-
ع
+

موقف المفكر الصدر من الاستقراء الارسطي الكامل

يحيىمحمد

اعتقد المنطق الأرسطي ان المعرفة إذا كانت صحيحة، فلا بُدَّ ان تكون عقلية. إذ هي إما ان تُشكلّ أساس المعارف فتصبح من المبادئ الأولية (الضرورية)، أو إنها مستنتجة عنها فتكسب الصفة العقلية منها. فالمعرفة التي تقول: ‹‹إنّ لكل حادث لا بد مِن سبب›› تُعتَبر من المبادئ العقلية الأولية، بينما تعتبر القضية القائلة: ‹‹يوجد لهذا العالم سبب أعلى››، من المعارف العقلية ـ الثانوية ـ المستنتجة عن المعرفة الأولية السابقة. والإستنتاج يكون بالشكل التالي:

لكل حادث لا بد من سبب..

العالم حادث..

اذن لا بد للعالم من سبب..

وتتمثل المعارف الأساسية لدى المنطق الأرسطي في ستة مبادئ تعمل كمقدمات أولى للبراهين والإستنتاجات الصحيحة رغم أن بعضها مستنتج من البعض الآخر. ومن هذه المبادئ: الأوليات مثل تصديقنا بمبدأ عدم التناقض، والحسيّات مثل معرفتنا بأن هذه النار حارة، والحدسيات مثل إعتقادنا بأن نور القمر مستمد من نور الشمس... الخ.

أمّا عملية الإستنتاج فتارة تكون بالطريقة الإستنباطية، وأخرى بالطريقة الإستقرائية. والنتيجة في الإستدلال الإستنباطي (القياس) تكون إمّا أصغر من المقدمة أو مساوية لها. فحين نقول: إن المعدن يتمدد بالحرارة، والحديد معدن، فالحديد يتمدد بالحرارة.. نلاحظ ان النتيجة في هذا الإستنباط (القياسي) أصغر من المقدمة. لكن حين نقول: المادة إما حية وإما ميتة، والحية تفنى، والميتة تفنى، فالمادة تفنى.. نلاحظ ان النتيجة ‹‹المادة تفنى›› أصبحت مساوية للمقدمة ‹‹المادة الحية تفنى، والمادة الميتة تفنى››. في حين أن النتيجة بحسب الطريقة الإستقرائية (الناقصة) تكون أكبر من المقدمة، أو انها ليست متضمنة فيها. ففي قولنا زيد يموت، وعمرو يموت الخ... إذن كل إنسان يموت.. نلاحظ إن النتيجة أكبر من المقدمة، بإعتبارها تستوعب كل أفراد الإنسان فعلاً وقوة، وليس فقط الذين دخلوا في عملية الإستقراء.

على ان الفرق بين الإستنباط والإستقراء، هو ان الإستنباط يستمد صدق نتيجته من ضرورة مبدأ عدم التناقض المنطقي، وذلك بإعتبار ان المقدمة فيه تستبطن ذات النتيجة، سواء كانت هذه الأخيرة أصغر من المقدمة أو مساوية لها. أما الإستقراء فإن النتيجة فيه لما كانت زائدة أو انها أكبر من المقدمة، لذا فمن المحال ان تكون مستبطنة داخلها، وإلا لترتيب التناقض، إذ كيف يكون الزائد متضمناً في الفاقد، وكذا كيف يكون الأكبر محتضناً في الأصغر، مع ان عناصرها تشكل نفس التماثل. وعليه فمن الناحية المنطقية ان عدم صدق النتيجة مع المقدمات لا يتضمن التناقض، بخلاف الحال مع الإستنباط.

فمثلاً إذا قلنا: زيد يموت، وعلي يموت، وعمرو يموت.. الخ، فالإنسان يموت.. نلاحظ ان النتيجة أكبر من المقدمة، وبالتالي قد لا تكون صادقة رغم صدق المقدمة، مما يعني ان القفزة والزيادة في النتيجة تحتاج إلى تفسير، وذلك إذا ما كنا على ثقة بالدليل الإستقرائي.

لكن في التصور الأرسطي لا توجد تفرقة حاسمة بين شكلي المعرفة السابقين، فكلاهما يعبران عن مضمون واحد هو القياس، كما ان تبرير النتيجة في القياس يتخذ دلالة علّية، فالعلم لدى أرسطو إنما هو إدراك الاسباب، والقياس مؤلف من ثلاثة عناصر أو حدود (اكبر واوسط واصغر) بعضها يفسر البعض الآخر. ففي القياس الذي تكون فيه النتيجة أصغر من المقدمة يكون الحد الاوسط علة لثبوت الأكبر للأصغر. وكنموذج على ذلك مثالنا السابق (المعدن يتمدد بالحرارة، والحديد معدن، فالحديد يتمدد بالحرارة)، حيث ان علة تمدد الحديد بالحرارة هي لكونه معدناً، أي ان ثبوت الأكبر ‹‹التمدد›› للأصغر ‹‹الحديد›› كان بسبب وجود الاوسط ‹‹المعدن››، وكذا فإن علة تصديقنا بالنتيجة إنما لوجود الحد الاوسط بالخصوص. أما في القياس الذي تكون النتيجة فيه مساوية للمقدمة، فإن الحد الأصغر ـ لا الاوسط ـ هو الذي يكون علة تصديقنا بثبوت الأكبر للاوسط أو المحمول للموضوع في النتيجة، كما في المثال السابق (المادة إما حية وإما ميتة، والحية تفنى، والميتة تفنى، فالمادة تفنى)، إذ نلاحظ ان علة تصديقنا بثبوت الفناء للمادة جاءت من خلال احصائنا للأصغر. وعلى هذه الشاكلة يتحقق القياس في حالة الإستقراء الناقص وفق بعض الشروط الأرسطية.

