-
ع
+

الخصائص العامة للإستحسان

يحيى محمد

لا شك أن للإستحسان عدداً مختلفاً من المبادىء والمفاهيم المستخلصة من تعاريف العلماء له. فقد عرّفه النسفي الحنفي بانه (العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه، أو هو دليل يعارض القياس الجلي). وعرفه الكرخي الحنفي بأن (يعدل الإنسان عن ان يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه يقتضي العدول عن الاول). ومن المالكية عرفه ابو بكر بن العربي وتابعه الشاطبي بنفس القول: (الإستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل باقوى الدليلين. فالعموم اذا استمر والقياس اذا اطرد، فإن مالكاً وابا حنيفة يريان تخصيص العموم باي دليل كان من ظاهر أو معنى). كما ونُقل عن ابن العربي تعريفه بأنه (ايثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته). ومن الحنابلة عرفه الطوفي بقوله: (أجود تعريف للإستحسان أنه العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص، وهو مذهب احمد)[1]. وهناك من عرف الإستحسان بتعريف لم يُقبل لدى الأصوليين المعروفين، وهو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة على اظهاره ولا يقدر على ابرازه. وقد اعتبر الغزالي هذا التعريف هوساً[2].

والملاحظ من التعاريف السابقة أن الإستحسان هو ترجيح بدليل في قبال دليل آخر أقل قوة منه، فيرجح مثلاً القياس الخفي على الظاهر، أو المصلحة أو العرف على القياس. الأمر الذي جعل الشوكاني يذهب إلى عدم جدوى إفراده كأصل مستقل، ذلك ان مآله عند التحقيق هو إما إلى العمل بالقياس أو العرف أو المصلحة، وبالتالي فإن (ذكر الإستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه اصلاً)[3].

والحقيقة ان ما انتهى اليه هذا الفقيه الزيدي يصدق فيما لو عوّلنا على المفاهيم التي حددت الإستحسان بترجيح دليل إجتهادي على آخر نظير له. والحال ان من ضمن ما يُقصد به هو المقابلة بين الدليل الإجتهادي وحكم النص، أي العمل على تخصيص عموم النص بالأدلة والقواعد الإجتهادية. وبذلك فإن للإستحسان فائدة علمية تجعل منه أمراً مستقلاً. فالقياس بخلاف الإستحسان لم يوضع في قبال النص، بل هو مستمد من روحه ليطبق على ما لا نص فيه، وأن المصلحة مستمدة من روح المقاصد لتطبق على حادثة لم يرد ذكرها بنص ولا أمكن ربطها به على نحو القياس، وكذا العرف ليس مستمداً بدوره من النص ولا القياس. فهذه الأدلة هي أدلة إجتهادية حينما لا يكون هناك نص في الحادثة. وعليه لو كان الإستحسان مجرد ترجيح هذه الأدلة بعضها على البعض الآخر للزم عدم جدوى إفراده مستقلاً، فهو لا يعبر في هذه الحالة الا عن ترجيح بعض تلك الأدلة على البعض الآخر وفقاً لتقدير قوتها. لكن حيث أنه يتجاوز هذا المعنى من الترجيح في بعض خصوصياته ووظائفه، فيجعل العلاقة ليست فقط بين الأدلة الإجتهادية بعضها مقارنة بالبعض الاخر، بل بين بعض تلك الأدلة وبين النص في عمومه، لذا فنحن هنا إزاء فعل جديد لا يمكن رده إلى مجرد القياس أو المصلحة أو العرف، وهي التي وُضعت أساساً بعيداً عن أن تكون في تماس من التأثير على حكم النص تبعاً لمفاهيمها المعروفة.

وبتعبير اخر، رغم ان الإستحسان قائم فعلاً على تلك المبادئ الإجتهادية لا غيرها، الا ان له وظيفة جديدة لا تتضمن تلك المبادئ، ألا وهي التضييق من المساحة التي يمكن أن يشغلها حكم النص فيما لو ترك وحاله. فعلى الأقل لا يقتصر الإستحسان لدى المالكية على ابراز الاستثناء والترجيح من القواعد العامة للادلة الإجتهادية فيما لا نص فيه كالقياس، وانما يضاف اليه ما يدخل ضمن الاستثناء الخاص بعموم النص الشرعي. أي ان الدليل الإجتهادي - كالمصلحة مثلاً - يعمل على تخصيص النص، فيدخل هذا ضمن عنوان الإستحسان. وهو أمر سبق أن أكد عليه الشاطبي ونسب هذه الطريقة إلى كل من ابي حنيفة ومالك كما مرّ معنا خلال تعريفه للإستحسان. فمن الأمثلة التي تضرب على هذا النوع من الإستحسان هو ما قام به عمر بن خطاب في إيقافه لقطع الأيدي عام المجاعة باعتباره تخصيصاً لعموم النص في آية السارق[4].

