-
ع
+

نظرية صدر المتألهين في العلم الالهي

يحيى محمد

ذهب صدر المتألهين الى أن الذات الإلهية عبارة عن صور الأشياء كلها، وهو بذلك يتفق مع النظرية المشائية لابن رشد. لكنه مع هذا لا يرى هناك شيئاً مستقلاً ومنفصلاً عن تلك الذات كالمادة او الهيولى. الامر الذي يتسق ومنطق السنخية في العلاقة التي تربط بين العلم الالهي وبين الحوادث الصورية التي تجري في المادة، دون ان يقتضي ذلك تغير العلم تبعاً للحوادث المتغيرة. فنظرية صدر المتألهين لا تتوقف عند هذا العلم، بل تضيف اليه ذلك المسمى بالعلم الشهودي الحضوري او الإشراقي، فتصبح الاشياء حاضرة مشهودة لا تفارقه أزلاً وأبداً. مما يعني لزوم أن يكون حدوثها وغيابها أمراً نسبياً يخفي حقيقة كونها ثابتة الوجود، الامر الذي يجد تبريره ضمن نفس المنطق من السنخية.

وهذه النظرية التي تعود الى العرفاء، كما اقرّ بذلك صدر المتألهين واعتبرها موافقة للقوانين الحكمية1، تتضمن العلمين الصوري والشهودي، بل انها تحمل ثلاثة انواع من العلم الالهي كالتالي:

فهناك علم صوري سابق لوجود الاشياء، اذ يكون ادراكها في مرتبة الذات الالهية قبل وجود الاشياء، وهو علم اجمالي محض يعبر عن عين الذات الالهية تبعاً لمقولة (بسيط الحقيقة كل الاشياء)، مما يعني انه اعلى مراتب الادراك واكملها2.

كما هناك علم صوري ثان مفصل يأتي بعد الذات الالهية، وهو ما يطلق عليه العلم بالاعيان الثابتة التي تلزم عن صفاته الخاصة، حيث انها في الذات الالهية مجملة، لكنها تتفصل بعد هذه الذات. فعلاقة هذه الاخيرة بالاعيان علاقة وحدة بكثرة، فكلها مشهودة لدى الذات الالهية على عدمها.3

وسبق للعارف حيدر الاملي ان اشار الى كلا هذين العلمين، فصوّر العلم الالهي بانه علاقة مجملة للاعيان الثابتة بالذات الاحدية، شبيه بعلاقة الشجرة بالنواة. فالشؤون الذاتية والحقائق الازلية او الاعيان الثابتة المجملة انما وجودها في الذات الاحدية كوجود الشجرة في النواة، وحيث ان الشجرة لا تنفك عن النواة، فان النواة اذا صارت عالمة بذاتها فقد صارت عالمة بجميع كمالاتها الشجرية من الاغصان والاوراق والازهار والثمار وغيرها. وكذا هو الحال في العلاقة بين الحق ومعلوماته، فالعلم بالاعيان الثابتة هو نفسه عبارة عن العلم بالذات الالهية، فاذا صار الحق عالماً بذاته فقد صار عالماً بجميع الذوات والحقائق المكنونة مجملاً في ذاته المعبر عنها بالحضرة الاحدية. ومن ثم يكون ظهورها تفصيلاً في الحضرة الربوبية التي تتأخر عنها تأخراً ذاتياً4. فالعلم والاعيان بكثرتها المجملة هي عين الذات الاحدية من غير اختلاف.

وللعارف القيصري بيان للعلم الشمولي بعد الذات الالهية شبيه بذلك الذي يتحدث عنه الفارابيان، حيث يرى ان الصور التي يشتمل عليها العقل الاول اجمالاً والنفس الكلية تفصيلاً عبارة عن حقائق الاشياء، فافاضة المبدأ الاول عليهما بتلك الصور عبارة عن ايجاد تلك الحقائق فيهما، وكل ما في الخارج من الحقائق هي كالظلال لتلك الصور، اذ تظهر في الخارج بواسطة ظهورها فيهما اولاً، ويحصل لهما العلم بها بعين تلك الصور الفائضة عليهما وليس بالصور المنتزعة من الخارج. على ان تلك الحقائق هي عين حقيقة العقل الاول، بل عين كل عالم بها بحسب الوجود المحض، وان كانت من حيث تعيناتها ومعلوميتها تكون غيرها، باعتبار ان الحقائق كلها راجعة الى الوجود المطلق بحسب الحقيقة، فكل منها عين الاخر باعتبار الوجود، وان كانت متغايرة بالتعينات.5

