-
ع
+

الواقع وأصناف الكشف عن حقيقة الفتوى

يحيى محمد

للواقع اعتبارات كثيرة في كشفه عن طبيعة الفتوى ومدى صدقها. فمن ذلك أن له أن يُبطل الفتوى التي يرد تعليلها بما يتنافى وحقائقه الخاصة. فمثلاً أنه يبطل فتوى كراهة التعامل مع بعض الأقوام، لأنها معللة بأنهم من الجن، والتي عمل بها العلماء استناداً إلى بعض الروايات، وعلى رأسهم الشيخ الصدوق. كما أنه يبطل الفتوى القائلة بأن في الخصية اليسرى ثلثي الدية، وفي اليمنى الثلث، لأن الولد يُخلق من اليسرى لا من اليمنى. حيث عمل البعض بهذه الفتوى طبقاً للرواية عن الإمام الصادق (ع)، كالشيخ الطوسي والعلامة الحلي وغيرهما، لكن البعض الآخر اهملها، وقال الشهيد الثاني: قد انكر ذلك بعض الاطباء[1].

كما أن له سعة في تقييد إطلاق الفتوى، مثل تلك التي تبيح للناس ان يكونوا مسلطين على أموالهم، والتي عمل بها اغلب فقهاء الإمامية استناداً إلى عدد من الروايات. فقد ذكر الشيخ الانصاري في (فرائد الاصول) بأن منع المالك من التصرف بأمواله لدفع ضرر الغير يعد حرجاً وضيقاً عليه، إما لحكومته ابتداءاً على نفي الضرر وإما لتعارضهما والرجوع إلى الأصل. وقال بهذا الصدد: ‹‹ولعل هذا أو بعضه منشأ اطلاق جماعة وتصريح آخرين بجواز تصرف المالك في ملكه وإن تضرر الجار.. بل حكي عن الشيخ - الطوسي - والحلبي وابن زهرة دعوى الوفاق عليه››. لكن بعض الفقهاء ناقش وعارض عموم التسلط لعموم نفي الضرر. فقال صاحب (كفاية الأحكام): ‹‹ويشكل جواز ذلك فيما اذا تضرر الجار تضرراً فاحشاً››. وقد رد عليه البعض بأن ما ذكره غير صحيح بعد اطباق الأصحاب نقلاً وتحصيلاً والخبر المعمول عليه بل المتواتر من ‹‹ان الناس مسلطون على أموالهم››. لكنه مع ذلك فصّل في حالات جواز التصرف وعدم التصرف، فإعتبر أنه اذا تصرف الشخص في ملكه من غير نفع مع اضرار الغير فإنه يمنع منه. كذلك لا يجوز إضرار الجار كثيراً بحيث لا يحتمل عادة، ويمنع المالك من التصرف بملكه حتى وإن كان له نفع في تصرفه[2].

كما بحث المفكر محمد باقر الصدر مسألة التعارض بين قاعدتي (لا ضرر ولا ضرار) والسلطنة الآنفة الذكر، فاعتبر الأخيرة ليس عليها دليل لفظي معتبر ليمكن التمسك بإطلاقه، وإنما هي قاعدة متصيدة من موارد مختلفة[3].

وحديثاً فُرضت بعض القيود على فتوى (الناس مسلطون على أموالهم). فمثلاً وضعت جمهورية ايران الإسلامية بعض الشروط التي تقيد تلك الفتوى؛ مراعاة لما قد يخلفه التصرف بالملكية من اضرار اجتماعية وبيئية. وقد نصت المادة الخمسون من الدستور على منع النشاطات الاقتصادية وغيرها التي تؤدي إلى تلوث البيئة أو تخريبها بشكل لا يمكن تعويضه[4].

وكذا هو الحال فيما جرى مع الفتوى التي تشجع على كثرة النسل طبقاً لبعض الأحاديث، منها ما روي عن الإمام الصادق (ع) عن النبي (ص) قوله: ‹‹أكثروا الولد أكاثر بكم الأُمم غداً››[5] . إذ تمسك الفقهاء من مختلف المذاهب الإسلامية بالاطلاق الذي يبديه الحديث النبوي طيلة قرون، وما زال الكثير منهم يتبع خطاه دون مراعاة للواقع، لكن جملة من التحولات اضطرت عدداً منهم - في كلا الساحتين السنية والشيعية - إلى وضع قيود لهذا الاطلاق تفادياً للاضرار الاجتماعية والاقتصادية.

