-
ع
+

منهج الشاطبي وترجيح المصلحة على النص

يحيى محمد 

يمكن توظيف طريقة الشاطبي في الإستقراء لأوسع مما أرادت تثبيته. ذلك أنها اذا كانت دالة على مراعاة الشارع لمصالح الواقع، ويؤيده ما عليه سجية الصحابة من العمل وفق هذا المبدأ بلا اعتراض، وهو ما يكشف عن الموافقة الشرعية؛ فإن مآل هذه الطريقة هو الانسياق إلى جعل حجية المصلحة لا تصدق مع القضايا غير المنصوص فيها فقط، بل حتى مع تلك التي يرد فيها النص، الأمر الذي يبرر تغيير الحكم، ليس فقط بحدود التغيير الجزئي من تخصيص عام النص، وهو ما يسلّم به الشاطبي تحت عنوان الإستحسان، وإنما ايضاً على نحو التقييد والتغيير الكلي، وذلك لإعتبارين مستخلصين من هذه الطريقة، كالذي سبق اليهما الطوفي الحنبلي في تبريره لصحة تخصيص النص بالمصلحة أو حاكمية الأخيرة عليه:

- أحدهما ما دلل عليه الشاطبي من صحة مبدأ الإستحسان، إذ تبعاً للإستقراء لاحظ جملة من القضايا التي عدلت فيها الشريعة عن قواعدها ومقتضياتها نزولاً عند المصلحة، فأدرك أن ذلك دال على صحة تخصيص النص بها. لكن اذا علمنا أن هذه الدلالة تكشف عن أن ملاك التغيير - ولو في حدوده الجزئية - إنما هو المصلحة ذاتها؛ أضحى لا فارق حينها بين ان يكون التغيير جزئياً أو كلياً مادامت المنافاة مع الملاك حاصلة. فلو ثبت أن الحكم لا يتسق مع ما عليه المصلحة؛ لكانت الضرورة قاضية بتغييره، جزئياً كان أو كلياً، بحسب حدود دائرة تلك المضادة وعدم الاتساق. وهو أمر يؤكده ما جرى في الشرع من تغييرات كثيرة للأحكام باعتبارات المصلحة وتغيرات الواقع، كما يشير اليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

- أما الاعتبار الثاني المستخلص من طريقة الشاطبي فهو أنه بطريقة الإستقراء عدّ المصالح مقاصد شرعية تُبتغى وراء أحكام النصوص بمختلف صنوفها وأنواعها، سواء في العبادات أو المعاملات أو الحدود والتقديرات. الأمر الذي يقضي بضرورة تقديم المقاصد على الوسائل عند التعارض، مما يدل على صحة حاكمية المصلحة على غيرها من الأحكام ذات الصفة الوسيلية، وبالتالي جاز تغييرها بما يتفق مع تلك المقاصد، باعتبار أن الأخيرة هي المقصودة والأهم؛ شرعاً وعقلاً.

هكذا يتبين ان طريقة الشاطبي في التأسيس تجر ولا شك إلى وجوب الأخذ بالمصلحة ليس في القضايا غير المنصوص فيها، وانما حتى في غيرها من القضايا المنصوصة. واذا أردنا أن نضع المزيد من الاعتبارات الدالة على صحة هذا المنهج فيمكن ملاحظة النقاط التالية:

1 ـ بحسب الإستقراء يلاحظ ان الشرع قد اتبع منهج تنويع الأحكام وتغييرها استناداً إلى المصالح. الأمر الذي عُدّ ذلك دليلاً على حجية الإستحسان. وهو ما يكشف عن كون المصلحة هي الملاك المعوّل عليه في التنويع والتغيير.

2 ـ ان ما يبرر ترجيح المصالح على الأحكام الشرعية عند التعارض هو ان الإستقراء دال على ان الأولى هي المقصودة من الأحكام، وان الشارع كان حريصاً على مراعاتها وتوخّيها. بينما الأحكام ليست - في الغالب - سوى وسائل لتحقيق تلك المصالح. ومن الواضح ان المقاصد تتقدم على الوسائل وتترجح عليها عند المعارضة.

