الله تعالى: ﴿إنّ ربّك فعّال لما يريد﴾ (هود/ 107). وأيضاً فإنه لا يجوز أن يكون في سلطان الله تعالى ما لا يريده، لأنه لو كان في سلطان الله تعالى ما لا يريده لوجب أحد أمرين: إما إثبات سهو وغفلة أو إثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده. فلما لم يجز ذلك على الله تعالى استحال أن يكون في سلطانه ما لا يريده». ثم قال: «وأيضاً فقد دلت الدلالة على أن كل المحدثات مخلوقات لله تعالى.. وأيضاً فلو كان في العالم ما لا يريده الله تعالى لكان ما يكره كونه، ولو كان ما يكره كونه لكان ما يأبى كونه، وهذا يوجب أن المعاصي كانت شاء الله أم أبى، وهذه صفة الضعيف المقهور»[107].
كما استدل على ذلك بنصوص من الخطاب الديني، كقوله تعالى: ﴿وما تشاؤون إلا أن يشاء الله﴾ (الإنسان/ 30).. ﴿ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها﴾ (السجدة/ 13).. ﴿ولو شاء ربك ما فعلوه﴾ (الأنعام/ 112).. ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً﴾ (يونس/ 99).. ﴿ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد﴾ (البقرة/253) [108].
ومع أن لهذه الآيات دلالة على المعنى الذي أفاده أصحاب هذا المنطق في أن ما يريده الله يفعله، لكن من الواضح أن هناك معنيين للإرادة، أو قل توجد إرادتان: إحداهما تكوينية لأن بها يحدث كل ما يريده الله من الخير والشر طبقاً للسنن التي سنّها في الوجود، وهي تأتي بمعنى المشيئة، والأخرى ما يتعلق بها الأمر أو الطلب الذي يقتضي وجودها في التكليف، كإرادته الإيمان والعدل والصدق والوفاء، وعدم إرادته الكفر والظلم والنفاق... الخ. وتعتمد الإرادة الأخيرة على الحب والبغض، والقبول وعدم القبول.
ومن الأمثلة عليها ما جاء في قوله تعالى: ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾ (المائدة/ 6)، وقوله أيضاً: ﴿إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً﴾ (الأحزاب/ 33)، حيث جاءت الإرادة بالمعنى القيمي المعياري وليس بالمعنى التكويني، فمثلاً بالنسبة للآية الأولى هو أن الله يريد اليسر في الدين، كما يريد التطهير واتمام النعمة، بأمر انشائي وليس بالزام تكويني.
ونُقل عن أحد أئمة أهل البيت أنه قال: «إن لله إرادتين ومشيئتين، إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى، وأمر ابراهيم أن يذبح اسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة ابراهيم مشيئة الله تعالى»[109].
وواضح أنه لا يتحتم في هذه الإرادة حدوث الشيء الذي يريده الله، لا لعجز منه، بل لمشيئته السابقة في جعل الحياة حرة تقبل التكليف بلا الزام وجبر حتميين. ولا شك في أن الإرادتين غير متناقضتين، لإعتماد الأخيرة على الأولى، وكلاهما يتأسس على مبدأ رضا الله.
هكذا فعلى الرغم من أن المنطق السابق قد فسّر لنا الإرادة الأولى، إلا أنه لم يقر الإرادة الثانية، واعتبر (الأمر) لا يقتضيها. بل وفقاً للاتجاه السابق، وما ينقل عن المشهور من رأي الأشعري وأصحابه، بأنه تعالى يحب الكفر والفسوق والعصيان، وقيل إن الأشعري هو أول من قال ذلك. فهو عندهم محبوب كسائر المخلوقات «إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة شاملة لكل مخلوق، فكل مخلوق فهو عندهم محبوب مرضي»[110]. وهو قول يقرّب هذا الإتجاه من نزعة النظام الوجودي.
ثالثاً: حق الملكية وفعل الله
إذا كانت الإرادة الإلهية، بحسب منطق حق الملكية، شاملة لكل شيء في الوجود، كما عرفنا، فإن كل ما يحدث في هذا الوجود هو تعبير عن فعل الله المطلق، وذلك لأن الفعل يتبع الإرادة، وبالتالي تصدق مقولة هذا المنطق: (لا فاعل في الوجود إلا الله)، وهو نفي لكل تأثير جار في الوجود سوى التأثير الإلهي، كما أنه نفي للفعل الإنساني.
وبعبارة أخرى، إن مقالة الفعل الإلهي المطلق تتضمن أمرين: أحدهما نفي التأثير السببي بين الأشياء الوجودية، والآخر نفي الفعل البشري مطلقاً. وتفصيل القول عنهما يأتي من خلال الفقرتين التاليتين:
1ـ نفي التأثير السببي
لقد ذهب أتباع منطق حق الملكية من الأشاعرة إلى ان ما يسمى بالتأثير، الذي نلحظه في الأشياء، ما هو إلا خلق متجدد باستمرار طبقاً لقاعدة أن العرض لا يبقى زمانين، حتى قال بعضهم: إن الفلك والرحى ونحوهما مما يدور؛ هو متفكك دائماً عند الدوران، والله يعيده كل وقت كما كان، وكذا أن الألوان والمقادير والأشكال والصفات تُعدم على تعاقب الآنات، وأن الله يعيدها كل وقت، ومثل ذلك أن ملوحة ماء البحر تُعدم وتذهب كل لحظة، لكن الله يعيدها، فليس هناك من سبب ولا تأثير سوى التأثير الإلهي المباشر[111].
كذلك قولهم إن علومنا التي نعلمها الآن ليست علومنا التي علمناها أمس، بل عُدمت تلك العلوم وخُلقت علوم أخرى مثلها، وقالوا إن العلم عرض، وكذا النفس أيضاً، مما يلزم أن تُخلق لكل ذي نفس مائة ألف نفس مثلاً في كل دقيقة. ويرون أنه عند تحريك الإنسان للقلم، يخلق الله أربعة أعراض ليس منها ما هو سبب للآخر، بل هي متقارنة الوجود لا غير. وهذه الأعراض عبارة عن: إرادة تحريك القلم، والقدرة على تحريكه، ونفس حركة اليد، وحركة القلم. وجميعها يخلقها الله مباشرة دون أن يكون بينها تأثير أو سببية، بل إقتران العادة[112].
هكذا إن تبرير نفي التأثير السببي في الأشياء يعود من حيث التحليل إلى البداهة الأولية لحق الملكية، إذ ما يفسر الإقتران في الظواهر الطبيعية هو الفعل المطلق لله، وأن هذا الفعل عائد لإرادته المطلقة، وأن هذه الإرادة تفسرها الملكية المطلقة. ومن حيث النتيجة يصبح الإقتران رهين هذا الأصل المولّد. فكل ما يحدث في الواقع من حوادث هو بفعل التأثير الإلهي دون سواه، وأن ما يقال بوجود علاقة سببية بين الأشياء ما هو إلا وهم وخداع، إذ لا مؤثر في الوجود غير الله، ولا سبب لحدوث الأشياء وتغيراتها سواه تعالى.
وكما قال الإمام الغزالي في نصه الشهير:
«الإقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً ليس ضرورياً عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمناً لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والإحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن وإستعمال المسهل.. الخ»[113].
2ـ نفي الفعل البشري
وعلى شاكلة ما سبق تم تبرير نفي الفعل البشري استناداً إلى مقالة الفعل الإلهي المطلق. فهذا الفعل هو نتاج الإرادة الإلهية المطلقة، وأن هذه الإرادة تبررها الملكية المطلقة.
وتبعاً لهذا المنطق يصبح الإنسان مجبراً على الفعل والسلوك دون أن تشفع له قدرته على التأثير. فالقدرة تقترن مع الفعل، وكلاهما يخلقهما المكلِّف، فلا تأثير لشيء سوى تأثير القدرة الإلهية[114]. فالله بحسب هذه النظرية خالق الأسباب والمسبَّبات والقدرة والإرادة وكل شيء، ولم يبق شيء ينسب إلى الإنسان سوى ما اظهره الله فيه مما يطلق عليه (الإكتساب)[115].
ولهذه العلة اعتبر الفخر الرازي أن العبد لا يصدر عنه أي شيء قبيح، ففعله يتوقف على ما يُحدثه الله فيه من الداعي، فإذا ما تحقق هذا الأخير فإن الفعل يصبح واجب النفوذ[116].
ولإثبات هذه الدعوى، قدّم أصحاب هذا المنطق جملة من الأدلة، بعضها عقلي، وبعضها الآخر ديني، غير أن الشق العقلي منها بدا واهيًا. ومن ذلك ما أورده الأشعري حين استدل بأن الإنسان لو كان هو الفاعل الحقيقي لأعماله، لكان لزامًا أن تأتي أفعاله مطابقة لما يقصد ويرغب. فالكافر، مثلًا، يريد لكفره أن يكون حقًا مقبولًا وحسنًا محبوبًا، إلا أنه مع ذلك يظل باطلًا فاسدًا ومتناقضًا، مما يدل - بحسب رأيه - على أن الإنسان لا يملك زمام الفعل، ولا يتحكم في حقيقته. وعلى هذا المنوال، فإن المؤمن يتمنى لإيمانه أن يكون خاليًا من المشقة والعناء، لكنه لا ينال ما يشتهي. وقد اعتبر هذه الحقيقة شاهدًا على أن مردّ الأفعال جميعاً تعود إلى الله وحده دون سواه[117].
مع أن هذه الشواهد إن دلت على شيء فإنما تدل على نفي الإرادة المطلقة للإنسان، وهي لا تدل على نفيها كاملة، بدلالة أن من الأعمال ما تحدث طبق ما يقصده الإنسان ويشتهيه. إضافة إلى أن الواقع يشهد على وجود تفاعل متواصل بين إرادة الإنسان والظروف الخارجية.
أما من الناحية الدينية، فقد استدل الأشعري بجملة من الآيات القرآنية لدعم فكرته حول رد الأفعال إلى الله وحده، وكما قال: «يقال لأهل القدر أليس قول الله تعالى: ﴿بكل شيء عليم﴾ يدل على أنه لا معلوم إلا والله به عالم؟ فإذا قالوا نعم، قيل لهم: ما أنكرتم أن يدل قوله تعالى: ﴿على كل شيء قدير﴾ على أنه لا مقدور إلا والله عليه قادر، وأن يدل قوله: ﴿خالق كل شيء﴾ على أنه لا محدث مفعول إلا والله محدث له فاعله وخالقه». وقال أيضاً: «فإن قال: أفليس الله تعالى قال: ﴿أتعبدون ما تنحتون﴾ وعنى الأصنام التي نحتوها، فما أنكرتم أن يكون قوله: ﴿خلقكم وما تعملون﴾ أراد الأصنام التي عملوها؟ قيل له: خطأ ما ظننته لأن الأصنام منحوتة لهم في الحقيقة فرجع الله تعالى بقوله: ﴿أتعبدون ما تنحتون﴾ إليها، وليست الخشب معمولة لهم في الحقيقة فيرجع بقوله: ﴿خلقكم وما تعملون﴾ إليها»[118].
