-
ع
+

الفهم المقصدي والخيار الديمقراطي

 

يحيى محمد

يخطئ أصحاب الفهم التعبدي حينما يجعلون آليات النظام الديني السياسي، أو غيره من النُظم الاجتماعية، جزءاً متأصلاً في اللحمة الدينية لا تقبل الخلع والانفصال، حالها في ذلك كحال الصلاة والصيام إن لم يكن ابلغ منها، وكأنها الشعيرات النابتة في حجر الرخام (المرمر)، فمن المعروف أنه لا يمكن عزلها عنه بأيّ شكل من الأشكال ما لم يتم تهشيمه كاملاً. فهذا هو الفهم التعبدي الذي جرى اتخاذه بعناوين مثل عنوان الخلافة، وولاية الفقيه، وقبل ذلك الإمامة. وقد أصبح العنوان الأخير معطلاً لا فائدة ترجى منه سياسياً، والشيء ذاته فيما يخص شروطه الموضوعية، كشرط القرشية لدى الإتجاه السني، وشرط العصمة لدى الإتجاه الشيعي.

وواقع الامر انه ليست الامامة التي يتحدث عنها الناس بانها من صلب الدين وضروراته هي الامامة بالمعنى السياسي. فهذا المعنى تخالفه الكثير من القرائن والشهادات، وذلك بخلاف ما لو اخذت بالمعنى الديني[1].

هكذا لمّا كان اختيار النظام السياسي ليس في حد ذاته مطلوباً، بل لِما يمكن ان يحققه من أهداف مرهونة بالحاجات الانسانية، فإن ذلك يجعلنا أمام عدد من الخيارات الممكنة، ونرى ان خيارنا للنظام الذي يخدم اطروحة (الفهم المقصدي) يعتمد على ما يحمله هذا النظام من فقرات دستورية، وامكانات فعلية للتنفيذ، مع أخذ اعتبار الظروف الواقعية بعين الاعتبار.

وبعبارة أخرى، حيث أنه لا يوجد تصور محدد ثابت لآليات النُظم الاجتماعية يمكن رصده في طيات النص الديني، فهذا يعني ان هناك أشكالاً عديدة مفتوحة قابلة للتطبيق. وبالتالي فآليات هذه النُظم تختلف عما عليه سائر آليات القضايا الدينية التعبدية كالصلاة والصيام والحج وغيرها. ومن ثم فبقدر ما تكون آليات هذه النُظم باعثة على خلق أجواء مناسبة لبناء (الانسان الصالح) بقدر ما تكون مطلوبة، وبقدر ما تفعل العكس بقدر ما تصبح مستبعدة. فمثلاً من الناحية السياسية، لا يمتنع ان يكون المطلوب نظاماً علمانياً عندما تثبت أفضليته في تهيئة مثل تلك الأجواء مقارنة بالنظام الديني. فالعبرة هنا بصلاح الوسيلة، وذلك لعدم وجود برنامج محدد، سواء من حيث النظر العلماني أو الديني.

ومن الناحية النظرية يمكن ان نتصور نوعاً من الأفضلية في نظام يعتمد على الموجهات الدينية والوجدانية في صور التعامل مع الوقائع والأحداث، مع أخذ اعتبار الإجتهاد في الواقع بكل ملابساته والعمل طبقاً لمعطياته تحت حاكمية تلك الموجهات بما فيها المقاصد الدينية. لكن حيث ان الواقع ما زال يفتقر إلى مثل هذه الصورة، فإن الخيار لا يتم بمعزل عن لحاظ طبيعة البرامج المقدمة، والظروف التي تنفذ فيها، مع القدرة على التنفيذ. فالغرض هو كل ما يمكن ان يقربنا نحو بناء ذلك الهدف المنشود؛ سواء تمّ الأمر عبر وسيلة دينية أو وسائل أخرى قد تكون أنجع منها، سيما عندما تعمل على إشاعة الحريات العامة والمساواة بين الناس أمام القانون؛ لا فرق في ذلك بين الحاكم والمحكوم، وكذا عندما تفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، كذلك عندما تجعل العمل التربوي والتغييري في المجتمع ممكناً، الأمر الذي يشكل ارضاً خصبة للداعين إلى تكوين ذلك الانسان: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)) النحل/125.

