-
ع
+

نظرات فلسفية في فكر السيد الصدر

يحيى محمد

لقد برز المنحى الفلسفي لدى المفكر الصدر مع ظهور كتابه (فلسفتنا) سنة 1959، والذي ألّفه لغرض التصدي للمد الشيوعي الجارف إبان فترة الحكم القاسمي. ثم تلا ذلك دراسته الضخمة بعنوان (الأسس المنطقية للإستقراء) بداية السبعينات من القرن العشرين. وليس هناك دراسة فلسفية أخرى غير ما ذكرنا. وسنجمل الحديث حول هاتين الدراستين بنوع من الوصف والمقارنة.

لقد تبنت دراسة (فلسفتنا) من حيث الأساس آراء المذهب العقلي (الأرسطي)، وهو ما يتضح من خلال عرضنا السريع لأهم الافكار الفلسفية التي بُثت هناك[1]..

منهجية (فلسفتنا)

أول ما يثير الإنتباه في دراسة (فلسفتنا) انها عرضت بحثاً عن إحدى كبريات مسائل المجتمع الفكرية قبل التطرق إلى البحث الفلسفي المجرد. واكثر من هذا جعلت المسألة الاجتماعية - والمتعلقة بالنظام الأصلح للمجتمع - بمثابة القضية الممهدة للدراسة الفلسفية. وهذا النهج يعاكس السلوك الشائع الذي يعتبر البحوث الفلسفية المجردة ممهدة للبحوث الإنسانية، وعلى رأسها قضايا المجتمع. ذلك ان البحث الفلسفي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فهو إما ان يتعلق بنظرية المعرفة، أو بنظرية الوجود، أو بالقيم والمعايير الإنسانية. ومن الناحية المنطقية لا بد للبحث ان يبدأ بنظرية المعرفة قبل الخوض في نظرية الوجود والقيم، وكذا لا بد أن يبدأ بمسألة الوجود قبل الشروع في بحث قضايا القيم والمعايير. فالباحث ما لم يسلّم بالأسس المعرفية الصحيحة وقيمتها وحدودها، لا يمكن له ان يستكشف معالم الوجود وطبيعته. وما لم يتعرف على حقيقة الوجود، لا يمكن له ان يعرف حقيقة ما عليه القيم الإنسانية وإعتباراتها.

فمثلاً قد نسأل: لماذا اعتقد المذهب الميتافيزيقي وجود أمور طبيعتها ليست مادية، في حين نفى المذهب المادي وجود مثل هذه الأمور؟ فهذا السؤال يقتضي جواباً مربوطاً بأُسس المعرفة وحدودها وقيمها. وكذا حين نسأل: لماذا ينظر التفكير الميتافيزيقي إلى القيم الإنسانية نظرة مليئة بالوجدان والحس الروحي، في حين أن التفكير المادي يجرد هذه القيم من طابعها الوجداني ومسحتها الروحية؟ فلا شك ان الجواب ينحصر في أن النظريتين ترتبطان بالوثاق القائم على الرؤية الفلسفية لكل منهما إزاء الوجود بشكل عام.

هكذا يتضح ان البحث في المعرفة يمهد للبحث في الوجود، وكذا الحال فيما يتصل بهذا الأخير مقارنة ببحث القيم الإنسانية، ومنها القضايا الاجتماعية. وعلى ضوء ذلك نرى - مثلاً - كتاب الفارابي (آراء أهل المدينة الفاضلة) مقسَّماً إلى قسمين؛ أحدهما فلسفي والآخر اجتماعي سياسي، والأول منهما ممهد للآخر من غير عكس، فهو يحتوي على سبعة وثلاثين باباً، تتصف الأبواب الخمسة والعشرون الأولى منها بأنها فلسفية محضة، حيث تبدأ بباب (القول في الموجود الأول) وتنتهي بباب (الوحي ورؤية الملك)، أما الأبواب الأخرى فهي اجتماعية سياسية تختلط بالمفاهيم الفلسفية، إذ تبدأ بباب (احتياج الإنسان إلى الاجتماع والتعاون) وتنتهي بالباب الأخير (المدن الجاهلة)[2].