كذلك قدّم آخرون مثل هذه الأدلة لإثبات المطلب ذاته، كإمام الحرمين الجويني[119]، ومن قبله الحافظ البيهقي الذي استشهد بنصوص قرآنية تشير إلى أن الفعل لا يكون إلا من الله، مثل قوله تعالى: ﴿فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ (الأنفال/ 17)، وقوله: ﴿أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون﴾ (الواقعة/ 64)، فعلى رأيه أن الله سلب عن الآخرين فعل القتل والرمي والزرع مع مباشرتهم إياه، وأثبت فعلها لنفسه؛ ليدل بذلك على أن المعنى المؤثر في وجودها بعد عدمها هو إيجاده وخلقه، وإنما وجدت من عباده تلك الأفعال مباشرة بقدرة حادثة أحدثها خالقنا عز وجل على ما أراد، فهي من الله سبحانه، وقد خلقها واخترعها بقدرته القديمة[120]. وروى حول ذلك عن النبي (ص) قوله: إن الله عز وجل يقول أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخير وقدّرته؛ فطوبى لمن خلقته للخير وخلقت الخير له وأجريت الخير على يديه، أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الشر وقدّرته؛ فويل لمن خلقت الشر له وخلقته للشر وأجريت الشر على يديه. وإن كان في الوقت ذاته روى ما ظاهره ينافي ذلك، وهو ما ورد في حديث دعاء الاستفتاح: الخير في يديك والشر ليس إليك، واعتبر أن معناه هو الإرشاد إلى إستعمال الأدب في الثناء على الله عز وجل والمدح له بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساوئها، مذكراً بأن الدعاء لا يقصد إدخال شيء آخر خارج فعل الله وقدرته، كالذي يذهب إليه عامة الأشاعرة[121].
ويبدو أن ثمة لبسًا وتشويشًا في الموقف الأشعري، فرغم سعي الأشاعرة لتجنيب أنفسهم تهمة الجبر المحض، إلا أنهم لم يسلموا من الوقوع تحت طائلته؛ سواء من جهة أدلتهم العقلية التي اعتمدوا عليها، أم من خلال المفهوم الجديد الذي تبنوه، والمقصود به (الكسب) الذي استحدثه الأشعري، رغم ما قيل عن كون هذه النظرية ترجع في الأساس إلى أبي حنيفة[122].
وقد لخص الفخر الرازي معنى الكسب بقوله: «في الكسب قولان: أحدهما أن الله تعالى أجرى عادته بأن العبد إذا صمم العزم على الطاعة فإنه تعالى يخلقها، ومتى صمم العزم على المعصية فإنه يخلقها. وعلى هذا التقدير يكون العبد كالموجد، وإن لم يكن موجداً... وثانيهما أن ذات الفعل وإن حصلت بقدرة الله تعالى ولكن كونها طاعة ومعصية صفات تحصل لها وهي واقعة بقدرة العبد». لكن رغم ذلك فإن الرازي لم يرَ الإستدلال بالكسب صحيحاً، إذ بعد التحقيق اعتبره اسماً بلا مسمى[123].
وهي النتيجة التي اتفق عليها مجمل ناقدي هذه النظرية، وعلى رأسهم جملة من الأشاعرة التابعين؛ كالباقلاني والجويني والشهرستاني[124].
وقيل إن المحالات في علم الكلام ثلاثة: نظرية الكسب للأشعري، ونظرية الأحوال لأبي هاشم الجبائي، ونظرية الطفرة للنظّام المعتزلي[125].
كما تعرضت الأشاعرة لنقد آخر يتعلق بمفهوم (القدرة) الذي أُستخدم لتبرير مسألة خلق الأعمال. فقد وجّه ابن تيمية - مثلاً - سهام نقده إلى كل من فكرتي الكسب والقدرة معاً، ورآهما غير جديرين بحلّ المسألة، وخرج بنتيجة مفادها اتهام النظرية بالجبرية المقنّعة، وكما قال: «وأما الجبرية كجهم وأصحابه فعندهم أنه ليس للعبد قدرة البتة، والأشعري يوافقهم في المعنى فيقول: ليس للعبد قدرة مؤثرة، ويثبت شيئاً يسميه قدرة يجعل وجوده كعدمه، وكذلك الكسب الذي يثبته»[126].
وعلى رأي ابن تيمية، فإن الأشاعرة لم يذكروا فرقاً معقولاً بين الكسب والفعل، وحقيقة قولهم هو قول جهم بأن العبد لا قدرة له ولا فعل ولا كسب[127].
لكن يبدو أن الأشعري لم يقصد بالقدرة - أو الإستطاعة - المعنى المتعارف عليه. وأغلب الظن أنه كان يضمنها معنى ما يُعرف بـ (العلة التامة) التي يقترن فيها الفعل بالضرورة من دون تأخر ولا تراخي.
وربما كان هذا المعنى متداولاً لدى العصر الذي عاشه الأشعري (260ـ330هـ). وهو ذات المعنى الذي ورد في بعض الروايات الشيعية كما رواها الكليني خلال القرن الرابع الهجري عن الإمام الصادق (المتوفى سنة 148هـ)، ومن ذلك قول الصادق: «إن الله خلق خلقاً فجعل فيهم آلة الإستطاعة ثم لم يفوض إليهم، فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل، فإذا لم يفعلوا في ملكه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلاً لم يفعلوه، لأن الله عز وجل اعز من أن يضاده في ملكه أحد». وعن صالح النيلي أنه قال: سألت أبا عبد الله الصادق: هل للعباد من الإستطاعة شيء؟ فقال لي: إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالإستطاعة التي جعلها الله فيهم، قال: قلت وما هي؟ قال الآلة مثل الزاني إذا زنا كان مستطيعاً للزنا حين زنا، ولو أنه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعاً لتركه إذا ترك[128].
ويؤيد ما سبق ما قام به الشيخ الكوثري من تأويل لنظرية الأشعري، كما في تعليقه على العقيدة النظامية للجويني، حيث اعتبره غير منكر لقدرة العبد الموجودة فيه قبل الفعل والتي يعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات[129].
ومع هذا فالمشكلة تبقى قائمة لسببين، الأول: هو أن الأشاعرة تحيل أن يكون للعبد قوة مؤثرة تشارك في إيجاد الفعل. والثاني: أنها تعتبر إرادة الله تعالى متعلقة بالتكوين فقط، وهذا يقتضي أن لا تكون هناك إرادة أخرى مؤثرة في الوجود، وإلا جاز أن تتضارب الإرادتان، وهو مستحيل عندها.
واستناداً إلى المعنى السابق، يمكننا فهم جوهر نظرية الكسب، كما عبّر عنها الغزالي بقوله: «إن إنفراد الله سبحانه باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الإكتساب، بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعاً، وخلق الإختيار والمختار جميعاً. فأما القدرة فوصف للعبد وخلق للرب سبحانه وليست بكسب له. وأما الحركة فخلق للرب تعالى ووصف للعبد وكسب له، فإنها خلقت مقدورة بقدرة هي وصفه، وكانت للحركة نسبة إلى وصفه أخرى تسمى قدرة، فتسمى باعتبار تلك النسبة كسباً، وكيف تكون جبراً محضاً وهو بالضرورة يدرك التفرقة بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية؟ أو كيف يكون خلقاً للعبد وهو ولا يحيط علماً بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة واعدادها، وإذا بطل الطرفان لم يبق إلا الإقتصاد في الإعتقاد، وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه بالإكتساب، وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون بالاختراع فقط، إذ قدرة الله تعالى في الأزل قد كانت متعلقة بالعالم ولم يكن الاختراع حاصلاً بها، وهي عند الاختراع متعلقة به نوعاً آخر من التعلق، فيه يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها»[130].
ويتضح من النص السابق أن الأشاعرة تتحاشى اعتبار الفعل مخلوقاً من قبل العبد، وهي تجيز التعبير عن ذلك بالكسب، فهي تعتبر الخلق - الذي يعني الاختراع - خاصاً بالله تعالى وحده، فيكون الفعل منسوباً لله على سبيل الخلق أو الاختراع، ومنسوباً للعبد على سبيل الكسب، تجنباً من الوقوع في الشرك.
فكما قال الغزالي: «لو قيل إن كان للقدرة الحادثة أثر في المقدور فهو شرك خفي، وإنْ لم يكن لها أثر فهو جبر، يقال إنما يكون شركاً إذا كان لها في التخليق اثر، وإنما أثرها في الكسب والله تعالى ليس بكاسب حتى يكون شركاً، ولو لم يكن لها أثر في المقدور لزم أن يكون وجودها كعدمها.. واعلم أن من ظن أن الله تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل وأمر ونهى ووعد وتوعد لغير قادر مختار فهو مختل المزاج». واعتبر الغزالي أن الناس «لم يفرقوا بين قدرة الخالق القديمة وبين قدرة المخلوق الحادثة، والفرق بينهما أن القدرة القديمة مستقلة بالخلق ولا مدخل لها في الكسب، وأن القدرة الحادثة مستقلة بالكسب ولا مدخل لها في الخلق»[131].
أو كما سبقه في ذلك الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان، حيث قال: فعل القادر القديم خلق، وفعل القادر المحدث كسب، فتعالى القديم عن الكسب وجلّ، وصغر المحدث عن الخلق وذلّ[132].
ورغم أن هذه المحاولة استهدفت التخفيف من حدة القول بالجبر، والتوسط في الإعتقاد، إلا أنها مع ذلك لم تبرر لنا حرية الإختيار بشيء يذكر. فإذا كانت قدرة الإنسان مقترنة مع الفعل وهي مخلوقة من قبل الله تعالى، وكانت صفة الكسب تابعة لقدرة الإنسان، فأي مجال يسع فيه القول بحرية الإختيار؟ وبالتالي فمآل هذه النظرية إلى الجبرية المحضة، وأن الجهود التي رامت إلى تخليصها من هذا المستنقع لم تُجدِ نفعاً.
بل أفضى الأمر ببعض المتأخرين إلى استلهام المعنى الفلسفي لتحليل القضية. فكما نقل الشهرستاني عن الجويني قوله: إن «الفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبّب الأسباب، فهو الخالق للأسباب ومسبَّباتها».
وعلق الشهرستاني على هذا القول بأنه رأي أخذه الجويني «من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام»[133].
وعلى هذا النحو أقام الغزالي حواراً خيالياً بين القلم والكاغد واليد والإرادة والقدرة والعلم وغيرها ليبين فيه أن التأثير لا يحصل إلا بفعل فاعل واحد هو الله تعالى[134]، وذلك على شاكلة ما يراه النظام الوجودي.
***
مع هذا يلاحظ أن الفخر الرازي، رغم أنه جارى الأشعري في نظريته حول القدرة كما في (المحصل)، ومن ذلك إعتقاده بأن القدرة مع الفعل لا قبله وأنه لا تأثير للقدرة على المقدور[135]، لكنه خالفه في كتاب (اصول الدين)، اذ اعتبر الإستطاعة قبل الفعل لا معه، كما اعترف بأن العبد فاعل على سبيل الحقيقة[136].
ويتوقف نجاح الأشاعرة، في نفي الطابع الجبري، على التسليم بوجود شيء من الإرادة الحرة للإنسان في إيجاد الفعل. بمعنى أن هناك أكثر من إرادة وفعل حقيقي في الوجود، فبالإضافة إلى إرادة الله وفعله، فإن للإنسان إرادته وفعله، رغم أنهما غير مستقلين عن الإرادة الأولى، وهو ما تنفيه الأشاعرة نفياً تاماً ومطلقاً.
وبالتالي فإن هذه النظرية واقعة في الجبرية المقنعة، خلافاً لما أريد لها أن تكون. والذي يؤكد هذه النتيجة الأدلة العقلية والنقلية التي شيّدتها الأشاعرة لإثبات المعنى السابق.
