-
ع
+

حدود إباحة الفطر للمسافر في شهر رمضان والواقع

يحيى محمد

نصّ الشارع الإسلامي على إباحة الفطر في شهر رمضان لكل من المريض والمسافر بقوله تعالى: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر﴾. والحكمة من ذلك كما يدل عليها ما جاء بعد هذا النص مباشرة من نفس الآية، وما عليه الواقع الخاص، هي للتيسير ودفع المشقة. إذ ورد التعليل في الآية بقوله تعالى: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾[1].

كذلك يدل الواقع الخاص على أن المرض والسفر يبعثان على المشقة في مجتمع لا يمتلك وسائل النقل المريحة كما عليه اليوم. أي ان اجتماع جنسين مختلفين في النص لا يفسرهما غير دفع المشقة بدلالة الواقع. هكذا يكون ملاك الحكم محدداً بدفع المشقة، فحيث هناك مشقة كتلك التي تكون في المرض أو السفر فإن إباحة الفطر في الشهر المبارك تصبح قائمة.

لكن السفر في أيامنا الحاضرة لم يعد يبعث على المشقة في الغالب مثلما هو الحال في السابق. فاذا كانت المشقة هي أهم عناصر موضوع الحكم الخاص بإباحة الفطر تبعاً لتحديد المقصد الشرعي؛ فإن مضمون الحكم سوف يختلف اليوم عما كان عليه سابقاً، بل وسوف يتغير الفهم الخاص بما يُعرف بالمسافة الشرعية. مما يعني ان ‹‹الواقع›› قد كشف عن تغير موضوع الحكم بدلالة المقصد الخاص. وقبل ذلك عرفنا أن من خلاله أمكن الكشف عن طبيعة هذا المقصد، ويؤكد ذلك ما جاء به النص من تعبير عن المقصد الآنف الذكر.

ونلفت النظر إلى أن بعض الفقهاء في عصرنا الحديث اعتبر السفر مبيحاً للفطر على الاطلاق، وعلل ذلك لاختلاف ما روي عن النبي (ص) من حدود السفر المبيح، وأن الروايات حوله من الآحاد، يضاف إلى ان النص القرآني لم يحدد مسافة السفر المبيح.

فقد ذكر الشيخ المراغي يقول: ‹‹قد روى أحمد ومسلم وابو داود عن انس: ان رسول الله (ص) كان يقصر الصلاة مسيرة ثلاثة اميال. وروي عن ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه كان يقصر في الميل الواحد، واذا نظرنا إلى نص القرآن فهو مطلق، وان كل ما رواه في التخصيص اخبار آحاد، وأنهم لم يتفقوا في التخصيص؛ جاز لنا ان نقول: إن السفر مطلقاً مبيح للفطر، وهذا رأي داود وغيره من الأئمة››[2].

ونرى أن ما لجأ إليه الشيخ المراغي يواجه بعض الإشكالات، وهو أنه لم يبدِ اعتداداً للمشقة التي دلّ عليها النص كمناط أو ملاك للحكم، كما لم يربط بين المشقة المذكورة وبين الواقع؛ سواء الحالي منه أو ذلك الخاص بالتنزيل.

لكن رغم ذلك يمكن القول إن نصوص الحديث التي نقلها هذا الشيخ قد تثبت ما سميناه بظاهرة ‹‹التوسعة والإنفتاح›› التي اتصف بها الشرع الإسلامي للعديد من الأحكام والفرائض الدينية، بحيث تتجاوز المنصوص فيه، كالذي سبق بحثه في (علم الطريقة).

كما نلفت النظر - في القبال - إلى ان بعض الاتجاهات الفقهية أنكرت الدلالة المقصدية وبالغت في ممارستها الحرفية من خلال منطق الرواية. ورغم ان مضامين الأخبار التي استندت إليها قد اختلفت في معايير السفر (الشرعي) وتحديد الملاك، إذ بعضها دال على معيار المسافة (ثمانية فراسخ أو بريدين أو أربعة وعشرين ميلاً)، وبعض آخر دال على معيار الزمن (بياض يوم أو مسيرة يوم)، وبعض ثالث دال على اعتبار المعيارين معاً، وهو ما ينسجم مع طبيعة الحياة آنذاك استناداً إلى سير الجمال[3]؛ إلا ان مشهور الفقهاء رجحوا - وما زالوا - الملاك الخاص بمعيار المسافة واعتبروا الزمن مقدراً عليه[4]، رغم ان هذا الأخير هو أقرب للمحافظة على المقصد من الأول.