اذاً يمكن أن نتساءل: هل تؤمن (فلسفتنا) بهذا النوع من المنهجية؟ خاصة انها بدأت البحث في النهج المعاكس لإعتبارات ايديولوجية تخص الوعي الإسلامي وعلاقته بالطرح الحضاري.

واضح ان (فلسفتنا) جعلت البحث في نظرية المعرفة أساساً ممهداً للبحث في نظرية الوجود. لكن ليس هناك ما يشير إلى إعتبار بحث الوجود يمثل أساس البحث في القيم. نعم وردت بعض الاشارات التي توحي بوجود الترابط بين البحوث الاجتماعية والبحوث الفلسفية المجردة، كالذي جاء في موضوع (الإدراك)، فالبحث فيه يتضمن بعدين: أحدهما يرتبط بالفلسفة عبر نظرية المعرفة، بينما يعود الآخر إلى مبحث القيم من خلال المسألة الاجتماعية.

مهما يكن فقد تناولت (فلسفتنا) محورين فلسفيين من البحث، هما نظرية المعرفة ونظرية الوجود -المفهوم الفلسفي للعالم-، وتضمن المحور الأول ثلاثة جوانب، هي اصل المعرفة وقيمتها وطبيعتها، حيث تم بحث الجانبين الأولين علناً، فيما تداخل الجانب الثالث مع الثاني ضمناً. أما المحور الآخر الخاص بنظرية الوجود أو المفهوم الفلسفي للعالم فقد إعتبرته (فلسفتنا) غاية بحثها، وكرست له القسم الثاني من الكتاب، فيما مهّدت له القسم الأول الخاص بنظرية المعرفة، كالذي جاء في نص مقدمة الكتاب كالتالي: ‹‹هدفنا الأساسي من هذا البحث - أي نظرية المعرفة -، هو تحديد منهج الكتاب في المسألة الثانية، لأن وضع مفهوم عام للعالم، يتوقف قبل كل شيء على تحديد الطريقة الرئيسية في التفكير، والمقياس العام للمعرفة الصحيحة، ومدى قيمتها. ولهذا كانت المسألة الأولى في الحقيقة بحثاً تمهيدياً للمسألة الثانية. والمسألة الثانية هي المسألة الأساسية في الكتاب››[3].

أما أهم الافكار التي تبنتها (فلسفتنا) فسنستعرضها كالآتي:

مع نظرية المعرفة

سلّمت (فلسفتنا)، في نظرية المعرفة، بالمذهب العقلي - الميتافيزيقي - العائد إلى المنطق الأرسطي. فالمعروف ان هناك قسمين للمعرفة هما التصور والتصديق، ويُعرّف التصور - عادة - بأنه إنطباع صورة الشيء في الذهن، أما التصديق فهو تصور ينطوي على حكم.

وحول منشأ التصور هناك عدة نظريات عرضتها (فلسفتنا) للمناقشة، أولها نظرية الاستذكار - الافلاطونية - القائلة بأن تصور المعاني الكلية هو عملية استذكار النفس للمثل الموجودة في العالم العلوي. حيث اعتقد افلاطون ان النفس قبل حلولها في البدن كانت هائمة في عالم علوي تعرفت من خلاله على جميع المثل هناك، ولكنها حين حلت في البدن نسيت ذلك العالم، إلا انها ظلت تستذكره كلما تطلعت إلى الواقع المحسوس الذي يمثل ظل ذلك العالم.

هذه هي نظرية الاستذكار التي لقيت رفضاً تاماً من قبل (فلسفتنا) بإعتبارها بعيدة عن منطق الواقع.

ومثلها لقيت كل من النظريتين الغربيتين، العقلية والحسية، فالاولى تعتقد بوجود عدد من التصورات في النفس دون ان يكون لها علاقة بالواقع المحسوس، مما جعلها تتعرض إلى نقد لاذع من قبل النظرية الحسية على يد (جون لوك). لكن هذه الأخيرة هي بدورها لم تسلم من النقد والرفض، وذلك لأنها لم تستطع ان تفسر جملة من التصورات والمعاني، كفكرة الاستحالة والسببية وما إلى ذلك.

