-
ع
+

أصول الفقه ومبدأ الموافقة مع الواقع

يحيى محمد 

إن أهم ما يحتاج اليه الأصولي والفقيه اليوم هو اعادة النظر في العلاقة التي تربط الفتوى بالواقع. فما زال هناك عدد كبير من الفتاوى لم يُراعَ فيها حق الواقع وشروطه، بل استلّها الفقهاء من مجرد النص أو مما أدى اليه إجتهاد السلف. وما زالت هناك قضايا أخرى تحتاج إلى فحص الواقع كمرجع يناط به الكشف عما هو حقيقة وغير حقيقة، أو ممكن وغير ممكن، أو متسق وغير متسق، أو مقيد وغير مقيد... وغير ذلك من الصور التي يمكن للواقع الكشف عنها، سواء كان حاضراً أو ماضياً أو استشرافاً أو عاماً ومطلقاً. إذ تتخذ علاقة الفتوى بالواقع صوراً عديدة تستوجب النظر والتحقيق لحل المشاكل الفقهية والقضاء على حالات المعارضة والصدام. ويتخذ الواقع في أغلب هذه الصور دور الضابط للفتوى وفهم النص. لذا من الضروري تأسيس خطوات اجرائية تحقق المصالحة بين الحكم والواقع دون الاسقاطات الجاهزة التي تمارسها طريقة الإجتهاد التقليدية. فهناك مرحلتان اجرائيتان يتحقق خلالهما معرفة العلاقة الجدلية بين الطرفين، احداهما قبلية والاخرى بعدية، وذلك كالاتي:

 

1 ـ المرحلة القبلية 

تتحدد هذه المرحلة بخطوتين أساسيتين تسبقان ممارسة تنفيذ الحكم وتطبيقه، تتعلق إحداهما بدراسة الحكم واختباره من حيث ذاته قبل تنزيله إلى الواقع، وذلك بلحاظ ما يحمله من قوة تشريعية للتطبيق الفعلي، وكذا ما يتوقع له من قابلية استشرافية على الصمود والإتساق مع الواقع. أما الخطوة الأخرى فتتعلق بدراسة الواقع والتعرف عليه عن كثب.

وتكتسب هذه العملية من دراسة الواقع أهمية خاصة لإعتبارين؛ أحدهما أن بها يمكن الاهتداء إلى تحديد موضوع الحكم بدقة، وهي مشكلة باتت مقررة لدى الفقهاء اليوم، فبدونها يصعب تحديد الحكم المناسب ومعرفته، حتى أن بعض القدماء كان يشكو من العجز عن التجاوب في تأسيس الأحكام للحالات المصداقية موضع الإبتلاء، خلافاً للتأسيس النظري الكلي المنعزل عن لحاظ الواقع، والذي يكتفي بممارسة عملية الاستنباط أو الإجتهاد من المصادر النظرية المعتبرة. أما الإعتبار الآخر فهو لأجل معرفة أُفق التوقع التي يحملها الواقع لإمكانية التعايش وتقبّل الحكم المراد تنزيله اليه. والفائدة من ذلك هي تجنب ما قد تفضي اليه عملية التنفيذ من فشل وما قد ينجم عن ذلك من أضرار وإحباط.

وعموماً إن القيام بالمسح القبلي الآنف الذكر يتصف بالأمور التالية:

1 ـ إن المرحلة القبلية تتضمن خطوتين إجرائيتين تكمل إحداهما الأخرى. فالواقع بحاجة إلى حكم، ولا فائدة من هذا الأخير بغير الأول. لذا لا يصلح إناطة أحدهما بالآخر ما لم يتم التحقق من الإمكانات الذاتية لكل منهما؛ ليتم القِران بينهما بمودة وسلام.

2 ـ لمعرفة الواقع يؤخذ بنظر الاعتبار دراسة الموضوع قيد البحث. كما يؤخذ بعين الاعتبار معرفة الروح العامة للعصر التي يتأثر بها الموضوع المشار اليه. مضافاً إلى البحث الاستشرافي لتوقع ما سوف يفضي اليه حال الواقع، إذ أن لذلك أهمية لتقدير الأحكام المناسبة، وما يمكن ان يؤول اليه الحال عند التنفيذ والتطبيق، كإستراتيجية تهدف إلى الضمان المستقبلي كما يلوح في الأُفق قدر الامكان. لذا تبدو الحاجة ماسة لتوظيف العلوم الإنسانية لتحقيق هذه المطالب.

