-
ع
+

ربا القروض وإبتعاد الفقهاء عن المقاصد والواقع

يحيى محمد 

ليس هناك قيمة يقرها وجدان العقل اعظم من العدل. فالعدل على رأس القرارات الذي يدين له العقل بالصحة والصدق. وهو على رأس الأحكام التي تبشر بها جميع الأديان السماوية، وتعترف به كل الأعراف والقوانين الوضعية. كما أنه يقع في قمة هرم المقاصد التي نادت بها الشريعة الإسلامية، واعتبرته هدفاً اعلى للرسالات الإلهية، كما في قوله تعالى: ((ولقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)).

ويكفينا من كل ذلك ما تطابق عليه العقل والشرع في ضرورة مراعاته من غير تفريط. فهو الأصل في كل العقود مثلما صرح بذلك ابن القيم في احد عناوين كتابه (اعلام الموقعين)[1]. لكن هل التفتت الطريقة التقليدية لهذا المقصد الكلي وهي تتدارس جزئيات الاحكام؟

لعل الأمر البارز في هذه الطريقة هو أنها حصرت نفسها في دائرة الاهتمام بالجزئي من الأحكام فحجبها ذلك عن رؤية الكلي. لذلك نجد الحرفية طغت على نتاجها، واصبح الدوران في فلك الجزئيات يشكل الغاية من جهودها المضنية. فكانت النتيجة من اهمال النظر في الكليات أن قدّمت لنا في كثير من الاحيان نتائج عكسية حول معالجتها للجزئيات، إذ جاءت مخالفة لمقاصد الشرع، بل ومصادمة للعقل وحكمه الوجداني. فاذا كان للواقع تأثير على الأحكام، وكان من الطبيعي ان تتبدل هذه الأحكام تبعاً لتغير الواقع؛ فإن ما يحفظ بقاء الشريعة ويصونها من التغير والانحراف إنما هو المقاصد الاساسية التي تصرف عقل المسلم باتجاه الوجهة الصحيحة، مهما كانت طبيعة التغيرات التي تصادف الأحكام الجزئية، خاصة اذا ما أيد ذلك وجدان العقل وصدّقه الواقع.

ولعلنا لسنا بحاجة إلى التذكير بأن الأخذ بالجزئي اذا كان على حساب الكلي يفضي ولا شك إلى هدم الشريعة من جذورها. وكما يقول الشاطبي: ان المجتهد ‹‹تكون مخالفته تارة في جزئي، وهو اخف، وتارة في كلي من كليات الشريعة العامة، كانت من اصول الاعتقادات أو الاعمال، فتراه آخذاً ببعض جزئياتها في هدم كلياتها››[2].

هذا هو حال مسألتنا حول إيفاء القروض، إذ شهدت صداماً حاداً بين الموقف الفقهي التقليدي الذي لجأ إلى الحرفية من غير نظر إلى الكليات، وبين مقاصد الشرع واحكام العقل. فالمنظور الفقهي لقضية القرض بالعملات النقدية يعتمد على مبدأ الوفاء بالمثل من غير اهتمام لما يفرزه الواقع من تغايرات تؤثر على طبيعة الحكم، نظراً لتدخل المقصد الكلي المغيب عن الرؤية. فما يصح من حكم في ظرف ما قد يبطل في ظرف اخر، والعكس بالعكس. لكن الذي يكشف عن صدقه وبطلانه إنما هو المقصد الشرعي ذاته، فكيف اذا ما زاد عليه حكم العقل بالوجدان؟!

من المعلوم ان القوة الشرائية للنقد في المجتمعات القديمة، ومنها مجتمع عصر الرسالة، تتصف بضآلة التغير أو الثبات النسبي قياساً بما عليه العصر الحديث، والحاضر منه على وجه الخصوص، وهو عصر التشابك والسرعة والمفاجآت. فمما ذكره المؤرخون ان الدينار كان في العصر الإسلامي الأول يساوي عشرة دراهم، لكنه صار في النصف الثاني من العهد الاموي مساوياً لاثني عشر درهماً، ثم ازداد في العصر العباسي وصار يساوي خمسة عشر أو اكثر[3]. وذكر المقريزي أنه في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي (ابو علي المنصور بن العزيز) تزايدت الدراهم وازداد سعر الدينار حتى أصبح يساوي أربعة وثلاثين درهماً[4].

مع هذا فإن ما ذُكر من تغير في العملة وقيمتها الشرائية لا يمكن مقارنته بالتضخم الحاصل في عصرنا الحالي. إذ أخذت الحركة الاقتصادية لبلدان العالم تطرأ عليها تغيرات ضخمة بين فينة واخرى، وأثّر هذا الحال على المستوى المعيشي للفرد، كما أثّر على المستوى الاقتصادي للدولة، إذ أخذ التغير يصيب القوة الشرائية للاوراق المالية أو النقد باضطراد في كثير من الاحيان، مما جعل اغلب البلدان تعاني من التدهور المستمر لهذه القوة.

وما يعنينا من هذا الأمر هو كيف يمكن التعامل مع القروض المالية، إذ ما يعطى من مال لأجل طويل الامد يسترد بقيمة تختلف في الغالب مع القيمة المعطاة، ففي مثل هذه الحالة نكون قد وقعنا بنوع من المقامرة والغرر، وغالباً ما يكون الدائن هو المصاب بالخسران. وعليه هل يصح وفاء الدين بالمثل، أي بنفس الكمية النقدية للمال ولو لم تساو شيئاً يذكر.. أو يقدر بقيمة ما يحمله من قوة شرائية عند ابتداء العقد؟

لنوجه هذا السؤال إلى طريقة الإجتهاد التقليدية لنتعرف على اجابتها ومبرراتها.

