-
ع
+

التمثيلات الواردة حول الرؤيتين الفلسفية والعرفانية

يحيى محمد

هناك شعرة طفيفة تفصل بين الطريقتين الفلسفية والصوفية، وعليها ظهرت تمثيلات معبّرة عن وحدة الوجود لدى العرفاء والإشراقيين؛ لكنها مختلطة لم يراعَ فيها التمييز وتخصيص المناسبة. فالذي يناسب الصوفية تمثيل هذه الوحدة بالكلي الطبيعي الذي وجوده بوجود أفراده، أو بالهيولى المتصورة بصور البسائط العنصرية ومركباتها، أو بالنفس والجسد من حيث سريان النفس بكافة الأعضاء، وكذا بالبحر وأمواجه، إذ ليس بينهما إختلاف إلا بإعتبار عقلي، لأن الأمواج ما هي إلا تشكيلات لذات البحر[1].

وتحضرنا بعض أبيات من الشعر تبدي هذا التمثيل للبحر على وحدة الوجود، كالتي انشدها التلمساني كالتالي:

البحر لا شك عندي في توحده            وإنْ تعدد بالأمواج والزبد

فلا يغرنك ما شاهدت من صور فالواحد الرب ساري العين في العدد

وقوله:

فما البحر إلا الموج لا شيء غيره        وإن فرقته كثرة المتعدد[2]

وكذا ما قيل من الشعر:

البحر بحر على ما كان من قدم           إن الحوادث أمواج وأنهار

لا يحجبنّك أشكال يشاكلها         عمن تشكّل فيها فهي أستار[3]

ومن التمثيلات الأخرى حدوث الدائرة من الشعلة الجوالة، إذ تتكون من حركتها السريعة دائرة موهومة في الخارج، مع أن الموجود هو النار وما عداها وهم لا حقيقة له. ومن ذلك أيضاً التمثيل بالمداد وعلاقته بالحروف، فظهور المداد في صور الحروف - كما يذكر الفيض الكاشاني - لا يقدح في صرافة وحدته ووحدة حقيقته، وكذا ظهور الوجود في صور الموجودات لا يقدح في صرافة وحدته ووحدة حقيقته، فليس في اللوح إلا المداد، ووجود الحروف أمر إعتباري، كذلك لا توجد حقيقة في العالم سوى الوجود المسمى بالحق، لأن سائر التعينات المتكثرة للموجودات ما هي إلا أمور إعتبارية وهمية. يضاف إلى أن «الحروف كلها بالمداد موجودة وبدونه معدومة، بل ليس في الحروف إلا المداد، بل ليس الحروف إلا المداد وإنما ظهر بصور الحروف، فكذلك العارف لا يشاهد بالحقيقة في أعيان العالم إلا الوجود الحق لعلمه بأن أعيان الموجودات كلها به موجودة، وبدونه معدومة، بل ليس في الوجود إلا هو وإنما ظهر بصور الأعيان»[4]. كذلك التمثيل بانطباع صورة واحدة في مرايا متكثرة مختلفة التركيب، ومثله ما يحصل من أطوار لضوء الشمس في الزجاجات الملونة. فمع أن هذا الضوء لا تفاوت فيه ولا لون له في نفسه، إلا أنه يظهر في الزجاجات مختلفاً من حيث اللون والتفاوت طبقاً لأعيان هذه الزجاجات أو ماهياتها.

أما التمثيلات الدالة على ما يناسب أهل الإشراق، فمنها: استفادة نور القمر من الشمس. كما يناسبهم ببعض الإعتبارات المثال المتعلق بانطباع صورة واحدة في مرايا متكثرة، وكذا ما يحصل للنور في الزجاجات المختلفة. وأيضاً علاقة النفس بالبدن بإعتبار آخر، وهو أن السريان يتعلق بفعلها لا ذاتها.

كما أن علاقة الواحد بالعدد تارة تُمثَّل لتدل على ما يناسب الطريقة الإشراقية، وأخرى لتدل على ما يناسب الطريقة الصوفية. فالواحد موجود، وبوجوده توجد سائر الأرقام، فلا وجود للإثنين ما لم نضف إلى الواحد واحداً، وكذا الثلاثة توجد بإضافة الواحد إلى الإثنين، وهكذا إلى ما لا نهاية له، فلو فُني الواحد لفني كل العدد، في حين أن أيّ مرتبة تُعدم لا يؤدي إلى إنعدامه. وهذا التمثيل يمكن أن يناسب أهل الإشراق بلون من الإعتبار. لكن حين يعتبر الواحد نفس العدد، والعدد كله واحداً لأنه مشترك في جميع المراتب التي تعتبر تكراراً له، ففي هذه الحالة يصبح التمثيل مناسباً لطريقة الصوفية، إذ يكون دالاً على مقارنة الحق بالخلق، حيث يظهر بصور البسائط ثم المركبات، مع الاحتفاظ بوحدة الحقيقة ووهم التغاير الظاهر بينهما[5].



[1]  يقول حيد الآملي: «.. إن الأمواج والقطرات وإن كانت لها إعتباراً عقلياً وتميزاً وهمياً، لكن في الحقيقة ليس لها وجود أصلاً، لأن الوجود الحقيقي للبحر فقط، والأمواج هالكة فانية في نفس الأمر، وهذا أمره معقول يعرفه كل عاقل، بل أمر محسوس يعرفه كل ذي حس..» (أسرار الشريعة، ص77ـ78).

[2] رسالة حقيقة مذهب الإتحاديين، ضمن مجموع فتاوى إبن تيمية، ج2، كتاب توحيد الربوبية. كذلك: إبراهيم بن عمر البقاعي: مصرع التصوف، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، الموسوعة الشاملة الإلكترونية www.islamport.com، ج2، ص247.

[3] جامع الأسرار، ص161.

[4]  كلمات مكنونة، ص37ـ39.

[5]  لاحظ مدارك التمثيلات في المصادر التالية: تحفه، ص130ـ131. وقرة العيون، ص207ـ208. وكلمات مكنونة، ص37ـ39. وأسرار الشريعة، ص77ـ78. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص338 وما بعدها.

comments powered by Disqus