لكن ما الذي يحتم على الأشاعرة الأخذ بمثل ذلك المعنى؟
وكجواب عن هذا التساؤل، نرى أن المعنى السابق مرتبط بمنطق الأشاعرة في حق الملكية، فمن كان له هذا الحق كان له الفعل كله، فهو المالك وهو الفاعل، وإفتراض أن للغير فعلاً ما، يعني في الوقت ذاته أن له شيئاً ما من الملكية النسبية بقدر ما له من الفعل والخلق. لذا فقد نفى أصحاب هذا المنطق أن يكون للإنسان شيء من الفعل، واثبتوا قباله صفة الكسب، وهم بذلك قد حققوا هدفين: أحدهما التأكيد على أن الفعل إنما يكون للمالك المطلق دون مشاركة أحد في ملكه، لذا قالوا: لا فاعل سوى الله، إتساقاً مع ما تفرضه البداهة الأولية، وكونه مدعاة للتوحيد ونفي الشريك في الفعل. أما الهدف الآخر فهو أن اضفاء صفة الكسب على الآثار الإنسانية إنما يراد به تصحيح الدور التكليفي للإنسان، من حيث خضوعه لمنطق الحساب من الثواب والعقاب، إتساقاً مع ما تفرضه الحقيقة الدينية.
وحقيقة، إن هذا المنطق ينجح في تبرير المعنى الخاص بالتوحيد، عبر توسعة مجاله ليشتمل على دائرة الفعل، وأنه لا فاعل في الوجود غير الله. لكنه في الوقت ذاته لا يبرر نظرية التكليف وما جاءت به الشرائع السماوية من الدعوة إلى الأفعال الحسنة وتجنب الأفعال القبيحة، وما يترتب على ذلك من الثواب والعقاب.
نشير أخيراً إلى خطأ ارتكبه بعض الباحثين، حيث جعل من حديث الإمام الصادق «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» يتطابق مع نظرية الأشاعرة في الكسب، لأنها على رأيه أرادت أن تقف بين التفويض والجبر. إذ نقل الاستاذ علي سامي النشّار ما يروى عن الصادق، وهو قوله: «وإني أقول قولاً متوسطاً، لا جبر ولا تفويض ولا تسليط. والله تعالى لا يكلف العباد بما لا يطيقون، ولا أراد منهم ما لا يعلمون، ولا عاقبهم بما لم يعلموا، ولا سألهم عما لم يعلموا، ولا رضي لهم بالخوض فيما ليس لهم به علم، والله يعلم بما نحن فيه»، ورأى أنه عبارة عن نظرية الكسب ذاتها[137].
لكن مضامين النص لا تشير إلى المعنى المراد للأشاعرة، وأن بعضها لا يتفق مع ما تراه.
كما عبّر بعض المعاصرين عن أن الأشاعرة تقول: «ان الإنسان مختار في فعله مجبور في إختياره». أو أنه مسيّر في صورة مخير[138].
وسبق للغزالي أن قال في رسالة التوحيد: إنه لو انكشف الغطاء لعرفت أن الإنسان في عين الإختيار مجبور، فهو إذن مجبور على الإختيار. فمثلاً إن فعل النار في الإحراق جبر محض، وفعل الله تعالى إختيار محض، وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين، فإنه جبر على الإختيار، وقد طلب أهل الحق لهذا عبارة ثالثة.. فسموه كسباً وليس مناقضاً للجبر ولا للإختيار، بل هو جامع بينهما عند من فهمه[139].
لكن يظل المعنى الذي نظّر له الأشاعرة دالاً على حقيقة الجبر مع صورية الإختيار، وهو يختلف عن عبارة الإمام الصادق.
رابعاً: حق الملكية والتكاليف العقلية
بحسب منطق حق الملكية لا مجال للقول بوجود التكاليف العقلية، إذ القول بهذه التكاليف يفضي إلى التناقض مع البداهة الأولية.
لذلك قال فخر الدين الرازي كما في كتابه (محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين) إنه بحسب العقل لا يُقبح من الله أي شيء في فعله، ويلزم منه أن لا يُفرض عليه ثواب أو عقاب، وحيث لا يمكن القطع بالثواب والعقاب من جهة العقل، فإن وجوب التكليف الذي يتعلق به لا يمكن أن يُقطع به أيضاً[140].
فمن الواضح أن مسألة الحسن والقبح ترتكز على المفهوم الخاص بالملكية؛ فحيثما وُجدت ملكية مطلقة، يكون حق المالك مطلقاً من غير قيد، فلا يُلزَم بإقامة الثواب والعقاب، كما لا يترتب استحقاق للذم والعقاب لمن ترك الوجوب العقلي المزعوم، فكل ذلك يرتهن بقرار المالك، فما يختاره هو الحق؛ سواء اختار الذم والعقاب، أو المدح والثواب، أو غير ذلك.
كما قدّم الفخر الرازي وغيره دليلاً من الخطاب الديني يؤيد المعنى السابق من نفي التكليف العقلي؛ استناداً إلى قوله تعالى: ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾ (الإسراء/ 15)[141].
وكان بعض أصحاب منطق الحق الذاتي يأول هذه الآية ويرى أن معناها هو «وما كنا معذبين بالأوامر السمعية حتى نبعث رسولاً هو العقل» كالذي أفاده العلامة الحلي خلافاً لظاهر النص[142].
مع هذا فنفي التعذيب لا يدل على عدم وجوب التكليف العقلي، إذ قد يكون التكليف واجبًا، ويستحق المتخلّف عنه العقوبة، إلا أن الله يتفضل بإسقاطها بكرمه ورحمته. وهناك احتمال آخر، وهو أن المراد بالآية الأوامر السمعية دون العقلية، أي القضايا التعبدية التي لا تُدرك بالعقل.
وبالتالي فالآية ليست بصدد نفي التكليف العقلي كما هو واضح.
لكن ماذا بشأن مسألة وجوب النظر التي أثارت جدلاً كلامياً بين إتجاهي الدائرة العقلية؟
فقد ذهب أصحاب منطق حق الملكية إلى إعتباره واجباً سمعياً[143]، فهم لا يعترفون بالواجبات العقلية على إطلاق. بل يعدون الناظر لو استدل بالعقل سلفاً على معرفة الله وتوصل إليها لم يستحق بذلك ثواباً، ولو جحده بالنظر لم يستحق عقاباً، إذ كل ذلك موقوف على البيان الديني[144].
ونُقل عن أبي الحسن الأشعري إعتقاده بأن الله لو عذّب الناظر بإدخاله في النار لكان عدلاً، إذ هو كإيلام الأطفال في الدنيا، ولا يُعدّ ذلك من العقاب، حيث استحقاق العقاب لا يكون إلا من تعلق به الأمر والنهي عبر الخطاب الديني ثم عصاه[145]. كما نُقل عن الأشعري قوله أيضاً بأن جميع الواجبات يحددها الشارع الديني جملة وتفصيلاً، وهي تبدأ أولاً بوجوب معرفة الله تعالى؛ باعتبارها أصل المعارف والعقائد، ومنها تتفرع سائر التكاليف الشرعية الأخرى[146]. رغم أن هذا الرأي يفضي إلى الدور والمصادرة على المطلوب، فلو كان مصدر وجوب معرفة الله مستمداً من الخطاب الديني لعنى ذلك التسليم أولاً بحجية هذا الخطاب الذي يفيد الوجوب، لكن التسليم بحجيته قائم على إثبات معرفة الله، وفي ذلك دور واضح.
كما نُقل عن ابن فورك والجويني في (الإرشاد) أنهما يريان بأن القصد إلى النظر هو أول الواجبات، ونُسب هذا القول أيضاً إلى الباقلاني، ومبرره هو توقف النظر على قصده، بمعنى تفريغ القلب عن الشواغل[147].
وفي هذا الرأي تبدو النزعة العقلية، أي اعتبار القصد إلى النظر واجباً عقلياً، وهو ما ينافي البداهة الأولية لحق الملكية. لكن لو قيل إن القصد إلى النظر هو واجب سمعي مصدره الخطاب الديني، لأفضى ذلك إلى الدور الواضح، إذ من شأن هذا القصد أن يكون سابقاً على سائر الواجبات، وبالتالي يصبح قبول الخطاب الديني متوقفاً عليه، في الوقت الذي يكون منتزعاً عن هذا الخطاب، وهو الدور.
وينطبق هذا الحال على القول الذي يراه الباقلاني من أن أول الواجبات هو: أول النظر، أي المقدمة الأولى منه، لتوقف النظر على أول أجزائه، نحو قولك: العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، فمجموع المقدمتين هو النظر، والمقدمة الأولى هي أول النظر[148].
ولدى أصحاب منطق الحق الذاتي شبهة كثيراً ما يطرحونها بوجه خصومهم من أتباع منطق حق الملكية؛ حول ما يُعرف بشبهة افحام الأنبياء. ويصورونها كما يلي:
لو كان أصل الواجبات سمعياً، ومنها وجوب النظر، لأفضى ذلك إلى افحام الأنبياء وردّ رسالاتهم السماوية، وللزم عنه إسقاط التكاليف الشرعية بالكامل. فالذي تُعرض عليه دعوة النبي بإمكانه أن يقول: (ما دام النظر لم يجب عليّ بعد؛ فإني لست مستعداً لأن أنظر حتى لا تتم عليّ حجة صدق النبي وصحة رسالته). وهذا ما يؤول إلى افحام الأنبياء[149]. في حين لو كان النظر واجباً عقلياً لما أفضى الأمر إلى هذا الإشكال، بل لانتهى الأمر إلى ابلاغ الحجة ودعوة الأنبياء[150].
لكن في القبال نجد لدى منطق حق الملكية شبهة معاكسة، ومفادها أن التسليم بوجوب النظر العقلي يفضي إلى الدور الباطل.
فقد اعتبر الفخر الرازي - مثلاً - أن القول بوجوب النظر العقلي يتوقف على النظر حتى يثبت الوجوب، وهذا يلزم منه الدور. وبعبارة أخرى، لو وجب الاستماع للأنبياء عقلاً لأفضى ذلك إلى الدور، إذ لما كان وجوب النظر ليس ضرورياً بإعتباره يتوقف على مقدمات مفتقرة إلى انظار دقيقة، فالمكلَّف في هذه الحالة يجوز له أن يقول لا أنظر حتى أعرف وجوب النظر، ولا أعرف وجوب النظر حتى أنظر، أو يقول لا يلزمني النظر في معجزك حتى أعلم صدقك، ولا أعلم صدقك حتى أنظر في معجزك[151].
ومع ذلك فالبعض من أصحاب المنطق الأخير يرى أن الفرد سوف لا يخسر شيئاً لو استمع، إذ لو لم يستمع فمن المحتمل أن يقع في الهلاك من حيث لا يشعر. وكما صرح الغزالي بأن الاحتراز والنظر في الأمور وما تؤول إليه من العواقب هي من شيمة العقلاء[152].
لكن هذا الرأي لا يتسق والبداهة الأولية لحق الملكية، حيث إذا كان للمالك الحقيقي الحق المطلق في فعله دون قيود ولا شروط ولا غرض ولا غاية، فذلك لا يجعل من الاحتراز احترازاً، فما نعده احترازاً وإحتياطاً في الفعل؛ قد لا يسمح به المالك الحقيقي ويعاقب عليه. وبالتالي ليس في هذا المنطق ما يُعرف بالاحترازات العقلية، فكل احتراز مصدره الخطاب الديني فحسب.