ما من شك ان هذه الطريقة تلتزم الموقف المعتاد في التعامل مع قضايا الأحكام من منطق الحرفية، ومن ذلك قضيتنا المطروحة حول القرض. فهي تعتبر التشريع الخاص به ثابتاً لا يقبل التبديل؛ لتُجنب حالها من السقوط في مستنقع الربا المنهي عنه شرعاً، حتى جاء عن النبي (ص) قوله: ‹‹كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا››[5]. لذا فإن الدائن لا يأخذ من المدين الا بقدر ما أدانه، وينطبق ذلك على العملات النقدية، رغم دوام ما تتعرض له من الخلخلة والهزات ضعفاً وقوة، ظناً من ان الزيادة الموهومة - أو النفع الموهوم - في الوفاء هي ربا.

فقد قال الإمام مالك كما في (المدونة): ‹‹كل شيء أعطيته إلى أجل فردّ اليك مثله وزيادة فهو ربا››. وجاء في (المدونة) ايضاً: ‹‹قلت: ارأيت إن اتيت إلى رجل فقلت له سلفني درهم فلوس ففعل، وفلوس يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم حالت الفلوس ورخصت حتى صارت مائتا فلس بدرهم؟ قال - أي مالك -: إنما يردّ مثل ما أخذ السعر فأشبه الحنطة ان رخصت أو غلت››.

وقال الدردير في الشرح الصغير لـ (بلغة السالك): ‹‹وإن بطلت معاملة من دنانير أو دراهم أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض أو بيع، وتغير التعامل بها بزيادة أو نقص، فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة››. وقال ايضاً: ‹‹وردّ المقترض مثله قدراً وصفة أو ردّ عينه اذا لم يتغير في ذاته عنده››. وقال الصاوي في شرحه لقول الدردير الأخير: ‹‹فالواجب قضاء المثل، أي لو كان مائة بدرهم ثم صارت ألفاً بدرهم أو بالعكس، وكذا لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صارت بمائة وسبعين وبالعكس، وكذا اذا كان الحبوب بمائة وعشرين ثم صار بمائتين أو بالعكس وهكذا››.

وقال الإمام الشافعي في كتاب (الأُم): ‹‹ومن سلّف فلوساً أو دراهم أو باع بها ثم ابطلها السلطان فليس له الا مثل فلوسه أو دراهمه التي اسلف أو باع بها››.

وقال الشيرازي في (المهذب): ‹‹ويجب على المستقرض ردّ المثل فيما له مثل، لأن مقتضى القرض ردّ المثل››.

وقال النووي في (روضة الطالبين): ‹‹ولو اقرضه نقداً فابطل السلطان المعاملة به فليس له الا النقد الذي اقرضه››.

وقال ابن قدامة في (المغني): ‹‹المستقرض يردّ المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله››.

وقال ابن قدامة ايضاً: ‹‹وإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً فاستقرض عدداً ردّ عدداً، وان استقرض وزناً ردّ وزناً››. وقال ايضاً: ‹‹المستقرض يردّ المثل من المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله.. وأما رخص السعر فلا يمنع ردّها سواء كان كثيراً؛ مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق، أو قليلاً لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فاشبه الحنطة إن رخصت أو غلت››.

وفي مجلة الأحكام الشرعية في الفقه الحنبلي جاء في المادة (750): ‹‹اذا كان القرض فلوساً أو دراهم مكسرة أو اوراقاً نقدية فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب ردّ مثلها››.

وقال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): ‹‹لا يجب في القرض الا ردّ المثل بلا زيادة››. وقال: ‹‹وليس له ان يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء، والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته››.

وقال ابن حزم في (المحلى): ‹‹ولا يجوز في القرض الا رد مثل ما اقترض لا من سوى نوعه اصلاً››. وهو قد اعتبر ذلك من الاجماع المقطوع به[6].

كما ذكر صاحب (الجواهر) من الإمامية أنه لو اقترض شخص دراهم ثم اسقطها السلطان وجاء بدراهم غيرها، فإن ما يلزم به المقترض إنما هو الدراهم الأولى الساقطة وليس الثانية. وهو في رأيه هذا يخالف ما ذكره الصدوق من ان الواجب على المقترض هو ما جاز التعامل به عند الناس[7]. وسبب الخلاف يعود إلى اختلاف الروايات المنقولة بهذا الصدد[8].

هذه جملة من نصوص الطريقة التقليدية نقلناها وهي تؤكد مبدأ المثل في الإقتراض، وكان الأولى الإلتزام بمبدأ التساوي في القيمة لا المثل، وفرق بين الامرين كبير.

ومن حيث الدقة؛ فإن مادة القرض تارة تكون استعمالية، وأخرى تبادلية سوقية. فاذا كان الغالب في المواد هو الاستعمال لا التبادل، أو ان المقرض اقرض مادة كان يتعامل معها معاملة استعمالية؛ فإن وفاء حق الدين يصح بارجاع المثل، سواء رخصت هذه المادة أم غلت، وذلك اعتماداً على مقدار القيمة التي تحققها المادة بالنسبة إلى مالكها، وهي قيمة تجد قدرها بما كانت عليه من وضع استعمالي وليس تبادلي. إذ الشيء المستعمل لا ينقص من قدره شيء اذا ما رُدّ مثيله، سواء رخص في السوق أم غلا.

لكن لو كانت المادة المقترضة تبادلية كما هو حال العملات، سيما الورقية منها، فإن قيمتها تتحدد بما يكشف عنه السوق باعتبارها تحمل القدرة الشرائية المفترضة، وهنا لا يصح الوفاء بالمثل، إذ لو غلت المادة فإن القيام بردّ المثل سيشكل ضرراً على المقترض، أما لو رخصت فإن الضرر سيلحق بالمقرض. في حين أن الحفاظ على رأس مال كلا الطرفين دون نقص ولا ضرر؛ يفرض علينا تعيين القيمة بما كانت عليه المادة وقت الإقتراض. فهذا هو العدل الذي تشهد له العقول والفطرة الإنسانية.