3 ـ قد تتسع دراسة الواقع وقد تضيق طبقاً لطبيعة الحالة المرهونة بالبحث. فلا شك ان الحالات الفردية الخاصة لا تتطلب نفس القدر الذي تتطلبه الحالات العامة من الدراسة. وقد يقتضي الأمر ان يكون البحث مستوعباً للمظاهر التاريخية التي تتشكل فيها الظاهرة قيد الدراسة وما يستتبعها من تطورات وتحولات. فلو أردنا - مثلاً - اختبار مبدأ من المبادئ السياسية للتعرف على مدى صلاحيته ووفاقه مع الواقع، كمبدأ الشورى أو ولاية الفقيه أو التعددية الديمقراطية أو غيرها من المبادئ، فإن ما يلزم ليس فقط لحاظ الواقع الخاص الذي يراد تطبيق المبدأ عليه، بل لحاظ التجارب السياسية التي مرت بها البشرية عبر التاريخ ايضاً. إذ أن ذلك يساعدنا على تقليص الممارسات الخاطئة أو تجنبها عند التطبيق تحت ظل التجربة الجديدة.

قد لا يرى البعض حاجة للحاظ الواقع ودراسته إذا ما ثبتت حجية المبدأ المراد تطبيقه. ولعل أقرب تمثيل لهذه الدعوى هو مبدأ الشورى، فالنظر في مقومات هذا المبدأ، سواء من حيث ذاته أو من حيث الإعتبار الشرعي، ينبئ بصلاحه للتنفيذ. فمن حيث الإعتبار الشرعي ان القرآن الكريم نصّ عليه صراحة، كما أن السنة النبوية ومن بعدها الخلافة الراشدة قامتا بتطبيقه على أكثر من صعيد. أما من حيث المبدأ ذاته، ففحصه يجعلنا ندرك أنه مبدأ صحيح وصالح للحياة، سواء الخاصة منها أو العامة. فاستشارة الجماعة يزيد المعرفة والإحاطة والتنبه. وبالتالي فطالما كان المبدأ مستحسناً ومقبولاً، ولو لم نختبره الاختبار المباشر مع الواقع، فذلك يفي بإقراره وصلاحه للتطبيق دون حاجة لبذل الجهد بدراسة الواقع.

ومع أن الرؤية في المبدأ ذاته تعد صحيحة، لكنها لا تكفي، بل لا بد من لحاظ طبيعة ما عليه الواقع موضع التطبيق. فرغم شرعية المبدأ وعقلانيته، الا ان ذلك لا يضمن نجاح تطبيقه على الواقع عند الاسقاط. فعلى الأقل ينبغي أن تتصف الأرضية المناسبة لنجاح هذا المبدأ بقدر كاف من الحرية والجرأة والوعي. فالمجتمع الذي يفتقر لمثل هذه المقومات قد لا يستسيغ ذلك المبدأ، وقد يكون من المناسب اخضاعه لسلطة تتصف بقدر ما من التفرد والاستبداد، وليس العيب في الشورى وانما في الواقع ذاته.

وعموماً إن الإلتزام المطلق بالمبادئ المعلنة، مثل الشورى وولاية الفقيه والسلفية والديمقراطية والليبرالية والماركسية وغيرها من المبادئ؛ هو إلتزام متعال لا يأخذ الواقع بنظر الاعتبار. فنحن إما أنصار هذه أو تلك دون أن نسأل أنفسنا عن مدى موافقة ذلك للواقع المراد تطبيق المبدأ عليه؟

ويمكن القول ان الإسلام ما كان له ان يحقق النجاح لولا مراعاته للواقع وتوفيره لشروط التفاعل والجدل معه، كما يتبين من موارد النسأ والنسخ والتدرج في الاحكام. وبالتالي كيف يُعقل التعويل على نظام مطلق أو مبدأ شمولي ليطبق على جميع المجتمعات دون أخذ اعتبار الخصوصيات الذاتية لها؟ فمثلاً لنتصور حجم الفارق فيما لو طبقنا نظاماً سلفياً على المجتمع الغربي، وطبقنا في قباله نظاماً غربياً على المجتمع الإسلامي الملتزم، فكيف تكون النتيجة والحال هكذا؟!

وعليه كان اصلاح الواقع هو أهم ما ينبغي فعله، فلا بد من حقنه بجرعة من الأحكام المناسبة. إذ يمكن تصوير الواقع بالكائن الحي وهو يمر بمراحل وحالات مختلفة، كالطفولة والبلوغ والصحة والمرض والنشاط والخمول والقوة والضعف والنمو والذبول وغيرها. ولا شك أنه ليس من المعقول حقن هذه الحالات المختلفة بصنف واحد من جرعات الدواء والغذاء، والا فقد الكائن حياته. فمثلاً لو كان الكائن صحيحاً معافى فسوف لا يحتاج إلى دواء، والا انقلب الدواء إلى داء. ولو كان الكائن مريضاً فلا غنى له عن نوع من الدواء يناسب المرض. وبالتالي فأول ما يحتاج اليه الكائن هو الفحص لتشخيص حالته وتقديم ما يناسبه من علاج.