كما ان هناك علماً ثالثاً شهودياً يأتي بعد الذات الالهية. فهو عبارة عن ذلك الذي له علاقة حضورية بالموضوعات الخارجية التي تقابل الذات مباشرة، لذلك كان هذا العلم علماً تفصيلياً يمثل عين وجود الاشياء لا صورها6. فعند صدر المتألهين ان العلم الصوري لا يمنع العلم الآخر المستلزم عن العلم بالذات، فكونه تعالى علة لغيره يبعث على ان يكون عالماً بمعلوماته على نحو الوجود الذي حصلت منه؛ لا بمجرد صورها او ماهياتها من حيث هي مع قطع النظر عن خصوص وجوداتها7. وهو في تفسيره لسورة البقرة اعتبر ان علم الحق بالاشياء علمان، احدهما عين ذاته وهو العلم المجمل، والاخر علم مفصل عبارة عن صورة كل واحدة من الحقائق الامكانية؛ سواء كانت مقارنة لذاته كما عليه الفارابيان، او مباينة عنه كما عليه الاشراقيون وغيرهم، او غير زائدة على اسمائه وصفاته كالذي يراه العرفاء8.

نقد النظرية

كانت تلك هي طريقة العرفاء في العلم الالهي كما ابرزها صدر المتألهين. وهي بدورها تواجه نوعين من المشاكل، احدهما يتعلق باثبات احدى القواعد الاساسية التي يتعين من خلالها العلم الصوري الالهي بالاشياء، وهي قاعدة (بسيط الحقيقة كل الاشياء)، والاخر له علاقة بتحديد العلم الالهي بالشكلين الصوري والشهودي، وذلك كالاتي:

أـ مشكلة العلم الصوري وقاعدة بسيط الحقيقة

قلنا انه بحسب طريقة صدر المتألهين فان علم الله بذاته يمثل عين علمه المجمل بالاشياء جميعاً، وهذا التحديد يتوقف على صدق قاعدة (بسيط الحقيقة كل الاشياء)، والتي بدورها تتوقف على صدق امرين مجتمعين: احدهما منطق السنخية، اذ ما لم تثبت هذه الاخيرة لا يثبت كل ما انبنى عليها؛ بما في ذلك العلم المجمل للاشياء الذي يمثل عين العلم بالذات. والاخر الوجود بمعناه الفعلي، حيث انه دال على البساطة دون التركيب.

اذن يمكن انتزاع قاعدة (بسيط الحقيقة كل الاشياء) عبر منطق السنخية مضافاً الى حقيقة الوجود البحت، حيث لا بد من افتراض ان الاصل الاول بسيط الذات رغم انه يشتمل على كل شيء. فمن حيث انه محض الوجود يثبت كونه بسيطاً، ومن حيث منطق السنخية يثبت كونه كل الاشياء. لكن المشكلة هو ان حضور السنخية يغيّب عنصر البساطة، كما ان حضور الوجود البحت يغيّب الكثرة او كلية الاشياء. فبين الامرين شيء من التعارض، وان اثبات احدهما لا يمهد السبيل للاخر، وبالتالي فان القول بان الحق بسيط الحقيقة لا يعني انه كل شيء، والقول بانه كل شيء لا يعني انه بسيط الحقيقة.

وحول الامر الاول، فمن العجب والغرابة أن يمنع الفلاسفة المسلمون الاوائل وجود الكثرة المجملة في ذات الحق واضطروا لاجل تصحيح العلم الالهي ان يحولوا الصور والكثرة الى المعلول الاول كي لا يلزم التركيب وحلول الاشياء في ذاته تعالى، رغم انهم سلموا بمنطق السنخية وما تفضي اليه من قضايا عديدة؛ كقاعدة العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول وقاعدة الامكان الاشرف ونظرية الفيض وغيرها من القضايا الفلسفية الاخرى.