وفي قبال هذه النظريات تبنت (فلسفتنا) النظرية الانتزاعية - التجريدية - العائدة إلى المذهب الأرسطي. وهي تقرّ بأن نشأة التصورات تستمد من الواقع الحسي، حيث تكون بسيطة واولية، كتصورنا لهذا البياض أو تلك الحرارة.. الخ، وبعدها يقوم الذهن بإستنباط تصورات أخرى لها مستويات مختلفة من التجريد العقلي، بطريقة الانتزاع، مباشرة وغير مباشرة. فقد تكون هناك تصورات شديدة التجريد، مثل تصورنا للوجود بما هو عام، كما قد يكون العكس؛ كتصورنا لزيد مثلاً. أضاف ة إلى ان الذهن قد يستحضر صورة ليس لها مصداق في الواقع، كالعدم المطلق واجتماع النقائض وما إلى ذلك من صور.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ تعرضت (فلسفتنا) إلى موضوع طبيعة الصورة الذهنية إن كانت مادية أو روحية[4]. وقد تبنت المذهب الميتافيزيقي الذي يعتبر الصورة المدركة مجردة لا مادية. وقد ميزت بين الصورة المادية التي تنشأ في موضع محدد من الدماغ، وهي تماثل ما يحدث في الحاسة كشبكية العين، وبين الصورة المدركة في العقل المجرد. إذ الأولى لا تملك خصائص هندسية من ابعاد كتلك التي تملكها الثانية، أضاف ة إلى ما تتميز به هذه الأخيرة من ثبات خلافاً للأولى التي تتغير طبقاً لتغير الشيء الخارجي المنعكسة عنه.

أما فيما يخص موضوع التصديق، فمعلوم ان (فلسفتنا) ايدت المذهب الأرسطي في تفسير مصدره الأساس. والفكرة الرئيسية لهذا المذهب هي انه يؤمن بوجود قضايا عقلية ضرورية تصدّق بها النفس متى ما تصورت أطرافها والنسب التي تتضمنها. وهي تتصف بالوضوح واليقين، كما تعتبر أساس المعارف الأخرى المستنتجة منها، رغم أنها لا تحتاج إلى برهان يؤكدها، بل إن كل إستدلال لا يصح إلا اعتماداً عليها ومصادرتها سلفاً. وعلى قمة هذه القضايا مبدأ عدم التناقض القائل باستحالة اجتماع النقيضين معاً، كذلك مبدأ السببية القائل بأن كل حادثة لا بد أن ترتبط بسبب ما من الاسباب.

واستناداً إلى ذلك رفضت (فلسفتنا) جميع المدارس التجريبية التي تعتبر التجربة مصدراً أساساً للمعرفة، والتي تؤمن بأن الإستدلال يكون دائماً من الخاص إلى العام طبقاً للعملية الإستقرائية. وهي مخالفة صريحة للمذهب الأرسطي الذي يعتبر المعرفة تنمو وتتدرج من العام إلى الخاص، حتى في قضايا الإستقراء التي تستخدمها العلوم الطبيعية. إلا ان ما جاء في كتاب (الأسس المنطقية للإستقراء) يخالف النتيجة الأخيرة، إذ تضمن التأكيد على أن الإستقراء يسير من الخاص إلى العام دون العكس.

وفي قيمة المعرفة نقدت (فلسفتنا) مذاهب غربية عدة، وانتهت إلى تحديد موقفها وفقاً للمذهب العقلي بالخطوط الثلاثة التالية:

الخط الأول: ينقسم الإدراك المعرفي إلى تصور وتصديق. والتصور ليس له قيمة موضوعية، حيث لا يثبت أكثر من أن شيئاً ما يوجد في الذهن، أما مصداقية الشيء فيحددها التصديق الذي له قيمة موضوعية بإعتباره يملك خاصية الكشف الذاتي عن الشيء الموجود.

الخط الثاني: ان المعرفة التصديقية تقوم على أسس كاملة صحيحة تتمثل بالمبادئ العقلية الواضحة، والتي لا يمكن إثباتها مادام نفس الإستدلال يعتمد عليها، كما ان بها تستنتج سائر المعارف الصحيحة الأخرى.

