-
ع
+

المصلحة وشرعيتها الفقهية

يحيى محمد

اول ما يتبادر من سؤال بهذا الصدد كالتالي:

ما هو الدليل على شرعية وجوب العمل بالمصلحة؟ فمن المعلوم ان بعض المذاهب الإسلامية وعلى رأسها الشافعية رفضت الأخذ بالمصلحة لعدم الدليل الشرعي عليها. فالشافعي ينفيها من حيث أنها إحداث حكم لا على مثال سبق مثلما هو الحال في القياس[1]. وكذا الآمدي من الشافعية منع الأخذ بها تعويلاً على كونها مترددة بين ان تكون معتبرة أو ملغاة، أو أنها ليست معروفة شرعاً من حيث اعتبارها والغائها[2]. وزاد البعض شبهة كون العقل يغلب عليه الهوى وتخفى عليه بعض وجوه الضرر والفساد[3]، الأمر الذي يجعلها غير منضبطة، بخلاف الحال مع القياس - مثلاً - حيث مرده إلى فهم النص لا العقل المستقل. وقد سبق ان عرّض البعضُ ابا حنيفة واصحابه للطعن لتمسكهم بمبدأ الإستحسان بحجة أنه فاقد للضابط، كما نقل ذلك البزدوي صاحب (كشف الاسرار)[4].

وفعلاً ان هذا المبرر يلقى مصداقية كبيرة في واقع التشريع بسبب التوظيف الذي مارسته السياسة الحاكمة لتوجيه الآراء الفقهية لصالحها. فلعدم وجود الضابط مع كثرة الاهواء، سيما هوى السياسة، فإن الكثير أخذوا يستحسنون ويستصلحون لأدنى مبرر ومناسبة. وسبق للقرافي أن كشف عن سبب عزوف العلماء عن استثمار مبدأ المصالح المرسلة وتوظيفها، معطياً للجانب السياسي مركز الصدارة في ابتعاد الفقهاء الورعين عن ممارسة هذا المبدأ الفقهي، وذلك - كما يقول القرافي - بسبب خوفهم (من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لإتباع أهوائهم وارضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم، فرأوا ان يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس ولم ينوطوها بإجتهاد الأمراء والحكام)[5]. وعلى هذه الشاكلة اضطر ابن تيمية إلى ان يبتعد عن العمل بهذا المبدأ لإرتكاز أهل الأهواء عليه[6].

مع ذلك فواقع الأمر ان نفس هذا الإشكال ينطبق على القياس ايضاً، حيث ظهرت الكثير من القياسات التي لا تنسجم مع المبدأ المقرر له، حتى ذكر ابن القيم في كتابه (اعلام الموقعين) حالات كثيرة من القياسات غير المنضبطة بالضابط الشرعي، بل جاءت متناقضة ومخالفة لنصوص الإسلام ومبادئه، وبلغت الصفحات التي سوّدها هذا الفقيه لبيان هذه القياسات غير المنضبطة ما يقارب الأربعين صفحة[7]. وكذا ما ذكر من أمثلة لإجتهادات فقهية كثيرة العدد تقارب الستين شاهداً؛ تعدل عما جاء من نصوص شرعية وتردها[8].

لهذا كان نفاة القياس والإستصلاح والإستحسان يكررون ذات العلة من تلك الشبهة.. فقد كان داود الظاهري من العاملين بالقياس في أول أمره، خاصة وقد تتلمذ على يد الشافعي، الا أنه عدل عن ذلك بعد ان رأى توسعه بغير ضوابط وحدود. وقد قيل له كيف تبطل القياس وقد أخذ به الشافعي؟ فقال: أخذت أدلة الشافعي في إبطال الإستحسان فوجدتها تبطل القياس. وإن كان أحمد بن كامل بن خلف يعتقد بأن داود رغم أنه رفض القياس الا أنه اضطر اليه فسماه دليلاً، كما نصّ عليه الخطيب البغدادي الذي نقل عنه في ترجمته: (إنه أول من أظهر انتحال الظاهر، ونفى القياس في الأحكام قولاً، واضطر اليه فعلاً، وسماه دليلاً)[9].

على ان الأدلة التي كانت موضع اهتمام المتقدمين من الفقهاء هي تلك التي تناط بأصول ونصوص معينة محصورة، وهي في الغالب لا تتجاوز حدود الظن لكونها محدودة. وقد انساق سائر الفقهاء التابعين يقلدون أئمتهم في القضايا التي نصوا عليها اصولاً وفروعاً، ومنها أصل المصلحة، مما جعل قضاياهم غير قابلة للحسم. لكن بعض المتأخرين تقدم في صياغة الدليل خطوة، ربما بدأت أول الأمر بالغزالي ثم تكاملت عند الشاطبي. فبخصوص المصلحة نرى الغزالي لا يعود بها إلى دليل معين وانما إلى أدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الامارات، مما جعله يعتبرها حجة قطعية لا تقبل الخلاف[10]، لكنه قيدها بقيود ثلاثة لا وجه لها.