فقد كان لمقادير المسافة، وكذا الزمن، ما يبررها من تقدير مشقة السفر آنذاك. وهما متعادلان من هذه الناحية، حيث كلاهما دالان على المشقة وان أحدهما يقدر بالآخر[5]، مع وجود فارق بسيط يجعل من المسافة ثابتة والزمن متغيراً قليلاً، مثل اختلافه ببعض الدقائق بين يوم وآخر عادة، أو تغيره بحسب فصول السنة، فبياض يوم من الشتاء يغاير ما يناظره في الصيف. لكن الأمر في أيامنا هذه مختلف! فلا المسافة المقررة تبعث على المشقة، ولا هي تقارب الزمن المقدر في قبالها، إذ أصبحت المسافة متغيرة بشكل كبير في قبال التغير الزمني، فمسيرة بياض يوم في السيارة مثلاً، سواء في الشتاء أو الصيف، تعطينا عدداً كبيراً من الأميال مقارنة بالمسافة المتفق عليها قديماً. مما يعني ان بقاء الحكم مستنداً إلى المسافة يفضي إلى عدم المعنى تبعاً للمقصد الخاص به. بل حتى لو تجاوزنا حساب هذا المقصد بكل ما يملكه من دلالة الواقع ونص الآية المشار إليها سابقاً، واعتبرنا ذلك الحكم أمراً تعبدياً خالصاً؛ فإنّا سنصطدم في ترجيحه على نظيره الزمني المعادل له في السابق، مع شيء من الفارق النسبي لصالح المسافة كما أشرنا[6]، الأمر الذي يبعث على التناقض. فلماذا الاحتكام إلى المسافة دون الزمن، ما لم يؤخذ بالحسبان ما ذكرناه حول ثبات الأولى مقارنة بالأخير؟ ولماذا لا يكون العكس هو الصحيح، لا سيما وأنه أقرب إلى الحفاظ على المقصد، ولأن دلالة النص عليه أقوى بشهادة ما ذكره الشيخ محمد حسن النجفي في (جواهر الكلام)[7]؟!

وعليه إذا استشكل البعض وتساءل: كيف يمكن تقدير مشقة السفر الباعثة على القصر في أيامنا الحالية؟ فسيكون الجواب هو أن من المناسب تقديرها بعدد الساعات المعتمدة لدى القدماء في أسفارهم، أو ما يقارب ذلك نسبياً. والمهم هو أن يستند المسافر إلى قاعدة يمكن التعويل عليها، بحيث تنسجم مع المقصد القرآني دون أن تتجاوزه.

وتأتي أهمية هذه القاعدة في تحقيق الضبط العام بما في ذلك إمكانية إجازة المسافر لاختيار أحد خيارين؛ أدنى وأقصى تبعاً للمسافة أو الزمن، شرط تحقق المشقة المفترضة. وقد يكون أقرب صور الإنسجام مع المقصد القرآني هو ما أشرت إليه من تقدير المشقة بعدد الساعات التي كان يعتمدها القدماء في أسفارهم، ما لم يثبت أن طاقة الإنسان المعاصر على تحمل مشاق السفر أضعف بكثير من طاقة الإنسان القديم، وذلك نظراً لإختلاف البيئة وطبيعة الحياة..


[1]  البقرة/ 185.
[2]  محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون، دار الكتب الحديثة، مصر، الطبعة الثانية، 1396هـ ـ1976م، ج2، ص606.
[3]  انظر: وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، ابواب صلاة المسافر، ج8، ص451 وما بعدها.
[4]  انظر: جواهر الكلام، طبعة مؤسسة المرتضى ودار المؤرخ العربي، ج5، ص330.
[5]  جاء في احدى الروايات ان تقدير القصر في السفر قائم على اعتبار الزمان وان المسافة مقاسة عليه، لكن من غير اعتبار للمشقة كما هو مدلول الآية. فقد روي عن الإمام الرضا أنه قال: ‹‹إنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك ولا أكثر، لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة، وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فانما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره إذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما›› (وسائل الشيعة، ج8، ص451).
[6]  اعتبر محمد حسن النجفي ان التقدير بحسب الزمن والمسافة هو أمر واحد عند الشارع ‹‹فمسير اليوم عنده عبارة عن قطع بريدين وبالعكس، ومتى تحقق أحدهما تحقق الآخر في نظره›› (جواهر الكلام، ج5، ص330).
[7]  نفس المصدر والصفحة.
comments powered by Disqus