3 ـ إن ما يظهره الإستقراء من التنويع والتغيير للأحكام طبقاً للمصالح التي أولاها الشارع جلّ اهتمامه؛ لا يفسر الا على ضوء حدوث عناصر جديدة في الواقع عملت على تغيير الموضوعات التي تناط بها الاحكام. فكما عرفنا - في كتاب جدلية الخطاب والواقع - ان الحكم الشرعي لا ينشأ ولا يتغير الا تبعاً لمراعاة الواقع، وان مبرر التغيير لا يحصل الا بحدوث تبدل في عناصر هذا الاخير[1]. فلولا هذا التبدل ما كان لتغيير الحكم من معنى؛ استناداً إلى الحكمة الإلهية بدلالة العقل والشرع. وعليه فإن حدوث المصلحة يكشف عن تجدد عناصر الواقع الخاصة بالموضوع الذي يناط به الحكم الشرعي. الأمر الذي يستدعي تغييره بما يتسق مع هذه المصلحة كمقصد، وبما يتفق مع الموضوع المستحدث ذي العناصر الجديدة.

4 ـ كما يلاحظ ان العلاقة بين المصلحة والضرر هي علاقة ضدية، بحيث اذا وجد أحدهما انتفى الآخر وبالعكس، كما ذهب إلى ذلك العديد من الفقهاء، مع أخذ اعتبار الشكل النسبي من هذه العلاقة، حيث قد تكون المصلحة ضعيفة فيكون الضرر الذي يقابلها ضئيلاً لا يلتفت اليه، وكذا العكس، وهو الأمر الغالب في الحياة الإنسانية، حيث تنطوي على مزيج مركب من هذه العلاقة الدائمة. فعلى هذا الاعتبار ان تفويت المصلحة القوية يفضي إلى الوقوع في الضرر القوي، وحيث ان هذا الضرر منهي عنه شرعاً، لذا كان الموقف من التعارض الحاصل بين الضرر وبين حكم النص؛ هو إما العمل بنفي الضرر وترك الحكم، أو العمل بالحكم رغم ما يفضي اليه من الضرر، لكن الشرع - على اتفاق - لا يرضى بالضرر كما في الحديث المأثور (لا ضرر ولا ضرار)؛ لذا كان الجمع بين الأمرين هو تقديم هذه القاعدة المصلحية على حكم النص، بمعنى أنه لا يصح العمل بالحكم مادام يسبب الضرر المعتد به، وعند انتفاء الضرر وجب الإلتزام بالحكم كما نبّه عليه الطوفي.

كذلك فإن تقدير المصلحة والضرر لا يتخلف عن حدود الحالة التي عليها الإنسان ودرجة تطور الحياة. وبالتالي فلا غنى عن أخذ اعتبارات النسبية للحكم والتقدير، سواء في نوع المصلحة أو مستواها. فمثلاً ان استخدام أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) وتداولها يحمل من المصلحة ما لا ينكر لمختلف مجالات الحياة. وقد يتراءى للبعض ان مثل هذه المصلحة ليست قوية، إلى الحد الذي يجوز فيه الاستغناء عنها بما لا يفقد الإنسان شيئاً كان يملكه. لكن اذا نظرنا للأمر من زوايا متعددة نجد ان هذه المصلحة بالغة الأهمية، وان فقدها يوقعنا بأضرار كبيرة متباينة يصل بعضها إلى الخطورة. فابتداءً ان الاستغناء عن هذه المصلحة وما شاكلها يتضارب أساساً مع الطبيعة التي جُبل عليها الإنسان وهي تسخير طاقاته الكامنة بما يحقق له المزيد من التطور والكمال. الأمر الذي يفضي إلى إلغاء الفارق النوعي بين الحياة المعدمة الساكنة كحياة البدو، والحياة المدنية المتطورة بكل ما تنعم به من نِعم ومسخّرات. وهذا يعني إنكاراً لأهمية حركة التاريخ وتطور الإنسان.

ومن ناحية أخرى يمكن لتلك الأجهزة ان تساهم في سدّ حاجات المجتمع الملحة وغير الملحة، الأمر الذي يؤكد الحاجة اليها واعتبارها مصلحة لا غنى عنها.

ولو نظرنا إلى المسألة من زاوية مقاييس الحالة والعصر فإن الاستغناء عن أمثال تلك المصلحة لا بد ان يعرّض المجتمع إلى حالة من النقص والتخلف الشديدين مقارنة بغيره من المجتمعات، بل ويمكن ان يرمي به إلى صور خطرة من الأضرار التي قد تنجم عن عدم قابليته للصمود أمام المنافسات التي تبديها القوى الدولية في المجالات المختلفة؛ كالاقتصاد والسياسة والعلم والإعلام والثقافة، فضلاً عن الجوانب العسكرية، مما قد يعرّض البلد للافتراس أو السقوط قبال تلك الضغوط.