الخط الثالث: وفيه يتعين مدى التطابق بين الصورة الذهنية ومصداقها الخارجي. فالاختلاف بينهما هو اختلاف الماهية والوجود، أي ان الصورة تعبر تعبيراً حقيقياً عن مصداقها الواقعي، وتتطابق معه تماماً، رغم أنها تختلف عنه في شكل الوجود، لأن الوجود الموضوعي يحتوي على نشاط وفعالية بذاته، في حين تفتقر الصورة لهذا النشاط والفعالية بسبب التصرف الذاتي (الذهني).

مع مفهوم الواقع الموضوعي

قلنا ان فلسفة العالم والوجود احتلت القسم الثاني من الكتاب. وفي هذا القسم كشفت (فلسفتنا) عن خطأ كل من المثالية والمادية - خاصة الديالكتيكية - في تفسير الواقع الموضوعي، وتبنت من جهتها الموقف الميتافيزيقي (الإلهي) الذي يؤمن بكلا الواقعين المجرد والمادي معاً.

ومن أبرز الموضوعات المطروحة مسألة الحركة والتجدد في الواقع المادي. فقد اتفقت الفلسفتان الإلهية والمادية - خاصة الديالكتيكية - على وجود التجدد الدائم في الطبيعة، إلا انهما اختلفا حول تفسير ذلك، إذ تقيم المادية الديالكتيكية تفسيرها على جدل التناقض وتطوراته، بخلاف ما عليه المدرسة الأخرى التي تنطلق من مبدأ تشابك القوة والفعل في تفسير عملية الحركة والتجدد، كما جاء عن أرسطو الذي عرّف الحركة بأنها خروج الشيء من القوة إلى الفعل بالتدريج. وأيدت (فلسفتنا) نظرية الحركة الجوهرية العامة لصدر المتألهين الشيرازي.. تلك النظرية التي إعتبرت الحركة تمس الجوهر كما تمس العرض، بل إن حركة العرض لا تحدث إلا بسبب حركة الجوهر في الداخل. ومبرر هذا الإعتقاد مستمد بالأساس من قاعدة فلسفية تقول: علة الثابت ثابتة، وعلة المتغير متغيرة، وهي قاعدة مستنتجة من مبدأ ‹‹السنخية››[5]. إذ لما كانت ظواهر الطبيعة متغيرة فإن علتها لا بد أن تكون متغيرة أيضاً، لأن العلة والمعلول لا ينفك أحدهما عن الآخر، فكلاهما متعاصران ومتلازمان وجوداً وعدماً، وهو يكشف عن تفسير جوهر الطبيعة، حيث بتغيره تتغير ظواهر الطبيعة وعوارضها السطحية.

هذه هي نظرية الحركة الجوهرية في الطبيعة، وقد حاول الفيلسوف صدر المتألهين ان يفسر على أساسها نشوء النفس وتجردها كما سنعرف.. وقد يثار بهذا الصدد سؤال هو: إذا كان سبب حركة العوارض في الطبيعة يتمثل بالحركة الجوهرية، فما هو سبب نفس هذه الحركة؟

اجاب الفيلسوف الشيرازي بأن سبب الحركة الجوهرية يتمثل بالعقل المجرد الثابت. وهو جواب يثير اشكالاً، إذ لو اعتمدنا على نفس القاعدة السابقة - علة الثابت ثابتة وعلة المتغير متغيرة - لكان الاشكال قائماً، إذ كيف يكون ما هو ثابت كالعقل المجرد علة لما هو متغير متجدد كالحركة الجوهرية؟ مع ذلك فالاشكال المطروح لم يغب عن ذهنية ذلك الفيلسوف الذي إعتبر الحركة الجوهرية وإن كانت تمثل حالة التجدد والتبدل من حال إلى حال في الماهية، لكنها رغم ذلك ثابتة من حيث اتصافها وجوداً بهذا التجدد، فهي ثابتة ومتجددة في الوقت نفسه، إلا ان ثباتها في وجودها لا ماهيتها، وتجددها في ماهيتها لا وجودها، وبهذا يكون وجودها الثابت هو المتعلق والصادر عن العقل المجرد، وبه يزول الاشكال[6] .

