-
ع
+

الفلاسفة وتعدد أطروحات المعاد

يحيى محمد

يجمع الفلاسفة على ان النفس لها اصل الهي سابق على البدن، وهم من هذا المنطلق اعتقدوا بضرورة مفارقتها له بعد اكتمال مهمتها من بلوغ الحد الذي يجعلها قابلة للانفصال عنه كلياً. مما يعني ان النفس لا بد لها ان تعود الى عالمها الالهي الذي تنزلت منه. اي فكما ان هناك تنزلاً، فهناك عود وصعود. وهنا نجد عدداً من المسائل المتعلقة بهذه العودة. فاولاً ان النفس لها قوى ودرجات متباينة من الادراك والتجرد، وعلى هذا التعدد والاختلاف لا بد ان نعرف اي هذه القوى مؤهلة للعودة، وايها يندثر وينمحي مع هلاك البدن؟ ثم كيف جرى تفسير العودة لدى الرؤية الوجودية؟ كذلك ما هو مصير النفوس الشريرة والجاهلة؟ فهذه المسائل وغيرها سنتعرف عليها كالاتي:

يؤكد الفلاسفة بان النفس التي تفارق البدن هي تلك التي تتصف بالتجرد وتكون موضعاً للعلم العقلي. فهم يتفقون كما ينقل ابن رشد على ان النفس المخالطة للهيولى، والتي توصف بانها مخلّقة لانواع الاجسام والابدان الارضية ومصورة لها، تعود الى مادتها الـروحانية الإلـهية1. أما النفس التي لا تخالط الهيولى والتي ليس لها علاقة بتخليق البدن وتصويره، فان الفلاسفة يختلفون في حدود ما هو قابل للتجرد والرجوع الى الأصل الإلهي. فعند ارسطو ان جميع قوى النفس تبطل سوى العقل المكتسب المسمى بالعقل المستفاد، بخلاف العقلين المتبقيين، وهما العقل الهيولاني والعقل بالملكة. فالعقل الهيولاني هو عقل بالقوة، اي محض استعداد لقبول وادراك المعقولات، فهو بالتالي خال من الصور. أما العقل بالملكة فهو العقل الذي تحصل فيه المعقولات وكان من الممكن استحضارها متى شاءت النفس من غير جهد ولا تكلف. في حين ان العقل المستفاد فهو ذلك الذي تكون فيه المعقولات حاضرة عند العقل من غير غياب. فهذه هي القوى الثلاث للعقل2، وكلها داثرة عند ارسطو باستثناء العقل الاخير.

لكن اتباع ارسطو من المشائين القدامى وجدوا ان العقل الهيولاني هو ايضاً يعد باقياً لا يقبل الفساد والاندثار. وان ابن رشد له اكثر من موقف، فهو في (تهافت التهافت) وقف مع سائر المشائين في عدم التسليم بفساد العقل الهيولاني، حيث وصفه بأنه يعقل اشياء لا نهاية لها في المعقول الواحد، ويحكم عليها حكماً كلياً، وما جوهره هذا الجوهر فهو غير هيولاني اصلاً3، كما انه ليس مجرد محض قوة واستعداد فحسب. لكنه في (تفسير ما بعد الطبيعة) لم يخالف ارسطو في فساد هذا العقل، انما خالفه حول العقل بالملكة الذي رأى ان فيه ما هو فاسد وما هو غير فاسد، فمن حيث فعله فهو فاسد، لكنه من حيث ذاته فهو باق غير مندثر باعتباره داخلاً علينا من الخارج4. أما لدى غير ابن رشد من الفلاسفة المسلمين، فالمعول عليه هو ان العقل الهيولاني وكذا العقل بالملكة كليهما يعدان غير مندثرين، ومن ذلك ما يؤكد عليه ابن سينا.5

وتتخذ كيفية المعاد وفق الرؤية الفلسفية الوجودية عدداً من الاطروحات نجملها بأربعة كما يلي:

الاطروحة الاولى:

