-
ع
+

فنون الرسم والواقع

 

يحيى محمد 

من المعلوم ان اغلب الفقهاء تعاملوا مع نصوص الحديث التي حرمت الرسم والنحت لكل ما فيه روح من الحيوان والإنسان تعاملاً حرفياً بعيداً عن الاحتكام إلى دلالة كل من القصد والواقع وتحولاته. فقد جاء في بعض النصوص قول النبي (ص): ‹‹ان أشد الناس عذاباً عند الله المصورون››[1]. وقوله: ‹‹أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله››[2]. وقوله: ‹‹ان الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم››[3]. وعن ابن عباس قال: ‹‹سمعت محمداً (ص) يقول: من صوّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة ان ينفخ فيها الروح وليس بنافخ››[4]. وعن ابن عباس ايضاً ان النبي (ص) قال: ‹‹لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تصاوير››[5]. وعن ابي زرعة قال: ‹‹دخلت مع ابي هريرة داراً بالمدينة فرأى في اعلاها مصوراً يصور فقال: سمعت رسول الله (ص) يقول: قال الله عز وجل: ومن اظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي، فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة››[6]. وروى الطبراني عن صفية بنت شيبة قالت: ‹‹رأيت رسول الله (ص) بلّ ثوباً وهو في الكعبة ثم جعل يضرب التصاوير التي فيها››[7].

وقد استوحى الفقهاء من هذه النصوص بأن التصوير يبعث على المضاهاة أو التشبه في الخلق، وهو مما لا يجوز. وكما قال الخطابي: ‹‹انما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر اليها يفتن، وبعض النفوس اليها تميل››[8]. وقال ابو بكر بن العربي: ‹‹إن الذي اوجب النهي عن التصوير في شرعنا - والله اعلم - ما كانت العرب عليه من عبادة الاوثان والاصنام، فكانوا يصورون ويعبدون فقطع الله الذريعة وحمى الباب. فإن قيل: فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي (ص): من صوّر صورة عذّبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ.. قلنا: نهى عن الصورة وذكر علة التشبيه بخلق الله، وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله، فنبه على ان نفس عملها معصية فما ظنك بعبادتها››[9].

وحقيقة ان المضاهاة وتوظيف الصور لغرض العبادة من الأمور التي اكدها الواقع التاريخي، وكما دلّ عليه صاحب (أحكام القرآن)[10]. الأمر الذي يسهل علينا فهم مغزى التحريم الوارد حولها، حيث يتسق مع الواقع الخاص بالتنزيل، ولا يعقل ان يكون النهي عن التصوير تعبدياً لا يفهم معناه[11]. لكن لمّا دلّ تحول الواقع على زوال الغرض الآنف الذكر في أكثر البلدان والمجتمعات، ومنها المجتمعات الإسلامية، إذ أصبح التصوير لا يوظف بقصد المضاهاة والعبادة، بل لاغراض فنية وعلمية وتحقيقية، كتلك التي يستفاد منها في الطب والكشف الجنائي؛ لذا فإن بقاء الحكم المنصوص على ما هو عليه يصبح كالسالبة بانتفاء الموضوع، حسب تعبير المناطقة. ويؤيده ما جاء من اقرار الله تعالى لما كان يعمل لنبيه سليمان (ع) من التماثيل، كما هو واضح من الآية الكريمة: ((يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل)) سبأ/13، وبها احتج قوم على جواز التماثيل[12]. بل كذلك ما ورد من استثناء لُعب البنات الذي أُجيز تبعاً لبعض الأحاديث[13].

هكذا تعرفنا بدلالة النص والواقع الخاص بالتنزيل على مقصد الحكم، ومن ثم عرفنا بدلالة الواقع العام لزوم تغيير الحكم تبعاً للقصد المعلوم بالدلالة الاولى.