وهناك من أجاب على الشبهة التي طرحها الفخر الرازي في نفيه لوجوب النظر العقلي، كالذي ذكره العلامة الحلي، حيث حرر الشبهة وأجاب عنها قائلاً: «لا يقال هذا يرد عليكم، لأن وجوب النظر نظري، فللمكلف أن يقول لا أنظر حتى أعرف وجوب النظر، ولا أعرف وجوبه إلا بالنظر، ويعود المحذور، لأنا نقول: وجوب النظر وإن كان نظرياً إلا أنه فطري القياس»[153].
لكن الحلي لم يبين لنا كيف أن الإستدلال النظري على وجوب النظر فطري القياس، وربما كان منظوره الإستدلال القائم على وجوب دفع الضرر عن النفس، فيكون القياس كما يلي:
إن دفع الضرر المظنون - والمعلوم أيضاً - عن النفس واجب، وحيث أن ترك النظر يكون مظنون الضرر الأخروي لوجود دافع الخوف ولوجوب شكر المنعم، لذا كان النظر واجباً.
وقريب من هذا الجواب ما نصّ عليه نصير الدين الطوسي، فذكر بأن وجوب النظر عند المعتزلة ليس بمتوقف على العلم بالوجوب حتى يحصل الدور، بل إنهم قالوا بأن «دفع الضرر المظنون الذي لعله يلحق بسبب الجهل بالمنعم واجب في البديهة العقلية، وذلك لا يمكن إلا بمعرفته، وذلك لا يزول بترك النظر»[154].
والواقع إن القياس المذكور فطري متى أخذ على سبيل الاحساس الذاتي للفرد بغض النظر عن الجانب المنطقي، فعلى الأقل إنه من الناحية المنطقية لا يمثل الخوف ولا شكر المنعم دليلاً ظنياً أو قطعياً على وجوب النظر ما لم يكن هناك نظر سابق يبرر دلالة قرينة الخوف والشكر على وجوبه. فهذا النظر السابق ليس فطري القياس لإعتماده على جملة من القرائن المتعلقة بإثبات الخالق وصفاته.
وعلى هذا يصبح وجوب النظر العقلي متوقفاً على نظر سابق، مما يفضي إلى التسلسل أو الدور.
أما فيما يخص شبهة افحام الأنبياء فمن الواضح أنها لو صدقت لكانت لا تدل بالضرورة على عموم وجوب النظر العقلي، بل على خصوص وجوب نظر الاستماع إلى قول الداعي الذي يدعي النبوة.
ومن حيث التحقيق يلاحظ أن هذا الوجوب يتحلى بقدر من المنطقية؛ لأنه يتعلق بنوع القرائن الموضوعية وقدرها، كمعرفة ظروف الداعي وأحواله الخاصة مع سلامة ظروف الفرد وخصائصه، كإن يكون متعقلاً دون إعاقة الموانع الطبيعية التي تحجب عن الاستماع إلى الداعي. فكلما كانت مثل هذه الظروف والأحوال مؤاتية للتبليغ والاستماع؛ كلما ازدادت قوة ترجيح تحقق استحقاق الذم والعقاب، ولا يُعرف ذلك بمحض الإدراك العقلي الخالص.
لذا كان من ضرورات تسهيل الدعوة أن يكون النبي على درجة عالية من الأخلاق، كالذي نصّ عليه قوله تعالى: ﴿ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر﴾ (آل عمران/ 159).
خامساً: حق الملكية وتكليف ما لا يطاق
من النتائج المترتبة على منطق حق الملكية الإعتقاد بجواز تكليف ما لا يطاق، حيث استدل عليه الإمام الجويني بقوله: «الدليل على جواز تكليف المحال؛ الإتفاق على جواز تكليف العبد القيام مع كونه قاعداً حالة توجه الأمر عليه، وقد اقمنا الدليل القاطع على أن القاعد غير قادر على القيام، فإذا جاز كون القيام مأموراً به قبل القدرة عليه، وإن كان ذلك غير ممكن، فلا يبقى لإستحالة تكليف المستحيل وجه»[155].
وظاهر هذا الجواب هو أنه يمنع أن تكون هناك سعة للتكليف يقتضيها الحال، فكل أمر لا بد أن يقتضي حالاً للمكلَّف يسبق الحال الذي يؤمر عليه. وواضح أنه إذا لم يوجد شيء من التراخي النسبي بين الأمر وامتثاله؛ فسيؤول التكليف إلى المحال والعبث، فلا يعقل أن يترتب عليه الجزاء من استحقاق الذم والعقاب.
غير أن هناك فهمين لأصحاب هذا المنطق حول عدم الطاقة والإستطاعة في التكليف. فتارة يدل المعنى عندهم على التكليف بالمحال والعجز الذاتي، كما تشهد على ذلك بعض التطبيقات، وأخرى يدل المعنى على ما هو أشبه بالصرفة منه إلى العجز الذاتي.
وبحسب المعنى الأخير اعتبر الشيخ أبو الحسن الأشعري أنه ليس المقصود بعدم الطاقة والإستطاعة هو العجز عن الفعل المكلَّف به، بل بمعنى تركه والإنشغال بغيره، حيث يقول: «إن قال: أليس كلف الله تعالى الكافر الإيمان؟ قلنا له: نعم. فإن قال: أفيستطيع الإيمان؟ قيل له: لو إستطاعه لآمن. فإن قال: أفكلفه ما لا يستطيع؟ قيل له: هذا كلام على أمرين: إن أردت بقولك أنه لا يستطيع الإيمان لعجزه عنه فلا، وإن أردت أنه لا يستطيعه لتركه وإشتغاله بضده فنعم»[156].
وقد تكرر هذا المعنى أيضاً عند الباقلاني في كتابه (التمهيد) [157]. كما تمّ تطبيقه على تفسير بعض الآيات. ومن الأمثلة عليه ما ذكره الشيخ الأشعري - وكذا الباقلاني - من معنى قوله تعالى: ﴿ما كانوا يستطيعون السمع﴾ (هود/ 20) وقوله: ﴿وكانوا لا يستطيعون سمعاً﴾ (الكهف/ 101)، فقد ذكر انهم لا يستطيعون ذلك مع أنهم أُمروا لأن يسمعوا الحق، فدلّ على جواز تكليف ما لا يطاق، وكذا الحال في قوله تعالى: ﴿ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم﴾ (النساء/ 129)، مع أنهم مكلفون بالعدل بين النساء[158].
كما من أدلة الأشاعرة على ذلك قوله تعالى: ﴿ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به﴾ (البقرة/ 286)، فقد ذكر الباقلاني بأنه «لو كان تكليف ما لا يطاق ظلماً وعبثاً وقبيحاً من الله تعالى لكانوا قد رغبوا إليه في أن لا يظلمهم ولا يسفه عليهم ولا يوجب من الأوامر ما يخرج عن حد الحكمة. والله أجلّ من أن يثني على قوم أجازوا ذلك عليه. فدلّ هذا على ما وصفناه»[159].
هذا هو مفهوم عدم الطاقة والإستطاعة في التكليف بمعنى الصرفة. لكن هذا المعنى ليس هو الوحيد، بل هناك معنى آخر يدل على العجز الذاتي، كما تشير إليه بعض التطبيقات التي أخبر عنها الخطاب الديني، مثل تكليف أبي لهب بالإيمان، حيث إن الله أمره «بأن يصدّق النبي ويؤمن به في جميع ما يخبر به، ومما أخبر به أنه لا يؤمن به، فقد أمره أن يصدّقه بأن لا يصدّقه، وذلك جمع نقيضين»[160].
وبعبارة أخرى، إن أبا لهب لو صدّق بأنه لا يؤمن بالرسالة؛ لبقي في ذمته تكليف واحد فقط هو عدم الإيمان، ولو لم يصدّق بذلك لكان يعني أنه مؤمن بالرسالة؛ فيظل مكلفاً بعدم التصديق. وفي هذه الحالة سوف لا تبرأ ذمته من التكليف، إذ لو تخلص من التكليف الأول لوقع في الثاني، والعكس صحيح. ولا شك أن هذا الإستدلال يتضمن انطواء التكليف على العجز الذاتي الذى نفاه البعض من الناحية المبدئية، كما رأينا سابقاً. وهو في جميع الأحوال يتنافى مع الوجدان، إذ كيف يعقل أن يكلف الله إنساناً عاجزاً بأن يؤمن بالرسالة؟! ولو صحّ هذا التكليف لكان شكلياً، وتظل حقيقته معبرة عن كونه عقوبة لا غير، مثل عقوبة الإلجاء المترتبة على الفعل البشري السيء، كالذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون﴾ (البقرة/ 15).
ولو نظرنا إلى الخطاب الديني لوجدنا أن الآيات القرآنية دالة على نفي مثل ذلك التكليف، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفساً إلا وسعها﴾ (البقرة/ 286). كما أن هناك نصوصاً أخرى ترفع التكليف عن حالات العسر والحرج في الدين، مثل قوله: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ (البقرة/ 185).. ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ (الحج/ 78).. ﴿الله لطيف بعباده﴾ (الشورى/ 19). وهو يدل - من باب الأولوية - على منع التكليف بالمحال.
يبقى أن نشير إلى ما ذكره الشاطبي من أن مسألة تكليف ما لا يطاق قد منعها «أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم»[161]. وهذا الذي نقله الشاطبي ربما يرجع إلى المتأخرين من الأشاعرة رغم ما فيه من تناقض مع البداهة الأولية للأصل المولّد إن كان المنع منعاً عقلياً، ومن ذلك ما اعتقده الغزالي من أن تكليف الناسي والغافل هو من المحال، وكذا الساهي والمجنون والسكران[162]. وإن أقرّ في محل آخر بأن له تعالى تكليف ما لا يطاق[163].
ملاحظات نقدية
إبتداءاً نعترف أنه ليس بيدنا أو بيد غيرنا الإعتراض على البداهة الأولية لهذا المنطق، مثلما ليس بيدنا فعل الشيء نفسه حول الموقف من منطق الحق الذاتي. والسبب واضح، وهو أن البداهة الأولية لكل من الطرفين هي من الأمور المجردة. لكن لا يمنع ذلك من الإعتراض على النتائج المترتبة على تلك البداهة.
وبصفة عامة نعلم أن الإعتراض على مقدمات القضايا الإستدلالية يفضي إلى تخطئة النتائج المترتبة عليها. لكن ماذا بخصوص العكس؟ فهل يفضي الإعتراض على النتائج إلى عدم قبول المقدمات التي استلزمتها؟ لا سيما ونحن نتحدث عن قضايا اللزوم بين النتائج والمقدمات. فقد عرفنا أن هناك جملة من القضايا المترتبة على القول بمنطق حق الملكية، وأن منها ما يعد من اللوازم الثابتة، بحيث أن أي تغيير لها يفضي إلى التعارض مع البداهة الأولية.
فالقول بجواز تكليف ما لا يطاق - مثلاً - هو أمر مترتب على التسليم بالبداهة الأولية لحق الملكية، لكنه في الوقت ذاته يسفر عن إبطال الشروط المنطقية لنظرية التكليف، إذ يصبح التكليف اسماً بلا مسمى، وصورة بلا معنى. فهو جبر تام ليس فيه ما يترتب عليه من حق الثواب والعقاب. وكذا الحال مع نظرية الكسب في مسألة القضاء والقدر، إذ لو لم يكن للإنسان سوى الأثر المعبّر عنه بالكسب؛ لكان ذلك منافياً للتكليف الذي يترتب عليه الجزاء. إذ تصبح أمور التكليف وما يترتب عليها صورية تلتقي تماماً مع الصورية التي رأيناها لدى النظام الوجودي في فهمه للإشكاليات الدينية.