وكان يمكن ان نعذر الطريقة التقليدية في دفاعها عن مبدأ الرد بالمثل لو أنها اكتفت بالصيغ العامة دون الاشارة إلى الغلاء والرخص واسقاط العملة. لكن لمّا كانت صريحة وواعية لأمر ما يفرضه الزمان على تغير القوة الشرائية للنقد، لذا فهي غير معذورة بتجاهلها للمقصد الشرعي من المعاملة القرضية، تبعاً لما ألفته من الممارسة الحرفية للفهم والتفكير.

لا شك ان المعاملة بالمثل مبررة تماماً في مجتمع لم يشهد تحولات بارزة في القوة الشرائية للنقد[9]، وكذا القيمة التبادلية للمال، كما هو حال عصر النص. وبالتالي فهي تمثل عين العدل الذي هو الأصل في جميع العقود. لذلك نهى الشرع عن الربا لما فيه من الظلم، والله تعالى يقول: ((وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون)) البقرة/279، وهي الحكمة التي صرح بها فقهاء الإسلام من أمثال ابن تيمية وغيره[10]، أو كما ورد عن الإمامين الصادقين (الباقر والصادق ع) أن النهي عن الربا إنما ورد لئلا يذهب المعروف ويتمانع الناس[11]، حيث يزول التعاون وتنعدم الأخوة.

لكن هل ينطبق هذا الأمر على ما يحدث من تحولات لقيمة المال المتعامل به في القرض كما عليه الوضع في ايامنا هذه؟ فهل هناك زيادة وربا يتحقق فيه الظلم ويصدق معه أمثال الحديث النبوي: ‹‹كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا››؟ وذلك اذا ما غضضنا الطرف عن أن التعويل على حرفية هذا الحديث لا يتضارب مع مبدأ عدم المثلية؛ لكونه يشترط في الربا وجود المنفعة الزائدة، والحال أن المبدأ الآنف الذكر لا يفضي بالضرورة إلى هذه المنفعة، بل يصح أن يقال بأن العكس حاصل اليوم عند تطبيق مبدأ المثلية، وغالباً ما يكون النفع الزائد من نصيب المقترض على حساب المقرض.

ويلاحظ ان الأمور قد انقلبت رأساً على عقب. فاذا كان النفع والربا يحصل - غالباً - في المجتمعات القديمة، وعلى رأسها مجتمع عصر النص، لمجرد إشراط الزيادة عند استرداد القرض؛ فإن حال اليوم غير ذلك تماماً، حيث ينشأ في كثير من الاحيان نوع من الغرر والمقامرة لدى تطبيق مبدأ المثلية، مما يفضي إلى النفع (الربا) العائد إلى أحد الطرفين المتعاقدين، المقرض أو المقترض. فشتان بين اليوم والبارحة!

فالخلخلة والتغير الذي يطرأ على قيمة العملة النقدية، ومنه الهزات الفجائية العنيفة التي تفضي بها إلى الانهيار أو القفز غير المرتقب، يعمل على تحويل موضوع الحكم فيجعل العلاقة القائمة بين الدائن والمدين مما هي علاقة يفترض قيامها على العدل والانصاف إلى علاقة يسودها الظلم والإجحاف، لما فيها من غرر ومقامرة. أو هي إن صح التعبير عبارة عن نوع من الربا، سواء لصالح الدائن أو المدين. فليس كما يقال ان الربا حاصل في العدول عن تلك الصيغة باعتبار الزيادة المعطاة عند الوفاء وربما النقصان بحسب ما يقدّر من القيمة الشرائية، إذ الأمر واضح من ان الزيادة والنقيصة المقدرتين لم تؤثرا على حقيقة التعادل والتساوي فيما تحمله من القيمة النفعية التي تشكل ملاك النقد والغرض من المعاملة الاقتصادية، ومنها المعاملة القرضية. فلولا الاستنفاع ما كان للنقد قيمة، ولأصبح حاله حال العملات الساقطة غير المنتفع بها.

على هذا نعجب من الرأي الذي يذهب إلى وجوب استرداد النقد الساقط تبعاً لمبدأ المثلية اذا ما ذهبت منفعته عن الدائن عند السقوط بعد ان استوفى غرضها المدين، فيفضي ذلك إلى أشد حالات الاجحاف بحق الدائن، حيث ان استلامه للنقود الساقطة تعني استلام ما قيمته مهدورة ومنفعته زائلة، أي أنه لم يستلم في حقيقة الأمر شيئاً، وهو بخلاف ما قدمه للمقترض من قيمة نفعية، لهذا كان الاجحاف بليغاً. ولا يستبعد أن نجد وسط علماء عصرنا الحاضر من يستصحب هذا الرأي، بتقليد ما عليه الفقهاء القدماء، فيكون الأمر اعجب مما سبق، إذ أن سقوط العملة في الماضي لا يؤدي - عادة - إلى اهدار قيمتها كلياً طالما ان العملة الرئيسية كانت من الذهب والفضة، وهما معدنان لا يفقدان كامل قيمتهما، حيث ان لهما موارد الاستعمال مثلما يشكلان مادة للتبادل السوقي، لكن لا يشك بأن اسقاطهما لا بد وأن يؤثر على قيمتهما بالانتقاص، وبالتالي يعود الضرر على المقرض اذا ما تم ارجاعهما اليه. أما الحال في الوقت الحاضر فإنه يختلف من حيث ان اسقاط العملة يفضي إلى اهدار قيمتها كلياً.

والعبرة من تركيزنا على العملة الساقطة هو للكشف عن ان أصل القرض وحقيقته لا يمت إلى ذات العملة وما عسى ان تكون عليه، وانما يتعلق بمردودها النفعي المتعارف عليه. فالقرض ليس قرضاً للنقد ذاته، بل للمنفعة التي يستنفع بها تبعاً للعرف أو المرتكز العقلائي. وبذلك تكون المنفعة هي أصل العلاقة القرضية وإن لم يشترط بها في العقد، لكونها عرفية عقلائية لا تحتاج إلى مشارطة. فليست العملة في حد ذاتها ميزاناً مطلقاً لتقدير القيمة النفعية مادامت غير ثابتة ومستقرة، بل ميزان ذلك هو تقدير تلك القيمة زمن الاقتراض ومحل تعامل المقرض وتحويلها إلى ما يعادلها من نقد.