وهي تلك التي قال بها اغلب الفلاسفة، وهو ان المعاد ليس جسمانياً، وانما يجب ان يكون محلاً للعلم بما لا ينقسم ولا يمكن الاشارة اليه حسياً6. وهو ما قال به الفارابيان واتباعهما. فابن سينا - مثلاً - صرح بنفي المعاد الجسماني في رسالة (الاضحوية في امر المعاد) بما لا مزيد عليه7، كما انه لوّح الى نفيه في رسالة (دفع الغم من الموت)8، وفي كتاب (المبدأ والمعاد) ذكر عنواناً اومأ فيه الى ذلك المعنى، حيث كان نصه: (في السعادة والشقاوة الوهمية في الاخرة دون الحقيقية)9، وابدى في كتاب (النجاة) نفس الحال من التلويح10، وإن كان في موضع اخر من الكتاب المذكور، وكذا في (الهيات الشفاء)، ذكر نصاً حاول ان يظهر فيه مظهر المعتقد بالمعاد الجسماني، وكما قال: ‹‹يجب ان تعلم ان المعاد منه مقبول من الشرع ولا سبيل الى اثباته الا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث.. ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوة، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس اللتان للانفس››.11

واهم ما في الامر هو ان الشيخ الرئيس قام بتقديم بعض التبريرات التي دفعته الى نفي المعاد الجسماني، حيث انها مستلهمة من الغاية التي حصر الفلاسفة عنايتهم بها، وهي الغاية المتمثلة بالادراك المعرفي المجرد. باعتبار ان المادة تصبح معيقة لبلوغ هذه الغاية، ومن ثم تحصيل السعادة التامة12.

وقد اختلف الفلاسفة حول النفوس الساذجة عن العلوم كلها ان كانت تعدم او تعاد13. فإبن سينا حيث انه لم يتمكن من اثبات تجرد القوة الخيالية للانسان؛ فقد صار متحيّراً في بقاء النفوس الساذجة بعد الموت، فتارة اضطر الى أن يقول ببطلانها كما في رسالته (المجالس السبعة)، وأُخرى قال إنها باقية لكونها تدرك بعض الأوليات والعمومات14. وهو لم يقطـع باستـخدام النفس للجرم السماوي بعد مفارقة البدن، فهو وإن كان يبدو عليه شيء من الميل الى هذا الاعتقاد في شرحه لكتاب (اثولوجيا)، إلا أنه اعترف في (المباحثات) بالقصور عن ادراك مثل هذا الأمر، دون أن يجزم إن كان فعلاً يمكن للنفس أن تستخدم الجرم السماوي بعد مفارقة البدن ام لا15.

كما ظهر لدى شيخه الفارابي بعض التردد حول النفوس الجاهلة والشريرة. ففي كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) اعتقد بان النفوس الشريرة تبقى بعد الموت في الام ابدية لا نهاية لها، مقراً إن ما يهلك ويصير الى عدم إنما هي فقط النفوس الجاهلة على مثال ما يكـون لـلبهائم والسباع والأفاعي16. لكنه في (السياسة المدنية) اعتبر النفوس الشريرة التي لا تصغي إلى قول مرشد ولا معلم ولا مقوم تنحل وتعدم لأنها تظل نفوساً هيولانية غير مستكملة استكمالاً تفارق به المادة او البدن، فإذا بطل البدن بطلت هي معه، وبالتالي لا بقاء الا للنفوس الكاملة17. بل رغم ان هذا المعلم أقرّ - في مجمل ما كتبه - بجوهرية واستقلالية النفس عن البدن، ورأى أنها تفارقه كلياً دون أن تعود اليه18، لكن كما ذكر ابن طفيل، انه في شرحه لكتاب (الأخلاق) وصف ‹‹شيئاً من أمر السعادة الانسانية وأنها إنما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار. ثم قال عقب ذلك كلاماً هذا معناه: (وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز).. إذ جعل مصير الكل الى العدم. وهذه زلة لا تقال››19.

الاطروحة الثانية:

وهي التي تعود الى ابن رشد في تبنيه لموقف الفلاسفة الاغريق من المشائين، حيث انكر المعاد النفساني في صورته الجزئية، مثلما انكر الحشر الجسماني حيث مآله الفساد والتحلل، واعتقد ان النفوس بعد مفارقة الابدان لا بد ان تكون واحدة بالعدد. وبالتالي فالخلود الذي يتحدث عنه ابن رشد ليس فردياً، حيث تتحد النفوس البشرية بعقل الانسانية الشامل والمعبر عنه بالعقل الفعال. وقد شبّه ذلك بالضوء حيث ينقسم بانقسام الاجسام المضيئة ثم يتحد عند انتفاء الاجسام، وكذا الامر في النفوس مع الابدان، اذ تتحد بانتفاء الاخيرة20.

