-
ع
+

أدلة الطوفي في ترجيح المصلحة على النص

يحيى محمد 

يمكن تقسيم الأدلة الفعلية التي لجأ اليها نجم الدين الطوفي إلى ما يلي:

1 ـ إكثار الطوفي من الأمثلة الشرعية التي تكشف عن مراعاة الشرع للمصلحة واعتبارها من المقاصد في قبال أحكام الوسيلة. وهو بهذا يتبع الطريقة الإستقرائية في تتبع النصوص الوافرة التي تثبت مراعاة الشرع للمصلحة، كي يستخلص النتيجة المنطقية بوجوب تقديم المقاصد على الوسائل، وبالتالي تقديم المصلحة على سائر الأحكام والنصوص وكذا الاجماع عند التعارض. وبعبارة أخرى أنه لما كانت المصلحة هي المقصودة وان النص والإجماع وسائر الأدلة والامارات الشرعية هي وسائل لتحقيق هذه المصلحة؛ لذا وجب تقديم هذه الاخيرة عليها عند التعارض. فعنده ان الاجماع أقوى من النص، وان المصلحة أقوى من الاجماع، لذا فالأولى ان تكون المصلحة أقوى من النص.

2 ـ تقديم الطوفي لأمثلة عديدة حاول من خلالها أن يبين كيف أن الشرع من جانب، والصحابة من جانب آخر، رجحوا العديد من المصالح على أحكام النص، بل وعلى الاجماع ايضاً، مع أخذ اعتبار عدم تبلور هذا المصدر التشريعي عند الصحابة. كما ان الأمثلة التي ذكرها في رسالته ليست كلها دالة على ترجيح المصلحة، وهي كالتالي:

رغم ان الصحابة اجمعوا على جواز التيمم للمرض وعدم الماء، الا ان ابن مسعود خالف ذلك طبقاً لاعتبارات المصلحة، فقال: (لو رخصنا لهم في هذا، لأوشك ان يبرد على أحدهم الماء، فيتيمم وهو يرى الماء). ورغم ان ابا موسى احتج عليه بالآية وحديث عمّار؛ الا أنه لم يلتفت إلى ذلك، وهو ترك للنص والاجماع للمصلحة[1].

كذلك رغم قول النبي (ص) لأصحابه حين فرغ من الاحزاب: (لا يصلين أحدكم العصر الا في بني قريضة)؛ الا ان بعضهم صلاها قبل الوصول إلى بني قريضة[2]، وهو خلاف النص لبعض الاعتبارات المرجحة.

كما ان النبي (ص) قال لعائشة: (لولا قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد ابراهيم)[3]، مما يدل على ان هدمها وبناءها من جديد هو الواجب، لكن النبي (ص) تركه لمصلحة الناس.

ايضاً ان النبي (ص) لما أمر الناس بجعل الحج عمرة فانهم قالوا: كيف وقد سمينا الحج؟ وتوقفوا. وهو عبارة عن معارضة للنص بالعادة.

وكذا أنه لما أمرهم يوم الحديبية بالتحلل فإنهم توقفوا تمسكاً بالعادة، في أن لا حلّ قبل قضاء المناسك، حتى غضب النبي (ص) وقال: (ما لي آمر بالشيء فلا يفعل؟).

كما روى ابو يعلى الموصلي في مسنده ان النبي (ص) بعث ابا بكر ينادي: (من قال لا إله الا الله دخل الجنة) فوجده عمر فردّه، وقال: (إذاً يتكلوا).

كما روى الموصلي بأن رجلاً دخل يصلي فأعجب الصحابة سمْته، فقال النبي (ص) لأبي بكر: اذهب فاقتله، فذهب فوجده يصلي، فرجع عنه. ثم أمر عمر فرجع، حيث كلاهما يقول: (كيف اقتل رجلاً يصلي؟). ثم أمر علياً بقتله فلم يجده، فقال النبي (ص): (لو قُتل لم يختلف من امتي اثنان). وبه يعلم ان الشيخين ابا بكر وعمر تركا النص بالإستحسان في اقباله على العبادة، ومع ذلك لم ينكر عليهما النبي (ص) ترك أمره، ولا عاتبهما ولا ثرّب عليهما.

3 ـ ومن حيث الاستدلال بالنص فإن الطوفي بنى نظريته تعويلاً على فهم وتحليل الحديث النبوي (لا ضرر ولا ضرار)، ومن ثم توظيفه ضمن اطار اعتبار المصلحة مقصودة ومرجحة على غيرها. فهو يفهم النفي في الحديث النبوي المشار اليه بأنه (نفي عام إلا ما خصصه الدليل، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلة الشرع، وتخصيصها به في نفي الضرر وتحصيل المصلحة. لأنا لو فرضنا بعض أدلة الشرع تضمن ضرراً، فإن نفيناه بهذا الحديث كان عملاً بالدليلين، وان لم ننفه به كان تعطيلاً لأحدهما، وهو هذا الحديث، ولا شك ان الجمع بين النصوص في العمل بها أولى من تعطيل بعضها). لذا رأى أن تقديم المصلحة عليهما جاء (بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تُقدم السنة على القرآن بطريق البيان)[4].