كذلك فإن للواقع أثراً في الكشف عن المشاكل الاجتماعية التي تنجم عن الفتوى والحكم، مثل الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كما واجهها المقننون المحدثون، كتلك التي لها علاقة بالوصية والارث وأساليب الزواج والطلاق، مثل فتوى الطلاق بالثلاث في الجلسة الواحدة التي ذهب اليها جمهور فقهاء أهل السنة. وكذا السماح في الزواج المتعدد من غير قيود وشروط. ولعل الشيخ محمد عبده هو أول من اعترض على هذا الزواج صراحة؛ مشيراً إلى ما يترتب عليه من مشاكل ومآسي. ومثل ذلك تطبيق الحدود بلا قيود، لما قد تخلفه من آثار نفسية واجتماعية وخيمة، كالذي يحدث مع حد الرجم، مع أنه غير مجمع على اعتباره، إذ أبطله كل من الخوارج وبعض المعتزلة[6] ، منكرين ما دار حوله من روايات، بل ومستدلين بالقرآن على نفي اعتباره وأنه لا عقوبة في الزنا غير الجلد، فكما تقول الآية الكريمة: ((فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب)) النساء/25. ووردت الآية في الإماء وجاء فيها ذكر (أحصنّ) أي (تزوجن)، كما جاء فيها ذكر (المحصنات) أي المتزوجات. ومعنى النص هو أنه اذا تزوج الإماء فعليهن من العقاب نصف عقاب المتزوجات الحرائر عند الزنا. مما يعني أنه لا يمكن تنصيف عقوبة الرجم على فرض أنها تصدق على المتزوجات الحرائر، فالرجم شيء واحد كيف يقبل التنصيف[7] ؟!

أيضاً أن للواقع سعة في ترجيح الفتوى على نظيرتها بالإستناد إلى حجم الموافقة معه. ويحضرنا بهذا الصدد الخلاف الدائر حول ثبوت الولاية على تزويج البكر الصغيرة. إذ اختلف الشافعي مع ابي حنيفة في ذلك. فكان ابو حنيفة يقدر ان المصلحة من ثبوت الولاية هي لدفع الضرر عن القاصر عقلها، ومنشأ هذا القصور هو صغر السن. لهذا يقاس على البكر الصغيرة؛ الثيب الصغيرة لاتحاد المناط من مظنة القصور لصغر السن. لكن في القبال ذهب الشافعي إلى أن تقدير المصلحة في ثبوت ولاية التزويج على البكر الصغيرة هو لدفع الضرر عن الجاهلة بأمور الزوجية، وينشأ هذا الجهل بسبب البكارة أو عدم السابقة في الزواج. لهذا يقاس على البكر الصغيرة البكر الكبيرة ايضاً[8] .

ويلاحط ان الملاك الذي يتحرك من خلاله كل من ابي حنيفة والشافعي هو ملاك دفع الضرر الناشئ عن قصور الجهل فيما يتعلق بامور الزوجية. ومن حيث الواقع نرى ان تحقيق هذا الغرض يتم عبر الخبرة والممارسة الحياتية، سواء كانت هذه الخبرة مباشرة كما في فعلية الزواج، أو غير مباشرة بسبب بلوغ مرحلة الرشد والوعي. وبالتالي فمن حيث الواقع وتحقيق الملاك ان ما يقوله كل من ابي حنيفة والشافعي لا يخلو من صحة. ومن حيث المبدأ تكون الحاجة للولاية منحصرة في حالة البكر الصغيرة فحسب. أما الكبيرة فلا تحتاج لذلك خلافاً للشافعي، وربما الثيب الصغيرة لا تحتاج لتلك الولاية هي الأخرى خلافاً لابي حنيفة.

يضاف إلى أن للواقع قدرة على الكشف عن نسبية الفتوى وتبيان ظرفيتها الزمانية، كما في فتاوى عديدة؛ كالضعفية في القتال، والفتوى الخاصة بالعورات الثلاث، ووجوب اعداد رباط الخيل، وتقسيم الغنائم على المجاهدين، واحكام الرق والجزية، والمراهنة في السبق للصور الثلاث المعروفة، وحريم الأرض وصاع مصر وغيرها. ويدخل ضمن هذا الباب ما جاء حول العاقلة، إذ ذهب جمهور الفقهاء إلى ان العاقلة عبارة عن قرابة القاتل فقط. لكن فقهاء الحنفية ذهبوا إلى أنهم أهل الديوان، إن كان القاتل منهم، وهم الجيش والعسكر الذين كتبت اساميهم، أو من الرجال الاحرار المقاتلين، أي أهل الرايات والالوية، واستدلوا على ذلك بما فعله عمر بن الخطاب. أما لو لم يكن القاتل من اولئك فإن عاقلته هم قبيلته وأقاربه وكل ما يتناصر بهم. ويعد هذا الرأي ملائماً للأحوال تبعاً لتغير الظروف نسبياً. فعلى رأي الحنفية ان نظام العاقلة قد تطور من الاسرة إلى العشيرة فالقبيلة ثم إلى الديوان، ثم إلى الحرفة ثم إلى بيت المال.