وواقع الأمر إن إقرار المصلحة في مثالنا الآنف الذكر يشبه إلى حد كبير الاقرار الخاص بالمصلحة من التعليم الالزامي. فلولا التعليم لظل الإنسان يعاني من الجهل والحرمان من الرشد. وهو وإن لم يفقد شيئاً كان يملكه، إلا أن كماله الطبيعي لا يتم الا بالعلم، فالإستغناء عن الأخير يفضي به إلى ضرر الجهل والنقص والحرمان. وان المجتمع الجاهل يتعرض لا محالة لمشاكل وأضرار جمّة كتلك التي ذكرناها في مثالنا السابق.

على أن الضرر المبني على فوات المصلحة قد يقدر من حيث المآل، وكذا ذات الشيء بخصوص المصلحة. فليس بالضرورة ان يكون التقدير ما يحدث فعلاً وآناً، فأحياناً يكون الضرر أو المصلحة من التداعيات اللاحقة. على هذا فرب ضرر يسير لا يعتد به، الا ان أبعاده تفضي إلى ان يكون عظيماً، وكذا الحال مع المصلحة.

والنتيجة الطبيعية لذلك هي لزوم ممارسة التحديث لمختلف مجالات الحياة بما يتسق ومقاصد الشرع في جعل الإنسان المؤمن يمثل أعلى صور الاستخلاف والتسخير في الأرض. وبالتالي اذا كانت المصلحة على أقسام ثلاثة ضرورية وحاجية وكمالية؛ فإن الضرر المضاد لها ينقسم ايضاً إلى ما يقابلها. واذا كان من المسلّم به ان الإستصلاح بحسب القسمين الأولين الآنفي الذكر هو مما يدخل ضمن دائرة الإلزام الشرعي؛ فإن القسم الأخير للإستصلاح كان مورد تحفظ واحتراز لدى الفقهاء، رغم اتساقه مع المقاصد وكونه يحقق فوائد قوية تتناسب مع ما خُلق الإنسان لأجله من الصيرورة في سلّم التكامل.

بل يمكن أن يقال بأن الفاصل بين المصلحة الحاجية والكمالية هو فاصل نسبي. فقد تتدخل اعتبارات كثيرة اجتماعية وزمنية لتحويل ما هو كمالي إلى ما هو حاجي، سيما وأن العلاقات الإنسانية أصبحت متشابكة إلى أبعد الحدود، فأي شيء يمكن ان يؤثر في كل شيء طالما أصبح العالم - كما يعبر عنه - قرية كونية.

فمثلاً إن التعليم الإلزامي إلى سن محدد كسن الرشد يمكن اعتباره مصلحة كمالية في العصور الخالية، أما في العصر الحديث فيعتبر ضمن الحاجات الملحة لما له من تأثير على مستقبل البلد ومصيره. والأمر ذاته ينطبق على انشاء النوادي الثقافية والترفيهية وفتح المكاتب والمؤسسات وانشاء الدساتير واللوائح التي تنظم سلوكيات الناس وتنجز معاملاتهم وتحل مشاكلهم؛ كلها أو اغلبها من المصالح الكمالية في العصور الخالية، لكنها أصبحت اليوم من المصالح المؤثرة على استقرار البلد. وكذا فإن هناك مصالح قد ينظر لها في السابق بأنها من اللهو التي لا تدخل حتى حيز المصالح الكمالية، مثل عروض التمثيل والموسيقا والغناء (المحللة)، بينما هي اليوم من الحاجات الهامة التي يمكن من خلالها لا فقط التأثير على عقلية المجتمع وتوجيهه الوجهة المطلوبة؛ بل وتحصينه من الوقوع تحت هيمنة مثيلاتها من الوسائل الإعلامية المضادة، مما يجعل فائدتها مزدوجة. ويكفي ان نتصور حجم الفارق في التأثير بين إعلام مرئي أو مسموع وهو يحفل بتلك العروض، وبين آخر يخلو منها.

على هذا لم تعد هناك مصالح كمالية دون ان تقبل التوظيف المناسب الذي يحقق سد الحاجات الملحة.

وبشكل عام يمكن تقسيم المصالح العقلائية المحللة إلى أنواع خمسة، ويقابلها نظائرها من المضار:

أ ـ مصلحة يسيرة غير معتد بها.

ب ـ مصلحة قوية معتد بها، وهي المصلحة الكمالية.

ج ـ مصلحة حاجية، كالمصلحة في الملبس والمسكن.