مهما يكن فإن مفاد هذا السلوك مستمد من الدليل الإستقرائي وإن لم يسمه، فضلاً عن أن ينظّر له. وقد استمر هذا الحال إلى أن جاء الشاطبي (المتوفى سنة 790هـ) فأولاه جلّ اهتمامه في كتابه (الموافقات)، حيث استطاع ان يؤسس هذا المنهج الجديد ومن ثم يعيد صياغة القضايا الأصولية بعد عرضها على محك الإستقراء، فكان من نتائج هذا الجهد أن خرج باثبات العديد من القضايا الأصولية على نحو القطع، بينما كان المتقدمون لا يولون أهمية إلا لتتبع النصوص المباشرة المحصورة ذات الأفق غير المتعدد الوجوه، مما يجعل قضاياهم لا تفيد الا الظن. الأمر الذي نبّه عليه الشاطبي في بعض كلماته[11].

هكذا يُعد الشاطبي بحق صاحب منهجة جديدة في التنظير للإستقراء في الشرعيات. فبفضل وعيه الإستقرائي استطاع ان يدلل على العديد من القضايا الأصولية، ومنها المصلحة التي أناطها بمرجعية شرعية راسخة وقاطعة. الأمر الذي جعله يقف على أرض صلبة قوية بعيداً عن الظنون والتكهنات التي مُلئت بها كتب الفقه والأصول. فلم يعد الاهتمام منصباً على نصوص أحادية غالباً ما تبعث على الظن أو ما دونه، سواء من حيث السند أو المتن والدلالة، وانما أصبح الشاغل في الاهتمام هو البحث القائم على تجميع الظنون تجاه معنى محدد لإفادة القطع منها.

ولا شك أن طريقة الشاطبي تتجاوز مبدأ رد المصلحة إلى دليل إجتهادي آخر كالذي فعله الحنابلة في إرجاعها إلى القياس. فعملية الإستقراء تنطوي على تتبع مراعاة الشارع للمصلحة في مختلف المواضع والقضايا، فيتولد من ذلك أصل مستقل مقصود هو ما يطلق عليه المصلحة، والتي تتنافى مع القياس أحياناً فتتقدم عليه. لهذا يرى الشاطبي بأن (الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى ذلك دلت ادلتها عموماً وخصوصاً، دلّ على ذلك الإستقراء)[12]. وهو بهذا يعتبر جميع أحكام الشريعة بحسب الإستقراء لا تخلو من مصلحة ضمن مصالح ثلاث هي الضرورات والحاجيات والتحسينات، ولكل منها ما يكملها.

لكن رغم ذلك علينا ان نعترف بأن ما قام به الشاطبي لم يغير ـ في واقع الأمر ـ حقيقة الخلاف بين الفقهاء، حيث رهنوا انفسهم في التبعية الفقهية دون النظر إلى أصل الدليل، خاصة وان أبواب الإجتهاد قد اوصدت، واخذت فكرة الانسداد تتغلغل إلى أذهان الفقهاء وتستحوذ على نفوسهم، مما جعل إعادة النظر في الخلاف الفقهي والاصولي بين المذاهب تكاد تنعدم أو تندر قبل العصر الحديث، لا سيما بعد عصر الشاطبي، عصر ما يسمى بالانحطاط.

وما يعنينا هو ما قام به الشاطبي من عرضٍ لأمثلة كثيرة من الأحكام الشرعية، في المعاملات والعبادات والتقديرات، تدخل ضمن عناوين النهي لولا ان الشريعة راعت فيها جوانب المصلحة والتيسير، فاعتبر ذلك مدركاً شرعياً على صحة العمل بمبدأ الإستحسان. ومن الأمثلة التي ذكرها بهذا الخصوص:

(القرض فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى اجل، لكنه ابيح لما فيه من الرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقى على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين. ومثله بيع العَرِيَّة بخرِصِها - أي تقدير ما على النخل من الرطب - تمراً[13]، فإنه بيع الرطب باليابس، لكنه ابيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعرِي والمُعرَى. ولو امتنع مطلقاً لكان وسيلة لمنع الإعراء، كما ان ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه. ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر، وجمع المسافر، وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل، وصلاة الخوف، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل، فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك، لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى اقصاه. ومثله الاطلاع على العورات في التداوي، والقراض، والمساقاة، وإن كان الدليل العام يقتضي المنع، وأشياء من هذا القبيل كثيرة)[14].