4 ـ من الناحية المنطقية ان المسح القبلي السالف الذكر لا يتحقق تبعاً للقيود والشروط التي تفرضها العقلية التقليدية من الفهم الإجتهادي، وهي العقلية التي تتخذ النهج الماهوي وقوالب اللزوم والاطلاق محوراً جوهرياً لمنظومتها الفكرية. فالحال الذي ذكرناه لا يتسق الا مع التسليم سلفاً بالنهج الوقائعي والطابع الارشادي بعيداً عن الصيغ الماهوية من التعبد والاطلاق.

هكذا تتبين أهمية خطوة المسح القبلي التي يتم فيها التعريف والتحقيق بكل من الحكم والواقع قبل عملية المزاوجة. أما بعد هذه العملية فهناك خطوة أخرى متممة كالآتي..

 

2 ـ المرحلة البعدية 

تستهدف هذه المرحلة الكشف عما يحصل من علاقة جدلية بين الحكم والواقع. فهي خطوة فحص غرضها الكشف عن حجم الموافقة والمعايشة بين الطرفين المتزاوجين، وتتجلى فائدتها في البحث عن الحد الذي يتحقق فيه أكبر قدر ممكن من الموافقة. ففي حالة ضعف التوافق وانعدامه يمكن البحث عن مصادر الخلل والأسباب التي تقف وراءه لتجنبها، فهل يعود الأمر إلى الواقع، أو إلى الحكم، أم لسوء التطبيق؟

وتتصف هذه الاستراتيجية بإبتعادها عن اشكالية ‹‹الحجية›› التي تعول عليها الطريقة التقليدية كمحك للقبول والاعتبار. إذ تتأسس الإشكالية الجديدة على النهج الإجرائي بما يتضمن الفحص الذي يحقق مبدأ القبول وعدمه تبعاً للموافقة. فالقبول وعدمه لدى الطريقة التقليدية يتوقف عند صيغة البحث الاستنباطي الذي يكشف عن المسوغ الشرعي وسلامته الفقهية، وهو ما يطلق عليه الحجية، في حين أن الأمر بحسب الاستراتيجية الجديدة شيء مختلف. صحيح أنه لا بد من احراز عدم الممانعة الشرعية بالشكل المرن الذي لا يتضارب مع الواقع ومرونته، لكن ذلك لا يكفي ما دامت المسألة متعالية يُحتمل لها الإصطدام بالواقع عند الاسقاط والمزاوجة. لذا كان لا بد من انتهاج استراتيجية أخرى تبتعد عن الصورة الأصولية التقليدية التي ترمي شباكها بغية احراز الحجية فحسب. فبنظرها أنه لو تحققت الحجية لإجتازت بذلك قنطرة الفحص والإختبار، وبالتالي جاز لها دخول حلبة الواقع بلا رقابة أو محاسبة. مع أن جوهر القضية يعود إلى اشكالية الموافقة مع الواقع وسلامة المزاوجة بين الطرفين، لا البحث المتعلق بالحجية والظنون المناطة بها. فليس كل ما هو حجة يقبل الموافقة دائماً، وإلا فكيف نفسر حالات الصدام التي تعرضت لها الكثير من الأحكام عند تنزيلها إلى الواقع؟! وهو ما جعل الفقهاء المحدثين في حيرة من أمرهم، فتراهم تارة يعتذرون بدعوى الضرورة والإضطرار، وأخرى بدعوى لزوم التدرج في الأحكام والعمل طبقاً للأولويات، وثالثة بإلفات النظر لضرورة التحقيق في موضوعات الأحكام، وغير ذلك من الدعوات التي تخلو من العلاج الحقيقي للمصالحة بين الحكم والواقع، سيما عند أخذ اعتبار ما يمر به الواقع من حالات وأطوار مختلفة كتلك التي صورناها لدى الكائن الحي. وهو ما يبرر النظرية التي طرحناها حول مبدأ الموافقة وما يتضمنه من مرحلتين اجرائيتين من الفحص والاختبار.