د ـ مصلحة ضرورية أو قوام حياة، كالمصلحة في الحفاظ على النفس من القتل.

هـ ـ مصلحة غائية ومنها المصلحة الحقوقية. كمصلحة الفرد في استرداد حقه من المعتدي، مثل الغصب والسرقة وما إلى ذلك.

ويلاحظ أنه باستثناء المصلحة الأولى فإن جميع المصالح الأخرى لازمة التسديد. أما ما عدا ذلك فلا تعد مقبولة، مثل مصلحة المعتدي في اعتدائه، والمجرم في تنصله من العقوبة.

5 ـ طالما عرفنا ان هناك شواهد عديدة اضطر فيها الفقهاء إلى تغيير حكم النص، وذلك من خلال لجوئهم إلى المقاصد، واعتبار الأحكام المغيَّرة هي أحكام وسيلة ثبت عدم صلاحيتها الاطلاقية أو غير المشروطة.. فهذا المبرر هو في حد ذاته يشفع لأن تؤدي المصلحة دورها من الحاكمية عند تعارضها مع الحكم باعتبارها هي المقصودة من التشريع. فالاعتبار المأخوذ على هذا النحو لا يقل قدراً وقيمة عن الاعتبارات التي وجّه بها الفقهاء تجاوزهم لبعض الأحكام أحياناً.

6 ـ يضاف إلى ذلك إن قبول الفقهاء لأصل الإستحسان المتضمن تخصيص عموم النص بالمصلحة، كفيل بحدّ ذاته للسماح بتغيير الحكم بكامله. فما فعله الفقهاء في صياغتهم الأصولية لذلك المبدأ من الإستحسان لا يتجاوز - بنوع من الاعتبار - عن كونه تضييقاً للحكم الظاهر من النص، والتضييق هو شيء من التغيير الجزئي، وبالتالي فلا فرق بينه وبين التغيير الكلي، فكلاهما يعبر عن إجتهاد رغم وجود النص.

نعم يصح القول ان العمل الإستحساني إنما هو فهم لحكم النص وليس تغييراً له. لكنا نقول ان هذا الفهم لم يبنَ على النص ذاته، وانما على عناصر أخرى خارجية؛ عقلية أو واقعية حددت مجال حكم النص، ولولاها لظل عموم الحكم على حاله من غير تغيير. أي أن التشريع هنا هو تشريع غير قائم على ذات النص، لذلك اعتبرناه نوعاً من التغيير لظاهر الحكم. فنحن هنا لا نتعامل الا مع ظاهر النص، ولا نعلم حقيقته على وجه المطابقة واليقين، والظاهر منه لا يفيد التخصيص، بل يفيد العموم كما هو واضح. لهذا يصدق ان يقال - بنوع من الاعتبار - ان التخصيص في العملية الإستحسانية هو حالة من التغيير للحكم الظاهر، بدلالة تأثر هذا الحكم بالعناصر الخارجية، ولولاها لبقي الحكم كما هو. وفي القبال يصح اعتبار ما سبق مجرد فهم للحكم نبّهت عليه تلك العناصر.

لكن ذات الشيء يصدق مع حالة ما اطلقنا عليه التغيير الكلي للحكم. فهو ايضاً عبارة عن فهم لحكم النص، وذلك بإناطته بموضوع محدد خاص على خلاف الظاهر الذي يبدي الاطلاق والشمول. والذي نبّه على هذا الفهم هو ايضاً العناصر الخارجية الخاصة بالواقع، كتلك التي لها علاقة بالمصلحة.

فالمصلحة التي يفرزها الواقع - هنا – تكشف عن حدود الموضوع الذي يناط به الحكم الشرعي. فمن جانب يمكن اعتبار ذلك تغييراً للحكم الشرعي تبعاً لتغير الموضوع بعناصره الواقعية. كما يمكن اعتباره فهماً للنص بتحديد مجال فاعليته إزاء ما يناسبه من الموضوع. وهو من هذه الناحية لا يختلف عن تخصيص الحكم بالمصلحة كالذي عليه طريقة الإمام مالك. إذ تارة يراد بالتخصيص تغيير الحكم الشرعي بتغير موضوعه جزئياً، واخرى يراد به الفهم من حيث ان النص لم يقصد العموم وإن اظهره بدلالة الكشف المصلحي. لذلك لا فرق بين التخصيص بالمصلحة وتغيير الحكم بها.

 

 



[1] جدلية الخطاب والواقع، الفصل الثامن.

comments powered by Disqus