-
ع
+

منشأ السعادة والعذاب عند الفلاسفة والعرفاء

يحيى محمد

بحسب الرؤية الفلسفية فان لوجود الانسان غاية تتمثل باللذة المعرفية. فتحصيل المعرفة هو السعادة التي وجد لاجلها الانسان، وان الادراك العقلي كلما ازداد علماً ومعرفة فانه يزداد سعادة، حتى يصل الحال الى السعادة القصوى عند بلوغه العقل الفعال. فأرسطو كغيره من الفلاسفة يرى الادراك هو سبب اللذة والسعادة1، وكلما تنامى الادراك تنامت اللذة، حتى يكون تمام الادراك كفيلاً بتحقيق كمال اللذة. مما يعني ان السعادة القصوى تتحقق في حال كمال العقل، وهو لا يتحقق الا عبر الاتصال بالـعقل الـمفارق2، حيث الـتجرد عن المادة والطبيعة والإلتحاق بعالم الإلوهية الذي فيه النشوة والخلود، وهو ما يمثل غاية الفيلسوف.

وسواء لدى الفلاسفة ام العرفاء فان المعرفة تشكل غاية الانسان وسعادته، وان ابلغ حالات السعادة هي معرفة الحق، مع الاخذ بعين الاعتبار ان الفلاسفة يعدون هذه المعرفة تتجلى بالعلوم العقلية3، أما العرفاء فيعدونها تتجلى بعلوم المكاشفة، وبالتالي فان ارفع علوم المكاشفة هي معرفة الحق وصفاته وافعاله، باعتبارها غاية قصوى تطلب لذاتها وتنال بها السعادة العظمى4. او كما يشير ابن طفيل في حكايته (حي بن يقظان) الى ان كمال الانسان ولذته هو مشاهدة المبدأ الحق على الدوام مشاهدة بالفعل ابداً من غير انقطاع حتى لا يتخللها ألم.5

اذن بحسب هذه الرؤية تكون السعادة مطلوبة لذاتها والانسان يكدح لطلبها ولا ينالها الا بالحكمة او العرفان، حتى يتجلى لعقله او قلبه كل الكون ويتشبه بالاله الحق، او حتى يتحقق له الاتحاد بما فوقه من العقول المفارقة والمبدأ الحق. فهذا هو ما يعول عليه الفلاسفة والعرفاء بشكل او باخر.

فقد عد الفارابي ان اقصى مراتب الكمال والسعادة التي يمكن ان يبلغها الانسان هو ان يصير في مرتبة العقل الفعال (جبريل)، وذلك عند مفارقة الجسم والمادة تماماًً6. وفي محل آخر قرر بان سعادة الانسان وكماله لا يحصل في بلوغ مرتبة ذلك العقل، بل دونه درجة، وذلك بتأمل الحقائق الازلية فيه، أما شقاء الانفس الجاهلة فيحصل بسبب حرمانها عن كسب تلك الحقائق والاتصال بالعقل المفارق7. اضافة الى ان هذا الفيلسوف عدّ من عوامل زيادة الابتهاج والسعادة هو ان النفوس الناطقة بعد الموت تتصل ببعضها للتشابه فيما بينها، فيعقل بعضها بعضاً على جهة اتصال معقول بمعقول، وكلما زاد عدد النفوس المجردة زاد تعقلها ومن ثم زادت لذاتها وابتهاجها تبعاً لذلك. اي ان النفوس السابقة تزداد ابتهاجاً كلما لحقها من النفوس المقبلة التي تتجرد عن ابدانها، وتظل العملية آخذة على التوالي بالابتهاج الى ما لا نهاية له بحكم الاتحاد بين النفوس المجردة، وهذه السعادة هي غاية ما يقصدها العقل الفعال8.

كذلك فان ابن سينا رأى هو الاخر ان عقل الانسان في الدنيا آخذ بالتدرج والتحول الى مراحله العليا حتى تصبح المادة معيقة عن بلوغه اعلى درجات الكمال والسعادة، فتحصل المفارقة عن البدن كلياً عند الموت9. وهذا هو معنى القول بعودة النفس الى أصلها الإلهي، اي تحقيق اعظم قدر ممكن من التجرد والادراك بسبب مفارقة البدن، حيث تحصل اللذة والسعادة الأبدية القصوى.