على أن علاقة (الانسان الصالح) بالمقاصد الدينية هي علاقة ضرورية غير قابلة للانفكاك، فلا يمكن تصور أحدهما دون الآخر. فالغرض من الدين لا يحيد عن هذا المطلب النبيل. وليس الأمر كذلك مع آليات النُظم الاجتماعية وعلى رأسها النظام السياسي، حيث لا يمتنع ان يكون الدين محايداً ازاءها اذا ما استثنينا مطالبته بجملة من القيم والموجهات ذات العلاقة المباشرة بالغرض الديني الآنف الذكر. مما يعني أنه لا يوجد نظام محدد تفصيلي؛ سواء استعنّا بالنظريات الشيعية أو السنية. وبالتالي فليس هناك ما نعده من التعبديات كما يزعم أصحاب الفهم التعبدي، ولا توجد مؤشرات تشير إلى هذا المعنى من التعبد.

***

هكذا ليس هناك تضاد بالضرورة بين البرامج الاجتماعية - السياسية والاقتصادية وغيرها - لدى الفكرين الديني والعلماني. فالفارق بينهما يمكن ان يتحدد ببعض المصادر المعرفية، فالفكر الديني لا يمانع من الأخذ بجميع ما يعتمد عليه الفكر العلماني ويضيف اليه خصوصيته المتعلقة بالنص. وهو معنى كون هذا الفكر يتخذ طابع الجمع لا الطرح في الغالب. وبالتالي قد يحصل تقارب بين الرؤيتين في بعض الحالات، منها ما قد يحصل من تقارب عند اعتماد الرؤيتين على الاعتبارات العقلية والواقعية وغيرها من الاعتبارات المعدة عارضة لدى الفكر الديني. كما قد يحصل تقارب بين الرؤيتين في النتائج رغم اختلاف الاعتبارات المعتمدة لدى كل منهما، كإن يكون الإعتماد لدى الفكر الديني على الاعتبارات الذاتية (النص)، ولدى الفكر العلماني على العقل والواقع. مع هذا فالفوارق بينهما تظل متوقعة وكثيرة، لكن ذلك يحدث ايضاً بين البرامج المختلفة التي يقدمها ذات الفكر الديني بأطيافه المتنوعة، وكذا يحدث بين البرامج المختلفة التي يقدمها الفكر العلماني.

فمثلاً ينقسم النظام السياسي داخل الفكر الديني إلى نظام ديني استبدادي، والى نظام يعمل بالتعددية. وكذا هو حال ما يحصل داخل الفكر العلماني. وهذا يعني أن الخطأ وارد في البرامج والمشاريع المقترحة، سواء كانت دينية أو علمانية، وان صفة الإجتهاد لدى كل منهما قائمة، وأنه لا قدسية في الإجتهاد الديني، وان الأحكام الواردة فيه ليست أحكاماً لاهوتية أو إلهية بحتة، وكذا ان السلطة والسيادة ليست إلهية ثيوقراطية، بل لها طبيعة بشرية مصطبغة بالصبغة الدينية، وحصيلتها في النتيجة هي حصيلة بشرية قائمة على الفهم والإجتهاد، ومن ثم فهي قابلة للخطأ. وان الأفضلية بين الفكرين لا تتحدد بمجرد الانتماء، بل لا بد من معرفة طبيعة ما عليه البرامج؛ سواء كانت دينية أو علمانية. فللنزعتين عدد غير محدد من البرامج التطبيقية. وبالتالي قد يتفوق برنامج ديني على علماني، كما قد يحصل العكس، طالما ان المصادر والاعتبارات المعتمدة قد تتفاوت وتختلف فيما بينها، وقد يطغى بعضها على البعض الآخر، مما قد يختلف فيه الأمر من برنامج إلى اخر. فليس كل من يعول على النص يصيب الإجتهاد الصحيح، ومثل ذلك من يعول على العقل والواقع، وان الصواب صواب سواء كان مستمداً من النص أو غيره.

