-
ع
+

الواقع وشروط النظام السياسي الفقهي

يحيى محمد

للواقع أثر على تجريد فتاوى الفقهاء من شروطها، إما بتبيان عدم جدوى هذه الشروط، أو لكونها غير قابلة للتطبيق الدائم. ومن ذلك الفتوى التي تشترط الاعلمية في القضاء والتي تتعارض مع كثرة القضايا الحادثة، فكما يقول المحقق الخوئي: ان ‹‹اعتبار الاعلمية المطلقة في باب القضاء مقطوع العدم لإستحالة الرجوع في المرافعات الواقعة في ارجاء العالم ونقاطه - على كثرتها وتباعدها - إلى شخص واحد وهو الاعلم، كما ان التصدي للقضاء في تلك المرافعات الكثيرة أمر خارج على طوق البشر - عادة -››[1]  .

وكذا هو الحال مع الفتاوى التي تشترط وحدة النظام والنسب القرشي والعصمة في الحكم السياسي.

فمن المسلم به وجوب وحدة هذا النظام وعدم جواز تعدده في العصر الواحد[2] . مع ان التعدد كان قائماً منذ زمن بعيد، وهو أمر وإن أمكن تبريره بنفي شرعية الأنظمة السابقة؛ لأنها لا تتقيد بالشروط الإسلامية.. إلا أن قيام وحدة سياسية تجمع البلدان الإسلامية هو أمر مستبعد جداً، سيما في العصر الحديث، إذ أضحت المواطنة والإعتبارات القومية وسائر الخصوصيات الأخرى مانعاً كبيراً بوجه مثل هذه الوحدة، الأمر الذي اضطر بعض الحركات الإسلامية إلى تضييق هدفها وحصره ضمن الحدود القطرية باعتباره الأمر الممكن فعلاً. وكذا هو الحال مع دساتير البلدان التي استهدفت تطبيق الشريعة الإسلامية، إذ اضطرت هي الأخرى للتغلف بالخصوصيات الوطنية المستحدثة، عوضاً عن الاعتبارات الدينية القائمة على الشمول العقائدي.

وشبيه بذلك ما يتعلق بالشروط الأخرى لدى كل من الاتجاهين السني والشيعي. فقد عول أهل السنة على جملة شروط تخص الإمام أو الخليفة؛ أوصلها الماوردي إلى سبعة، هي: العدالة على شروطها الجامعة، والعلم المؤدي إلى الإجتهاد في النوازل والأحكام، وسلامة الحواس، وكذا سلامة الأعضاء من النقص، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، والشجاعة والنجدة عند الحاجة، والنسب القرشي[3].

وما يهمنا من هذه الشروط الأخير، إذ يعني أن النظام السياسي لا يتصف بأي صلاحية دينية من دونه. الأمر الذي ينال من شرعية بعض الحكومات التي سادت في العالم الإسلامي، كالخلافة العثمانية. لكن بغض النظر عن طبيعة هذه الخلافة ومدى صلاحيتها الدينية؛ يلاحظ ان الشرط المذكور يتصف بنوع من التعال، فمن المتعذر تطبيقه على مختلف حالات الواقع وتغايراته. وقد شكك به بعض القدماء، وحاول عدد منهم توجيهه، فيما نفاه آخرون.

فمع ما قيل من أن هذا الشرط يحظى بالنص والاجماع[4] ؛ الا ان عدداً من القدماء لم يعترف به، مثل الفضل الرقاشي وغيلان الدمشقي وابي شمر وجهم بن صفوان والخوارج وجمهور المعتزلة؛ وعلى رأسهم ضرار بن عمرو وابراهيم النظام وغيرهم[5] . كما أسقطه عدد آخر من العلماء، وعلى رأسهم الإمام الباقلاني مثلما جاء في (مقدمة) ابن خلدون، وان اعتبره في كتابه (الانصاف) شرطاً لازماً استناداً إلى قول النبي: (الائمة من قريش)[6]. وسلك تلميذه الجويني مسلك الشك من غير قطع، وقال في (الارشاد): ‹‹وهذا مما يخالف فيه بعض الناس، وللإحتمال فيه عندي مجال، والله اعلم بالصواب››[7]. فيما أيد ابن خلدون رأي الباقلاني في الإسقاط، وفسّر الشرط المذكور اجتماعياً، معتبراً أن النبي أوجب الأئمة من قريش لأنها تمتلك سلطة (العصبية)، لكن حيث أنها فقدت هذه السلطة بمرور الزمن؛ فلا معنى للحفاظ على الشرط. واعتبر هذه الحالة من الشواذ التي يكون فيها الأمر الشرعي مخالفاً للأمر الوجودي التكويني[8] .

وسُئل أبو بكر البلخي عن تأويل قول النبي: (الأئمة من قريش) فقال: ‹‹يعني اذا جُعل من قريش واتفقوا عليه. ولو أن الامة اتفقت على رجل من العجم وجعلوه أمير المؤمنين فلا نقول أن احكامه كلها تبطل، بل هي جائزة››[9].