أما الامر الاخر، وهو المتعلق ببساطة حقيقة الذات الالهية، فهو الذي اخذ به اولئك الفلاسفة، مما يعني انهم كانوا يدركون استحالة الجمع بين القول بوجود الكثرة العلمية في الذات الالهية وبين اعتبار حقيقة هذه الذات بسيطة، او انهم كانوا يتصورون ان ذلك يبعث على التناقض. وعليه فقد وافقوا على الثاني ومنعوا الاول. الامر الذي خالفهم عليه ابن رشد، اذ اعلن صراحة ولاول مرة بوجود الكثرة العلمية في ذات الحق تعويلاً على اعتبارها كل الاشياء، وكذا الحال مع الصوفية ايضاً9، فهم عدوا المبدأ الاول واحداً يحمل في ذاته تلك الكثرة المجملة، وصح عندهم انه الواحد الكثير، مما يتفق مع منطق السنخية.

لكن السؤال المطروح هو كيف يمكن الجمع بين البساطة وحمل الكثرة او الكل كما تفترضه قاعدة (بسيط الحقيقة كل الاشياء)؟ ذلك ان هذا الجمع يوحي بالتناقض، اذ كيف يمكن التوفيق بين قبول وجود الكثرة في ذات الحق وبين اعتبار هذه الذات عقلاً واحداً بسيطاً من دون تكثر ولا تركيب؟ فهذا التناقض الظاهر هو ما فرّ منه الفارابيان فاختارا طريقهما بانكار الكثرة في الذات حفاظاً على بساطتها ووحدتها.

لذلك اعتبرت القاعدة المذكورة من الامور الغامضة وغير المتقنة لدى الفلاسفة، وهو ما جعل صدر المتألهين لا يعترف لأحد قبله بمحالفة الحظ في ان يتيسر له فهمها وتحصيلها، فقال بهذا الصدد: ‹‹اعلم ان كون ذاته عقلاً بسيطاً هو كل الاشياء امر حق لطيف غامض، لكن لغموضه لم يتيسر لاحد من فلاسفة الاسلام وغيرهم - حتى الشيخ الرئيس - تحصيله واتقانه على ما هو عليه، اذ تحصيل مثله لا يمكن الا بقوة المكاشفة مع قوة البحث الشديد، والباحث اذا لم يكن له ذوق تام وكشف صحيح، لم يمكنه الوصول الى ملاحظة احوال الحقائق الوجودية، واكثر هؤلاء القوم مدار بحثهم وتفتيشهم على احكام المفهومات الكلية، وهي موضوعات علومهم دون الإنيات الوجودية، ولهذا اذا وصلت نوبة بحثهم الى مثل هذا المقام ظهر منهم القصور والتلجلج والتمجمج في الكلام››.10

مع هذا فقد جرى اثبات تلك القاعدة ببعض الطرق الغريبة التي لا تشبع ولا تغني من جوع، كطريقة نفي التركيب وعدم التناقض. اذ حاول صدر المتألهين اثبات ان نفي تلك القضية يفضي بالذات الى التركيب والخلط بين الواجب والممكن، فلو لم يكن الواجب وجوداً لكل شيء فانه لا يكون بسيط الذات ولا محض الوجود، بل يصبح وجوداً لبعض الاشياء وعدماً للبعض الاخر، فيلزم منه التركيب والخلط بين الواجب والممكن. وتوضيح ذلك انه اذا فرضنا بسيطاً كـ (ج) مثلاً، وقلنا ان (ج) ليس هو (ب)؛ فان حيثية كونه (ج) هي غير حيثية كونه ليس (ب)، اذ لو كان ذلك الايجاب وهذا السلب امراً واحداً للزم من مفهوم الانسان - مثلاً - ان يعقل مفهوم كونه ليس بفرس، او ما شابه ذلك، وهو واضح البطلان، فعلم بذلك ان كل موجود سلب عنه امر وجودي فهو ليس بسيط الحقيقة، بل ذاته مركبة من جهتين، جهة بها هو كذا، وجهة بها هو ليس كذا، وبالتالي فبعكس النقيض يصبح من الضروري ان يكون بسيط الحقيقة كل الاشياء.11