ويمكن القول ان الأنظمة الحديثة قاطبة لم توفق بعد إلى الصواب في تعاملها مع الشعوب المحكومة، وان الداء فيها متنوع، إذ قد يتمثل بإبتعادها عن الروح الدينية وقيمها السامية، كما قد يتمثل بإهمالها للموجهات الوجدانية المناطة بالممارسة والتطبيق؛ كالإخلال في العدالة والتمييز والاضطهاد، أو لكونها لا تعير اهمية للمقاصد الدينية واعتبارات الحقائق الواقعية. فلا يخلو نظام من انظمة الحكم الحديثة دون ان يمسه داء أو أكثر مما قدمنا. وبالتالي فهي لا تعبّر عن طموح (الانسان الصالح) سواء كانت مصطبغة بالصبغة الدينية او العلمانية. وان المسؤولية الملقاة على عاتق النظام الديني كبيرة، باعتباره يمارس نوعين من الفهم والإجتهاد، أحدهما يتعلق بالنص، والآخر بالواقع، وان اغفال اهمية فهم هذا الأخير هو الداء المزمن الذي رافق التفكير الديني منذ نشأته والى يومنا هذا، وبالتالي فأزمة هذا النظام وفشله يعودان في الغالب إلى عدم الوعي بأهمية الواقع وعلاقته بالنص. لذلك تتفوق بعض التجارب العلمانية الغربية على مشروعاتنا السياسية. ومع ان لكل نواقصه، إلا أن الفوارق في النقص والخلل بين هذين النوعين من المشاريع والتجارب كبيرة للغاية. وقديماً قال ابن تيمية أيام الحملة المغولية، نقلاً عن بعض العلماء: إن «الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة»[2]. ومثل ذلك ما أفتى به الفقيه رضي الدين علي بن طاووس بتفضيل الحاكم العادل الكافر على المسلم الجائر، أيام السلطان هولاكو. وهو ما أيده بعض رواد الاصلاح الديني الحديث مثل الكواكبي[3]؛ مفضّلاً أن يحكمنا الملوك الغربيون عن أن يحكمنا الرؤساء المسلمون، معتبراً الأوائل أفضل من الآخرين وأولى منهم حكماً، شرعاً وعقلاً، لكونهم أقرب للعدل وأقدر على إعمار البلاد وترقية العباد ومن ثم تحقيق المصالح العامة. لذا اعتبر التشريع الغربي هو حبل الله لأنه بيد الأمة[4].

يبقى أن الخيار الديمقراطي هو الخيار المطلوب، وأن التيار الديني هو أقوى التيارات التي يمكنها توظيف هذا الخيار في مجتمعاتنا الاسلامية، إلى حدّ قد يفضي التحقيق فيه - دينياً - إلى اعتباره واجباً متعيناً قبال غيره من الخيارات، فهو خيار استراتيجي لا تكتيكي، فالمكسب فيه معلوم، سواء في الفوز أو الفشل، إذ هناك فرص حقيقية لتجنيد الطاقات في التوعية والتغيير الاجتماعي، وأن من الممكن الاستفادة من الحرية المتاحة وقابلية مجتمعاتنا لقبول الخطاب الديني أكثر من غيره[5].

ومن الغريب فعلاً أن يعرض أغلب الكتّاب الاسلاميين والكثير من حركات التيار الديني عن ذلك الخيار، بدل التهافت عليه. وهم إذ يفعلون ذلك فلتمسكهم ببعض ألوان الاستبداد الديني والسياسي، رغم ما يفضي اليه الأمر من تشويه سمعة الدين وفقدان الثقة وحالة الاحباط التي تصيب المجتمع جراء التطبيق، كالذي رأيناه في أكثر من مكان وتجربة.