يبقى أننا استخدمنا مفهوم الموافقة عوضاً عن مفاهيم أخرى؛ كالمطابقة والتأييد والقابلية على التحقق والنجاح وما اليها. ويعود ذلك إلى نسبية مفهوم الموافقة بما يتسق والحالة التي نعالجها في ظل الأوضاع الاجتماعية وملابساتها. فقد تقوى الموافقة وتضعف، أو تزداد وتنقص، كما قد تتحقق في جوانب دون أخرى للقضية الواحدة، وقد يبدو عليها شيء من الأهمية في بعض الجوانب أو العكس. لذلك فإجراء هذا المبدأ في مثل هذه الصور يختلف عما يجري في القضايا العلمية الطبيعية التي يطبّق عليها مبدأ القابلية على التحقق والتأييد والتكذيب وما إلى ذلك.

أخيراً لسنا بحاجة للتذكير بأن الفقهاء مطالبون بصياغة قانونية لمبدأ الموافقة ضمن المطارح الأصولية، شرط تبني هذه الرؤية الجديدة من الفهم الوقائعي، بدل الحفاظ على النهج السائد من الفهم الماهوي المتعال!

***

نخلص مما سبق أن للدلالة الواقعية أهميتها في الكشف عن مقاصد الأحكام وتغييرها. الأمر الذي يفضي إلى اتخاذ الواقع معياراً لإختبار الأحكام طبقاً للموافقة والمخالفة، وبالتالي فلا بد من توظيف الدراسات الإنسانية الحديثة للكشف عن حقائق الواقع وسننه وحاجاته، ومن ثم الاستفادة منها ليكون التشريع والإجتهاد عقلانيين، وبغير ذلك ينقلب الأمر إلى ضده.

فالعمل بطريقة الإجتهاد التقليدية يكشف عن ثغرتين أساسيتين كالتالي:

 

الثغرة الاولى:

طبقاً للنهج الماهوي الذي استندت اليه الطريقة التقليدية، أصبحت الأحكام متعالية، بل ومتعارضة مع الواقع ومتنافية مع مقاصد الشرع. إذ أبعدت الواقع عن أن يكون له أثر على تشكيل الأحكام، باستثناء بعض الموارد الهامشية، مما عرّضها للعديد من الصدمات وفقاً لتحولات الظروف وتغيراتها.

هكذا يتحدد الخلل بعدم أخذ الدلالة الواقعية بعين الإعتبار، وذلك لما تشكله هذه الدلالة من وساطة للتوفيق بين الأحكام ومقاصدها الكلية. وبالتالي كان لا بد من ايجاد مؤسسات للعلوم الإنسانية تُعنى بتحديد الموضوعات التي تناط بها الأحكام، وعندها سنشهد موضوعات جديدة لا مثيل لها في السابق، وإن بدت وكأنها ذات الموضوعات التي تعلّق بها الخطاب الشرعي.

 

الثغرة الثانية:

بقدر ما ركزت الطريقة التقليدية على الجزئيات من التشريع بقدر ما ابعدت حالها عن النظر إلى كليات التشريع المعارضة. فتزاحم جزئيات الأحكام قد أفضى إلى عدم الإلتفات للكليات العامة.

ويبدو أن هذه الحالة تنطبق على أغلب الذين يحصرون تفكيرهم وسط تزاحم الجزئيات في مختلف المعارف الإنسانية، بما فيها العلوم الطبيعية. مع أن التعارض بين الكلي والجزئي يفترض على الأقل بطلان أحدهما، ولما كان من غير المعقول التخلي عن الكلي لضرورته، فإن البطلان سيطال الجزئي، وهو ليس بطلاناً مطلقاً بالضرورة، بل قد يتصف بالنسبية تبعاً لطبيعة العلاقة مع الواقع، ومنه الواقع النسبي. فالجزئي إما أن يكون باطلاً على نحو مطلق، أو باطلاً لوضع ما من الواقع دون آخر. ويشبه هذا الحال ما يحصل من تعارض أحياناً بين النظريات العلمية ككليات مسلّم بها، وما يعترضها من شذوذ في المصاديق. ففي هذه الحالة إما أن تكون النظرية خاطئة، أو لأن المصداق يخضع لظروف خاصة فيحتاج إلى تفسير يجعله يتسق مع النظرية، على فرض أن للمصداق حقيقة لا تنكر. لكن ليس من السهل التخلي عن النظرية إن كانت مدعمة بشواهد كثيرة مقنعة، ما لم تكن هناك نظرية أخرى لها قدرة تفسيرية أوسع من الأولى. لذلك فالأصلح هو تفسير حالة الشذوذ عبر وضع بعض الإفتراضات وفقاً لما عليه النظرية، طالما ان الخطأ يُفترض في أحدهما، وأنه لا توجد نظرية أخرى اوسع شمولاً واكثر قدرة على تفسيره.