كما حاول صدر المتألهين ايضاً ان يستدل على تلك القاعدة من خلال عدم التناقض بنفس صورة ذلك البرهان، فاعتبر ان السر في عدم اعتبار حيثية كون الشيء (ج) هي نفس حيثية كونه ليس بـ (ب)؛ هو لاستحالة اجتماع الوجود والعدم في امر واحد، فالشيء الواحد لا يمكن ان يكون مصداقاً للوجود والعدم من جهة واحدة، وعليه لو كان (ج) بسيط الحقيقة لكان من الضرووري ان يكون عين (ب) و(م) و(ق) الخ... فسلب بعض هذه الاشياء عنه يفضي به الى التناقض لاجتماع الوجود والعدم.12

وفي هذه الحالة نجد جواباً على الاشكال الذي قد يرد، وهو انه لِمَ لا يكون سلب الامر العدمي ايضاً مما يفضي بالمبدأ الحق الى التركيب؟ فحيثية كونه كذا هي كذلك غير حيثية كونه ليس كذا على النحو العدمي، لذا يستلزم ان يكون المبدأ الحق مركباً بهذا الاعتبار، فيبطل البرهان بذلك.

والجواب هو ان نفس سلب الامر العدمي يعتبر اثباتاً للامر الوجودي، حيث ان سلب السلب وجود، لذا يتعين كون بسيط الحقيقة هو عين السلب لكل العدم، وذلك بنفس الحيثية التي يمثل فيها كل الوجود. غير ان الاشكال الحقيقي هو ان ذلك البرهان ملفق من قضيتين متفاوتتين في نفس الامر او الحقيقة، احداهما تعبر عن حقيقة الشيء بما هي، وذلك حين نصفه بانه ذو حيثية كذا، والاخرى خارجية لا تعبر عن تلك بما هي هي باي نحو، بل انها منتزعة عقلاً ومضافة الى غيرها خلاف الاولى التي يرجع اليها مدار الحكم من دون تناقض ولا تركيب، والا كان التناقض يصدق على كل فرد من الممكنات عند تعريفه بحيثية مع سلب الحيثيات الخارجية الاخرى عنه. وبالتالي فان ما فعله صدر المتألهين هو انه اصطنع قضية خارجية واضافها الى القضية الحقيقية ليصور التناقض الحاصل بينهما، في حين ان النتيجة التي خرج بها هي في حد ذاتها لا تدل على اثبات البساطة، وانما تنفيها كلياً، لان البسيط لا يمكن ان يجتمع مع وجود الكثرة اذا ما اعتبر بسيطاً من كافة الحيثيات والجهات، فحيثية كونه (ب) هي ليست حيثية كونه (ج) او (م) او (ق) الخ. فهذه حيثيات وجودية كثيرة تتنافى مع المقدمة التي افترضها وهي وجود حيثية واحدة، بحيث عنده انها تفضي الى التناقض عندما يجتمع فيها الامر الوجودي مع الامر العدمي السلبي. فالذي اراده صدر المتألهين هو اثبات وجود حيثيات كثيرة مع افتراض وجود حيثية واحدة، وهل هذا الا تناقض؟!

على انه لو صدق البرهان السابق لكانت مقالة الصوفية احق بذلك من الاشراقيين، فاعتبار الحق كل الاشياء على الوجه الرفيع؛ لا يخلو من سلب يخص الوجودات الناقصة المتمثلة بالممكنات، فيفضي بحسب البرهان الى التركيب والتناقض، خلافاً للمتبنى الصوفي، ففيه يصبح المولى عين كل شيء حقيقة من دون سلب شيء عنه اطلاقاً.

ولو قيل ان سلب الوجودات الناقصة عن المبدأ الحق هو بعينه يمثل اثباتاً للوجود والكمال باعتبارها ناقصة ومشوبة بالعدم، كما جاء عن الاخوند النوري13؛ لقلنا بالنيابة عن اهل التصوف ان هذا النقص والعدم لا يكون الا باعتبار التعينات المقيدة، أما مع الاطلاق وعدم التقييد فلا تعتبر ناقصة ولا عدمية، بل انها عين الوجود والكمال. او كما قال العارف حيدر الاملي بأن الفقر والاحتياج في الوجود الحق لا يدل على النقص الا اذا كان بالنسبة للغير، وحيث انه لا وجود لغير الحق وان مظاهره ليست مغايرة له، فلا حاجة ولا فقر الا لذاته، وبالتالي فليس هناك من نقص البتة.14