نعلم ان هناك تحسساً للتيار الديني إزاء عدد من القضايا التي تتضمنها فكرة التعددية والخيار الديمقراطي، ومن ذلك الجلوس مع الاحزاب المعارضة في المجالس النيابية. وقد يجاب عليه بأن ذلك لا يكون أعظم من قبول النبي (ص) لصلح الحديبية مع ما فيه من بعض الخسارة المعنوية قبال الكسب الذي تضمنته المعاهدة. فما يحصل في المجالس النيابية من الخسارة المعنوية للطرف الديني، بل وجميع الأطراف، ليس بأعظم من تلك الحالة التفاوضية التي جرت بين النبي وخصومه من المشركين، ولا أعظم مما عاهد به النبي يهود المدينة المنورة وغيرهم، ضمن ما يُعرف بصحيفة المدينة التي لها طابع المواطنة والحقوق المدنية. وفي جميع الأحوال هناك مكسب تناله جميع الأطراف المتعارضة، وهو رفض العنف وتحويل الصراع مما يمكن ان يكون صراعاً دامياً إلى صراع التنافس حول التأثير لكسب المقاعد والأصوات.

كما أن من القضايا التي يتحسس منها التيار الديني هو أنه يرى المشاركة في المجالس النيابية ما هي الا تعبير عن الرضوخ لتقبل (المنكر)؛ لما تحمله أطراف المعارضة من برامج علمانية. مع أنه يمكن الإجابة على هذه الحساسية بأن تلك المشاركة ليست بأعظم من تقبل الفرد المسلم للمنكر عندما يصعب تغييره فيعمل بأضعف الايمان، وهو الرفض القلبي، تبعاً للحديث النبوي: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الايمان». فالجلوس على طاولة المجالس النيابية فيه حفظ لحياة الجماعة لا الفرد وحده، وان الخسارة المعنوية التي تطال الجميع يستعاض بها في القدرة على تغيير الأوساط الاجتماعية، وذلك لأن الخيار الديمقراطي مشروط بحماية الحريات العامة، ومنها الحرية الدينية والثقافية والاعلامية والسياسية.

تبقى الإشكالات التي توردها الحركات الدينية على التعددية السياسية كثيرة، أهمها أنها مناقضة لأصول الاسلام، فالاسلام يقر بالوحدة لا التعددية، وأنه لا يقر الا بحزب الله كجماعة دون غيره، وان الحرية في الاسلام مقيدة لا كما هو الحال في التعددية، وان المجالس النيابية وما تتضمنه من المعارضة لا تنسجم مع الفكرة الاسلامية الموحدة، وان الاسلام يعمل طبقاً للحق وليس بحسب الأكثرية، وان العمل بتعيين مدة الحكم يعد شرطاً ليس للاسلام فيه أصل، وان الاسلام يدعو إلى بيعة أهل الحل والعقد بعد التعيين، وعلى الأقل بين المؤمنين كافة، في حين ان الإنتخاب يكون من قبل الناس جميعاً دون تمايز... الخ.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك؛ ما كان يجمع عليه الفقهاء من عدم شرعية التعددية في الدولة الاسلامية، وتقييد المنصب الرئاسي بالشرط القرشي تارة وبالعصمة تارة اخرى[6]. لكن الملاحظ بأن هذه الشروط والقيود أخذت تتراجع ولم يعد لها ذلك الصيت والأثر لعدم امكانية تحقيق بعضها، وصعوبة تحقيق البعض الآخر.

وتذكرنا الإشكالات السابقة بما كان يُطرح من إشكالات على التعددية العقائدية، تبعاً لمقولة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال، حيث ان الحق المختلف فيه واحد. لذا تعني التعددية المعرفية بأن جميع الفرق المختلفة باستثناء واحدة منها هي فرق ضالة إن لم تكن كافرة، وبالتالي فإن الاسلام لا يقر الا بواحدة، هي فرقة حزب الله، أو الجماعة التي تدعيها كل فرقة لنفسها[7]، وكذا ان الحرية الفكرية في المجال العقائدي غير مقبولة، وكثيراً ما يمنعها العلماء بأساليب مختلفة، كاسلوب الفتوى التي تأمر بحرق كتب أهل الضلال... الخ.