وهو في محل آخر دلل بواسطة الإستقراء على ان الشارع قصد في أحكامه العادية مصالح العباد (فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فاذا كان فيه مصلحة جاز؛ كالدرهم بالدرهم إلى اجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض. وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ويجوز اذا كان فيه مصلحة راجحة.. وقال تعالى: ((ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب))، وقال ((ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل))، وفي الحديث: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)، وقال: (لا ضرر ولا ضرار)، وقال: (القاتل لا يرث)، ونهى عن بيع الغرر[15]، وقال: (كل مسكر حرام)، وفي القرآن: ((انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر))، إلى غير ذلك مما لا يحصى. وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد، وان الإذن دائر معها أينما دارت، حسبما بينته مسالك العلة، فدلّ ذلك على ان العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني)[16].



[1] معلوم ان الشاطبي يعتبر الشافعي كمالك يقول بالمصالح المرسلة، وهو خلاف ما يعلم عنه في كتبه وما يلزم عن نفيه لكل ما لا يستنتج على مثال سابق، لكن قد يريد الشاطبي بذلك رأيه القديم قبل ان يحلّ بمصر ويختلف مع مذهب مالك (لاحظ: الموافقات، ج1، ص39 ).

[2] الإحكام، ج4، ص395.

[3] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص94ـ96.

[4] ابو حنيفة، ص348.

[5] المنار، ج7، ص197ـ198.

[6] قادة الفكر الإسلامي، ص841.

[7] اعلام الموقعين، ج1، ص270ـ309.

[8] اعلام الموقعين، ج2، ص247ـ305.

[9] انظر: الخطيب ابو بكر البغدادي: تاريخ بغداد، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1417 ه‍ ـ 1997م، عن مكتبة مشكاة الالكترونية، ج8، ص370. وابو الفرج بن الجوزي: المنتظم في التاريخ، مكتبة نداء الايمان الالكترونية www.al-eman.com ، ج12، ضمن فقرة (ثم دخلت سنة سبعين ومائتين). وابو سعد السمعاني: الأنساب، تقديم وتعليق عبد الله عمر البارودي، دار الجنان، عن شبكة هوازن الالكترونية: www.hawazin.net ، ج4، ص99. وتاريخ المذاهب الإسلامية، ص545.

[10] المستصفى، ج1، ص313.

[11] يقول الشاطبي في (الموافقات، ج1، ص37ـ38 ): (اذا تأملت أدلة كون الاجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق، لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوق الحصر، وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع إلى باب واحد، الا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه. واذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضاً فصارت مجموعها مفيدة للقطع، فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب، وهي مآخذ الاصول. الا ان المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل اغفاله من بعض المتأخرين، فاستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها، إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع فكرّ عليها بالاعتراض نصاً نصاً، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع، وهي اذا اخذت على هذا السبيل غير مشكلة. ولو اخذت أدلة الشريعة على الكليات والجزئيات مأخذ هذا المعترض لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي البتة).

[12] الموافقات، ج4، ص230.

[13] المقصود ببيع العرايا هو (بيع الرطب في رؤوس النخل بمثل قدره من التمر كيلاً، وابيح طبقاً للحديث النبوي بانه (نهى رسول الله عن بيع الشيء بجنسه متفاضلاً ورخص في العرايا)، وقيس عليه بيع العنب في الكرم بالزبيب، لأن الكرم كالنخل في بروز ثمرها وامان التخمين القريب في تقديرهما وحاجة الناس إلى هذا النوع من البيع) (مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص23).

[14] الموافقات، ج4، ص207.

[15] المعلوم لدى الفقهاء أن عقد الغرر يعتبر حراماً ما لم يرج منه فائدة عامة للناس بدونه تصبح المعاملة بينهم عسيرة. لهذا يحكم بحرمة بيع الأجنة والطير في الهواء والسمك في الماء وما إلى ذلك. لكن يحكم بجواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن الأبصار، وكراء الدار مشاهرة مع إحتمال ان يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين يوماً، ودخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث، وغير ذلك (انظر: الموافقات، ج4، ص158 . ايضاً: المسوى شرح الموطأ، ج2، ص29-30 . وشمس الدين السرخسي: المبسوط، مطبعة السعادة، مصر، 1324هـ، ج2، ص156-158).

[16] الموافقات، ج2، ص305-306.

comments powered by Disqus