وأرى من التناقض السافر لأولئك الذين ميزوا بين الظرف الذي تتغير فيه القوة الشرائية للنقد أو المال، وبين الظرف الذي تسقط فيه العملة من قبل السلطان، فرضوا بمبدأ المثل في الظرف الأول دون الثاني، إذ تعاملوا مع هذا الأخير بردّ ما يعادل القيمة المستحقة تبعاً لسقوط القيمة من النقد كلياً. فالعجب من بعض المعاصرين ممن ذهبوا إلى مثل هذا الرأي رغم أنهم شهدوا الحالات التي تهبط فيها العملة إلى ما يقارب الصفر، فأي فرق في هذه الحالة بين العملة الساقطة وبين الظرف الذي تصل فيه العملة إلى إنهيار قيمتها لما يقارب الزوال التام؟!

افترض انك قبل التسعينات من القرن المنصرم اقترضت مبلغاً من احد الناس بقدر مائة دينار عراقي، على أن تردّه اليه في أواخر التسعينات، ثم حلّ اليوم الذي تفي فيه التزامك، وهو أن تعطيه المائة، لكن حيث أن العملة العراقية أصابها الإنهيار الشديد، ففي هذه الحالة تصبح كأنك اقترضت ما يمكن ان تنتفع به لشراء جهاز تلفاز أو معيشة أكثر من شهر أو استئجار شقة لشهرين، الا انك رددت إلى صاحب المال ما يمكن ان ينتفع به في ذلك الوقت لشراء رغيف خبز أو بيضتين فقط[12]. فأي فرق يظل بين هذه القيمة الإستردادية القريبة من اللاشيء، وبين ما لو اسقط السلطان هذه العملة فترد اليه ذات العملة الساقطة والتي لا تختلف كثيراً عن هبوطها المشار اليه.. فأي فرق جوهري ليعتبر بعض فقهاء عصرنا وجوب الرد بالمثل في الحالة الأولى الهابطة دون الثانية الساقطة بفعل السلطان؟!

فالعامل الذي يجمع ما بين العملة الساقطة والهابطة هو ان قيمتها الأصلية قد تغيرت، وهو ذات المشترك الذي ينطبق على تغير القيمة؛ كثيراً أو قليلاً، فجأة أو تدريجاً، زيادة أو نقيصة، فكلها تخضع إلى عامل مشترك لا يقبل التفكيك، وهو التغير في القيمة الشرائية أو النفعية.

وقد اخطأ الفقيه كاظم الحائري عندما اعتمد على حرفية الآية الكريمة ((وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون)) ليستنتج منها شرط توفر الاوصاف الذاتية في العملة والمثلية عند الوفاء. وكأنه بهذه الحرفية يضع للعملة قيمة ذاتية يدور عليها التعامل والتعاقد مثلما هو الحال في سائر المواد المنتفع بها، بعيداً عن المقاصد وعدم الالتفات إلى مضمون قوله تعالى في ذات الآية ((لا تظلمون ولا تُظلمون)). إذ لا يشك ان الظلم والضرر متحقق اليوم لا محالة لدى تطبيق مبدأ المثلية. والغريب ان فقيهنا المعاصر حينما تعرض لموضوع الغصب؛ استنتج منه ما هو خلاف استنتاجه في حالة القرض، مع ان المبررات التي وضعها كأدلة في موضوع الغصب هي ذاتها تنطبق على موضوع القرض بلا فرق. فهو يقول: ‹‹إن من غصب ألف دينار وبعد خمسين سنة تاب إلى الله وأراد ارجاع المبلغ بعد أن سقط الدينار سقوطاً فظيعاً خلال خمسين سنة نتيجة للتضخم المتزايد في البلاد، وجب عليه ارجاع ما يناسب هذا التضخم، ولا يكفيه ارجاع نفس المبلغ القديم، وذلك تداركاً للضرر الذي يحكم به الارتكاز العقلائي تمسكاً بقاعدة نفي الضرر››[13].

مع أن نفس هذا المقال يصدق على موضوع القرض، فيصح أن يقال بأن وفاء القرض ينبغي ان يحسب طبقاً لتساوي القيمة النفعية أو الشرائية ‹‹وذلك تداركاً للضرر الذي يحكم به الارتكاز العقلائي تمسكاً بقاعدة نفي الضرر››. وكذلك كي لا يكون عنواناً للغرر كما بينّا.

وحتى لو سلمنا جدلاً بأن الآية المذكورة ليست بصدد الواقع الخاص بالتنزيل والذي لم يشهد تحولات في تغير القيم النفعية للأموال مثلما عليه الحال في الوقت الحاضر، إذ لا ريب ان المخاطب الأصلي والمباشر هو ذلك المجتمع بمختلف ملابساته كما بينا ذلك في (جدلية الخطاب والواقع)، وحتى لو ابتعدنا عن حكم العقل الخاص بأن الوفاء بالمثل قد فقد موضوعه اليوم لكثير من الحالات تبعاً لما يجر اليه من الظلم والاجحاف بحق احد الطرفين، وكذا لو لم نستند إلى ما يفضي اليه مبدأ المثلية اليوم من المقامرة والغرر المنهي عنهما في الشريعة... فحتى لو أننا ابتعدنا عن كل ذلك واتجهنا إلى ذات الآية الكريمة موضع البحث وقريب عن الادوات الحرفية التي تمارس لفهمها؛ نجد أن آخر الآية يشير بالقول: ((لا تظلمون ولا تُظلمون)). ففي هذه الحالة إما ان نعتبر التطبيق الحرفي للآية في ردّ المثلية لا يؤدي إلى الظلم، وبذلك نكون قد عولنا على أمر يشهد الوجدان على بطلانه أحياناً، أو ان الغرض من الآية هو تحقيق العدل بردّ رؤوس الأموال بالطريقة التي لا تؤدي إلى الظلم، لكن دون أن تحدد طبيعة هذه الطريقة وما هو المقصود من رؤوس الأموال، هل هو النقد المتعارف عليه، أو قيمة هذا النقد؟ فإذا كنّا في تردد من ذلك تبعاً لذيل الاية، فإن من الطبيعي أن تكون معاملتنا مبنية على القصد المذكور في آخر الآية كموجه للفهم دون تجاوزه.