مع ذلك فهناك من أنكر حكم العاقلة معتبراً ان دية القتل الخطأ واجبة في مال القاتل وحده، كالذي ينقل عن ابي بكر الاصم وابن علية واكثر الخوارج، وذلك اخذاً بعموم بعض الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)) الأنعام/164. لكن الفقهاء اعتبروا الأحاديث المتضمنة لحكم العاقلة مخصصة لعموم مثل هذه الآية لما في ذلك من المصلحة العامة في المساعدة والتعاون[9] . والملاحظ ان نظام العاقلة يقبل التغيير من حالة إلى أخرى مع حفظ المقصد في التعاون والتضامن، فهو وان انتفى - غالباً - من حيث اصله القائم على القبيلة، لكن مضمونه يتقبل الإحياء والدوام، طبقاً للمقاصد ووفاقاً مع طبيعة الواقع القائم.

كذلك فإن للواقع سعة في أن يتقدم على الحكم والفتوى. ويأتي هذا التقدم باعتبار ما له من إمكانية الكشف عن الحالات الموضوعية التي يناط بها الحكم أو الفتوى، عبر الفحص والاختبار. فهو من هذه الجهة مقدم على الاعتبارات الشرعية التي تتوسل بالطرق الظنية في الكشف عن تلك الحالات، كتقديمه في الاستهلال على البيانات الشرعية من الشهادة والرؤية وما اليها، وذلك إن كان قول الفلكيين دقيقاً مثلما ذهب اليه المرحوم محمد جواد مغنية[10] .

ومثله ما جاء في بعض الروايات المرسلة من أن إمرأة ادعت العنن على زوجها، وانكر ذلك، وفي الرواية يوصى بأن يقام الرجل في الماء البارد، فإن تقلص احليله حُكم بقوله، وان استرخى حُكم بقولها. وقد كان المحقق الحلي يرى ان مثل هذا الحكم ليس بشيء، ومثله العلامة الحلي[11] . وذكر الشهيد الثاني في (المسالك) بأن هذا الحكم كان لابن بابويه وابن حمزة، لكن المتأخرين انكروا ما يحصل من علامات التقلص والاسترخاء، لعدم الوثوق بالإنضباط وعدم الوقوف على مستند صالح. وهو وإن كان قول الاطباء وان كلامهم يثمر الظن الغالب بالصحة الا أنه ليس طريقاً شرعياً[12] .

مع هذا فسواء صحت الرواية أم لم تصح فمن الممكن اليوم التحقق من القضية بفضل الامكانات العلمية الحديثة، فيُحكم على ضوء نتائجها، ويقدم ذلك على البيان الشرعي الوارد في الرواية، ولا يلتفت إلى ما يقال بأن ذلك ليس طريقاً شرعياً، باعتباره يجعل من الشرع منافياً لحقيقة الواقع، مع أن كل ما ينافي الأخير يعتبر باطلاً.

ومثل ذلك الروايات المتعارضة التي تتحدث عن تحديد خروج الحيض والقرحة إن كان من الأيمن أو الأيسر[13]، حيث يقدم عليها ما يثبته علم الطب.

وعلى هذه الشاكلة يقدّم الواقع على الرأي الفقهي. فمثلاً في المسألة التي تقول أنه لو اختلف الزوجان في الدخول، فقالت الزوجة بالادخال، وانكر الزوج ذلك، لتثبت ان لها حق الامتناع عنه حتى تقبض معجل مهرها، وهو لكي يسقط عنه نصف المهر بالطلاق، وهي لتثبت المهر كاملاً ونفقة العدة[14] . فمع اختلاف الرأي بين الفقهاء في أي منهما يعول عليه؛ فإن للواقع اليوم ان يحسم القضية ليثبت صحة دعوى الدخول أو الانكار، وذلك عن طريق الفحص الطبي. وبذا يكون الواقع مقدماً على الرأي الفقهي. كما يقدم على الآراء الفقهية التي تحدد مدد الحمل عند الشك، فبعضها يرى ان اقصاه سنتين، واخر اربع سنين، وثالث خمس سنين، وهو أمر تترتب عليه العديد من الأحكام، لكن من حيث الفحص الطبي يمكن ان يُكشف عن الحمل أو المولود إن كان يعود إلى الزوج بعد الفراق أو لا؟