ومن ذلك أيضاً، أنه لو صدقت البداهة الأولية لحق الملكية لكانت العدالة الإلهية، كما نطق بها الخطاب الديني، عدالة صورية، إذ لا فرق فيها - مثلاً - بين أن ينعّم الله المطيعين في الجنة ويعذب المسيئين في النار من جهة، وبين أن يفعل العكس بهم من جهة أخرى، وتبرير ذلك أنها لازمة عن التوحيد لزوماً ذاتياً. فالعدل مشتق من التوحيد تبعاً لحق الملكية، خلافاً للعدل الذي يراه منطق الحق الذاتي كما عرفنا.
لكن العدالة التي يتحدث عنها الخطاب الديني هي غير تلك التي حددها منطق حق الملكية، كما هو واضح مما جاء في النصوص القرآنية التالية:
﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا وكفى بنا حاسبين﴾ (الأنبياء/ 47).. ﴿تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين﴾ (آل عمران/ 108).. ﴿ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد﴾ (الانفال/ 51).. ﴿فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾ (يس/ 54).. ﴿وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ (البقرة/ 272).. ﴿وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون﴾ (الزمر/ 69).
وتدل هذه النصوص على أن الله لم يرد ظلماً للعباد، فلو أراد ذلك لما استحال عليه، حيث الإرادة هي للممكن الذي يقبل الوجهين، الأمر الذي يتنافى وما يراه المنطق السابق.
كما يلاحظ أنه ليس في نظرية منطق حق الملكية ما يبرر الحقوق الإنسانية، خلافاً لنظرية الحق الذاتي. الأمر الذي يثير إعتراضاً على أولئك الذين ينتمون إلى المذهب الأشعري ويرفعون شعار مثل تلك الحقوق، كرفع شعار (حقوق الإنسان في الإسلام) كالذي يدعو إليه الكثير من أهل عصرنا. فالحقوق بحسب التصور الأشعري ليست حقوقاً بالمعنى الحقيقي لهذه اللفظة، وإنما هي تفضل ومنّة من الخالق على المخلوق.
وينبسط هذا الإشكال أيضاً على أولئك الذين ينتمون إلى المنطق السابق ويقولون بمقاصد الشريعة. فالمعروف أن الأشاعرة هم أول من دعا إلى القول بالمقاصد، لكن هذا القول لا يتسق والاستناد إلى البداهة الأولية لحق الملكية. فهم من جانب اعتبروا تلك المصالح تعبدية لا تختلف عن سائر التعبديات الأخرى طبقاً لنظرية الحسن والقبح الشرعيين، في حين ميزوا من جانب آخر بين الأحكام التعبدية التي لا يُدرك معناها وبين الأحكام المصلحية المدركة بالعقل، وسلموا لهذا الأخير صلاحية تقدير التفاوت بين المصالح وإختلاف رتبها وأنواعها وما يرجع إليها من أحكام، كما بينّا ذلك ضمن حلقة (النظام الواقعي). وبالتالي فإذا كان العقل قادراً على إدراك التفاوت في المصالح وأنواعها، فكيف لا يكون قادراً على إدراك ما هو مصلحة حقيقية وتمييزها عن غيرها؟!
بل يمكن القول، إن القضايا المترتبة على حق الملكية لا تتسق مع نظرية التكليف، وهي النظرية التي نعدها أولى الحقائق الأصلية للخطاب الديني. فبدونها يصبح هذا الخطاب بلا معنى محصل. مما يعني أن الإعتماد على نظرية التكليف يفضي إلى إبطال الأصل المتمثل في حق الملكية، مثلما أن الإعتماد على الأخير لا يبقي لهذه النظرية، ومن ثم الخطاب الديني، شيئاً يُذكر.
***
يبقى أن نشير إلى أن هناك جماعة من أصحاب هذا المنطق انقلبوا على الأصل الذي اعتمدوه، فاعترفوا بالواجبات العقلية كما يراها اتباع منطق الحق الذاتي، وأقروا بأن الخطاب الديني أمضى ما في العقول من تلك الواجبات، وعدوا الإستدلال على معرفة الصانع واجباً عقلياً قبل ورود السمع به ودعوة الشرع إليه. ومن هؤلاء القفال الشاشي وأبو بكر الصيرفي وأبو بكر الفارسي والقاضي أبو حامد وأبو العباس بن القاص وأبو عبد الله الزبيري وأبو علي السقطي بن القطان وأبو علي بن أبي هريرة، ومن المتأخرين الحليمي وغيره.
وقيل إن هؤلاء لما نظروا إلى أسئلة المعتزلة - ومن ذلك قولهم بإيجاب الشكر عقلياً - اذعنوا لها، فاعتقدوا أن كلاً من شكر المنعم ومعرفة حدوث العالم وأن له محدثاً ومنعماً؛ تعد واجباً بالعقل قبل الشرع[164].
فقد قال القفال الشاشي: «أحكام الشرع ضربان: عقلي واجب وسمعي ممكن. فالأول: ما لا يجوز تغيره ولا يتوهم جواز استباحة ما يحظر، ولا حظر ما أوجب فعله؛ كتحريم الكفر والظلم والعدل ونحوه. وقد يرد السمع بهذا النوع فيكون مؤكداً لما وجب بالعقل. والثاني: كأعداد الصلوات وهو موقوف على تجويز العقل وقبوله إياه، فما جوّزه العقل فهو مقبول، وما ردّه فمردود، ومتى ورد السمع بإيجابه صار واجباً إلى أن يلحقه النسخ والتبديل».
كما قال الصيرفي في (الدلائل والأعلام): «لا يجوز أن يأتي الكتاب أو السنة أو الإجماع بما يدفعه العقل، وإذا استحال ذلك فكل عبادة جاء بها القرآن أو السنة فعلى ضربين: أحدهما مؤكد لما في العقل إيجابه أو حظره أو إباحته، كتحريم الشرك وإيجاب شكر المنعم. والثاني: ما في العقل جواز مجيئه ومجيء خلافه، كالصلاة والزكاة، فالسمع يرقيها من حيز الجواز إلى الوجوب». وقال أيضاً: «ولا يأتي الخبر بخلاف ذلك.. والدليل على أن العقل حاكم على ما يرد به السمع أنه المميز بين الأشياء الواردة عليه.. وجماع نكتة الباب أن الذي يرد السمع مما يثبته العقل إنما يأتي تنبيهاً»[165].
وقال الزبيري: «العبادات من قبل السمع لا ترد إلا على ثلاثة أوجه: ضرب يرد بإيجاب ما تقدم في العقل وجوبه، كالإيمان بالله وشكر المنعم، والثاني: يرد بحظر ما تقدم في العقل وجوبه كالكفر بالله، والثالث: يرد لما في العقل جواز مجيئه، كالصلوات والزكوات والحج والصوم».
وقال ابن القاص في (أدب الجدل): «الأشياء في العقل على ثلاثة أضرب: فضرب أوجبه العقل، وضرب نفاه، وضرب أجازه وأجاز خلافه، فما أوجبه العقل فهو واجب كشكر المنعم ومعرفة الصانع.. فأما الضربان الأولان فحجة الله فيهما قائمة على كل ذي لب قبل مجيء الشرع وبعده، ولا يجيء سمع إلا مطابقاً»[166].
لكن رغم إعتراف هؤلاء بالوجوب العقلي خلافاً للبداهة الأولية لمنطق حق الملكية، إلا انهم ظلوا محافظين على سائر مسائله الأخرى، الأمر الذي أوقعهم في التناقض.
وكمثال على ذلك، ما يُذكر من الحوار الذي جرى بين أبي بكر الصيرفي وأبي الحسن الأشعري، حيث أظهر الأخير تناقض الأول، إذ جاء أن الصيرفي ممن يقول بوجوب شكر المنعم ووجوب الإستدلال على معرفته ومعرفة صفاته من جهة العقل قبل ورود الشرع، ثم أنه ناظر الأشعري في ذلك، واستدل على وجوب شكر المنعم بالعقل بوجوب الاحتراز مما يخاف منه الضرر. فقال له أبو الحسن: أبجدّ تقول: إن الكائنات كلها بإرادة الله تعالى خيرها وشرها؟ قال الصيرفي: نعم. فقال أبو الحسن: لكن هذا ينافي أصلك، فإذا كانت العلة في إيجاب شكر المنعم أنه لا يأمن أن يكون المنعم الذي خلقه قد أراد منه الشكر، فقد يجوز أن يريد منه أن لا يشكره؛ لأنه مستغن عن شكره، فإما أن يعتقد أنه لا يريد ما ليس بحسن كما قالت المعتزلة، وإما أن لا تأمن أنه أراد منك ترك شكر المنعم، وإذا شكرته عاقبك، فلا يجب عليك شكر المنعم لهذا الجواز. فانقطع الصيرفي ورجع عن إعتقاده. وقيل إنه على أثر ذلك صنّف كتاب (الاستدراك) ليشير فيه إلى هذا الرجوع، ومما قال في حاشيته: «نحن وإن كنا نقول بشكر المنعم فإنما نقوله عند ورود الشرع»[167].
ومثله ما حصل مع أبي العباس القلانسي الذي قيل إن تصانيفه زادت على مائة وخمسين كتاباً[168]، إذ لما تحقق له ما في إعتقاده من التهافت رجع عنه.
وجاء عن الطرطوشي أنه قال في (العمدة): «هذا مذهب أهل السنة قاطبة إلا ثلاثة رجال تلعثموا في هذا الأصل في أول أمرهم ثم رجعوا عنه إلى الحق، وهم: أبو بكر الصيرفي، وأبو العباس القلانسي، وأبو بكر القفال».
وثمة من قال إنه لم يثبت عن القفال، ولا عن أبي علي، الرجوع عن هذه المقالة[169].
النظام الوجودي وحق الملكية
ليس من الصعب على الباحث أن يرصد موارد التشابه والتجاذبات الحاصلة بين الأشاعرة والعرفاء ضمن النظام الوجودي، ومن ذلك أن مقولة الأشاعرة (لا فاعل في الوجود إلا الله) والتي تتضمن نفي القدرة عن العباد، هي ما يؤكدها العرفاء في نظريتهم الوجودية، كقول الشيخ محي الدين بن عربي: «ليس للمخلوق قدرة عندنا وعند المحققين منا، إذ لا فاعل إلا الله تعالى خالق الأفعال الظاهرة في العين على أيدي الخلق وغيرها»[170].
ومما جاء في هذه التشابهات ما ذكره الشيخ ابن عربي من تجويزه أن يأمر الباري تعالى بفعل مع علمه بعدم وجود طاقة عليه، كالذي يقرّه منطق حق الملكية عند الأشاعرة، مستشهداً على ذلك بقول النبي (ص): شيبتني هود وأخواتها؛ لما تتضمنه من الآية: ﴿فاستقم كما أُمرت﴾. فكما ذكر أنها شيبته بحيث لا يدري هل أمر بما يوافق الإرادة فيقع، أو بما يخالفها فلا يقع[171].
كما أشار ابن عربي إلى نظرية الأشاعرة حول العرض والجوهر في الطبيعة بما يماثل إعتقاده. فهو يقول: «إن الأشاعرة تقول بأن العالم كله متماثل بالجوهر، فهو جوهر واحد، فهو عين قولنا: العين واحدة. وقالت الأشاعرة يختلف العالم بالأعراض، وهو قولنا: يختلف ويتكثر بالصور والنسب»[172].