هكذا يتضح ان الفلاسفة يجعلون من امر المعاد امراً دالاً على ما له علاقة بكمال النفس من الناحية المعرفية والعقلية. وانطلاقاً من هذا الموقف فسّروا المسألة الدينية الخاصة بالثواب والعقاب، وكذا الايمان والكفر والجنة والنار، استناداً الى وجود العلم والحرمان منه. فالجهل العلمي في الفلسفة يمثل سبباً اصيلاً لمختلف الكفر والعذاب والشقاء، حيث تدرك النفس ما يفوتها من كمال العلم فتعذّب بتلك الحسرة10. وعلى العكس ان النفس حين تحصل على العلوم العقلية اليقينة فإن ذاتها تصير عقلاً قدسياً ونوراً الهياً من حزب الملائكة المقربين11. وقد افضى الحال الى ان يكون العلم باعثاً على السعادة والايمان حتى مع عدم مزاولة العمل الصالح في الحياة.12

ولا شك أن هذه الاعتبارات هي خلاف ما يراه أتباع النظام المعياري. فهم يرون بأن سعادة الانسان ونجاته تتوقف على طاعته لأوامر المكلِّف. او ان الطاعة والعبادة كما يريدها المكلِّف تمثل لديهم هدفاً ومطلباً لنيل السعادة.

لهذا تتصف اللغة التي يستخدمها هؤلاء ضد خصومهم بأنها (معيارية) مستمدة من المطلب الآنف الذكر، وهي لغة التضليل والتكفير والتفسيق. في حين تتصف لغة الفلاسفة والعرفاء ضد خصومهم بأنها (معرفية) لكونها مستمدة من الغاية التي صوروها للانسان، وهي العلم او الكمال العقلي، وبالتالي فلغة الإدانة لديهم هي التجهيل.

وفي جميع الاحوال ان النفس بحسب الرؤية الفلسفية تنزع الى معشوقها من حيث الطبع لتكتمل به، وهو كمال القوة العقلية التي ترتسم بها صور نظام الوجود وحقائقه وما يترتب على ذلك من السعادة القصوى. فاذا كانت هذه النفس لاهية عن هذا المعشوق بسبب لهوها بالمادة والبدن؛ فانها تصاب بالالم والعذاب عند المفارقة بموت البدن وتحررها منه. فمثلها حينئذ كمثل الخدر الذي يمنعنا من الشعور بالالم عند وجود ما يستدعي ذلك، لكنه يظهر عند زوال هذا الخدر، فيحصل العذاب. فالشقاوة اذن هي لاولئك الذين لهم القوة العقلية واكتسبوا الشوق الى كمالها من غير ان يحصلوا على شيء من فعل هذه القوة13. وينطبق هذا التصوير على النفس التي تبلغ حد الكمال من القوة العقلية، فاذا فارقت البدن فانها تستكمل الكمال الذي تبلغه، اذ في ملابستها للمادة تكون مثل ذلك المصاب بالخدر؛ لا تشعر باللذة التامة والسعادة القصوى، وهي تشعر بذلك عند مفارقة البدن، كمن زال عنه الخدر.14

مهما يكن فقد أسس الفلاسفة نظرياتهم في تفسير قضايا المعاد استناداً الى المدارك المعرفية. فالجنة والنار وغيرهما هي تعابير يراد بها قوى الادراك المعرفي للانسان وما يترتب عليها من سعادة او حرمان. فمثلاً ان ابن سينا فسّر الصراط والجنة والنار وابوابهما وما اليها تبعاً لقوى الادراك الحسية والخيالية والعقلية. فالجنة عنده هي العالم العقلي، والنار او الجحيم هي عالم الخيال والوهم، والقبور هي عالم الحس، ويتم تحصيل الجنة او السعادة القصوى من خلال المرور بالصراط الدقيق من الحس فالخيال والوهم ثم الى العقل15. اي ان الجنة لا تتحقق الا عبر المرور بعالم العطب والجحيم. وقد كانت هذه الطريقة من التفسير موضع تأييد عدد من الفلاسفة كالذي ذهب اليه صدر المتألهين، حيث رجح ما عليه الشيخ الرئيس في تفسيره لابواب الجنة و النار.16

وهناك من ذهب الى ان عالم الكون والفساد هو نفسه جهنم، وذلك في قبال الجنة المتمثلة بعالم الارواح المجردة، وان النفس التي تقصر عن الكمال تبقى في جهنم محرومة عن العالم العلوي ولا تفارق عالم ما تحت القمر. فالالام والاوجاع لا تلوح الا النفوس المتعلقة بالاجساد، أما تلك التي تتجرد منها وتلتحق في عالم الافلاك فانها تكون بريئة من هذه الالام. فالنفس اذا كان عشقها الكون مع الجسد الحيواني، وان معشوقها اللذات المحسوسة وشهواتها الجسمانية، فسوف لا تبرح هذا العالم الارضي ولا تشتاق الصعود الى الملكوت الاعلى، وبالتالي لا تدخل الجنة وتتحول الى النفوس الملكية في عالم الافلاك السماوية17. فهذا هو رأي اخوان الصفا الذين اعتبروا النفس الاثمة الشريرة تظل معذبة نفسياً، ونادمة عمياء في جهالاتها، وسائحة في قعر الاجسام المدلهمة دون فلك القمر، كل ذلك يجري لها بعد ان تفارق الجسد التي هي فيه دون ان تصل الى عالم الاخرة18، بل تبقى هائمة هاوية في عالم الكون والفساد بشكل ما يطلق عليه ‹‹التناسخ››، حتى يتم تطهيرها ومن ثم مفارقتها لهذا العالم الحسي. وهم بذلك ينوهون بوجود العذاب النفسي دون الاعتقاد بالنار الحسية كما هو مصور لدى النصوص الدينية19.