ومثلما أن الإشكالات في المجال العقائدي تفترض وجود عقائد ثابتة يمكن تحصيلها دون التباس، فكذا أن الإشكالات في المجال السياسي تفترض وجود برنامج ديني مثالي ناجح للتطبيق، وهو أصل الخلاف، إذ لا يوجد برنامج موحد يتفق عليه جميع أصحاب الحركات الاسلامية، فكل برنامج يقتضي الممارسة الإجتهادية مع النص، كالذي يجري في المجال العقائدي، يضاف إلى أنه حتى مع سلامة الإجتهاد وفق متطلباته الدينية، فذلك لا يفي بحل المشكل السياسي؛ للإلتباس الحاصل في الواقع المتغير، إذ لهذا الأخير أثره البالغ في نجاح المشروع السياسي أو فشله. وبالتالي فإننا نتعامل مع أطياف مختلفة، سواء في الحالة الدينية أو العلمانية.

ومن حيث التقارب في مواقف الفكر الديني إزاء القضايا العقدية والسياسية، يلاحظ ان الفرق الدينية كان لها طابعها الإجتهادي، رغم أنها تتنكر - في الغالب - لهذا الإجتهاد ولا تعترف به[8]. وهي وإن كانت تعددية من حيث الواقع الا أنها أحادية التصور؛ لا تجيز التعدد ولا تقبل للآخر الإختلاف، وبعضها يتهم البعض الآخر بالضلال والكفر، مع أنها ليست تعددية من حيث الواقع فحسب، بل متداخلة فيما بينها، سواء على صعيد المضمون الفكري، أو على نحو المنهج والطريقة.

فمثلاً على مستوى المضمون رغم ان جميع الفرق تتفق على اصل التوحيد، لكنها تختلف فيما بينها حول مضمون هذا الاصل، فهناك التوحيد بالمعنى التشبيهي، وفي قباله التوحيد بالمعنى التنزيهي، كما هناك التوحيد بالمعنى الاشعري، وكذا بالمعنى الفلسفي والمعنى العرفاني المعبر عن وحدة الوجود، وغير ذلك من المعاني. وهذا الاختلاف في المعاني لا يمنع من وجود حالة التداخل والتضمن لدى الفرق الكبيرة. فالمعنى التنزيهي للتوحيد وارد سواء في الساحة الشيعية او السنية، ومثله المعنى التشبيهي، وكذا المعاني الأخرى، فضلاً عن موارد الاختلاف في غيرها من القضايا، فالاعتداد بمرجعية العقل وارد لدى الساحتين، كما ان انكار العقل وارد هو الآخر لديهما[9]، وكذا يقال بخصوص قضايا رئيسة اخرى كقضية الحسن والقبح العقليين[10]، وقضية القياس وما اليها[11]، حيث مثل هذه القضايا تجد من يعول عليها في الساحتين، كما تجد من ينكرها فيهما ايضاً. فالتعددية الاجتهادية في الساحتين هي تعددية تداخلية وليست تعارضية. وينطبق هذا الحال على الخلاف المنهجي، فجميع المناهج التي يتضمنها كلا النظامين المعياري والوجودي في الفكر الاسلامي واردة في الساحتين دون اختلاف.

كذلك فإن الحركات السياسية الدينية وإن كانت حركات إجتهادية وتعددية يتداخل بعضها مع البعض الآخر، الا أنها تتنكر لطابعها الإجتهادي وتنظر للأمور بعين واحدة دون أن تعترف بتعدديتها وتداخلها، سيما تلك التي تقسّمها الاعتبارات المذهبية. وهو الأمر الذي شهدناه في الفكر الديني على المستوى العقدي كالذي اشرنا اليه قبل قليل. ناهيك عن أنها تقتبس - أحياناً - الفكر الآخر عند الحاجة وتصبغ عليه ما تراه مناسباً من مرجعيتها الدينية، ومن ذلك قضية الديمقراطية التي قد تعني عندها مفهوم الشورى دون اختلاف.