والواقع ان من غير الممكن الجمع بين بساطة المبدأ الحق وبين اثبات كونه كل الاشياء، فذلك ما يبعث على التناقض، ويصبح ان منطق السنخية يستلزم نفي البساطة واثبات التركيب في وحدة ذلك المبدأ، وإن كان هذا لا يعني القول بتعدد القدماء مثلما ظن السيد الرشتي، فهو قد نفى وجود الكثرة في ذات الحق باعتبارها تؤدي الى التركيب والتعدد، ونقل انه ناظر بعض المتفلسفين حول تلك الشبهة فاجابه المناظر بأن وجود تلك الكثرة لا تضر في وحدة الذات ان كانت قديمة بتفاصيلها ما دامت غير مستقلة15. وبالفعل فان عدم استقلالها دال على نفي التعدد في القدماء، ولكنه لا يدل على نفي التركيب. لذلك قد صدق قول بعض شارحي (فصوص الحكم) عندما اعتبر تلك الكثرة لا تتنافى مع الوحدة، بل لدى العرفاء يصح القول: هو الواحد وهو الكثير16، فتلك الكثرة ما هي الا عين الحق من حيث الحقيقة والوجود، وان كانت غيره من حيث التعين والتقيد17. فهو الواحد الكثير، وهو الفرد المركب، بلا تعدد في القدماء.

ب ـ مشاكل أخرى حول النظرية

لا شك ان هناك اشكالات عديدة واجهت النظرية السابقة التي جمعت بين العلمين الصوري والشهودي، اهمها ما يلي:

1ـ ما ذكره المحقق البهائي وتبعه المدقق الخوانساري من ان علم الحق تعالى لما كان عين ذاته، وحيث ان ذاته مجهولة الكنه، فان علمه لا بد ان يكون مجهولاً، فكيف ينص على كيفيته؟

وقد اجاب الحكيم الكيلاني بما خلاصته ان الفلاسفة لا يدّعون معرفة كيفية علمه الاجمالي الذي يمثل عين الذات، فمن المسلّم به انه ليس معلوماً لأحد، وانما ينحصر النزاع فقط حول كيفية علمه التفصيلي للاشياء، وهو ما يأتي بعد مرتبة الذات.18

لكن من الواضح ان هذا الجواب غير صحيح، اذ الفلاسفة لا يخفون امر كيفية علمه الاجمالي المتمثل بعين الذات، سواء بالتنصيص او الادعاء، كما هو الحال مع صدر المتألهين الذي ادعى معرفة ذلك ولم يصرح به كاملاً في (الشواهد الربوبية)، معتذراً عنه لجهة غموضه وعسره على اكثر الافهام، فقال بهذا الصدد: ‹‹ولا ارى في التنصيص عليه مصلحة لغموضه وعسر ادراكه على اكثر الافهام، ولكني اشير اليه اشارة يهتدي بها اليه من وفق له وخلق له، وهو ان ذاته تعالى في مرتبة ذاته مظهر جميع صفاته واسمائه كلها وهي ايضاً (مجلاة) يرى بها وفيها صور جميع الممكنات من غير حلول ولا اتحاد››.19

لكنه في (اسرار الآيات) اعتبر ان العارفين اذا ما اجتازوا عالم الروح ومن ثم فنوا بسطوات الجلال عن انانية وجودهم ووصلوا الى لجة بحر الحقيقة؛ كوشفوا بهوية الحق تعالى، واذا استغرقوا في بحر الهوية الاحدية وبقوا ببقاء الالوهية عرفوا الله بالله، وعرفوا به كل شيء.20

ورغم ان الفلاسفة يصرحون احياناً بكون الذات الالهية مجهولة لا تعلم، الا ان اعتبارها تمام الاشياء تبعاً لمنطق السنخية او قاعدة (بسيط الحقيقة كل الاشياء) يجعل منها حقيقة معلومة على نحو الاجمال من غير احاطة. لهذا فان ادراك الاشياء يعبر في حد ذاته عن ادراك المبدأ الحق وإن لم نشعر21. ناهيك عما يدعى فيه من مكاشفة هويته ومشاهدة ذاته عيناً عبر ارتفاع الحجب النورية والظلمانية عن العرفاء الكاملين.22

2ـ كما قد يقال ان وجود حوادث غير متناهية يقتضي ان يرافقها وجود علم شهودي مراتبه غير متناهية ايضاً، اي انه لا بد ان تكون لذات الحق علوم غير متناهية.