وكان من بين القوانين المدنية المعمول بها في مصر قانون رقم 25 لسنة 1929م، وهو يمنع سماع دعوى النسب لأي معتدة من وفاة أو طلاق، إن جاءت بالولد لأكثر من سنة شمسية (365 يوماً). وبني ذلك على تقرير الأطباء ان الولد لا يمكث في بطن امه أكثر من هذه المدة[15] .

يضاف إلى أن للواقع قدرة على التحقق من الحالات الموضوعية التي يشترطها الفقهاء للفتوى، إن كانت صادقة أم كاذبة، ومن ذلك اجراء الفحص على التقسيم الذي احدثه جماعة من فقهاء الإمامية حول التمايز في سن اليأس بين القرشيات والعاميات[16] . فما زال الفقه الإمامي يتبنى هذا التقسيم ويفرق جوهرياً في جانب من التركيب الطبيعي للخلقة بين المرأة القرشية والعامية، إذ يجعل من مدة اليأس لدى الأولى أطول من الأخرى بمقدار لا يزيد عن عشر سنين[17] . كما الحق المفيد بالقرشيات النبطية، وتبعه في ذلك جماعة من الفقهاء، لكن على حد قول الشهيد الثاني أنه ليس هناك خبر مسند لهذا الالحاق[18] .

ومع أن هذا الإعتقاد يعد غريباً باعتباره يضع فارقاً فريداً لنوع الجنس البشري تبعاً للنسب الديني أو العرقي؛ الا ان تاريخ الفقه يشهد غياباً تاماً لأي تحرٍّ قام به العلماء لفحص الواقع والتأكد من القضية إلى يومنا هذا. وربما يكون الفقيه المعاصر الخوانساري (المتوفى سنة 1405) الوحيد الذي شكك بهذا التمييز من حيث الواقع، إذ اعتبر امزجة القرشيات مقاربة لأمزجة غيرهن، سيما في الأزمان المتأخرة[19] . لكن في جميع الأحوال أن من السهل القيام بمسح اجتماعي وإختبار عينة مختلطة من العاميات والقرشيات؛ ليتبين إن كان هناك فارق ملحوظ فيثبّت في كتب الفقه، أم لم يكن فيزال منها بتسقيط الروايات التي يرتكز عليها الإعتقاد المذكور؟

وشبيه بذلك ما زعمه الماوردي بوجود ‹‹الولادة بلا دم في نساء الأكراد كثيراً››[20]. وهو زعم يقبل الفحص والاختبار، إذ قد تكون أسباب ذلك - لو صح الزعم - راجعة للظروف الطبيعية من العيش في الجبال، أو غيره من الأسباب، خلافاً للتمييز الحاصل بين القرشيات وغيرهن، إذ من الصعب تفسيره - على فرض صحته - طبقاً للأسباب والظروف الطبيعية.