لكن لابن رشد رأياً اخر تجاوز فيه الرأي المشائي الانف الذكر. فقد تبنى القول بالمعاد النفساني كالذي عليه الفارابيان حسب نظرية التمثيل. واكثر من هذا اشار الى معنى اخر قد يكون مختلفاً عما سبق، ففي بعض كتبه - كما في التهافت والمناهج - اقر ببعث الاجسام، لكن لا بهذه الاجسام الطبيعية وانما بامثال لها21. فالعائد انما هو امثال هذه الاجسام الدنيوية وليس عينها، فالمعدوم يحال ان يعاد نفسه22. وهو لم يحدد ان كان يقصد بذلك نفي المعاد الجسماني كلياً على طريقة الفارابي وابن سينا وغيرهما من جمهور الفلاسفة المشائين، ام كان يرى المعاد الجسماني على صورة المُثل المعلقة كما هو الحال عند الاشراقيين كالشيخ السهروردي، او لا هذا ولا ذاك، بل شبيه بما لجأ اليه صدر المتألهين، كالذي سيمر علينا عما قريب؟

الاطروحة الثالثة:

وهي تعود الى السهروردي القائل بان المعاد الجسماني يعبر عن عالم وسيط وجامع بين العالمين الحسي والعقلي، وهو عالم الخيال والمُثل المعلقة، فهو يجمع صور جميع الموجودات العقلية والحسية. وتتصف هذه المُثل بأنها خارجية منفصلة عن النفس في عالم التجرد والآخرة، على شاكلة ما كان يقوله افلاطون مع بعض الفوارق، حيث ان المُثل الافلاطونية نورية ثابتة، بينما المُثل المعلقة على صنفين، فمنها المستنيرة للسعداء، كما منها الظلمانية للأشقياء. وفي جميع الاحوال ان المُثل المعلقة ليست حالّة في قوام مادي، كما إنها ليست خيالات نفسية داخلية كالذي عليه نظرية الفارابيين وغيرهما. وهو امر يتسق مع نظريته النورية في الشهود والحضور، حيث في هذه الحالة تكون النفس مدركة لتلك ‹‹البرازخ›› من المُثل إدراكاً حضورياً بالشهود.

الاطروحة الرابعة:

وهي تعود الى صدر المتألهين، الذي عدّ مشكلة القول بنفي المعاد الجسماني هي من اهم المسائل التي دفعت الفلاسفة الى ان يعتبروا الشرع خطابياً جاء ليقنع عوام الناس23، الامر الذي أثار حفيظة هذا العارف فرد عليهم بنفس المقياس الذي شيدوه لفهم النص، فذكر في رده بانه لو كان من الصحيح ان الشارع جاء ليقنع الناس بالايهام؛ للزم ان يضل الصالحين ويفضي بهم الى العذاب المؤبد، نتيجة الجهل بحقيقة علم المعاد24. وإن كان هذا العارف هو ايضاً لم يراع هذا التحذير الذي نبّه عليه. ومن ذلك انه اعتبر معصية ادم التي شهد لها النص القرآني والكتب السماوية الاخرى لا تفيد المعنى الحقيقي للنص، وانما هي من التجوزات والرموز، مداراة لضعفاء العقول من الناس25. وكأنه بهذا اعاد الصورة التي نادى لها الفلاسفة، وبرر لها بعضهم ضمن تصويره الخاص في حكايته الرمزية (حي بن يقظان).

وعلى رأي صدر المتألهين فان هناك انواعاً متعددة من المعاد للممكنات الوجودية حسب مراتبها؛ تصل الى ستة انواع26. وهو يعترف بان من ضمنها المعاد الجسماني، لكنه صوري يخلو من العنصر الطبيعي المادي، وبالتالي فان له وجوداً متوسطاً بين عالمنا المادي والعالم العقلي المجرد، فلا هو من هذا العالم، ولا انه من ذاك، بل وسط او بين بين. وهو ما فصلنا الحديث عنه في دراسة مستقلة.

1 تهافت التهافت، ص578-579.

2 لدى الفلاسفة المسلمين كثيراً ما حسبوا ان قوى العقل عبارة عن اربع، هي العقل الهيولاني والعقل بالفعل والعقل بالملكة والعقل المستفاد، وهناك تقارب بين العقلين المتوسطين، فقد قيل عن العقل بالملكة انه عبارة عن العلم بالمعقولات الاولى او الضرورات، وان له استعداداً لاكتساب سائر المعلومات الاخرى. بينما الحال في العقل بالفعل هو ان تحصل فيه النظريات وتختزن، بحيث يمكن للنفس ان تستحضرها متى شاءت ‹‹من غير تجشم كسب جديد›› كالذي جاء في تعريفات الجرجاني (جميل صليبا: المعجم الفلسفي، ج2، ص85). وكذا جاء في تعريف السهروردي ان صفة العقل بالملكة هو ان يحصل للنفس المعقولات الاولى او الضرورات، كما ان لها تحصيل سائر المعقولات بالفكر او الحدس، في حين ان العقل بالفعل هو ان يكون للنفس ملكة على استحضار المعلومات الحاصلة متى شاءت من غير كسب جديد (جيرار جهامي: موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الاولى، 1998م، ص496). فالفارق بين هذين العقلين، هو ان العقل بالملكة عبارة عن عقل كسبي، بينما العقل بالفعل عبارة عن عقل استحضاري.