هكذا ينبغي ان لا نربط مصير الدين بالقضية السياسية أو غيرها من النُظم الاجتماعية بقدر ربطه بالغاية التي استهدفها الدين ذاته. وبعبارة أخرى ان العبرة بالغايات لا الوسائل والآليات، الأمر الذي يجعل التصدي إلى جوانب التربية والفكر والتثقيف من الأولويات للعقل المسلم، أما التصدي للمسألة السياسية فهي من الأمور التابعة لتلك الجوانب، والعمل معها ينبغي ان يتخذ الكثير من الحيطة للخطورة التي تترتب عليها، سواء من الناحية الدينية أو الواقع الاجتماعي.

 

 

 

 

 

 

 



[1] سبق ان تعرضنا لهذا الامر خلال محاضرتين في احد المراكز الثقافية الاسلامية في بريطانيا سنة 4991م، وكانت بعنوان: الإمامة في الإسلام. ولازلنا نحتفظ بمادة هاتين المحاضرتين.

[2] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج28، ص146.

[3] عبد الرحمن الكواكبي: أم القرى، الاعمال الكاملة للكواكبي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى، 1995م، ص293ـ295.

[4] الكواكبي: طبائع الاستبداد، المصدر السابق، ص523. كما لاحظ كتابنا: القطيعة بين المثقف والفقيه، القسم الاول.

[5] انظر مثلاً ما ترتب على ما آلت اليه حركة الاخوان المسلمين في مصر منذ اواسط الثمانينات بقبولها التعددية، وقد سبقتها حركة الإتجاه الاسلامي في تونس منذ 1981م والتي تغيّر اسمها إلى حركة النهضة سنة 1988م (لاحظ: راشد الغنوشي: الحريات العامة في الدولة الاسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى، 1993م، ص257 وما بعدها).

[6] مع ما قيل في شرط القرشية بانه يحظى بالنص والاجماع، الا ان العديد من العلماء اسقطوه، وعلى رأسهم الامام الباقلاني كما ينقل ابن خلدون في مقدمته، وكذا الفضل الرقاشي وابو شمر وغيلان الدمشقي وجهم بن صفوان والخوارج وجمهور المعتزلة وعلى رأسهم ضرار بن عمرو وابراهيم النظام  (لاحظ حول ذلك: الماوردي: الاحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، ١٤٠٥هـ ـ١٩٨٥م، ص٦. وتاريخ ابن خلدون، المكتبة المدرسية ودار الكتاب اللبناني، الطبعة الثالثة، ١٩٦٧م، ج١، ص٣٤٤ـ٣٤٦. والنوبختي: فرق الشيعة، ص٩ـ١٠. والشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتحليل الدكتور حسين جمعة، دار دانية، بيروت ــ دمشق، ص٣٨ و٥١ و٦١).

[7] انظر بهذا الصدد: مدخل إلى فهم الاسلام، ص64.

[8] انظر: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر.

[9] نشير الى أن اغلب الاتجاهات البيانية النقلية في الساحتين السنية والشيعية، ومعها بعض الاتجاهات العرفانية، تتنكر للدليل العقلي، وذلك بخلاف غيرها من الاتجاهات.

[10] فأغلب علماء الامامية الاثني عشرية يقرون قضية الحسن والقبح العقليين وملازمتها للقضية الشرعية، لكن بعضهم كالاخبارية وبعض الاصوليين لا يقرون ذلك. وعلى العكس من هذا في الساحة السنية حيث اغلبهم لا يقرون تلك القضية، وبعضهم يقرها كما جاء على لسان ابن القيم الجوزية فضلاً عن المعتزلة.

[11] اذ تقر اغلب الاتجاهات السنية مبدأ القياس الفقهي، والقليل منهم منعه، كما هو الحال مع داود الظاهري وابنه وابن حزم وغيرهم. وعلى خلاف ذلك منع اغلب علماء الامامية الاثني عشرية هذا المبدأ، لكن اقره القليل منهم؛ كابن عقيل وابن الجنيد من المتقدمين، وبعض المتأخرين ممن عاصر الشيخ الانصاري (لاحظ حول ذلك كتابنا: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، ص٨٨).

comments powered by Disqus