لكن رغم ذلك هناك اشكال آخر لا يقل اهمية عن سابقه، إذ حتى لو سلمنا بكون الحركة الجوهرية في الطبيعة ثابتة، فإن هذا الثبات يختلف كيفاً عن ثبات العقل المجرد، فكيف يرتبط الثباتان في رابطة العلية مع انهما مختلفان تمام الاختلاف؟

مع مبدأ العلية

لدى المذهب الأرسطي يعد مبدأ العلية من المبادئ الأولية العقلية الذي ترتبط فيه العلة بالمعلول ارتباطاً لا ينفك أحدهما عن الآخر مطلقاً. وهذا ما سلمت به (فلسفتنا) التي اعتقدت بنظرية الإمكان الوجودي في تحليل علاقة العلية، إذ طبقاً لهذه النظرية يعتبر المعلول ليس له وجود مستقل عن العلة، بل إنه ينبثق منها بحيث ليس له حقيقة أخرى وراء هذا الارتباط والتعلق. فكل قطع لهذه الرابطة يعني افناءاً لوجوده. وعليه يصبح كل ارتباط بين شيئين لا يتحقق فيه انبثاق أحدهما عن الآخر وتعلقه به تعلقاً وجودياً؛ لا يجري عليه حكم العلية.

والملاحظ ان (فلسفتنا) تنفي إمكان الإستدلال على العلية عن طريق الواقع الموضوعي بالتجربة والإستقراء. بل على العكس إعتبرت الواقع هو الذي يدين لها في إثباته والبرهان عليه. وكذا انها جعلت من العلية الأساس المنطقي لبناء الإستقراء وإثبات التجارب والعلوم الطبيعية. وكل ذلك يخالف ما جاء في (الأسس المنطقية للإستقراء)، حيث هناك محاولة للإستدلال على العلية عن طريق التجربة والإستقراء، كما هناك محاولة للإستدلال على الواقع الموضوعي إجمالاً وتفصيلاً عبر الطريقة الإستقرائية، الأمر الذي يختلف عما جاء في (فلسفتنا) التي إعتبرت معرفة الواقع على سبيل الإجمال معرفة بديهية اولية لا تحتاج إلى إثبات أو دليل، بينما إعتبرت معرفة الوقائع الجزئية المفصلة والإستدلال عليها مدينة إلى مبدأ العلية.

وهنا تختلف (فلسفتنا) عن خط المنطق الأرسطي، لكونه يعتقد ان معرفة الوقائع الجزئية هي معرفة أولية لا تحتاج إلى إستدلال. كما انه لم يرد عن هذا المنطق إعتبار معرفة الواقع الموضوعي الإجمالي من القضايا العقلية الأولية، فهذا الإعتقاد مقتبس من المرحوم محمد حسين الطباطبائي في كتابه (روش رئاليسم) الذي صدر الجزء الأول منه سنة 1952، فبين الكتابين الكثير من التشابه، ومن بينها مسألة إثبات الواقع الموضوعي؛ سواء من الناحية الإجمالية أو التفصيلية. وقد اشار المفكر الصدر في بعض بحوثه اللاحقة لعلم اصول الفقه إلى المصدر الذي ترتد إليه فكرة كون المعرفة الإجمالية للواقع الموضوعي هي من القضايا العقلية الأولية، وذلك بقوله: ‹‹قد ظهر لدى بعض المحدثين عندنا ـ ويقصد به المرحوم الطباطبائي ـ ان معرفتنا بالحسيات لا يمكن أن تكون اولية لوقوع الخطأ فيها مع انه لا خطأ في الأوليات، ولكنه عاد وزعم ان معرفتنا بالواقع الخارجي إجمالاً اولية وان كانت معرفتنا بالتفاصيل ليست كذلك، فكان هذا الإتجاه يفصل في المعرفة الحسية بين الإيمان بأصل الواقع الموضوعي في الجملة وبين الإيمان بتفاصيل المعرفة الحسية. ونحن في كتاب (فلسفتنا) حاولنا ارجاع المعرفة الحسية إلى معارف مستنبطة بقانون العلية..››[7].