بل يشتد التناقض عندما لا يعول فقيهنا السابق على مبدأ استرداد ما يماثل العملة في حالة اسقاط السلطان لها، بدعوى ان رواج العملة هو ايضاً داخل ضمن الاوصاف الذاتية لها لا النسبية، حاله حال اللون والشكل وما إلى ذلك[14]. لكن الصحيح أنه حتى على فرض اعتبار الرواج من الصفات الذاتية بالمعنى الذي قصده، فلا يعني ذلك كل ما دخل هذه الصفات يصح اعتباره. فلو ان من صفات العملة المتداولة اللون الابيض، فلا يصح استنتاج أنه اذا تغير هذا اللون إلى لون آخر فإنه يفقد طبيعته التداولية وبالتالي يفقد الطبيعة الاستردادية بالمثل كما في القرض. إذ يتوقف رواج العملة على ما يعتبره العرف أو أصحاب القرار بغض النظر عن طبيعة ما تحمله العملة من صفات. بل كيف يقال هذا ونحن نعلم ان من الممكن ان تحمل العملة الساقطة صفات ذاتية تحقق مبدأ المثلية أكثر من الجديدة؟ وبالتالي كيف يصح العمل بالجديدة وهي تفتقد للكثير من الصفات التي تحملها العملة الساقطة؟ إذ من الممكن أن تتصف العملة الجديدة بصفات جد مغايرة لما كانت عليه العملة الساقطة، فما هو مبرر التعويل اذاً على العملة الجديدة في الاسترداد بالمثل؟! والاهم من كل ذلك ان قبول التعويض بالعملة الجديدة عوض الساقطة هو ضرب لمبدأ المثلية كلية، رغم أنه موضع النزاع. لهذا لا مبرر للتفكيك بين حالتي تدهور العملة واسقاطها؟ فإن قيل ان بالاسقاط يتحقق الضرر، وهو مبرر التعويض، قلنا كذلك الأمر يحدث في حالة تغير قيمتها الشرائية عند الارتفاع والهبوط.

وعلى العموم يلاحظ أننا بين أمرين: الأول هو ان نحافظ على حرفية الحكم المنصوص في ايفاء الدين، وبه نصطدم مع العدل الذي هو الأصل في العقود والغاية من المعاملات، بل ونعمل على سد باب الخير والمعروف، لأنه يدفع الناس على تجنب إقراض الغير خشية الوقوع في الضرر من النقيصة المستردة. أما الثاني فهو ان نعمل على تغيير الحكم استناداً إلى تغير موضوعه بما يتفق مع أصل العدل الذي قامت به السماوات والأرض، وأنه من اعظم المقاصد التي تتوخاها الشريعة، وان الخدش به يعني خدشاً بالعقل والشريعة على السواء.

ولقد صدق ابن القيم بتحكيم وجدانه في نظرته إلى العدل وطرقه التي لا تتقيد بقيود ولا تتنافى مع شرع، فحيثما تحقق وبأي طريق كان فإن ذلك لا يخرجه عن الدين ومقاصده. وعلى ما ذكره بأن الله اعدل من ‹‹ان يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو اظهر منها واقوى دلالة، وابين امارة. فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها. بل قد بيّن سبحانه بما شرعه من الطرق: ان مقصوده اقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط. فاي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له››[15]. كما قال: ‹‹إن الله ارسل رسوله وانزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فاذا ظهرت امارات الحق، وقامت أدلة العقل، واسفر صبحه باي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه ورضاه وامره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وادلته واماراته في نوع واحد وابطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وادل واظهر، بل بيّن بما شرعه من الطرق ان مقصوده اقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فاي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وانما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على اسبابها وامثالها، ولن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق الا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟››[16]. وعلى شاكلته صرح المرحوم مرتضى مطهري قائلاً: ‹‹اصل العدالة أنها من معايير الإسلام، بحيث يجب ان يلحظ ما يتطابق معها وما لا يتطابق. تقع العدالة في سياق سلسلة علل الأحكام، لا في سلسلة المعلولات، فليس ما يقوله الدين هو العدل، بل حيثما يكون العدل ينطق به الدين. وهذا هو معنى كون العدالة معياراً للدين››[17].

هكذا يتضح أنه ليس من العقل أو الشرع التضحية بمقصد ثابت هو من اعظم المقاصد واشملها قبال حكم جزئي اقل ما يقال فيه أنه من أحكام الوسيلة التي تتغير بحسب الوقائع والظروف. لذلك فمن واجب القوانين المدنية للدولة الإسلامية - وكذا الفقهاء - أن تراعي وضع التقديرات النسبية للقروض وفق معدلات التغير للقوة الشرائية للنقد؛ ضمن مدد مقدرة قابلة للتجديد بين زمن وآخر، كذلك وضع صيغ للحالات الإستثنائية الطارئة التي يصاب بها النقد بالهزّات الفجائية قفزاً وانهياراً، دفعاً للظلم والإجحاف.