كذلك فإن للواقع أثراً على منع وتنفيذ بعض الفتاوى المعارضة، مثل فتاوى الفقهاء الخاصة بالتعامل مع الأرض المفتوحة عنوة. فهذه الفتاوى على اختلافها أصبحت غير مقبولة لاصطدامها بمنطق الواقع. ورغم اختلاف آراء المذاهب الإسلامية حول ذلك، الا أنها جميعاً لم تعطِ ثمرة مفيدة. فسواء اخذنا بالرأي الذي يقول بتقسيم الأرض بعد التخميس على الجيش الفاتح، حالها حال الغنائم المنقولة، كما ذهب اليه الإجتهاد الشافعي.. أو بالرأي الذي يرى جعلها وقفاً حبيساً على جميع المسلمين فتوضع ثمرتها في بيت المال وتصرف على مصالحهم وحاجاتهم العامة، كما ذهب اليه الإجتهاد المالكي.. أو بالمذهب الذي يُعيد أمرها إلى نظر الإمام وتقديره بحسب ما يرى من الحاجة والمصلحة، فإن شاء عزل منها الخمس أو أكثر لبيت المال وقسّم الباقي على الفاتحين كما فعل النبي (ص) بأرض خيبر، وان شاء ترك الأرضين لأهلها وطرح عليها ضريبة الخراج كما فعل عمر بن الخطاب بالسواد، وهو الذي آل اليه ابو عبيد والإجتهاد الحنفي واكثر الكوفيين[21].. أو بالرأي الذي يعتبر ارض العنوة مما يجوز اجارتها بالاجماع، والساكن منها تحل فيه لاصحابها، ويمنع بيع مزارعها، كما هو قول ابن تيمية[22] .. أو بالرأي الذي يراها للمسلمين قاطبة لا يملك احد رقبتها ولا يصح بيعها ولا رهنها ولا توقيفها ولا توريثها، ولو ماتت لم يصح احياؤها لأن المالك لها معروف وهو المسلمون قاطبة، وما كان منها مواتاً في وقت الفتح فهو للامام، واليه ذهب الإماميون مستدلين برواية عن الإمام الصادق (ع) يقول فيها: ‹‹ومن يبيع ارض الخراج وهي ملك لجميع المسلمين؟››[23] . فسواء أخذنا بهذا الرأي أو بغيره من الآراء التي عرضناها للمذاهب الإسلامية؛ نجد أنها ساقطة - جميعاً - وفقاً لموازين تطور الواقع واعتباراته الحديثة. فالاحكام في واد، والواقع في واد آخر لا يلتقيان. لذلك عدّ الشيخ محمد جواد مغنية الفتوى القائلة بعدم جواز بيع الأرض المفتوحة عنوة بأنها فتوى نظرية تبريرية بعيدة عن الواقع، معلقاً على ذلك بقوله: ‹‹لا اعرف احداً عمل بها، فإن الناس، كل الناس، حتى الفقهاء يعاملون صاحب اليد على الأرض الخراجية معاملة المالك من البيع والشراء والوقف والتوريث وما إلى ذلك.. ويوجهون أو يؤولون اعمالهم بتأويلات لا تركن اليها النفس، منها ان لصاحب اليد نحواً من الحق والاختصاص، فينتقل هذا الحق منه إلى غيره دون رقبة الأرض وعينها، ومنها ان الأصل في الأرض ان تكون الموات، حتى يثبت العكس›› [24].

كما أن للبعد التاريخي دوراً في الكشف عن حقيقة الفتوى، ومن ذلك ما جاء حول مسألة نجاسة المتنجس أو طهارته، فهناك ثلاثة مواقف للفقهاء الشيعة: الأول افتى بتنجيسه، واليه يشار بقول الإمام المعصوم: ‹‹يغسل كل ما اصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة››. والثاني افتى بالطهارة وعدم التنجيس، وفيه قال السيد الخوئي في (التنقيح): ‹‹ذهب الحلي ونظراؤه إلى عدم تنجيس المتنجسات، بل ظاهر كلامه ان عدم التنجيس كان من الأمور المسلمة في ذلك.. أما العلماء المتقدمون فلم يتعرضوا لهذه المسألة اطلاقاً.. ومعه كيف يدعى الاجماع على تنجيس المتنجسات؟››[25]. ثم أردف قائلاً: إن الآغا رضا الأصفهاني قال: ‹‹والحكم بالتنجيس إحداث الخلف ولم نجد قائله من السلف››. أما الموقف الثالث فسكت عن هذه المسألة، ومال إلى ذلك الشيخ محمد جواد مغنية[26].

وبحسب الواقع ان أرجح هذه الآراء هو الموقف الثاني. إذ لو صح الموقف الأول لتصورنا مدى العسر الشديد الذي كان يعانيه الناس في عصر النص وما تلاه من عصور حتى زمن الاصلاحات الحديثة. فغالباً ما كانت أُسر العوائل كبيرة تبتلى بيوتها بكثرة النجاسة، وتشتد حاجتها للتطهير لكثرة النسل وقلة الموانع آنذاك، مع الأخذ بالاعتبار بساطة البيوت وتواضعها، وقلة الماء وبعد منابعه. الأمر الذي يجعل من التطهير عملية شاقة لا تتسق ومقصود الشرع.

وذات النتيجة نصلها من الناحية التاريخية الصرفة، إذ يصعب تصور ان المسلمين كانوا يعانون العسر من الحكم السابق ومع هذا لم يصلنا شيء يُذكر عن هذه المعاناة. فشدة الابتلاء وعمومه على المسلمين تدعو إلى عموم التساؤل والشكوى، مع أنه لم يردنا شيء من ذلك، مما يدل على انتفاء هذه المعاناة والحكم الذي يسببها.