ورغم ذلك استدرك الطوفي حالة رأى أنه لا يصح فيها المعارضة بين النص والمصلحة، أو تقديم هذه الأخيرة على الأول، وذلك فيما لو كان النص قطعي الصدور وقطعي الدلالة من جميع الوجوه مطلقاً بحيث لا يتطرق اليه إحتمال بوجه[5]. يضاف إلى أنه اعتبر المصلحة تلزم في المعاملات ونحوها دون العبادات وما شاكلها من تقادير، وذلك باعتبار (ان العبادات حق للشرع خاص به ولا يمكن معرفة حقه كماً وكيفاً)[6].

الشبهات حول الترجيح بالمصلحة 

يُثار عدد من الشبهات والردود على الموقف من المصلحة. فاذا تجاوزنا الآراء التي تمنع من العمل بالمصلحة المرسلة باعتبارها ليست موفقة، فإن هناك بعض الشبهات حول موقف الطوفي من المصلحة وما فهمه من قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، كما يلي:

1 ـ هناك إشكال فني حول اعتبار الطوفي للحديث النبوي مخصصاً لغيره من الأحكام أو النصوص والاجماع، مع ان المخصص بحسب الاصطلاح (أن يكون أخص مطلقاً من العام ليصح تقديمه عليه.. والنسبة هنا.. هي نسبة العموم من وجه، فوجوب الوضوء مثلاً، بمقتضى اطلاقه شامل لما كان ضررياً وغير ضرري، وادلة لا ضرر شاملة للوضوء الضرري وغير الوضوء. فالوضوء الضرري مجمع للحكمين معاً، ومقتضى القاعدة التعارض بينهما والتساقط، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر، لأن نسبة العامين إلى موضع الالتقاء من حيث الظهور نسبة واحدة. والظاهر ان الطوفي بحاسته الفقهية ادرك تقديم هذا الدليل على الأدلة الأولية وإن لم يدرك السر في ذلك، والسر فيه يرجع إلى حكومة هذا النوع من الأدلة على الأدلة الأولية لما فيه من شرح وبيان لها. فكأنه يقول بلسانه ان ما شرع لكم من الأحكام هو مرفوع عنكم اذا كان ضررياً، فهو ناظر اليها ومضيق لها)[7].

2 ـ ان قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) بحسب نظر البعض ومنه النظر الشيعي لا يستفاد منها ترجيح المصالح على حكم النص، بل أنها تقتصر فقط على مواضع الضرر والإضرار. لذلك فقد نقد البعض طريقة الطوفي من هذه الزاوية، أي من حيث ان حديث (لا ضرر ولا ضرار) رافع للتكليف لا أنه مشرع، فهو لا يتعرض إلى أكثر من ارتفاع الأحكام الضررية عن موضوعاتها[8]. بمعنى أنه لا يغير من الأحكام الا بحدود ما ينشأ عنها من ضرر.

مع هذا يمكن الاجابة على ما سبق بإعتبارين، أحدهما فيما يفهم من المصلحة من حيث أنها ضد الضرر، فانتفاء أحدهما يعني حضور الثاني، وعلى هذا الفهم يسقط الإشكال من أساسه، وهو ذاته ما عوّل عليه الطوفي من اعتبار الضرر نقيض المصلحة[9]. أما الاعتبار الثاني فبما تتضمنه المصلحة من الكمال المعتبر عقلائياً. وهي وإن كانت غير مستمدة من نفس الحديث الآنف الذكر وملابساته الخاصة؛ الا ان القرائن المختلفة التي تقصدها الشريعة بما فيها تطبيق قواعد النسخ والعمل بالاستثناءات أو عدم الالتزام بالتطبيق الكلي والحرفي؛ كل ذلك لا يفهم باتساق الا على نحو النظر إلى المصلحة كمقصد كلي أساس، سيما وأن تفويتها يستلزم النقص والضرر. الأمر الذي يبرر حاكمية المصلحة على الأحكام عند التعارض، مثلما كشف عنه الطوفي.