 

المقدرات المالية والواقع 

وينطبق ما سبق عرضه في الفقرة السابقة على جميع المقدرات المالية كالدية ونصاب الزكاة والكفارات وما إلى ذلك مما قدّره الشرع، طالما ان قوتها الشرائية تتعرض إلى التغيير بفعل تغيرات الظروف والواقع، خلافاً للنهج الحرفي الماهوي الذي لجأت اليه الطريقة التقليدية، إذ حددت المقادير طبقاً للإعتبارات الحرفية التي وردت في نصوص الشرع، سواء بالإبل أو الأبقار أو الشياه أو الحلل - الثياب - أو الدنانير الذهبية أو الدراهم الفضية أو غيرها.

فمثلاً قُدّرت دية القتل بحسب ما جاء عن النبي (ص) بأنها مائة من الإبل أو ألف دينار من الذهب أو عشرة آلاف درهم من الفضة، أو ألف شاة أو مائتا بقرة أو مائتا حلة كل حلة ثوبان. وصرح النجفي من الإمامية أنه لم يجد على هذه المقادير خلافاً بين العلماء، بل عن كتاب (الغنية) ان الاجماع حاصل فيها[18]. كما قُدّر نصاب الزكاة عشرين دينار من الذهب أو مائتي درهم من الفضة أو خمساً من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسة أوسق من الزبيب أو التمر. وقد اعتبر الاستاذ عبد الوهاب خلاف ان التخيير الوارد في قيم الدية مبني على التقارب في قيمها، ثم قال: ‹‹ولا شك ان تساوي هذه المقادير أو تقاربها أمر زمني مراعى فيه حال البيئة وقت التشريع وخاضع لنظرية العرض والطلب››. وكذا الأمر مع قيم نصاب الزكاة[19].

والملاحظ ان القيم الشرائية لجميع هذه المقادير أصبحت عرضة للتغير والتحول؛ مقارنة مع ما كانت عليه في عصر النص. لذلك لا يعقل أن تسدَّد هذه المقادير اليوم بنفس ما هو مقدر حرفياً بالنص، طالما كانت قيمها النفعية متفاوتة بين العصرين.

فلو اتبعنا النهج الحرفي الماهوي كما سلكته الطريقة التقليدية؛ لوقعنا بمشكل المعارضة مع العدل والانصاف، مثل ما مرّ علينا في قضية القروض. فمثلاً قدّرت اللجنة المنتخبة من علماء المذاهب الأربعة، كما في كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) الذي اعتمدته وزارة الاوقاف المصرية، أن تضع للزكاة نصابين أحدهما مقدر بالذهب والآخر بالفضة، لكنها أفضت إلى جعل أحدهما يفوق الآخر بأكثر من ثلاث عشرة مرة حسب العملة المصرية، إذ يقدر الأول بـ (1187 ونصف القرش) والاخر بـ (529 وثلثي القرش)[20]، فهل يعقل أن يكون هناك نصابان متفاوتان إلى هذا الحد، واي منهما يقع تحت دائرة التكليف لدى المكلف؟! ناهيك عن ان هذا التقدير لم يضع لتغيرات القوة الشرائية - بين الماضي والحاضر - حساباً، ولم يراع حالة التقارب في الانصبة التي جعلها الشرع لغرض العدل والتيسير في مجتمع لم يشهد تحولات كبيرة في القيم الشرائية للأشياء.

وما زالت هذه المشكلة قائمة لدى الفقهاء المعاصرين، إذ كيف يمكن تحديد معيار متسق تقاس على ضوئه الأنصبة والمقادير الشرعية؟

فالكثير من العلماء المعاصرين يميلون في مجال أنصبة الزكاة الى التعويل على نصاب الفضة، سيما وهو أنفع للفقراء مقارنة مع الذهب، لكن في المقابل ذهب آخرون من امثال ابي زهرة وعبد الوهاب خلاف إلى ان النصاب يجب ان يسوى بالذهب، باعتبار ما جرى لقيمة الفضة الشرائية من تغيرات كبيرة عبر العصور، خلافاً للذهب الذي ظلت قيمته النقدية - كما يُدّعى - ثابتة إلى حد بعيد. وهو ما استحسنه القرضاوي شرط ثبات قيمة الذهب دون تغيرها[21].

ومن حيث التحقيق، يمكن القول أنه حتى لو سلمنا بأن القيمة الشرائية للذهب لم يطرأ عليها تغيير، رغم ان ذلك غير صحيح كما يلاحظ في عصرنا اليوم، فإن التسوية سوف لا تكون صحيحة وعادلة، وذلك اذا ما أخذنا بالاعتبار أن جعل الأنصبة بحسب الذهب أو غيره من المقادير إنما كان يناسب ما عليه الوضع المعيشي زمن عصر النص، وهو وضع يختلف عن وضعنا الراهن. ناهيك عن ان الوضع المعيشي في بلدان العالم الإسلامي اليوم يشهد تفاوتاً حاداً لا يمكن مقارنته مع ما كان عليه الحال في السابق.

وقد مال البعض إلى الابتعاد عن التقدير بالنقود باعتبارها معرضة للتغير سواء كانت فضة أم ذهباً، ومن ثم عوّل على قيمة ذاتية ثابتة نصّ عليها الشرع، رغم اختلاف قيمها النقدية من بلد لآخر، ومن عصر لآخر. فمما ذكره الشرع من نصاب هو ذلك المقدر بالإبل أو الغنم، إذ ورد في النص ان النصاب يتحقق في خمس من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسة اوسق من القمح، رغم ان النصاب الأخير يقل عن نصاب الأنعام ربما لبعض المقاصد الشرعية كما أشار إلى ذلك القرضاوي[22]. وذهب هذا الأخير إلى أن من الممكن وضع معيار ثابت ‹‹للنصاب النقدي، يلجأ اليه عند تغير القوة الشرائية للنقود تغيراً فاحشاً، يجحف بأرباب المال أو بالفقراء. وهذا المعيار هو ما يوازي متوسط نصف قيمة خمس من الإبل، أو أربعين من الغنم، في أوسط البلاد وأعدلها. وانما قلنا: أوسط البلاد وأعدلها: لأن بعض البلاد تندر فيها الثروة الحيوانية وتصبح اثمانها غالية جداً، وبعضها تكثر فيه وتصبح رخيصة جداً، فالوسط هو العدل، ولا بد ان يوكل هذا التقدير إلى أهل الرأي والخبرة››[23].