فالعالم لدى ابن عربي مجموعة أعراض، حيث يتبدل في كل زمان، اذ العرض لا يبقى زمانين، مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: ﴿كل يوم هو في شأن﴾ الرحمن/ 29، وقوله: ﴿بل هم في لبس من خلق جديد﴾ ق/ 15[173]. وكرر هذه النحو من الاستشهاد عدد من أتباعه، من أمثال صدر المتألهين الشيرازي.
ومع ذلك إعترض ابن عربي على الأشاعرة حين اثبتوا جواهر كثيرة، وإن وافقهم بأن العرض لا يبقى زمانين، إذ رأى أن العالم كله مجموعة أعراض مع جوهر واحد هو عين الحق القائم بنفسه المقوم لغيره، فالأعراض كلها قائمة بالذات الإلهية وهي عين صفاته التي فيه بالقوة، فهي عينه بحسب الوجود، وغيره بحسب العقل[174].
واعتبر أن خلافه معهم أشبه ما يكون بالعبارة، وقال بهذا الصدد: «من لطافته ولطفه، أنه في الشيء المسمى بكذا المحدود بكذا عين ذلك الشيء.. فيقال: هذا سماء وأرض وصخرة وشجرة وحيوان ورزق وملك وطعام، والعين واحدة من كل شيء وفيه، كما تقول الأشاعرة أن العالم كله متماثل بالجوهر، فهو جوهر واحد، فهو عين قولنا: العين واحدة، ثم قالت ومختلف ويتكثر بالصور والنسب حتى يتميز، فيقال: هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه، كيف شئت فقل، وهذا عين هذا من حيث جوهره»[175].
كما اتفق ابن عربي مع متقدمي الأشاعرة في إثباتهم للصفات الإلهية الواردة في الكتاب والسنة مع نفي المماثلة والتشبيه، وكذا تسليمه بالصفات الذاتية السبعة التي يقول بها الأشاعرة، وهي: العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام[176].
مع هذا فإن جميع هذه التشابهات والتجاذبات تظل ظاهرية لا تنفذ إلى الأعماق. فهناك قطيعة جذرية في الروح والأبعاد. وكما أبدى حيدر الآملي من عرفاء الشيعة بأن هذا التشابه بين النظرية العرفانية وما إلتزم به الأشاعرة هو تشابه من حيث الظاهر. وقال: «مما قد يتوهم لبعضهم هو أن ما يذهب إليه الأشاعرة من نسبة الحسن والقبح جميعاً إلى الله ويقولون: (لا فاعل إلا هو) قريب من طريقة أهل الكشف والحال، وهو غلط محض لأن بينهما، وإن كانت مشابهة في الألفاظ، فليس إلا وبينهما في المعاني بون بعيد، وذلك لأن الأشاعرة لم يتخلصوا بعد من حد الشرك الخفي بالله، ولا استغنوا في النظر إليه عن رؤية من سواه، ولم يصلوا إلى درجة التوحيد في الوجود ليشاهدوا جمال الحق بخلاف أهل الحال»[177].
ومن حيث المبدأ إن اعتبارات منطق حق الملكية ونتائجه تختلف عما عليه المنطق الوجودي، إذ لا يتقيد المنطق الأول بقيود ما يفرضه المنطق الأخير الداعي إلى وحدة الوجود وما يترتب عليها من نتائج.
وبحسب هذه الفكرة لا تعددية في الوجود إلا بحسب الظاهر، وأن مقولة (لا فاعل إلا الله) تعني لدى العرفاء شيئاً ولدى الأشاعرة شيئاً آخر، وأن المشيئة والإرادة الإلهيتين لدى الطرفين مختلفة، فهما لدى العرفاء يدخلان ضمن الحتميات، حيث المشيئة متعلقة بالفيض الاقدس، والإرادة متعلقة بالفيض المقدس، أو أن المشيئة متعلقة بإفاضة الأعيان الثابتة، والإرادة متعلقة بإيجاد الممكنات، ولدى القيصري أن الله وإن كان فعالاً لما يشاء، لكن مشيئته بحسب حكمته، ومن حكمته أن لا يفعل إلا بحسب استعداد الأشياء بما هي عليه في الأعيان الثابتة[178]، وكل ذلك يعد من الحتميات، وأن القول بإفاضة الأعيان وكذا إيجاد الممكنات ليس له معنى حقيقي، بل مأخوذ على نحو المجاز، حيث لا إفاضة ولا إيجاد، بل الكل موجود ومتعين بالعين الثابتة أزلاً وأبداً. وكذا بخصوص الإستطاعة وقدرة العبد وتكليفه بما لا يطاق، فكل ذلك له معنى لدى العرفاء غير ما لدى الأشاعرة. والشيء نفسه يقال حول علاقة الأعراض بالجوهر في الطبيعة.
والأهم من ذلك الخلاف الحاصل بينهما حول القيم، مثل العدل وما إليه، فهي لدى الأشاعرة مأخوذة على حقيقتها وأن اشرطوها بشرط الملكية، وكما قال الإمام الغزالي: «لا يقاس عدله تعالى بعدل العباد، إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره، ولا يتصور الظلم من الله تعالى؛ فإنه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه ظلماً»[179]. في حين إن القيم لدى العرفاء مصورة على نحو المجاز، لإعتبارات ما تبنّوه من فكرة الحتمية ووحدة الوجود.
فمثلاً رأى العارف الآملي أن المقصود بالعدل الإلهي هو اعطاء الله لكل موجود حقه الذي يستحقه في الأزل دون زيادة ولا نقصان، وذلك حسب ما تكون عليه الأعيان الثابتة أو الصور العلمية لدى الذات الإلهية[180]. وأقرّ أنه بغير ذلك يصدق الظلم الفاحش بإعتباره يعني وضع الشيء في غير موضعه. وهو المعنى الذي نجده عند القيصري[181].
كما سبق للفارابي أن أكّد على ما يقارب هذا المعنى، فالعدل يعني لديه هو أن يحصل كل ممكن على قسطه من الوجود[182]. ومثل ذلك ما ذهب إليه كل من السهروردي والمحقق الدواني[183].
هكذا فإن مفهوم العدل لدى أتباع النظام الوجودي بشقيه العرفاني والفلسفي هو مفهوم مجازي، فكل شيء عندهم مقدر بقضاء حتمي لا يقبل التغيير والتبديل، فالعدل في الفهم الوجودي هو ما يماثل ضرورة الوجود، والظلم على خلافه يعني الإستحالة. بل ليس في عرف هؤلاء تكليف سوى ما يرد في الظاهر والمجاز، إذ حقيقة الحال لا تتعدى الصرامة الحتمية التي تسير فيها الأشياء كما مقدّر لها حسب اعتباراتها الذاتية. فمثلما قُدّر لكل شيء أن يكون ضمن نوعه الخاص؛ إن كان إنساناً أو حصاناً أو كلباً أو نباتاً أو جماداً، فقد قُدّر للإنسان أن تكون أعماله حسنة أو قبيحة، كما قُدّر له أن يكون سعيداً أو شقياً، ويظل التقدير محتماً بحسب حقيقة الأشياء وطبيعتها، وليس بأمر خارج عنها كما تفترضه نظرية التكليف. إذ لا يوجد على نحو الحقيقة مكلِّف ومكلَّف ورسالة تكليف وثمرة تكليف؛ كالذي تبشر به النصوص الدينية، مثلما سبق تفصيل الحديث عن ذلك خلال حلقة (النظام الوجودي). الأمر الذي يناقض الروح العامة للنظام المعياري كما هو واضح.
[1] يُعرّف الحق من الناحية اللغوية بأنه الثبوت أو الوجوب، فقد جاء في (لسان العرب) حَقَّ الأَمر: صار حقّاً وثَبت. وقال الأَزهري: معناه وجب وجوباً (ابن منظور: لسان العرب، مادة: حقق، عن موقع الباحث العربي الإلكتروني http://www.baheth.info). وهو المعنى الذي اعتمد عليه الكثير من الفقهاء (انظر حول ذلك: أحمد محمود الخولي: نظرية الحق بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1423هـ ـ 2003م، ص15 وما بعدها، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية http://www.al-mostafa.com).
[2] عبد الجبار الهمداني: المجموع المحيط بالتكليف في العقائد، تحقيق عمر السيد عزمي، مراجعة أحمد فؤاد الاهواني، المؤسسة المصرية للتأليف والانباء والنشر، ج1، ص11.
[3] المجموع المحيط بالتكليف في العقائد، ج1، ص1.
[4] المصدر السابق، ج1، ص11.
[5] وهو التعريف الذي إلتزم به عدد من أصحاب الدائرة العقلية، ومنهم العلامة الحلي كما في شرحه لتجريد الإعتقاد و(نهج المسترشدين) حيث قال: إن التكليف هو: «إرادة من تجب طاعته على جهة الإبتداء ما فيه مشقه بشرط الإعلام» (يوسف بن المطهر الحلي: كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد، مؤسسة الاعلمي، بيروت، الطبعة الأولى، 1979م، ص344. ومقداد السيوري الحلي: ارشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405هـ، ص271). وإن كان في شرحه للياقوت حدده بأنه «بعث من يجب طاعته على ما فيه مشقة على جهة الإبتداء بشرط الإعلام» (يوسف بن المطهر الحلي: أنوار الملكوت في شرح الياقوت، انتشارات الرضي ـ بيدار، الطبعة الثانية، ص148).
[6] ارشاد الطالبين، ص272.
[7] المجموع المحيط بالتكليف في العقائد، ج1، ص11.
[8] ارشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، ص272.
[9] محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتحليل حسين جمعة، دار دانية، بيروت ـ دمشق، الطبعة الأولى، ص43.
[10] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص21.
[11] عبد الجبار الهمداني: المختصر في أصول الدين، ضمن رسائل العدل والتوحيد، دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1407هـ ـ1987م، ج1، ص168ـ169.
[12] عبد الجبار الهمداني: شرح الأصول الخمسة، تعليق الإمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، حققه وقدم له عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، مصر، الطبعة الثالثة، 1416هـ ـ1996م، ص122ـ123.
[13] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص21ـ22.
[14] رسائل الشريف المرتضى، اعداد مهدي رجائي، تقديم واشراف أحمد الحسيني، نشر دار القرآن الكريم، قم، 1405هـ، ج1، ص165ـ166.
[15] أبو جعفر الطوسي: تمهيد الأصول في علم الكلام، انتشارات دانشگاه طهران، 1362هـ.ش، ص نهم ـ جهاردهم وص1.
[16] الشريف المرتضى: أمالي المرتضى، مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1403هـ، ج1، ص103.
[17] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، موقع الايمان، عن شبكة مشكاة الإلكترونية، فقرة: واختلف الناس في البلوغ (لم تذكر ارقام الصفحات والفقرات). والملل والنحل، ص23.
[18] مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، نفس الفقرة السابقة.
[19] الملل والنحل، ص21ـ23.
[20] شرح الأصول الخمسة، ص546. ومقدمة ابن خلدون، منشورات مؤسسة الاعلمي، بيروت، ص464. قيل إن بعض المعتزلة استثقل أن يكلّم الله تعالى أحداً من البشر، فطلب من أحد القراء السبعة، وهو أبو عمرو بن العلاء أنْ يقرأ قوله تعالى: ﴿وكلّم الله موسى تكليماً﴾ (النساء/ 164) بأن يكون اسم الله هو المنصوب واسم موسى مرفوعاً، ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى:﴿ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه﴾ (الأعراف/ 143)؟! فبهت الرجل! (ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية، شبكة المشكاة الإلكترونية، فقرة قوله: وأن القرآن كلام الله، لم تذكر ارقام صفحاته).