وعلى هذه الشاكلة أثار السيد محمد رشيد رضا بحثاً حول نجاسة المشرك كما في قوله تعالى: ((إنما المشركون نجس)) التوبة/28، حيث رجح باعتبارات الواقع التاريخي، فضلاً عن الاعتبارات اللغوية والنقلية، أن هذه النجاسة ليست مادية[27].  ومن ذلك قوله: ‹‹من المعلوم القطعي لكل مطلع على السيرة النبوية وتاريخ ظهور الإسلام بالضرورة أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم ولا سيما بعد صلح الحديبية.. وكانت رسلهم ووفودهم ترد على النبي (ص) ويدخلون مسجده، وكذلك أهل الكتاب كنصارى نجران واليهود، ولم يعامل أحد أحداً منهم معاملة الأنجاس، ولم يأمر بغسل شيء مما أصابته أبدانهم، بل روي عنه ما يدل على خلاف ذلك مما احتج به الجمهور على طهارة أبدانهم من الأحاديث الصحيحة، ومنها أنه (ص) توضأ من مزادة مشركة، وأكل من طعام اليهود، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد، ومنها إطعامه هو وأصحابه للوفد من الكفار ولم يأمر (ص) بغسل الأواني التي كانوا يأكلون ويشربون فيها››[28].

ومثل ذلك ما قدّره المفكر الصدر، إذ نصّ على ‹‹أن إبتلاء المسلمين بالتعايش مع أصناف من الكفار في المدينة وغيرها على عهد النبي (ص) كان على نطاق واسع، واختلاطهم مع المشركين كان شديداً جداً، خصوصاً بعد صلح الحديبية، ووجود العلائق الرحمية وغيرها بينهم، فلو كانت نجاستهم مقررة في عصر النبوة لإنعكس ذلك وانتشر وأصبح من الواضحات، ولسمعت من النبي (ص) توضيحات كثيرة بهذا الشأن، كما هو الحال في كل مسألة تدخل في محل الإبتلاء إلى هذه الدرجة. ولا توجد في مثل هذه المسألة دواعي الإخفاء››[29].

وقد كرر هذا المعنى السيد محمد حسين فضل الله في بحث له حول الموضوع ذاته، حيث رجح بنفس الاعتبارات من الواقع التاريخي ان نجاسة المشرك ليست مادية، إذ استبعد ان تكون كذلك دون ان يرافقها حالة وجدانية لدى المسلمين تنعكس على طبيعة تعاملاتهم وتساؤلاتهم في الوقت الذي كانوا في خلطة قوية مع المشركين، بفعل السبي والأسر والملكية. وبالتالي كيف لم يصلنا ذكر شيء من تلك الحالة وما يعقبها من التساؤلات باعتبارها مورد ابتلاء للمسلمين كافة؟ إذ ما ورد عن ذلك إنما جاء متأخراً على لسان الأئمة ولسان المجتهدين المتأخرين[30].

 

 

 



[1] انظر: زين الدين العاملي: شرح اللمعة، ج10، ص237. ومسالك الافهام، ج15، ص436. والهندي: كشف اللثام، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم، الطبعة الاولى، 1416هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج2، ص508. وجواهر الكلام، ج43، ص271. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج6، ص367.

[2] فرائد الاصول، ج2، ص538ـ539.

[3] محمد باقر الصدر: لا ضرر ولا ضرار، ص345ـ346، و383 وما بعدها.

[4] دستور الجمهورية الإسلامية في ايران، المادة الخمسون، ص40.

[5] وسائل الشيعة، ج12، كتاب النكاح، باب استحباب الاستيلاد وتكثير الاولاد، حديث8، ص357. ومثله حديث14، ص358.

[6] وأضاف الشيخ ابو زهرة إلى هؤلاء بعضاً من الشيعة. مع أنه اذا كان المقصود من ذلك الإمامية الاثنى عشرية؛ فهو على خلاف أقوالهم الدالة على وجود الاجماع، ومن ذلك ما قرره الشيخ الطوسي في (المبسوط، ج28، ص2) بأنه لا خلاف عليه، ومثله ما قاله ابن ادريس في (السرائر، ج3، ص441)، وكذا العلامة الحلي في (مختلف الشيعة، ج9، ص132)، وصرح الشيخ محمد حسن النجفي بقوله: لا خلاف أجده، بل عليه الاجماع بقسميه (الكلبايكاني: الدر المنضود، تقرير ابحاث الكلبايكاني، تحرير علي الكريمي الجهرمي، دار القرآن الكريم، الطبعة الاولى، 1412هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص279). وعلى ما يبدو أنه قصد بعض الشيعة الاسماعيلية.