فمثلاً لم يرفض العلماء نظرية نيوتن في الجاذبية عندما وجدوا التقادير الأولية التي وضعها بشأن حالات كسوف القمر غير صحيحة. كما أنهم لم يطروحها أرضاً رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذه. فقد اكتشف الفلكي (لفيريار) انحراف حركة كوكب عطارد عن مداره المتوقع نظرياً، ومثلما هو الأمر في حالة يورانوس؛ حاول هذا العالم توضيح الانحراف كنتيجة من السحب الجذبي من كوكب لم يتم اكتشافه والعثور عليه، إذ افترض أنه يقع بين عطارد والشمس، وأنه صغير الحجم جداً وذو كثافة عالية. لكن توضح فيما بعد أن الكوكب المفترض غير موجود، وأنه أمكن تفسير ذلك الانحراف تبعاً لنظرية النسبية العامة لاينشتاين[1]، وأنه قد انقضت عدة عقود على قبول هذا الشذوذ حتى أُعتبر شاهداً مكذباً للنظرية، سيما بعد ظهور نظرية اينشتاين كمنافس استطاع تفسير كل ما فسرته نظرية نيوتن، بل وتجاوزها في توضيح ما لم تستطع تفسيره من الشذوذ.

وقد أصبح من المعروف أنه يمكن للنظرية أن تبقى مقبولة حتى لو كان هناك دليل يكذبها، طالما لديها قوة تفسيرية كافية في النواحي الأخرى[2]. وكما يقول (همبل) فإن هناك شواهد عديدة في العلم تبين بأن التصادم بين النظرية التي تتمتع بقوة عالية للتأييد مع قضية تجريبية إنما يحل من خلال إلغاء اعتبار هذه القضية بدلاً من التضحية بالنظرية[3]، وذلك تبعاً لما تتمتع به هذه الأخيرة من قدرة تفسيرية عالية لعدد من المجالات. أما الحالة التي تكون فيها النظرية مفردة أو ضيقة لا تستوعب المجالات المختلفة؛ فإنه يضحى بها عندما تتضارب مع الشواهد الخارجية. وبالتالي فإن ترك العلماء للنظرية التي تمتاز بالتأييد والتعميم العالي لا يحصل بسبب معارضتها للحقائق الخارجية، بل لكونها مرجوحة بالقياس إلى غيرها من النظريات المنافسة الأخرى.

وبعبارة أخرى، إن النظرية المفردة البسيطة تحكمها الحقائق الخارجية وهي قابلة للتفنيد والاستبدال طبقاً لهذه الحقائق، خلافاً للنظرية ذات التأييد العالي؛ باعتبارها هي التي تحكم الحقائق الخارجية من خلال تفسيرها، وعند التعارض بينها وبين بعض من هذه الحقائق؛ فإن الرفض يكون لهذا البعض واعتباره شاذاً وغريباً[4].

وعلى هذه الشاكلة يصدق الأمر عندما نجد معارضة بين الكلي والجزئي من الأحكام، حيث لا يعقل طرح الكلي لأجل التمسك بالجزئي إن لم يوجد منافس آخر للكلي المعلوم، إنما المعقول هو تفسير الجزئي بما يجعله متفقاً مع الكلي، وبهذا يُحافظ على كليهما عبر وساطة الدلالة الواقعية، كما هو واضح مما أوردناه من نماذج وأمثلة. لذلك قال الشاطبي: ‹‹إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم اتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة، فلا بد من الجمع في النظر بينهما، لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي الا مع الحفظ على تلك القواعد، اذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الاحاطة بمقاصد الشريعة.  فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بالغاء ما اعتبره الشارع، واذا ثبت هذا لم يكن ان يعتبر الكلي ويلغى الجزئي››[5] .

 



[1] انظر:

 Hemple,1987, p.54

[2] انظر مثلاً:

L. Jonathan Cohen, An Introduction To The Philosophy of Induction And Probability, Oxford university press, New york, 1989, p. 142. Imre Lakatos, The methodology of scientific reserch programmes, philosiphical papers, volume1, editted by Jhon Worrall and Gregery Currie, first published 1978, reprinted 1984, cambridge university press, p. 30

[3] انظر:

 Lakatos, 1978, p. 29

[4] انظر:

  Lakatos, 1978, p. 44-45.

وانظر ايضاً: فيليب فرانك: فلسفة العلم، ترجمة علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الاولى، 1983م، ص53ـ54 .

[5] الموافقات، ج3، ص9ـ10.

comments powered by Disqus