[21] ابن حزم الأندلسي: الفصل في الملل والأهواء والنحل، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج2، فقرة الكلام في المائية (لم تذكر ارقام صفحاته).
[22] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص21. وشرح الأصول الخمسة، ص226.
[23] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص260.
[24] لاحظ حول ذلك المصادر التالية: تمهيد الأصول في علم الكلام، ص208. والمفيد: النكت الإعتقادية، طبعة طهران، ص26ـ27. وعبد الجبار الهمداني: المغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق أبي العلا عفيفي، مراجعة إبراهيم مدكور، إشراف طه حسين، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ج13، ص93. وكشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد، ص35. وارشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، ص276.
[25] تمهيد الأصول، ص208. وارشاد الطالبين، ص277.
[26] لاحظ: تمهيد الأصول، ص209. وأبو جعفر الطوسي: الإقتصاد في الإعتقاد، منشورات مكتبة جامع چهلستون، طهران، ص78. وعبد الكريم عثمان: نظرية التكليف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ ـ1971م، ص403.
[27] شرح الأصول الخمسة، ص518. ونظرية التكليف، ص111.
[28] تمهيد الأصول، ص263. وكشف المراد، ص360 و234. وارشاد الطالبين، ص282.
[29] شرح الأصول الخمسة، ص518. وتمهيد الأصول، ص174.
[30] تمهيد الأصول، ص175ـ176.
[31] المصدر السابق، ص76.
[32] يقول الطوسي بهذا الصدد: «وليس لأحد أن يقول لو حسن ذلك - أي حسن تكليف من يعلم أنه يصاب بالضرر - لحسن من الوالد أن يعرّض ولده لسفر يربح فيه غلبة ظنه أنه يغرق أو يُقتل في طريقه ويؤخذ المال منه في ذلك، وذلك أن منافع الولد ومضاره عايدة إلى الوالد، فإذا عرّضه للمنافع فلا بد أن ينتفع هو بها أيضاً ويسر بها، فإذا علم أو ظن أنه يقتل أو يغرق ويتلف ماله لم يجز أن يختاره؛ لأنه ضرر محض يتعجله والتكليف خلاف ذلك؛ لأنه خالص لنفع المكلَّف ولا نفع فيه لله تعالى ولا استضرار بشيء من أحوال المكلَّف، فبان الفرق بينهما، فإن فرضنا في الشاهد من يعرّض غيره لنفع يغلب في ظنه أنه لا يصل إليه ولا يتعدى إليه من ذلك ضرر؛ أجزنا ذلك مثل الغائب سواء، غير أن هذا لا نظير له في الشاهد» (تمهيد الأصول، ص176).
[33] أنوار الملكوت، ص156ـ157. ونظرية التكليف، ص403.
[34] المصدر السابق، ص158.
[35] انظر هذه الشبهات في: الملل والنحل، ص3ـ4. كذلك الفصل الأخير من: علم الطريقة.
[36] انظر الفصل السادس من الحلقة السابقة: النظام الوجودي.
[37] لمراجعة التفاصيل الخاصة بنظرية (عجز المادة الأصلية) انظر: يحيى محمد: صخرة الايمان، دار روافد، بيروت، الطبعة الاولى، 2023م. كذلك: فلسفة الشر ونظرية عجز المادة الأصلية، ضمن موقعنا الالكتروني فلسفة العلم والفهم، تاريخ النشر: 11-1-2016م. وذلك عبر الرابط التالي:http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=112
[38] فمن الآيات الصريحة بهذا الصدد ما جاء في قوله تعالى: ﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة﴾ (الأنبياء/ 35)، وقوله تعالى: ﴿إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء﴾ (الأعراف/ 155)، وقوله: ﴿ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم﴾ (المائدة/ 48)، وقوله: ﴿الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم أحسن عملاً﴾ (الملك\ 2). وتشير بعض الآيات إلى أن الله تعالى لم يختر سنة الهداية للناس جميعاً رغم قدرته على ذلك، مثلما جاء في قوله تعالى: ﴿ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها﴾ (السجدة/ 13)، وقوله: ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً﴾ (يونس/ 99)، وقوله: ﴿ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد﴾ (البقرة/ 253). وواضح أنه لا تعليل لذلك سوى القول: ﴿لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون﴾ (الأنبياء/ 23)، مع الأخذ بعين الاعتبار ما لله من حكمة نجهلها. وقد جاء في بعض الروايات عن أبي بصير أنه قال: قلت لأبي عبد الله الصادق: شاء وأراد وقدر وقضى؟ قال: نعم، قلت: وأحب؟ قال: لا، قلت: وكيف شاء واراد وقدر وقضى ولم يحب؟ قال: هكذا خرج الينا. وفي رواية أخرى إن الإمام الصادق قال: أمر الله ولم يشأ، وشاء ولم يأمر، أمر ابليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد، ولو شاء لسجد، ونهى آدم عن اكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل. كما عن الصادق أيضاً أن الله قال: انا الله لا إله إلا انا، خالق الخير والشر فطوبى لمن اجريت على يديه الخير، وويل لمن اجريت على يديه الشر، وويل لمن يقول: كيف ذا وكيف هذا. كما جاء عن الإمام الرضا قول الله: يا ابن آدم بمشيئتي كنت انت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوتي اديت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك اني أولى بحسناتك منك، وانت أولى بسيئاتك مني، وذاك انني لا اسئل عما افعل وهم يسألون (الكليني: الأصول من الكافي، صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري، دار صعب ـ دار التعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، 1401هـ، ص150ـ415).
[39] شرح الأصول الخمسة، ص49.
[40] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص11 و14 و17.
[41] أبو جعفر الطوسي: عدة الأصول، تحقيق محمد رضا الأنصاري القمي، مطبعة ستارة، قم، الطبعة الأولى، 1417هـ، ج2، ص759.
[42] مجموعة رسائل الشريف المرتضى، اعداد مهدي رجائي، تقديم واشراف أحمد الحسيني، نشر دار القرآن الكريم، قم، 1405هـ، ج1، ص138، وج3، ص191.
[43] نظرية التكليف، ص343ـ344. والمجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص419.
[44] أبو جعفر الصدوق: الإعتقادات في دين الإمامية، عن دليل برنامج المعجم العقائدي الإلكتروني، الاصدار الأول، 1422هـ ـ2001م، ص10.
[45] مرتضى مطهري: الإنسان والقدر، ترجمة محمد علي التسخيري، ايران، 1404هـ.
[46] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص18.
[47] بدر الدين الزركشي: البحر المحيط، شبكة المشكاة الإلكترونية، فقرة 22 (لم تذكر ارقام صفحاته).
[48] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص24.
[49] نظرية التكليف، ص81.
[50] البحر المحيط، فقرة 22 و81.
[51] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص71 و19. وشرح الأصول الخمسة، ص39. وتمهيد الأصول في علم الكلام، ص2 و4. وأنوار الملكوت في شرح الياقوت، ص9.
[52] البحر المحيط، فقرة 22.
[53] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص30.
[54] المصدر السابق، ج1، ص30ـ31. وشرح الأصول الخمسة، ص29. كذلك: تمهيد الأصول في علم الكلام، ص5. ونظرية التكليف، ص83.
[55] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص26.
[56] تمهيد الأصول، ص199 وص3ـ5.
[57] شرح الأصول الخمسة، ص56ـ60. والمجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص22.
[58] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص24. وشرح الأصول الخمسة، ص64.
[59] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص17ـ18.
[60] أنوار الملكوت، ص3ـ5.
[61] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص17ـ18. وتمهيد الأصول، ص199.
[62] تمهيد الأصول، ص199ـ200.
[63] عدة الأصول، ج1، ص306ـ307.
[64] الأصول العامة للفقه المقارن، المجمع العلمي لأهل البيت، قم، الطبعة الثانية، 1418هـ ـ1997م، ص516ـ517.
[65] انظر نص الغزالي في: الإقتصاد في الإعتقاد، ضبطه وقدم له موفق فوزي الجبر، دار الحكمة، دمشق، الطبعة الأولى، 1415هـ ـ1994م، ص173.
[66] تمهيد الأصول، ص161. وشرح الأصول الخمسة، ص510. وارشاد الطالبين، ص273ـ274.
[67] راجع كتابنا: الإستقراء والمنطق الذاتي، دار العارف، بيروت، الطبعة الثالثة، 2022م.
[68] يمكن استخدام هذه الحجة في مختلف المجالات الهامة للحياة، ومن ذلك تطبيقها – مثلاً - على ما يعانيه العالم اليوم من جائحة كورونا، حيث يثير أخذ اللقاح ضد هذا الفايروس الخطير أربعة خيارات أو رهانات، اثنان منها يخصان المؤمن، وآخران لا يخصانه، وهي كالتالي:1ـ الحذر بأخذ اللقاح مع التوكل على الله.2ـ عدم الحذر بترك اللقاح مع التوكل.3ـ الحذر بأخذ اللقاح مع عدم التوكل.4ـ عدم الحذر بترك اللقاح مع عدم التوكل.والأول هو الوحيد الذي يلبي المقاصد الدينية. حيث مبرر الحذر يستند إلى الدليل الاحصائي، ولو كانت النتيجة سلبية الى درجة الوفاة فحاله يكون كالشهيد الذي توكّل على الله والتزم بالحذر وفق الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ).. وبالتالي فهو معافى سلباً وايجاباً.. أما أسوء هذه الخيارات فهو الأخير.
[69] نجيب بلدي: باسكال، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، ص147ـ149.
[70] الكليني: أصول الكافي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الثالثة، 1388هـ، ج1، ص87. ومسند الإمام الرضا، مكتبة الصدوق، طهران، الطبعة الأولى، 1392هـ، ج1، ص10ـ11.
[71] الغزالي: احياء علوم الدين، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج4، باب: بيان أقسام العباد في دوام التوبة (لم تذكر ارقام صفحاته).
[72] في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم عرض عليّ الاستاذ محمد حسين ساكت مقالاً لعبد الرحمن بدوي ترجمه من اللغة الانجليزية إلى الفارسية، وهو بعنوان: نظرية علي وفرضية باسكال (جابخانه زوار، مشهد، 1352هـ.ش، ص27ـ35). انظر دراستنا: منطق الإحتمال ومبدأ التكليف في التفكير الكلامي، دراسات شرقية، باريس، العدد المزدوج، 9ـ10، 1991هـ ـ 1411م، ص26.
[73] Schlesinger, George. A Central Theistic Argument (1994), in Philosophy of Religion: a reader and guide, ed. Craig, William Lane, (2002). Edinburgh University Press. Edinburgh. p. 26-27.
[74] Hacking, Ian. The Logic of Pascal's Wager (1972), in Philosophy of Religion: a reader and guide. p. 21.
[75] Schlesinger, George. (1994), p. 28-29.
[76] Hacking, Ian, p. 21.
[77] جاء عن الإمام علي قوله: «إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار» (نهج البلاغة، لضابطه صبحي الصالح، منشورات دار الهجرة، قم، الطبعة الخامسة، 1412هـ، ضمن حِكم امير المؤمنين، فقرة 510، ص237).
[78] انظر التفصيل حول ما سبق في: علم الطريقة.
[79] نظرية التكليف، ص409.
[80] توبي هف: فجر العلم الحديث/الإسلام ـ الصين ـ الغرب، ترجمه محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة (260) الكويت، 1421هـ ـ2000م، ص130.
[81] البحر المحيط، فقرة 81.