[7] انظر: ابو زهرة: العقوبة، دار الفكر العربي، ص102 وما بعدها.

[8] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص27.

[9] نيل الاوطار، ج7، ص243. والفقه الإسلامي وادلته، ج6، ص322ـ326.

[10] فقه الإمام جعفر الصادق، ج2، ص49.

[11] شرائع الإسلام، ج2، ص543. وتحرير الأحكام، ج3، ص519.

[12] مسالك الافهام، ج8، ص131. وقد كرر النجفي ما قاله قبله الشهيد الثاني كما في ( جواهر الكلام، المعجم الفقهي، ج30، ص353). وانظر ايضاً: الحدائق الناضرة، ج24، ص383. ومحمد العاملي: نهاية المرام، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الاولى، قم، 1413هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص344. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج6، ص137.

[13] وحيد الدين البهبهاني: رسالة الإجتهاد والاخبار، وهي ملحقة خلف عدة الأصول للشيخ الطوسي مع حاشية في الأخير، طبعة حجرية، مطبعة ميرزا حبيب الله، دار الخلافة بطهران، 1317هـ، ص13.

[14] الفقه على المذاهب الخمسة، ص352-353.

[15] ابو زهرة: الأحوال الشخصية، الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثالثة ، ص392.

[16] توجد ثلاثة أقوال حول المسألة بحسب ما جاء في الروايات، إذ قيل ان سن اليأس يحصل ببلوغ ستين سنة مطلقاً، وقيل ان ذلك يتحقق في القرشية، وألحق البعض بها النبطية، اما العامية فيتحقق ببلوغ خمسين سنة، كما قيل أنه يتحقق مطلقاً ببلوغ الخمسين (جامع المدارك، ج1، ص80). والمعول عليه لدى اغلب الفقهاء هو الرأي القائل ببلوغ القرشيات سن الستين والعاميات سن الخمسين، اعتماداً على رواية مرسلة بهذا الخصوص.

[17] انظر حول ذلك المصادر التالية: المحقق الحلي: المعتبر، مصدر سابق، ج1، ص199. والعلامة الحلي: منتهى المطلب، ج1، ص96. وتذكرة الفقهاء، ج1، ص26. ونهاية الأحكام، تحقيق مهدي رجائي، مؤسسة اسماعيليان، قم، الطبعة الثانية، 1410هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص117. وابن فهد الحلي: المهذب البارع، ج3، ص491. والاردبيلي: مجمع الفائدة، ج1، ص144. وكشف اللثام، ج1، ص87. والحدائق الناضرة، ج3، ص172ـ173. ورياض المسائل، ج11، ص124ـ125. والخوئي: كتاب الطهارة، ج6، ص89ـ90.

[18] زين الدين العاملي: روض الجنان، مؤسسة آل البيت، طبعة حجرية، 1404هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ص62. ومسالك الافهام، ج1، ص58.

[19] وقد ناقش ايضاً حول الرواية المرسلة المعتمد عليها في التمييز، وهي مرسلة ابن ابي عمير الذي روى عن الصادق قوله: ‹‹اذا بلغت المرأة خمسين سنة لم ترَ حمرة الا ان يكون امرأة من قريش››. إذ اعتبر ان في النص قول الإمام (لم ترَ حمرة) وهو غير التعبير بعدم الحيض. كما اعتبر الإعتماد على هذه الرواية وتقييد غيرها من الروايات في الموضوع؛ لا يلغي التعارض بين الطرفين، إذ جاء في الروايات الأخرى كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق قوله: ‹‹حد التي قد يئست من المحيض خمسون سنة››، وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق موثقة أو حسنة، قال فيها: ان المرأة ‹‹اذا بلغت ستين سنة فقد يئست من المحيض›› (جامع المدارك، ج1، ص80ـ81).

[20] محيي الدين النووي: المجموع في شرح المهذب، دار الفكر، المعجم الفقهي الالكتروني، ج2، ص150.

[21] الزرقاء: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج1، ص175-176. وابن سلام: الأموال، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، الطبعة الاولى، 1981م، ص31. وابن رشد (الجد): البيان والتحصيل، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1404هـ ـ1984م، ج17، ص514.

[22] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج29، ص211.