لكن الصحيح هو أن نعتبر الأمر رهناً بما يُقدّر من قيمة شرائية للانصبة وقت صدور التشريع، بمعنى أن تقدّر القيمة النفعية أو المعيشية للأنصبة آنذاك، باعتبارها تمثل قيماً حقيقية للناس في ذلك الوقت، ثم بعدها يُقدّر ما يقابلها من قيمة تقديرية اليوم. فعلى هذا المنطق لا يصح الحل القائم على معيار النقد، سواء كان بالذهب أو بالفضة. وكذا لا يصح الحل المستند إلى قيم الأشياء كما نصّ عليها الشرع، باعتبار أن قيمها الشرائية أو النفعية معرضة للتغير هي الأخرى. والمطلوب هو تحقيق ذات القدر من القيمة الحقيقية للمنفعة لدى من طُبق عليهم نص الخطاب، إذ  لم تفرض الأنصبة فرضاً معزولاً عن واقعهم الخاص، مما يعني أنه لا بد من أخذ اعتبار هذا الواقع، وذلك بتقدير الانصبة قياساً بقدرتها الشرائية أو المعيشية آنذاك، وتقدير هذا الأمر على واقع الناس كل بحسب بلده وزمانه.

وينطبق ذات الأمر على تقدير الديات، حيث يلاحظ أنه مقدر بحسب أحوال المعيشة آنذاك، فلا يصح المثول إلى منطق الحرفية، بل العدل ان تراعى قيمة ما تعادله الدية من قوة معيشية في ذلك الوقت لتقدّر على الوضع الحالي. وكذا يقال ذات الشيء في جميع ما ذكره الشرع من تقديرات.

وقريب من هذا المعنى ما سلكه الصحابة من النهج المقاصدي عند الطوارئ، ومنها تلك المتعلقة بتغير القوة الشرائية لبعض الأموال، كالذي حصل في عهد عمر بن الخطاب، إذ روي أنه تعامل مع مثل هذه الظروف بمنطق تحقيق المقصد الشرعي في تقييم المال بقيمته الأصلية أو ما يقرب منها قدر الامكان. فمن ذلك ما رواه ابو داود من أنه كانت قيمة الدية في عهد رسول الله (800) دينار أو (8000) درهم، حتى استخلف عمر فخطب في الناس وقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها على أهل الذهب، وهم أهل الشام (1000) دينار، وعلى أهل الوَرِق، وهم أهل العراق (12000) درهم[24]. كذلك أنه رفع دية الفضة في زمانه لما رخصت، ولم ينكر عليه احد من الصحابة[25]. ومثل ذلك ما أشار اليه الإمام علي في خلافته من لزوم تغيير ما فُرض من زكاة الفطر عندما رخص السعر، فقد كان الصحابة قبله يرون الزكاة في البر أو القمح نصف صاع، أما سائر مواد الزكاة فعليها صاع. لكن لما رخص السعر في خلافته فإنه جعل الزكاة صاعاً على جميع المواد، لذلك قال: ‹‹قد اوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء››. وفي حديث آخر قال علي: ‹‹أما اذا اوسع الله عليكم فاوسعوا، اجعلوه صاعاً من بُرّ وغيره››[26].

هكذا يلاحظ بأن الصحابة كانوا يدركون بأن العبرة ليست بالحرفية والالفاظ، بل بروح التشريع ومقاصده.

 



[1] اعلام الموقعين، ج2، ص7.

[2] الموافقات،ج4، ص174.

[3] محمد ضياء الدين الريس: الخراج في الدولة الإسلامية، مطبعة النهضة، الطبعة الاولى، 1957م.

[4] أحمد بن علي المقريزي: النقود الإسلامية (شذور العقود في ذكر النقود)، تحقيق واضافات محمد بحر العلوم، دار الزهراء، بيروت، الطبعة السادسة، 1408هـ ـ1988م، ص79.

[5] اعلام الموقعين، ج1، ص333. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج3، ص274.

[6] اعتمدنا على ما سبق من نصوص على: علي أحمد السالوس: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار، دار الثقافة بقطر ـ دار الاعتصام بمصر، 1990م، ص21-24.

[7] جواهر الكلام، ج25، ص66.

[8] فمن ذلك ما جاء عن يونس أنه قال: كتبت إلى الإمام الرضا (ع) بأن لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الايام، وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها، أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ فكتب الإمام الي: لك ان تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما اعطيته ما ينفق بين الناس (وسائل الشيعة، ج18، كتاب التجارة، باب حكم من كان له على غيره دراهم فسقطت، حديث1، ص206. وعلى هذه الشاكلة لاحظ: مستدرك الوسائل، ج13، نفس العنوان من الكتاب والباب، حديث1، ص353-354). وفي رواية معارضة عن يونس ايضاً أنه قال: كتبت إلى ابي الحسن الرضا (ع) أنه كان لي على رجل دراهم، وان السلطان اسقط تلك الدراهم، وجاءت دراهم أغلى من الدراهم الأولى، وهي اليوم وضيعة، فاي شيء لي عليه الأولى التي اسقطها السلطان، أو الدراهم التي اجازها السلطان؟ فكتب له الإمام: لك الدراهم الأولى (المصدر، حديث2، ص206). وعن الإمام الرضا سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم من رجل، وسقطت تلك الدراهم أو تغيرت، ولا يباع بها شيء: ألصاحب الدراهم الدراهم الأولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال: لصاحب الدراهم الدراهم الأولى (المصدر، حديث4، ص207).