[82] الجويني: الإرشاد، نشر مكتبة الخانجي، مصر، ص258. ومثله في: الشهرستاني: نهاية الاقدام في علم الكلام، مكتبة المثنى، بغداد، ص370.
[83] البحر المحيط، فقرة 81.
[84] لاحظ حول ذلك المصادر التالية: الغزالي: المستصفى من علم الأصول، المطبعة الأميرية، مصر، الطبعة الأولى، 1322هـ، ج1 ص56. والفخر الرازي: الأربعين في أصول الدين، مطبعة دائرة المعارف العثمانية ببلدة حيدر آباد الدكن، الهند، ص247. ونصير الدين الطوسي: تلخيص المحصل، انتشارات مؤسسة مطالعات إسلامي، ص339. والمولى حسن چلبي: شرح المواقف، طبعة حجرية قديمة، ج3، ص146ـ147.
[85] نظرية التكليف، ص438.
[86] عبد العلي الأنصاري: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه، وهو مطبوع في ذيل كتاب (المستصفى من علم الأصول)، ج1، ص25. ويس سويلم طه: مختصر صفوة البيان في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، مكتبة الكليات الأزهرية، 1393هـ ـ1973م، ج1، ص29.
[87] البحر المحيط، فقرة 84.
[88] لاحظ: محمد علي الكاظمي: فوائد الأصول، من افادات الميرزا محمد حسين النائيني، تعليقات ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ج3، ص60.
[89] الغزالي: الإقتصاد في الإعتقاد، ص163ـ165. وابو الحسن الأشعري: اللمع، مطبعة مصر، 1955م، ص117.
[90] تلخيص المحصل، ص341ـ342.
[91] عبد الله بن أسعد اليافعي: مرهم العلل المعضلة في رفع الشبه والرد على المعتزلة (لم يكتب مكان طبعه ولا سنة نشره) ص29ـ30.
[92] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، دار المعرفة، بيروت، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج13، ص368.
[93] أبو بكر أحمد البيهقي: الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، تحقيق أحمد عصام الكاتب، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ، نسخة برنامج التراث: مكتبة العقائد والملل، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ص150.
[94] الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ص147.
[95] المصدر نفسه، ص149ـ150.
[96] الفخر الرازي: أصول الدين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، 1404هـ ـ1984م، ص93.
[97] البحر المحيط، فقرة 84.
[98] المحصل، ص296 و298. وتلخيص المحصل، ص343 و346.
[99] ابن القيم الجوزية: مفتاح دار السعادة، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ج2، ضمن فقرة: الإلزام الثامن عشر (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته).
[100] البحر المحيط، فقرة 500.
[101] نهاية الاقدام في علم الكلام، ص401ـ402.
[102] مفتاح دار السعادة، ج2، ضمن فقرة: الإلزام الثامن عشر.
[103] المنقذ من الضلال، ص147.
[104] الأشعري: اللمع، ص47 و49. والابانة عن أصول الديانة، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ ـ1985م، ص102. والجويني: الإرشاد، ص237. والإقتصاد في الإعتقاد، ص106.
[105] الغزالي: تهافت الفلاسفة، قدم له وعلق عليه علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م، ص45.
[106] الأشعري: اللمع، ص79 و90 و116ـ117. والابانة، ص103ـ104. وكذا: أبو بكر الباقلاني: التمهيد، تصحيح الأب رتشرد يوسف اليسوعي، المكتبة الشرقية، بيروت، 1957م، ص283.
[107] الأشعري: اللمع، ص47 و49. والابانة، ص100ـ101. ولاحظ أيضاً: أصول الدين، ص94. والمحصل، ص288.
[108] اللمع، ص57ـ58.
[109] أصول الكافي، ج1، ص151.
[110] ابن تيمية: النبوات، دار القلم، بيروت، ص69.
[111] ابن القيم الجوزية: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، شبكة المشكاة الإلكترونية، ص206.
[112] موسى بن ميمون: دلالة الحائرين، عارضه بأصوله العربية والعبرية حسين آتاي، نشر مكتبة الثقافة الدينية، ص203ـ204.
[113] تهافت الفلاسفة، ص189.
[114] اللمع، ص93ـ94. وتلخيص المحصل، ص325.
[115] مرهم العلل المعضلة، ص95.
[116] تخليص المحصل، ص340.
[117] اللمع، ص83ـ93.
[118] اللمع، ص88 و69.
[119] الجويني: لمع الأدلة في قواعد أهل السنة، تقديم وتحقيق فوقية حسين محمود، الدار المصرية، الطبعة الأولى، 1385هـ ـ1965م، ص107.
[120] الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ص143.
[121] المصدر السابق، ص145.
[122] علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، الطبعة السابعة، 1977م، ج1، ص267.
[123] المحصل، ص287ـ288. وتلخيص المحصل، ص333.
[124] لاحظ: الملل والنحل، ص41ـ42.
[125] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ضمن الباب الثالث عشر.
[126] ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، تحقيق محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى، 1406هـ، ج1، ص111.
[127] النبوات، ص141.
[128] أصول الكافي، ج1، ص161ـ162.
[129] نظرية التكليف، ص329.
[130] أبو حامد الغزالي: قواعد العقائد في التوحيد، ضمن رسائل الإمام الغزالي (2) دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ ـ1994م، ص84ـ85. ولاحظ أيضاً: الغزالي: روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللآلي، نشر فرج الله ذكي الكردي، مصر، 1343هـ ـ1924م، ص156.
[131] روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللالي، ص160ـ161.
[132] الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ص144.
[133] الملل والنحل، ص42.
[134] انظر: الغزالي: رسالة التوحيد، ضمن رسائل الغزالي، ضبطه وقدم له رياض مصطفى العبد الله، دار الحكمة، ص70ـ77. وكتاب التوحيد والتوكل، وهو الكتاب الخامس من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين.
[135] المحصل، ص152. وتلخيص المحصل، ص325.
[136] أصول الدين، ص89 و85.
[137] نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص268ـ269.
[138] مصطفى صبري: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1981م، ج3، ص425 و347.
[139] رسالة التوحيد، ص81 و84. كما انظر: إحياء علوم الدين، كتاب التوحيد والتوكل.
[140] تلخيص المحصل، ص58.
[141] المحصل، ص64. وتلخيص المحصل، ص58. والجويني: الإرشاد، ص11.
[142] أنوار الملكوت، ص8.
[143] الجويني: الإرشاد، ص11. وتلخيص المحصل، ص58.
[144] البحر المحيط، فقرة 81.
[145] المصدر السابق، فقرة 81.
[146] تلخيص المحصل، ص59، وبرهان الدين إبراهيم اللقاني: هداية المريد لجوهرة التوحيد، منتدى الأصلين الإلكتروني www.aslein.net، فقرة 14، لم تذكر أرقام صفحاته. ومحمد أمين الإسترابادي: الفوائد المدنية، طبعة حجرية قديمة، ص201.
[147] البحر المحيط، فقرة 22. والباجوري: شرح جوهرة التوحيد، شبكة روض الرياحيين الإلكترونية http://cb.rayaheen.net، لم تذكر أرقام صفحاته ولا فقراته. وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، موقع الموسوعة الشاملة الإلكتروني http://islamport.com، لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته.
[148] شرح جوهرة التوحيد. وهداية المريد، فقرة 14. وحاشية العطار.
[149] والغريب ما ينقل عن الفقهاء انهم اعترضوا على تلك الحجة من وجوب النظر بعدم إمهال الفرد لينظر، فإما أن يسلِم في الحال أو يُقتل (البحر المحيط، فقرة 22. والسيوطي: صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، تعليق علي سامي النشار، دار الكتب العلمية، بيروت، ص172ـ173).
[150] تلخيص المحصل، ص58. وأنوار الملكوت، ص7.
[151] المحصل، ص65. وتلخيص المحصل، ص58. ومرهم العلل المعضلة، ص23.
[152] مرهم العلل المعضلة، ص24ـ25.
[153] أنوار الملكوت، ص7ـ8.
[154] تلخيص المحصل، ص65.
[155] الإرشاد، ص226ـ227.
[156] اللمع، ص99ـ100.
[157] التمهيد، ص294.
[158] اللمع ص106 وما بعدها. والإبانة، ص113. والتمهيد، ص294.
[159] التمهيد، ص294ـ295. والإرشاد، ص227ـ228.
[160] لاحظ: الإبانة، ص114. والإرشاد، ص227ـ228. وقواعد العقائد، ص87ـ88. والمحصل، ص293. وأصول الدين، ص91. وشرح المواقف، ج1، ص126ـ127.
[161] الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة، مع حواشي وتعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1395هـ ـ1975م، ج2، ص119.
[162] المستصفى، ج1، ص84.
[163] روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللآلي، ص133.
[164] البحر المحيط، فقرة 86.
[165] المصدر السابق، فقرة 81.
[166] المصدر السابق، فقرة 86.
[167] نفس المصدر، فقرة 86.
[168] عبد القاهر البغدادي: الفَرق بين الفِرق، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن الفصل السادس: في بيان فضائل أهل السنة (لم تذكر ارقام صفحاته).
[169] البحر المحيط، فقرة 86.
[170] كتاب المسائل، من رسائل ابن عربي، جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الطبعة الأولى، 1948م، ج1، ص21.
[171] مؤيد الدين الجندي: شرح فصوص الحكم، انتشارات دانشكاه مشهد، تصحيح وتعليق جلال الدين اشتياني، ص400.
[172] داود بن محمود القيصري: مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، منشورات أنوار الهدى، الطبعة الأولى، 1416هـ، ج2، ص373.
[173] لاحظ: شرح فصوص الحكم، ص468ـ472. وكتاب ايام الشأن، ضمن مجموعة رسائل ابن عربي، ج1، ص2ـ3 و17.
[174] مطلع خصوص الكلم، ج2، ص94ـ95.
[175] شرح فصوص الحكم، ص612. وابو العلا العفيفي: فصوص الحكم والتعليقات عليه، دار احياء الكتب العربية، 1365هـ ـ1946م، ص468ـ472.
[176] محي الدين بن عربي: رسالة في أسرار الذات الإلهية، ضمن رسائل ابن عربي (1)، تحقيق وتقديم سعيد عبد الفتاح، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى، 2001م، ص198ـ200. ومطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، ج2، ص155.
[177] حيدر الآملي: جامع الاسرار ومنبع الأنوار، مع تصحيح ومقدمة كل من هنري كوربان وعثمان اسماعيل يحيى، طبع شركت انتشارات علمي وفرهنكي، ايران، الطبعة الثانية، 1368هـ، ص147ـ148. ومحمد باقر الخوانساري: روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، الدار الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ ـ1991م، ج2، ص366.
[178] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص268.
[179] قواعد العقائد في التوحيد، ضمن رسائل الإمام الغزالي (2)، ص97ـ98.
[180] حيدر الآملي: أسرار الشريعة وأطوار الطريقة وأنوار الحقيقة، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، 1983م، ص87ـ88.
[181] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص254ـ255.
[182] الفارابي: السياسة المدنية، حققه وقدم له وعلق عليه فوزي متري نجار، انتشارات الزهراء، ايران، 1408هـ، ص64.
[183] السهروردي: رسالة هياكل النور، وهي منشورة مع ثلاث رسائل للمحقق الدواني، تحقيق أحمد تويسركاني، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، الطبعة الأولى، 1411هـ، ص87. وجلال الدين الدواني: شواكل الحور في شرح هياكل النور، ضمن ثلاث رسائل للدواني، ص193.