مع نظرية تجزئة المادة

تبعاً لـ (فلسفتنا) فإن هناك مادة علمية واخرى فلسفية. والمقصود بالمادة العلمية انها أعمق اكتشاف يمكن للعلم بلوغه، وهي مركبة من مادة وصورة. أما المادة الفلسفية فهي أبسط مادة في العالم، وتتميز بكونها لا تمتد إليها معرفة العلم، بل يستدل على وجودها فلسفياً فقط. وتتألف المادة الفلسفية من وحدة مادية بسيطة وصورة تتمثل في اتصال تلك الوحدة، إذ لا يمكن تصور الوحدة دون ان يكون فيها اتصال، وهذا الاتصال هو الذي يمثل صورة المادة. واذا كانت هناك وحدة مادية متصلة، فالمادة - إذا - تقبل التجزئة والإنفصال، كما انها قابلة للتركيب والاتصال.

وعلى ضوء ذلك انه لا يمكن تصور جزء لا يتجزأ. فلما كانت الوحدة المادية قابلة للتجزئة، فهي على هذا مؤلفة من مادة بسيطة وصورة متمثلة في شكل الاتصال أو الوحدة، وعليه ان بالإمكان ان تنقسم المادة إلى ما لا نهاية لها من اجزاء.

بهذه الطريقة أيدت (فلسفتنا) النظرية الاتصالية التي ترجع إلى المذهب الأرسطي، والتي تفترض أن الجسم في بداية وجوده ليس مؤلفاً من اجزاء، بل هو شيء واحد متماسك رغم قبوله الانقسام قوة لا فعلاً إلى ما لا نهاية له من الاجزاء. وهي نظرية تختلف عن النظرية الذرية لديمقريطس والقائلة بالجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزء كما تبناها المتكلمون المسلمون.

لكن المفكر الصدر لم يثبت على هذا الموقف فيما بعد، فله رؤية مخالفة ابداها في (مجلة الاضواء)، إذ ذهب إلى أن النزاع الفكري الذي ساد قديماً بين النظرية الاتصالية لأرسطو، والنظرية الإنفصالية لديمقريطس حول الجسم والجزء، إنما ينطوي على خطأ في المنهج، إذ كان النزاع فلسفياً، في حين أن المسألة لا تخرج عن كونها علمية تجريبية صرفة. وبالتالي كان النزاع القديم لا طائل وراءه، وكما قال في افتتاحية (الأضواء) لعددها الرابع (سنة 1960): ‹‹ومن أوضح الأمثلة لذلك ما شغل بال العقليين قروناً متطاولة من الزمان حين حاولوا أن يتعرفوا على ما إذا كانت المادة متكونة من أجزاء وذرّات يتخللها الفراغ، أو متصلة اتصالاً حقيقياً لا فراغ فيه. لقد خيّل للعقليين أنهم يستطيعون أن يصلوا إلى الكلمة النهائية في البحث عن طريق العقل وحده، ومنها نشأت النظريات الاتصالية والإنفصالية، وقام الصراع عنيفاً بين هؤلاء وأولئك من الاتصاليين والإنفصاليين بعيداً عن التجربة ووسائلها، فلم يصلوا إلى نتيجة حاسمة، لا لشيء إلا لأن العقل بطبيعته حياديٌّ في مثل هذا الموقف وما يشبهه من المواقف التحليلية للكون، فهو لا يستطيع أن يدرك بصورة مستقلة عن التجربة ما إذا كان الجسم مؤلفاً من ذرّات أم لا. ولو أنّ العقليين انصرفوا إلى التجربة واستنطقوها ثم رجعوا إلى العقل كمفسّر نهائيٍّ لظواهر التجربة ونتائجها، لوصلوا إلى خير كبير››[8].

مع نظرية حدوث النفس

عرفنا فيما سبق كيف سلّمت (فلسفتنا) بمقالة الحركة الجوهرية في الطبيعة لصدر المتألهين، وهي الان تلتزم أيضاً بتفسير نشوء النفس البشرية تبعاً لهذه المقالة.