3 ـ يرى البعض ان التعويل على قاعدة المصالح كمبدأ رئيسي يفضي في حد ذاته إلى فتح المجال للعقل لأن يضع أحكامه على حساب النص، مما يعني نسخ النصوص ومن ثم نسخ الشريعة ذاتها أو تعطيلها. لهذا قيل أنها خطرة تفضي إلى نسخ الأحكام الشرعية، ومن ذلك ما صرح به الاستاذ عبد الوهاب خلاف في معرض رده على الطوفي معتبراً أن (تعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين)[10]. مع ان اصطلاح النسخ هنا هو غير ما استقر عليه رأي الفقهاء، فهم لا يعدون التخصيص بالرأي والإجتهاد من النسخ، وانما يشرطون فيه رفع الحكم كلية، والطوفي لا يقول بالرفع. ولا شك ان اتهامه بالنسخ يفضي إلى اتهام العديد من الصحابة والمجتهدين الذين قاموا برفع جملة من الأحكام ذات النصوص الصريحة القاطعة، فهم أولى بممارسة النسخ من الطوفي. كما ان اتهامه بذلك يجر إلى اتهام من سبقه من القائلين بجواز تخصيص عموم النص بأي دليل كان، ومن ذلك دليل العرف والمصلحة كما هو الحال مع ابي حنيفة ومالك، حتى كان هذا الأخير يستحسن تخصيص النص العام بالمصلحة[11]، وهو أمر يعود إلى الترجيح بالممارسة العقلية على حساب ظاهر النص، ولا يختلف ذلك كثيراً عما عليه طريقة الطوفي، فسواء كان التخصيص يلوح عموم النص من قبل العقل أو المصلحة، أو كان تخصيصاً على مستوى تعطيل حكم النص في الحالات التي يصادف معارضته للمصلحة ضمن شروط محددة؛ ففي جميع الأحوال أُجري التغيير على ما يفهم من النص، وليس في ذلك رفع للحكم بكليته. فما هي المشكلة إذاً، ولماذا التشنيع على الطوفي؟!

4 ـ هناك نقد على صعيد التطبيق، فالبعض اعتبر أنه بموجب نظرية الطوفي فإن المصلحة تقتضي الرخصة في العديد من الأحكام الثابتة الحرمة مثل الربا[12]. لكن يرد على هذا النقد امران: الأول هو ان الطوفي صريح في عدم تطبيق نظريته على ما يعلم قطعيته من الشرع، وربما يدخل الربا ضمن الأحكام القطعية الواضحة بلا أدنى إحتمال حسب هذه النظرية. والثاني هو أن منع الربا فيه مصلحة مقصودة كما ورد في العديد من النصوص، وبالتالي فليس فيه ما يستشكل على النظرية. يضاف إلى ذلك ان العقل الفقهي عموماً ونظرية الطوفي خصوصاً لا يقبلان الأخذ بمطلق المصالح، والا لما اوردوا القيود والشروط في ذلك، ومنها الاتساق مع مقاصد التشريع. إذ تتضمن العلاقة بين المصالح والمقاصد عموماً وخصوصاً من وجه، فرب مصالح تتنافى مع المقاصد ولا تدخل ضمنها كالربا. كذلك رب مقاصد تخلو من المصالح، أو بالأحرى هي مما لا تدرك بالعقل كالتعبديات التي تعبدنا بها الشرع.

 



[1] فقد روى البخاري ومسلم أن أبا موسى الأشعري سأل عبد الله بن مسعود: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهراً، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة ((فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً)) فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد. فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار: بعثني رسول الله (ص) في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي (ص) فذكرت ذلك له فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه؟ فقال عبد الله: أو لم ترَ عمر لم يقنع بقول عمار (صحيح مسلم، شبكة المشكاة الالكترونية، حديث 368. وصحيح البخاري، ضبطه ورقمه ووضع فهارسه مصطفى ديب البغا، شبكة المشكاة الالكترونية، حديث 340)؟.

[2] وفي رواية لا يصلين أحدكم الظهر.. صحيح البخاري، حديث 903ـ904، وحديث 3893. وصحيح مسلم، حديث 1770.

[3] نص ما جاء في صحيح البخاري هو قول النبي لعائشة: يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم بكفر، لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس وباب يخرجون (صحيح البخاري، حديث 48). وعلى شاكلته ما جاء في صحيح مسلم وهو قول النبي: يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين باباً شرقياً وباباً غربياً وزدت فيها ستة أذرع من الحجر (صحيح مسلم، حديث 1333).

[4] لاحظ: رسالة الطوفي، مصدر سابق، ص109 و138 و141 و123 و143.

[5] المصدر السابق، ص 123.

[6] المصدر، ص143.

[7] الأصول العامة للفقه المقارن، ص391-392.

[8] الأصول العامة للفقه المقارن، ص391-392.

[9] رسالة في رعاية المصلحة، مصدر سابق، ص110.

[10] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص103. وانظر ايضاً ما كتبه ابو زهرة، كما في: الغزالي الفقيه، بحث منشور في: أبو حامد الغزالي، في الذكرى المئوية التاسعة لميلاده، مهرجان الغزالي في دمشق، 1961م، ص544 وما بعدها.

[11] الموافقات، ج4، ص209.

[12] محمد يوسف موسى: في سبيل القرآن والسنة، رسالة الإسلام، الاستانة الرضوية للطبع والنشر، 1411هـ ـ1991م، المجلد الخامس، ص81-82. ولاحظ بهذا الصدد ايضاً: محمد حسين كاشف الغطاء: تعليق من النجف، رسالة الإسلام، المجلد الثاني، الاستانة الرضوية للطبع والنشر، 1411هـ ــ1991م، ص194.

comments powered by Disqus