وارى ان هذا الرأي لاخوان الصفا هو اقرب التصورات اتساقاً مع المنظومة الفلسفية، وذلك لاعتبارين: احدهما ان حصر العذاب والشقاء في عالم الاجسام السفلية يتسق مع طبيعة هذا العالم مقارنة بالعالم العلوي السماوي، وحيث لا يوجد غيرهما؛ لذا فمن المنطقي ان يعد الاول نار جهنم، ويعد الثاني جنة الخلد. أما الاعتبار الاخر فهو ان الالتحاق بالعالم العلوي عبر مفارقة النفس للبدن لا بد ان يجعلها سعيدة كاملة باعتبارها قد اصبحت ضمن عالم النفوس والمفارقات السماوية، فمن اين يأتيها الشقاء؟! لذا كاد البعض ينكر العذاب باعتبار ان مفارقة النفس للبدن تعني كمال النفس، وما يبقى منها من كدورات يمكن ان يمحى بالعذاب المحدود، كإن يكون هذا العذاب لايام معدودات، ثم بعدها ترجع النفس الى صورتها الحقيقية من الكمال فتعود الى حظائر القدس وحسن المآب20.

اذن فالقول بمفارقة النفس للبدن يستلزم تحقيق غايتها من التجرد والالتحاق باصولها العقلية المفارقة التي تضفي عليها السعادة والكمال. لكن الفلاسفة المسلمين لم يلتزموا بهذه النتيجة التي تترتب على منظومتهم الفلسفية اذا ما استثنينا اخوان الصفا، ربما لاعتبارات دينية لا غير.

ولا شك ان الامر لا يختلف كثيراً عما يذهب اليه العرفاء، حيث الغاية التي يؤكدون عليها هي المعرفة والشهود، وانهم يواجهون في بعض الاعتبارات نفس المشكل من مسألة العذاب والشقاوة، للاعتبارات الدينية، وإن كانت لديهم اعتبارات اخرى يمكن التعويل عليها في تبرير هذه المسألة.

1 تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1616

2 المصدر السابق، ج3، ص1612.

3 السهروردي: رسالة هياكل النور، مصدر سابق، ص93.

4 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج6، ص97.

5 ابن طفيل: حي بن يقظان، طبعة دار الافاق الجديدة، ص183.

6 كتاب السياسة المدنية، طبعة انتشارات الزهراء، ص32.

7 آراء اهل المدينة الفاضلة، ص85.

8 آراء أهل المدينة الفاضلة، ص113 و114. كذلك: السياسة المدنية، ص82.

9 إبن سينا: كتاب النفس من الشفاء، مصدر سابق، ص220.

10 تلخيص المحصل، ص390. واسرار الايات، ص2-6 و9-10. ومفاتيح الغيب، ص115 . ومقدمة ابن خلدون، ص515 .

11 اسرار الايات، ص28. وقد قال صدر المتألهين بهذا الصدد: ‹‹الذي يدل على ان العلم جنة والجهل نار، ان كمال اللذة في ادراك المحبوب، وكمال الالم في البعد عن المحبوب، فلذة الذوق عبارة عن ادراك الطعوم الموافقة للبدن... وأما النفس الناطقة الانسانية فلذتها وكمالها في المعقولات الدائمة.. ولهذا قالت الحكماء: كمال النفس في ان يصير عالماً عقلياً مضاهياً للعالم الموجود، فإن العالم عالم بصورته لا بمادته›› (مفاتيح الغيب، ص110).

12 لاحظ اسرار الايات، ص4.

13 النجاة، ص689-690. والهيات الشفاء، ص427-428.

14 معارج القدس، ص151. ورسالة هياكل النور، مصدر سابق، ص93.

15 ابن سينا: رسالة اثبات النبوات، حققها وقدم لها ميشال مرمورة، دار النهار، بيروت، 1968م، ص58-61. وتسع رسائل لابن سينا، ص89-90.

16 اسرار الايات، ص218.

17 رسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء، اعداد وتحقيق عارف تامر، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الاولى، 1415هـ - 1995م، ج3، ص53-54.

18 رسائل اخوان الصفاء، ج3، ص65-66.

19 رسائل اخوان الصفا، ج3، ص66-67.

20 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج4، ص338.

comments powered by Disqus