فعن هذه المشكلة اجاب البعض ان مراتب الوجود في السلسلة النزولية عند الفلاسفة اربع، هي العقل والنفس المجردة والنفوس المنطبعة والاجسام. فالثلاثة الاولى علة لما تحتها، وليس شيء من الاجسام علة لما بعده، بل الافراد المتوالية معدات لتاليها. وعليه فان العلم الالهي التفصيلي له اربع مراتب، وليست هناك علل غير متناهية حتى يلزم منها علوم غير متناهية.23

والواقع ان عدم وجود علل لا متناهية لا ينفي بالضرورة وجود علوم غير متناهية، بل وجود الحوادث والمعدات غير المتناهية هي مبرر العلم الشهودي غير المحدود، كما ان احاطة الحق بجميع الاشياء ازلاً وابداً يقتضي ان تكون ذاته وعلمه الشهودي غير متناهيين. ولا تشكل هذه المسألة مشكلة لدى الفلاسفة، باعتبارهم لا ينكرون العلم اللامتناهي الذي يلزم عن تلك الذات غير المحدودة.

على ان الكيلاني دفع شبهة مفادها ان معلومات الحق لما كانت غير متناهية بالفعل فانه على ذلك يلزم وجود امور غير متناهية بالفعل ايضاً، وهو ما يبطله برهان التسلسل الممتنع، فأجاب عن هذه الشبهة وهو ان ذلك البرهان لا يجري في الامور المترتبة، فالاجتماع شرط في جريان البرهان24. مع انه قد يقال ان وجود معلومات غير متناهية بالفعل يقتضي وجود امور مجتمعة وغير متناهية فعلاً، استناداً الى علاقة العلية وما تتضمنه من اقتران ومعاصرة. فهي شبهة لا تختلف عن شبهة العلم الشهودي وعلاقته بحضور كل الكائنات ازلاً وابداً.

3ـ وهناك شبهة ترى ان العلم الشهودي للحوادث المتغيرة لا بد ان يكون متغيراً هو الاخر. وهذا ما الزم القائلين بالعلم الشهودي الى الاعتراف بكون حضور تلك الحوادث بالنسبة الى الذات الالهية هو حضور ثابت ليس فيه عدم ولا غياب. لكن هذه النتيجة تقتضي ان تكون الحوادث ثابتة ازلاً وابداً، فهي قديمة وابدية. الامر الذي يتسق ومنطق السنخية، حيث ان العلاقة التي تربط الشهود العلمي بالحوادث هي علاقة مبتنية على الايجاد والسببية.25

4ـ تبعاً لنظرية اتحاد العاقل بالمعقول والحاس بالمحسوس وكذا الشاهد بالمشهود فان ذلك يفضي الى القول بنظرية وحدة الوجود الصوفية، حيث يصبح الحق عين الكل باعتباره يشاهدها كلاً من غير غياب.

5ـ بالاضافة الى ما سبق هناك مشكلة تتعلق بكيفية علم المبدأ الحق بالمعدومات، اذ بحسب منطق السنخية يلزم ان لا يكون هناك علم بها، باعتبار ان الحق يمثل عين صور الاشياء جميعاً. فالمعلوم هو الموجود، والموجود هو المعلوم، وما ليس بمعلوم فهو غير موجود، كذلك فان ما ليس بموجود فهو غير معلوم. الامر الذي يفضي الى نفي الكثير من العلم، كالمفاهيم الشرطية والاعتبارية مثل مفهوم الواجب والممتنع، كما نبّه عليه الفخر الرازي.26

وعلى الرغم من ان بعض الفلاسفة كابن سينا كان صريحاً في نفيه لمثل هذا العلم؛ الا انه لم يعط تفسيراً حقيقياً للمسألة. انما نجد التفسير الحقيقي لدى ابن رشد في تلخيصه لمذهب قدماء الفلاسفة وعلى رأسهم ارسطو، فذكر ان هؤلاء لما وقفوا بالبراهين على ان الحق لا يعقل الا ذاته، فان ذاته تكون عقلاً بالضرورة، والعقل انما يتعلق بالموجود لا بالمعدوم، وليست هناك موجودات الا هذه الموجودات التي نعلمها، وعليه لا بد ان يتعلق العقل بها دون سواها.27

وحتى ما قد يقال بأن الفلاسفة انما نفوا علمه بالمعدومات لكون علمه هو نفس قدرته وارادته، والمعدوم لا ارادة ولا قدرة عليه، فحتى هذا التفسير لا يصح ما لم يكن ارجاعه الى طبيعة العلاقة بين العلة ومعلولها، فالعلة تحمل كل ما لدى المعلول، وان علمها بذاتها هو علمها بهذا المعلول على اتم وجه، وبالتالي فان العلم لا يتعلق الا بما هو موجود سواء كان هذا الموجود واجب الوجود بذاته او بغيره.

