-
ع
+

حدود إباحة الفطر للمسافر في شهر رمضان والواقع

يحيى محمد 

نصّ الشارع الإسلامي على اباحة الفطر في شهر رمضان لكل من المريض والمسافر بقوله تعالى: ((فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر)) البقرة/185. والحكمة من ذلك كما يدل عليها ما جاء بعد الآية من نص وما عليه الواقع الخاص؛ إنما للتيسير ودفع المشقة. إذ ورد التعليل في النص صراحة في الآية القائلة: ((يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)) البقرة/185.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فهو أن الواقع الخاص يكشف بأن المرض والسفر يبعثان على المشقة في مجتمع لا يمتلك وسائل النقل المريحة كما عليه اليوم. أي ان اجتماع جنسين مختلفين في النص لا يفسرهما غير دفع المشقة بدلالة الواقع. هكذا يكون ملاك الحكم محدداً بدفع المشقة، فحيث هناك مشقة كتلك التي تكون في المرض أو السفر فإن اباحة الفطر في الشهر المبارك تصبح قائمة.

لكن السفر في أيامنا الحاضرة لم يعد يبعث على المشقة في الغالب مثلما هو الحال في السابق. فاذا كانت المشقة هي أهم عناصر موضوع الحكم الخاص باباحة الفطر تبعاً لتحديد المقصد الشرعي؛ فإن مضمون الحكم سوف يختلف اليوم عما كان عليه سابقاً، بل وسوف يتغير الفهم الخاص بما يطلق عليه المسافة الشرعية. مما يعني ان (الواقع) قد كشف عن تغير موضوع الحكم بدلالة المقصد الخاص. وقبل ذلك عرفنا أن من خلاله أمكن الكشف عن طبيعة هذا المقصد، ويؤكد ذلك ما جاء به النص من تعبير عن المقصد الآنف الذكر.

ونلفت النظر إلى أن بعض الفقهاء في عصرنا الحديث اعتبر السفر مبيحاً للفطر على الاطلاق، وعلل ذلك لاختلاف ما روي عن النبي (ص) من حدود السفر المبيح، وكون الروايات حوله من الآحاد، يضاف إلى ان النص القرآني لم يحدد مسافة السفر المبيح. فقد ذكر الشيخ المراغي يقول: (قد روى أحمد ومسلم وابو داود عن انس: ان رسول الله (ص) كان يقصر الصلاة مسيرة ثلاثة اميال. وروي عن ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه كان يقصر في الميل الواحد، واذا نظرنا إلى نص القرآن فهو مطلق، وان كل ما رواه في التخصيص اخبار آحاد، وأنهم لم يتفقوا في التخصيص؛ جاز لنا ان نقول: إن السفر مطلقاً مبيح للفطر، وهذا رأي داود وغيره من الأئمة)[1].

ونرى أن ما لجأ اليه الشيخ المراغي يواجه بعض الإشكالات، وهو أنه لم يبدِ اعتداداً للمشقة التي دلّ عليها النص كمناط أو ملاك للحكم، كما لم يربط بين المشقة المذكورة وبين الواقع؛ سواء الحالي منه أو ذلك الخاص بالتنزيل.

لكن، والحق يقال، إن نصوص الحديث التي نقلها هذا الشيخ قد تثبت ما نسميه بظاهرة >التوسعة< التي اتصف بها الشرع الإسلامي للعديد من الأحكام والفرائض الدينية، بحيث تتجاوز المنصوص فيه. وسندرس هذه الظاهرة في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.

كما نلفت النظر - في القبال - إلى ان بعض الاتجاهات الفقهية أنكرت الدلالة المقصدية وبالغت في ممارستها الحرفية من خلال منطق الرواية. ورغم ان مضامين الأخبار التي استندت اليها كانت تختلف في مقاييس السفر (الشرعي) وتحديد الملاك، إذ بعضها دال على الأخذ بالمسافة (ثمانية فراسخ أو بريدين أو أربعة وعشرين ميلاً)، وبعض آخر دال على الأخذ بالزمان (بياض يوم أو مسيرة يوم)، وبعض ثالث دال على اعتبار الأمرين مما يتفق وطبيعة الحياة آنذاك تبعاً لسير الجمال[2]؛ الا ان مشهور الفقهاء رجحوا - وما زالوا - الملاك الخاص بمعيار المسافة واعتبروا الزمان مقدراً عليه[3] ، رغم ان هذا الأخير هو أقرب للمحافظة على المقصد من الأول. فقد كان لمقادير المسافة، وكذا الزمان، ما يبررها من تقدير مشقة السفر آنذاك. وهما متعادلان من هذه الناحية، حيث كلاهما دالان على المشقة وان أحدهما يقدر بالآخر[4]. لكن الأمر في أيامنا هذه مختلف! فلا المسافة المقررة تبعث على المشقة، ولا هي تطابق الزمان المقدر في قبالها. مما يعني ان بقاء الحكم مستنداً إلى المسافة يفضي إلى عدم المعنى تبعاً للمقصد الخاص به. بل حتى لو تجاوزنا حساب هذا المقصد بكل ما يملكه من دلالة الواقع والنص في الآية المشار اليها سلفاً، واعتبرنا ذلك الحكم أمراً تعبدياً خالصاً؛ فإنّا سنصطدم في ترجيحه على نظيره الزماني المعادل له في السابق[5]، الأمر الذي يبعث على التناقض. فلماذا إذاً الاحتكام إلى المسافة دون الزمان، ولماذا لا يكون العكس هو الصحيح، سيما وأنه أقرب إلى الحفاظ على المقصد، ولأن دلالة النص عليه أقوى بشهادة ما ذكره صاحب (جواهر الكلام)[6]؟!

وعليه لو استشكل البعض وتساءل: كيف يمكن تقدير مشقة السفر الباعثة على القصر في أيامنا الحالية؟ فسيكون الجواب هو أن من المناسب تقديرها بعدد الساعات المعتمدة لدى القدماء في أسفارهم، أو ما يقارب ذلك نسبياً.

 



[1] محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون، دار الكتب الحديثة، مصر، الطبعة الثانية، 1396هـ ـ1976م، ج2، ص606.

[2] انظر: وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، ابواب صلاة المسافر، ج8، ص451 وما بعدها.

[3] انظر: جواهر الكلام، طبعة مؤسسة المرتضى ودار المؤرخ العربي، ج5، ص330.

[4] جاء في احدى الروايات ان تقدير القصر في السفر قائم على اعتبار الزمان وان المسافة مقاسة عليه، لكن من غير اعتبار للمشقة كما هو مدلول الآية. فقد روي عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: (إنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر، لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة، وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فانما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره إذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما) (وسائل الشيعة، ج8، ص451).

[5] اعتبر النجفي صاحب (جواهر الكلام) ان التقدير بحسب الزمان والمسافة هو أمر واحد عند الشارع (فمسير اليوم عنده عبارة عن قطع بريدين وبالعكس، ومتى تحقق أحدهما تحقق الآخر في نظره) (جواهر الكلام، ج5، ص330).

[6] نفس المصدر والصفحة.

comments powered by Disqus