وقد دار العديد من العلماء والمفكرين المحدثين حول الفلك الذي حدده ابن خلدون وما على شاكلته من توجيه، تبعاً لمنطق الواقع وما فرضه من مستجدات، فكان الغالب في اذهانهم هو ‹‹المكانة التي تتمتع بها قريش بين العرب عامة مما يسهل انقياد الناس لهم؛ لما لهم من الشرف والرياسة››[10] . ومن هؤلاء ولي الله الدهلوي في (حجة الله البالغة)[11] ، ومثله محمد رشيد رضا في (الخلافة). وكذا محمد يوسف موسى الذي استحسن تحليل ابن خلدون وعوّل عليه. وعلى نفس الشاكلة عبد الوهاب خلاف؛ حيث أيّد ما ذهب اليه ذلك التحليل[12] . واستفاد الريس من تحليل ابن خلدون فرأى على ضوئه لزوم ان يكون القائم بامور المسلمين متبوعاً من قبل غالبية الناس، ليكون مطاعاً مرضياً عنه ذا قوة مستمدة من الإرادة العامة، وهذا لا يتحقق الا بطريق الانتخاب والاختيار. فلم تعد العصبية القبلية أساس الإجتماع كما لدى ابن خلدون، بل الرابطة السياسية عبر اختيار أكثرية الأمة للإمام[13] .

في حين اعتبر ابو زهرة الأحاديث الواردة بشأن النسب القرشي ليس لها دلالة قاطعة صريحة، وعارضها بأحاديث أخرى مقابلة. وناقشه في ذلك محمد رأفت عثمان، إذ استدل على وجود الدلالة الصريحة في بعضها، مع وجود ما يعارضها، وانتهى إلى صحة الشرط ضمن قيد احراز سائر الشروط الأخرى، كالكفاءة. وعليه فقد أجاز تولية غير القرشي[14] . كذلك رأى محمد عبد القادر فارس أنه بحسب الأحاديث الصحيحة واجماع الصحابة لا بد من التعويل على النسب القرشي، بيد أنه اعتبره أحد المرجحات بين مرشحين أو أكثر للامامة، فلو استوفى القرشي سائر الشروط الأخرى لكان هو المرجح، والا قُدم غيره عليه[15] . مع ان هذا الرأي يظل في دائرة التنظير يصعب تحويله إلى أمر واقع، سيما في ظل الانتخابات العامة.

أما الدائرة الشيعية فيلاحظ أنها الأخرى قد بُليت بشرط آخر جعلها عاجزة عن التفاعل مع الواقع، إذ اعتبرت الخلافة مشروطة بالعصمة والتعيين الإلهي[16] . فلما كان المعصوم غائباً لأكثر من ألف سنة؛ فقد أمست الحكومة في التنظير الشيعي محرّمة ومعطلة طيلة هذه المدة. الأمر الذي اضطر عدداً من الفقهاء إلى البحث عن بدائل ممكنة تخرجهم عن تلك العزلة الطويلة. ومن ذلك فكرة ولاية الفقيه المطلقة التي نظّر لها الشيخ أحمد النراقي خلال القرن التاسع عشر[17] ، وتبناها الإمام الخميني[18] . ومثلها فكرة ولاية الأمة التي نظّر لها الشيخ النائيني أوائل القرن العشرين، فرغم اعترافه بأن هذه الولاية لا تخلو من غصب لحق الإمام المعصوم؛ الا أنه قَبِل ذلك تبعاً لقاعدة العمل بأهون الشرين، إذ بدونها يبقى الحكم بيد الظلمة من الملوك والرؤساء، فيكون الشر مضاعفاً.

هكذا يتبين لنا بأن للواقع قدرة على تغيير الشروط المناطة بالفتاوى.

 



[1] التنقيح، كتاب الإجتهاد، مصدر سابق، ص427.

[2] انظر: الأحكام السلطانية، ص9. والاشباه والنظائر، ص556.

[3] الأحكام السلطانية، ص6.

[4] الأحكام السلطانية، ص6.

[5] النوبختي: فرق الشيعة، ص9ـ10. وعبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتعريف حسين جمعة، دار دانية للنشر، الطبعة الاولى، 1990م، ص38 و51 و61.

[6] الانصاف، ص69.

[7] عن: محمد رأفت عثمان: رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، دار القلم، الامارات العربية، الطبعة الثانية، 1406هـ ـ1986م، ص195. كذلك: النظريات السياسية الإسلامية، ص233.

[8] مقدمة ابن خلدون، الفصل السادس والعشرون (في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه)، ص344ـ346.

[9] محمد عبد اللطيف المدرس: مشايخ بلخ من الحنفية، الدار العربية للطباعة، بغداد، ج2، ص807.

[10] رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، ص216.

[11] رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، ص217.

[12] محمد عبد القادر فارس: القاضي ابو يعلى الفراء وكتابه الأحكام السلطانية، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ ـ1983م، ص437.

[13] النظريات السياسية الإسلامية، ص234.

[14] رياسة الدولة الإسلامية في الفقه الإسلامي، ص221 و230.

[15] القاضي ابو يعلى الفراء وكتابه الأحكام السلطانية، ص437ـ439.

[16] انظر: المفيد: النكت الاعتقادية، طبعة طهران. ورسائل المرتضى، ج1، ص327ـ328. وتمهيد الاصول، ص353. وارشاد الطالبين، ص332.

[17] أحمد النراقي: عوائد الأيام، طبعة حجرية (لم يذكر عنها شيء)، ص185 وما بعدها.

[18] روح الله الموسوي الخميني: الحكومة الإسلامية، المكتبة الإسلامية الكبرى، إيران، ص56 وما بعدها.

comments powered by Disqus