فكما يلاحظ ان هناك شيئاً من التعارض الظاهر في الروايات المتعلقة بمشكل الدراهم الساقطة. حتى ان الشيخ الطوسي حاول علاج مثل هذا التعارض بالقول بأنه متى كان على المقترض دراهم بنقد معروف فليس له الا ذلك النقد، اما لو كان عليه دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فانما له الدراهم التي تجوز بين الناس (المصدر، ص207(.

[9] ورد العديد من الروايات والنصوص التي تبدي حالة التغير في اسعار المواد وكيفية التعامل معها منذ القرن الأول للهجرة - وقت الصحابة - وما بعده. ومن ذلك ما حصل في عهد الخليفتين عمر بن الخطاب (رض) وعلي بن أبي طالب (ع) كما سنرى. كما وردت نصوص عن أئمة أهل البيت تصب في هذا المجرى، ومن ذلك ما جاء عن محمد بن الحسن أنه كتب إلى الإمام أبي محمد (ع) يقول له: رجل استأجر اجيراً يعمل له بناءاً أو غيره وجعل يعطيه طعاماً وقطناً وغير ذلك، ثم تغير الطعام والقطن من سعره الذي كان اعطاه إلى نقصان أو زيادة، أيحتسب له بسعر يوم اعطاه، أو بسعر يوم حاسبه؟ فوقع (ع): يحتسب له بسعر يوم شارطه فيه ان شاء الله. وأجاب (ع) في المال يحل على الرجل فيعطي به طعاماً عند محله ولم يقاطعه ثم تغير السعر، فوقع (ع): له سعر يوم اعطاه الطعام (وسائل الشيعة، ج18، كتاب التجارة، باب حكم من اشترى طعاماً فتغير سعره، حديث4، ص85). وعن محمد بن الحسن ايضاً أنه قال: كتبت إلى الإمام (ع) في رجل كان له على رجل مال، فلما حل عليه المال اعطاه بها طعاماً أو قطناً أو زعفراناً، ولم يقاطعه على السعر، فلما كان بعد شهرين أو ثلاثة، ارتفع الطعام والزعفران والقطن أو نقص، بأي السعرين يحسبه؟ قال: لصاحب الدين سعر يومه الذي اعطاه وحلّ ماله عليه، أو السعر الذي بعد شهرين أو ثلاثة يوم حاسبه؟ فوقع (ع): ليس له الا على حسب سعر وقت ما دفع اليه الطعام ان شاء الله. قال: وكتبت اليه: الرجل استأجر اجيراً ليعمل له بناءاً أو غيره من الاعمال، وجعل يعطيه طعاماً أو قطعاً وغيرهما، ثم تغير الطعام والقطن عن سعره الذي كان اعطاه إلى نقصان أو زيادة، يحسب له بسعره يوم اعطاه أو بسعره يوم حاسبه؟ فوقع: يحسب له سعر يوم شارطه فيه ان شاء الله (المصدر، حديث5، ص85-86).

ويلاحظ ان مثل هذه النصوص تؤكد بأن مورد التعامل كان بحسب السعر المتعارف عليه عند الأداء، ولم يؤخذ باعتبار التغيرات الجزئية للمواد الاستهلاكية، ربما لكونها ليست في مقام المال المتداول.

[10] ابن تيمية: القياس، ضمن القياس في الشرع الإسلامي، مقدمة محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1375هـ، ص9.

[11] علل الشرائع، ج2، باب235، ص195. وتاريخ المذاهب الإسلامية، ص712.

[12] شبيه بهذا ما وقع معي في السابق، إذ كان لي صديق (رحمه الله) أقرضني مبلغاً قدره خمسمائة وعشرون ديناراً عراقياً سنة 1978م، وبحكم الظروف المانعة لم أسدد المبلغ المطلوب. ومعلوم ان العملة العراقية أصابها الهبوط والانهيار منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم، بسبب الحصار الاقتصادي الذي فُرض على العراق، حتى أصبح سعر الدولار الواحد يقدر بالفي دينار أو أكثر، في حين كان الدينار يساوي أكثر من ثلاثة دولارات. وعليه فهل من العدل أن أسدد الدائن وأسلمه خمسمائة دينار على حالها؟! وهل يعقل ان تكون المعاملة ربوية فيما لو طالبني الدائن لأسلمه ما يعادل القيمة الشرائية للمبلغ بحسب ما كانت عليه آنذاك وقت نفاذ القرض.. فأين العدل من هذين الأمرين؟!.

[13] كاظم الحائري: الاوراق المالية الاعتبارية (2)، مجلة رسالة الثقلين، عدد 9، قم، 1415هـ ـ 1994م، ص104.

[14] المصدر، ص105.

[15] الطرق الحكمية، ص16-17.

[16] اعلام الموقعين، ج4، ص373.

[17] عن: مهدي مهريزي: الفقه والزمان، قضايا اسلامية، عدد5، 1418هـ ـ1997م، ص276.

[18] جواهر الكلام، ج42، ص4. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج6، ص353. وانظر ايضاً: مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، ص163.

[19] مصادر التشريع الإسلامي، ص163.

[20] عبد الرحمن الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة، مكتبة ايشيق، استانبول، 1397هـ ـ1977م، ج2، ص601. ويوسف القرضاوي: فقه الزكاة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1397هـ ـ1977م، ج1، ص262.

[21] فقه الزكاة، ج1، ص263-264.

[22] فقه الزكاة ج1، ص266.

[23] فقه الزكاة، ج1، ص269.

[24] المنار، ج5، ص335. كذلك: السيد سابق: فقه السنة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1403هـ ـ 1983م، ج2، ص466. وأحكام القرآن، ج1، ص475.

[25] المختارات الجلية من المسائل الفقهية، ص163.

[26] ابن القيم: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1401هـ ـ 1981م، ج2، ص19-21. كذلك: فتح الباري، ج3، ص374. ونيل الاوطار، ج4، ص253.

comments powered by Disqus