[23] شرائع الإسلام، مصدر سابق، ج3، ص271-272. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج5، ص44. وحسين علي منتظري: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، نشر المركز العالمي للدراسات الإسلامية، إيران، الطبعة الثانية، 1409هـ، ج3، ص190-191.

[24] فقه الإمام جعفر الصادق، ج5، ص44-45.

[25] رأى الفقيه المعاصر المرحوم السبزواري أن سكوت القدماء عن بحث مسألة المتنجس يعود إلى أنهم لم يفرقوا بينها وبين النجاسات العينية في الحكم، كما يظهر لدى المتشرعة، مما جعله يؤيد الاجماع على نجاسته، وكما قال: ‹‹الأقوى أن المتنجس منجس كالنجس››، ثم علق على ذلك معتبراً ان الحكم السابق جاء وفاقاً للمشهور ‹‹بل المجمع كما ادعاه جمع كثير، واجماع المسلمين، بل الضرورة كما في المستند والجواهر، وتقتضيه مرتكزات المتشرعة ايضاً، ولعل عدم تعرض الطبقة الأولى له كان لاجل اكتفائهم ببيان أحكام النجس عنه، لأنه كان كعين النجس لديهم، كما هو كذلك لدى المتشرعة فلا يفرقون بين الدم والمتنجس به في الاحكام. والمناقشة في مثل هذا الاجماع بانه إجتهادي، وليس بتعبدي›› (المهذب، مؤسسة المنار، ج1، ص448).

[26] فقه الإمام جعفر الصادق، ج1، ص42ـ43.

[27] نقل رشيد رضا ما قاله الراغب الأصفهاني، وهو أن النجاسة هي القذارة، وهي ضربان: ضرب يدرك بالحاسة، وضرب يدرك بالبصيرة. والثاني مثلما وصف الله المشركين فقال: ((إنما المشركون نجس)). ويقال نجسه اذا جعله نجساً، ونجسه أيضاً: أزال نجسه، ومنه تنجيس العرب، وهو شيء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبي ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان، والناجس والنجيس: داء خبيث لا دواء له (الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، دار القلم، دمشق، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج2، مادة نجس). ونقل قول البعض: ومن المجاز: الناس أجناس، وأكثرهم أنجاس، ونجسته الذنوب، وتقول: لا ترى أنجس من الكافر، ولا أنجس من الفاجر. ثم ذكر يقول: ‹‹هذا هو الحق الظاهر، وما أفك عنه من أفك الا بتحكيم الاصطلاحات الفقهية وغيرها في استعمال اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن، ومن الغريب أخذ الرازي الشافعي المذهب بالقول الشاذ المخالف للحس واستعمال اللغة في نجاسة المشركين بعد بيان الشافعي العربي وأصحابه لبطلانه، وقد اتبعه الآلوسي في ذلك على سعة اطلاعه في الفقه واللغة، وكان شافعياً ثم صار مفتياً للحنفية. وما أطلت في هذا البحث اللغوي الا لتفنيد رأيهما حتى لا يغتر به أحد في هذا العصر الذي صار فيه الكثيرون من الشعوب غير الإسلامية أشد عناية من المسلمين بالنظافة التي جعلها المقلدون أحكاماً تعبدية يكابرون فيها الحس واللغة والقياس وحكمة الشارع، ويوقعون مقلديهم في أشد الحرج في السفر وفي عداوة البشر.. وقد اتبع القائلون به سنن بعض وثني الهند وبعض متعصبي النصارى الذين يعدون كل من لم يعتمد نجساً››. في حين على حد قوله: إن معنى النجس في عرف الفقهاء هو ما يجب التطهير لما يصيبه، سواء كان قذراً في الحس كالبول والغائط، أم لا كالخمر والخنزير والكلب عند من يقول بنجاسة أعيانها وهم الأكثرون. ومن ثم قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل. وحكي هذا القول عن ابن عباس والحسن البصري ومالك وعن الهادي والقاسم والناصر من أئمة العترة، وهو مذهب جمهور الظاهرية والشيعة الإمامية. وجمهور السلف والخلف على خلافه ومنهم أهل المذاهب الأربعة (تفسير المنار، ج10، ص272ـ275).

[28] تفسير المنار، ج10، ص273.

[29] محمد باقر الصدر: بحوث في شرح العروة الوثقى، مصدر سابق، ص242.

[30] حوار مع السيد محمد حسين فضل الله، مجلة قضايا اسلامية، عدد4، ص137.


comments powered by Disqus