هكذا فطبقاً للوظيفة الجديدة يصبح للإستحسان أدوار متعددة كما يلي:

1 ـ الإستحسان عبارة عن ترجيح دليل إجتهادي على آخر مثله، كترجيح القياس الخفي على الظاهر.

2 ـ الإستحسان عبارة عن استثناء لقاعدة عامة إجتهادية بدليل إجتهادي اخر، فيعمل على تخصيص هذه القاعدة أو الحاكمية عليها، كتخصيص القياس بالمصلحة أو العرف، أي حاكمية أحد هذين الأخيرين للأول. وهو ما يعرف بالعدول بحكم المسألة عن نظائرها.

3 ـ الإستحسان عبارة عن استثناء لعموم النص بدليل إجتهادي، فيكون الدليل مخصصاً لهذا العموم أو حاكماً ومقدماً عليه[5].

واذا انتزعنا من هذه الوظائف والخصائص تعريفاً للإستحسان فإنه يكون كالتالي:

الإستحسان هو جعل الدليل الإجتهادي حاكماً على دليل العموم في النص ومقدماً على غيره من الأدلة الإجتهادية الأخرى، سواء بالترجيح أو بالعدول والتحكيم (التخصيص).

 



[1] انظر: الإحكام للامدي، ج4، ص391ـ392، وأحكام القرآن، ج2، ص754ـ755. والموافقات، ج4، ص207ـ208 . والاعتصام، ج2، ص138ـ139 . ومصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص69ـ70.

[2] المستصفى، ج1، ص281. كذلك: الاعتصام، ج2، ص332. والموافقات، ج4، ص206.

[3] ارشاد الفحول، ص241.

[4] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص69.

[5] يبدو من الأنسب أن يكون اصطلاح الحكومة هو المطابق لما نحن فيه لا التخصيص، كما اهتدى بعض المتأخرين إلى هذا المصطلح. إذ أن التخصيص هو مقابلة بين خاص مطلق أو تام مع عام مطلق أو تام، والحال نحن بصدد عامّين؛ بعض أفراد أحدهما يعمل على تخصيص بعض أفراد الآخر، أي أن نسبة عموم أحدهما للآخر هي العموم من وجه، لكن حيث انهما عبارة عن عامين فإن تخصيص أحدهما للآخر لا بد ان يكون بنوع من المرجح الخارجي باعتبارهما من حيث العموم متكافئين، وهنا يدخل دور العقل في اعتبار أحدهما عبارة عن بيان للآخر كي يستوي الجمع بينهما. فمثلاً ان لعموم النص افراده باعتباره عاماً، وكذا فإن للضرر الذي يرجع إلى مبدأ المصلحة افراده الخاصة، وان علاقة التخصيص بين الطرفين تعبّر عن اتحاد بعض أفراد العام الأول بافراد من العام الاخر، فيصبح بهذا ان الفرد المتحد يحمل وصفين، فهو من جهة يرجع إلى عام النص، لكنه من جهة أخرى يعود إلى عام الضرر، وحيث أنه يجمع الوصفين؛ لذا فإما ان يتقدم وصف عام الضرر على عام النص، فيكون عموم النص فاقداً لبعض افراده لحساب الضرر، أو يحصل العكس، ولا شك ان النظر إلى العامين من حيث انهما عموميان لا يفيد هذه المغالبة، وانما يعود الأمر إلى إدراك العقل من حيث جعل أحدهما يحكم على الآخر ويتقدم عليه بالكشف الحدسي، وذلك بعدّ الافراد المتحدة غير مقصودة من العموم في النص باعتبارها تتنافى مع مقررات المصلحة، أو باعتبارها افراداً تجلب الضرر. وكما هو واضح ان هذا التحديد للحكومة يختلف وضعاً عما يطلق عليه التخصيص. وقد عُرف أن أول من حدد هذا المعنى واكتشفه هو مرتضى الانصاري (انظر: فرائد الاصول، ج2، ص535ـ536)، لكن لفظ الحكومة مستخدم قبله على ألسنة بعض الأصوليين بما يعني أنها موضع القبول والرفض، كالذي استخدمه الشاطبي في (الموافقات، ج1، ص33).

comments powered by Disqus