لكن مع هذا حاول شيخ الاشراق السهروردي ان يثبت العلم بالمعدومات بطريقة متأخرة عن ذات المبدأ الحق، فظن ان علمه بالمعدوم يحصل من خلال تعينه في مدارك الاخرين28. وهذا الرأي لا يخلو من اشكالين، احدهما ان من المفروض طبقاً لمنطق السنخية ان لا يتعين شيء في عقول الاخرين الا ويكون له اصل كامل في الذات الالهية، مما يعني ضرورة ان تكون فكرة العدم متأصلة في هذه الذات، والا لما امكن استحضارها من قبل مدارك الاخرين. أما الثاني فهو ان هناك معدومات لا يمكن للاذهان استيعابها؛ لانها غير متناهية، كما هو الحال مع القضايا الافتراضية المستندة الى الواقع؛ من قبيل التنبؤ بمصير الاسلام على فرض عدم مقتل عثمان، او من قبيل مصير العالم على فرض انتصار هتلر في الحرب العالمية الثانية، وما الى ذلك من تنبؤات غير متناهية للحوادث المعدومة.

وعلى العموم انه لا يوجد تبرير حقيقي لدى النظام الوجودي يثبت العلم الالهي لهذا الشكل من التنبؤات، لكونه يتنافى ومنطق السنخية.

6ـ على رأي الكيلاني انه لا غنى للفلاسفة من الاعتقاد بوجود علم يسبق وجود الاشياء ويتقدم عليها كلياً، وذلك لاجل اثبات الاختيار الالهي، بل واثبات التكليف والثواب والعقاب، والا بطلت جميع هذه الامور، حيث يكون منشأ الاشياء الموجودة انعكاساً فعلياً لما عليه العلم الالهي، وهذا ما جعله يعد العلم تابعاً للمعلوم وليس العكس29. مع ان ما يتحدث عنه الكيلاني انما هو خارج المنظومة الفلسفية، لكونه يصطدم مع ما تتطلبه قوانين العلية من المعاصرة بين العلة والمعلول، وكذا العلم والمعلوم. فالتقدم المعترف به عند الفلاسفة هو تقدم الرتبة، اي تقدم رتبة العلة على معلولها، والعلم على المعلوم. وبالتالي فان اسبقية العلم على وجود الاشياء هي اسبقية رتبة، وان مبرر هذه الاسبقية مستمد بحسب منطق السنخية من علم الذات الالهية بنفسها وبغيرها، تبعاً لمبدأ (العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول)، او لمبدأ (بسيط الحقيقة كل الاشياء)، ولا علاقة لكل ذلك بقضية الاختيار وكذا اثبات التكليف والثواب والعقاب.

7ـ ان منهج النظام الوجودي لتحديد العلم الالهي يستلزم الجبر المحض، وذلك سواء أخذنا بطريقة الفلاسفة او بمسلك العرفاء. فبكلا النهجين ان ايجاد العالم يستند الى علمه بالعناية. والعناية عند الفلاسفة هي العلم بالنظام الاتم للعالم والذي يمثل عين ذاته30. ولا شك ان هذا التقدير لا يدع فرصة لتبرير وجود علم ببقية النظم الممكنة، باعتبارها من المعدومات، الامر الذي يتنافى مع شرط حصول الاختيار. فالاخير لا يتحقق الا مع وجود امكانين معلومين على الاقل، كي يمكن ترجيح احدهما على الاخر. مما يعني ان علم الحق بالعناية يصبح فاقداً لبعض وجوه العلم والاختيار معاً. اضافة الى ان اعتبار علمه وتعقله عين الوجود والايجاد؛ هو في حد ذاته مما يستلزم نفي الارادة والاختيار.