3 تهافت التهافت، ص578-579.

4 تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1489-1490.

5 ابن سينا: كتاب النفس من الشفاء، طبعة جامعة اكسفورد، لندن، 1959م، ص209. كما انظر مقدمة كتابه المباحثات، في: أرسطو عند العرب، ج1، ص120.

6 نصير الدين الطوسي: رسالة قواعد العقائد، وهي منشورة خلف تلخيص المحصل، انتشارات مؤسسة مطالعات اسلامي، 1980م، ص465.

7 ابن سينا: رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي بمصر، الطبعة الاولى، 1368هـ - 1949م، ص50-51 و55-57. كذلك: المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص423-424.

8 رسالة في دفع الغم من الموت، ص50.

9 المبدأ والمعاد، ص114.

10 اذ ذكر في (النجاة، ص712) بانه يجب على النبي ان يقرر عند البشر امر المعاد على وجه يتصورون كيفيته وتسكن اليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة امثالاً مما يفهمونه ويتصورونه. واما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه الا امراً مجملاً.

11 انظر النجاة، ص682. والهيات الشفاء، ص423.

12 ابن سينا: كتاب النفس من الشفاء، ص220 .

13 مفاتيح الغيب، ص590.

14 الطريحي: ابن سينا، بحث وتحقيق، مطبعة الزهراء في النجف، 1949م، ص175-176. والاسفار، ج9، ص115.

15 المباحثات، في: أرسطو عند العرب، ج1، ص197-198.

16 آراء اهل المدينة الفاضلة، ص118.

17 السياسة المدنية، تحقيق وتقديم وتعليق فوزي متري نجار، المطبعة الكاثوليكية، 1961م، ص83.

18 رسالة الدعاوي القلبية، ضمن رسائل الفارابي، ص10.

19 انظر مقدمة حي بن يقظان.

20 تهافت التهافت، ص84-93.

21 تهافت التهافت، ص586.

22 تهافت التهافت، ص586.

23 انظر مثلاً ما يقوله ابن سينا في: رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي بمصر، الطبعة الاولى، 1368هـ - 1949م، ص50-51.

24 يقول صدر المتألهين: «إن الذي صرف النصوص الواردة في اخبار الآخرة عن ظاهرها ومؤداها وحوّل الآيات الدالة على احوال القبر والبعث عن منطوقها وفحواها، وزعم أنها عقلية او وهمية محضة، وليس لها وجود عيني؛ جهل او تجاهل انه لو كان الأمر كما توهم وأوهم، لزم أن يكون تشريع الشرايع للاضلال والغواية لا للارشاد والهداية، ولم يعلم ان اولئك الهداة الصادقين المعصومين عن الغلط والخطأ قرروا، إن الذي قرر في نفسه العقايد الفاسدة ورسخ في ذاته العلوم الباطلة، كانت نفسه ظالمة جاهلة معذبة أبداً، إذ هي لا يزول عنها أبداً ولا يزول الملكات التي هي آثار الأفعال والأعمال قطعاً... فلو لم يكن مفهوماتها الظاهرة ومعانيها الأولية حقة، لكانت ضلالات وجهالات، ومن اعتقدها كان معذباً لما قرروه، فيلزم ان يكون ما اكتسبه الصلحاء والاتقياء لنيل الدرجات يوجب حرمانهم عن الجنات واللذات وأن لا يكونوا في الجنة أبداً ولم يكن لهم لذّات قطعاً» (المبدأ والمعاد، ص413-414).

25 الاسفار، ج8، ص364.

26 هناك من يرى وجود اثنتي عشرة قيامة، صورية ومعنوية، بحكم التطبيق بين عالمي الافاق والانفس، كالذي يذهب اليه حيدر الاملي في رسالته: المعاد في رجوع العباد (تصدير عام لكتاب الاملي: جامع الاسرار، ص4).

comments powered by Disqus