فهي تعتبر النفس نتاج الحركة الجوهرية في المادة، إذ تبدأ نشأتها كمادة وتخضع لقوانينها وخصائصها، لكنها تتحول عبر الحركة الجوهرية إلى وجود مجرد لا يخضع لهذه القوانين وخواصها، رغم ما تحمله من بعض النسب المادية.

ومع هذا فإن (فلسفتنا) لم تأخذ بكامل نظرية صدر المتألهين المشحونة بالطابع الافلاطوني والتي ترى ان للنفس وجوداً سابقاً على البدن، لكنها لاسباب معينة تنزلت في المادة ومن ثم تطورت شيئاً فشيئاً، فكينونتها هنا تختلف عن كينونتها هناك[9].

ويُنسب لابن سينا أبيات بليغة من الشعرهي المسماة القصيدة العينية التي تبدي هذا المعنى من التنزل الوجودي للنفس، وقد نصّ عليها صدر المتألهين في بعض أجزاء تفسيره للقرآن. وجاء في الأبيات الأولى لها ما يلي[10]:

هبطت إليك من المحل الأرفع           ورقاءُ ذاتُ تعزز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة عارف            وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما   كرهت فراقك وهي ذات تفجع

ألفت وما سكنت، فلما واصلت          ألفت مجاورة الخراب البلقع

وأظنها نسيت عهوداً بالحمى   ومنازلاً بفراقها لم تقنع

***

هكذا نستخلص بأن (فلسفتنا) هي دراسة لصالح المذهب الأرسطي الميتافيزيقي، خلافاً لما ورد لدى كتاب (الأسس المنطقية للإستقراء). فهناك فارق بين الكتابين، كما وهناك فارق بينهما وبين ما جاء في كراسه الصغير (بحث حول المهدي) كالذي عرضناه في دراسة مستقلة.

 

 



[1]           اعتمدنا في هذا البحث على جملة ما ورد في مقال (نظرات فلسفية في فكر الامام الصدر) الذي نُشر في مجلة دراسات وبحوث، طهران، عدد (6)، 1983.

[2]           لاحظ: الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، قدم له وعلق عليه وشرحه علي بو ملحم، دار الهلال، بيروت، الطبعة الأولى، 1995م.

[3]           محمد باقر الصدر: فلسفتنا، دار التعارف، الطبعة العاشرة، ص7ـ8.

[4]           طُرح هذا الموضوع في الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان ‹‹الإدراك››..

[5]           لقد توسعنا في عرض تبيان اهمية مبدأ السنخية وعلاقته بالنتاج الفلسفي والعرفاني لدى كتاب (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية)، كذلك القسم الثاني من كتاب (مدخل إلى فهم الإسلام).

[6]           انظر في هذا الصدد كتب صدر المتألهين التالية: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مع تعليقات ملا هادي السبزواري ومحمد حسين الطباطبائي، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية،1981م، ج2، ص138. وعرشيه، تصحيح وترجمة فارسية بقلم غلام حسين آهنى، كتابفروشي شهريار في اصفهان، 13413هـ.ش، ص231. ومفاتيح الغيب، تقديم وتصحيح محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، ص390. واسرار الايات، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، انتشارات انجمن إسلامي حكمت وفلسفة ايران، 14024هـ، ص64 و88.

[7]           محمود الهاشمي: بحوث في علم الأصول، تقرير ابحاث السيد محمد باقر الصدر، المجمع العلمي للامام الصدر، الطبعة الأولى ، 1405هـ، ج4، ص131ـ132.

[8]           محمد باقر الصدر: رسالتنا ومعالمها الرئيسية، افتتاحية مجلة الأضواء الإسلامية، العدد الرابع، وهي منشورة ضمن كتاب: رسالتنا، ص43ـ44.

[9]           الاسفار الأربعة، ج8 ، ص346 وما بعدها. واسرار الايات، ص105.

[10]          صدر المتألهين: تفسير القرآن الكريم، حققه وضبطه وعلق عليه محمد جعفر شمس الدين، دار التعارف، 1419هـ ـ 1998م، ج4، ص172. ومحمد باقر الخوانساري: روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، تحقيق أسد الله إسماعيليان، مكتبة إسماعيليان، قم، ج3، ص162ـ163.

comments powered by Disqus