والشيء ذاته ينطبق على نظرية العرفاء، فالعناية الالهية كما يحددها القيصري على قسمين: قسم تقتضيها العين الثابتة باستعدادها، فتكون العناية تبعاً لها، وقسم تقتضيها الذات الالهية لا العين الثابتة. والقسم الاول هو بحسب الفيض المقدس المترتب على الاعيان واحوالها واستعداداتها. اما الثاني فهو بحسب الفيض الاقدس الجاعل لها ولاستعداداتها. وهذه العناية متبوعة اذ يترتب عليها الفيض الاقدس31. والملاحظ انه سواء كانت العناية بحسب الفيض الاقدس او المقدس، فانه لا مجال للارادة والاختيار مطلقاً.

1 الاسفار، ج6، ص284.

2 رسالة تحفه، مصدر سابق، ص256 و251. ومفاتيح الغيب، ص270.

3 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج1، ص217.

4 الاملي: جامع الاسرار، ص180-181. ونقد النقود، ص684.

5 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص72.

6 الشواهد الربوبية، ص52. والمبدأ والمعاد، ص491.

7 شرح الهداية الاثيرية، ص323.

8 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج3، ص373-374.

9 نعتقد ان رسالة ابن سينا (العرشية) تتضمن اعتبار المبدأ الحق كل الاشياء، وان علمه بها يأتي من حيث علمه بذاته، وإن لم يصرح بذلك، بدلالة انه يعد ذات الحق مرآة ترى فيها الممكنات.

10 الاسفار، ج6، ص239.

11 صدر المتألهين: اسرار الايات، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، انتشارات انجمن اسلامي حكمت وفلسفه ايران، 1402هـ، ص37. وعرشيه، تصحيح وترجمة فارسية بقلم غلام حسين آهني، كتابفروشي شهريار، اصفهان، 1341هـ.ش، ص221. كذلك: شرح رسالة المشاعر، مصدر سابق، ص236-241.

12 ملا علي نوري: رسالة بسيط الحقيقة كل الاشياء، ضمن رسائل فلسفي، تعليق وتصحيح جلال الدين اشتياني، انتشارات انجمن اسلامي حكمت وفلسفه ايران، ص9-10.

13 رسالة بسيط الحقيقة، ص11.

14 نقد النقود، مصدر سابق، ص679.

15 كاظم الرشتي: شرح آية الكرسي، طبعة حجرية قديمة، ص74.

16 عبد الرحمن الجامي: الدرة الفاخرة، مصدر سابق، ص18-19.

17 الاسفار، ج6، ص262.

18 لاحظ : تحفه، ص267.

19 الشواهد الربوبية، ص40.

20 اسرار الايات، ص105-106.

21 ايقاظ النائمين، ص46.

22 مفاتيح الغيب، ص 190-191. واسرار الايات، ص22-23 و105-106.

23 تحفه، ص258.

24 تحفه، ص264.

25 انظر بهذا الصدد التفصيل الذي ذكرناه ضمن: مدخل الى فهم الاسلام.

26 فخر الدين الرازي: اصول الدين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، 1404هـ - 1984م، ص62

27 انطون غطاس كرم وكمال اليازجي: اعلام الفلسفة العربية، لجنة التأليف المدرسي في بيروت، الطبعة الثانية، 1964م، ص803.

28 تحفه، ص263 و310.

29 تحفه، ص247.

30 انظر الاسفار، ج7، ص56-57. ومن ذلك ما يصرح به ابن سينا في (التعليقات، ص18) من ان نفس معقولية الاشياء هي ذاتها عبارة عن علة وجود الاشياء.. فليس هناك الا العلم المطلق بنظام الموجودات، وعلمه بأفضل الوجوه التي يجب ان تكون عليها الموجودات وترتيبها. فهذا العلم هو العناية بعينها، فانّا لو رتبنا امراً موجوداً لكنا نعقل اولاً النظام الافضل ثم نرتب الموجودات التي كنّا نريد ايجادها بحسب ذلك النظام وبمقتضاه. فاذا كان النظام والكمال نفس الفاعل وان الموجودات تصدر على مقتضاه، فان العناية تكون حاصلة، وهي نفس الارادة، والارادة نفس العلم، والسبب في ذلك ان الفاعل والغاية شيء واحد.

31 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص233-234.

comments powered by Disqus