وجدير بالذكر أن الفقهاء المحدثين وجدوا حرجاً في التحريم المطلق للتصوير؛ لكونه لا يتفق مع قضايا المعاملات الحديثة، لذلك فرقوا بين التصوير اليدوي والتصوير الفوتوغرافي الشائع استخدامه، فحملوا أحاديث التحريم على النوع الأول، واجازوا الثاني بدعوى أنه ليس فيه من الانشاء والخلق الذي يبعث على المضاهاة مثلما هو الحال في الأول، بل هو عبارة عن حبس خيال للموضوع المصور، انساناً كان أو حيوان. مع اننا لو أخذنا مفهوم المضاهاة بهذا الشكل الساذج لكنا نعتبر كل الرسوم الخاصة بالطبيعة هي عبارة عن مضاهاة لخلق الله، ولاعتبرنا جميع الصناعات والتكوينات المستحدثة التي يتم فيها تقليد طبائع الكائنات هي من المضاهاة. وهو أمر غير معقول. كما ان بعض الفقهاء ذهب إلى التفريق بين الرسم والنحت، فأجاز الأول ونهى عن الثاني بنحو من الاحتياط، مثلما هو الحال مع الفقيه المعاصر السيد علي السيستاني[14].

لكن في قبال ما سبق نجد من المحدثين من أباح التصوير على اطلاقه، كالشيخ محمد عبده[15]، وهو نفس الحال الذي لجأت اليه الدولة الإسلامية المعاصرة في ايران.



[1] صحيح البخاري، حديث 5606. وصحيح مسلم، حديث 2109. وفتح الباري، ج10، ص314.

[2] صحيح البخاري، حديث 5610. وصحيح مسلم، حديث 2107. وفتح الباري، ج10، ص318 .

[3] صحيح البخاري، حديث 5607. وفتح الباري، ج10، ص316.

[4] صحيح البخاري، حديث 5618. وصحيح مسلم، حديث 2110. وفتح الباري، ج10، ص323. وروي مثل ذلك عن ابن عباس كما في: وسائل الشيعة، ج17، كتاب التجارة، باب تحريم عمل الصور المجسمة والتماثيل، حديث9، ص298. كما ورد ما يماثل ذلك عن الإمام الصادق عن آبائه (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال: ‹‹من صور صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة ان ينفخ فيها وليس بنافخ›› (وسائل الشيعة، حديث6، ص297). وعن الإمام الصادق أنه قال: ‹‹ثلاثة يعذبون يوم القيامة: من صور صورة من الحيوان يعذب حتى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها..›› (المصدر السابق، حديث7، ص297).

[5] صحيح البخاري، حديث 5605. وفتح الباري، ج10، ص313. ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد، مصدر سابق، ج5، باب ما جاء في التماثيل والصور، حديث 8892.

[6] صحيح البخاري، حديث 5609. وفتح الباري، ج10، ص317.

[7] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نفس الباب السابق، حديث 8894. كذلك: عزت علي عطية: البدعة/ تحديدها وموقف الإسلام منها، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1400هـ ـ1980م، ص402.

[8] البدعة، ص403.

[9] أحكام القرآن، ج4، ص1600.

[10] المصدر السابق، نفس الصفحة.

[11] يلاحظ اننا نستبعد وجهة النظر التي تركز على الجانب التعبدي من التحريم وتعتبر عمل الصور المجسمة والغناء وما إلى ذلك كلها من المحرمات في نفسها، لذا حرم بيعها وشرائها، كالذي ذهب اليه المحقق الحلي في (شرائع الإسلام، ج2، ص10).

[12] القرطبي: الجامع لاحكام القرآن، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ ـ1993م، ج14، ص175.

[13] إذ ذُكر أنه ثبت عن السيدة عائشة كما في الصحيحين ان النبي (ص) تزوجها وهي بنت سبع سنين، وفي رواية ست سنين، وزُفّت اليه وهي بنت تسع ولُعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة (صحيح البخاري، حديث 4840ـ4841. وصحيح مسلم، حديث 1422). وعنها أيضاً قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي (ص) وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله (ص) اذا دخل ينقمعن منه فيُسرِّبُهنّ الي فيلعبن معي (صحيح البخاري، حديث 5779. وصحيح مسلم، حديث 2440، والجامع للقرطبي، ج14، ص176).

[14] عبد الهادي الحكيم: الفقه للمغتربين، وفق فتاوى السيد علي السيستاني، مؤسسة الإمام علي، لندن، الطبعة الاولى، 1419هـ ـ1998م، ص331.

[15] عن: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، الطبعة العاشرة، ص116.

comments powered by Disqus