تلك هي دلالة المنطق الأرسطي في تبريره للإستنتاجات المعرفية الصحيحة، وهي تختلف عن النقطة التي أعاد المفكر الصدر تذكيرنا بها من خلال تفريقه بين الدليلين الإستنباطي والإستقرائي، وهو التفريق الذي اتخذه منهجاً في تحديد بحثه للإستقراء. فكما هو معلوم هناك نوع من القياس سماه المنطق الأرسطي بالإستقراء التام (الكامل)، وهو لا ينطوي على أي قفزة من المقدمة إلى النتيجة، وإنما يستمد صدق نتيجته من مبدأ عدم التناقض، حيث انها دائماً بقدر المقدمة.

وعموماًيعتقدالمنطقالأرسطيبأن هناك نوعين من الإستقراء، أحدهما تام والآخر ناقص. ويعني بالإستقراء انه تعداد للحالات والافراد، فإذا كان تعداد الحالات أو الأفراد شاملاً وكاملاً فإنه يصبح تاماً وكاملاً، لأنه لم يترك حالة أو فرداً دون ان يستقرئها، أما لو كان هذا التعداد يشمل بعض الحالات والافراد دون الكل، فإن الإستقراء يصبح ناقصاً.

ومن الأمثلة على الإستقراء الكامل: لنفرض ان عدد أفراد الإنسانية ثلاث مليارات، وقد إستقرانا ظاهرة الجوع لديهم جميعاً، فتبين ان كل واحد منهم يجوع... فسنستنتج من ذلك أن كل إنسان يجوع. وكذا لو افترضنا ان كائنات الطبيعة الحية هي إما حيوانية أو نباتية أو مجهرية، وقد إستقرانا ظاهرة النمو فيها جميعاً، فتبين ان كلاً منها ينمو.. فستكون النتيجة ان كل كائن حي ينمو.

هذا هو الإستقراء (الأرسطي) الكامل بصورة مجملة، وقد حدد المفكر الصدر عدة مواقف بشأنه كالآتي:

1 ـ الإستقراء الكامل ليس موضوع البحث

اذا سلمنا سلفاً بكون الإستقراء هو كل دليل يسير فيه الذهن من الخاص إلى العام، أي تكون نتيجته أكبر من المقدمة، ففي هذه الحالة يصبح (الإستقراء التام) ليس من الإستقراء، وإنما هو حالة من حالات الإستنباط، حيث لا تكون النتيجة فيه أكبر من المقدمة، وإنما بقدرها تماماً. وهذا ما جعل المفكر الصدر لا يرتضي اطلاق مصطلح الإستقراء على ذلك النوع من الإستدلال مثلما فعل المنطق الأرسطي، رغم أن الأخير لا ينكر شكله الإستنباطي لكونه يعتبره من القياس ‹‹المقسم›› الراجع إلى الشكل الإقتراني. وهو يسميه إستقراءاً، كإصطلاح يشير به إلى كل إستدلال يقوم على تعداد الحالات والافراد لينتقل منها إلى الكليات1.

ومغزى هذا الاختلاف (الإصطلاحي) يتحدد منهجياً بكون ما يُطلق عليه (الإستقراء التام) لا يدخل ضمن بحث ودراسة المفكر الصدر، لعدم انعقاده تحت عنوان (الإستقراء) حسب إصطلاحه الخاص المعبّر عنه بكل إستدلال يتدرج من الخاص إلى العام، خلافاً للأول الذي يستمد مبرره من مبدأ عدم التناقض، كأي نوع من أنواع القياس أو الإستنباط.

2 ـ تحصيل الإستقراء الكامل غير ممكن

اعترض المفكر الصدر على الإستقراء الكامل من حيث كونه لا يستخدم في العلوم الكلية، بإعتباره غير قابل للتحقيق2. فمهما أمكن إستقراء الحالات فسوف تبقى حالات أخرى لم تستقرأ بعد.. أي في هذه الحالة يصبح الإستقراء ناقصاً غير كامل، فحتى لو تمكن المستقرئ ان يستقرئ جميع الحالات الموجودة بالفعل، فستظل هناك إمكانية لوجود حالات أخرى غيرها.

وهو أمر ينطبق على أفراد النوع الواحد، كما ينطبق على أنواع الجنس الواحد أيضاً. فلا يمكن إستقراء كافة أفراد النوع، كإن تستقرئ ظاهرة الجوع لكل إنسان، إذ لا يمكنك إن تُحيط بكل الأفراد فعلاً وقوة - أي الأفراد الذين لم تتهيأ لهم فرصة الوجود بالفعل -. كما لا يمكن إستقراء كافة أنواع الجنس الواحد، فحتى لو استطعت ان تستقرئ جميع الأنواع، فستظل هناك إمكانية لوجود أنواع أخرى لم توجد بعد. ولنفترض انك إستقرات ظاهرة الجوع لجميع أنواع الحيوانات كالحصان والكلب والقرد والثعلب وما إلى ذلك، فمع هذا فهناك إمكان لوجود أنواع أخرى من الحيوانات تختلف عن تلك التي إستقراتها.

نعم هناك شكلان من الحصر يتحقق بهما (الإستقراء الكامل) مع شيء من المسامحة، هما الحصر الكلي (للأجناس البعيدة)، والحصر الإعتباري. والأول ينقسم إلى ما هو عقلي وغير عقلي.

فمثلاً على الحصر العقلي نقول: المادة إما حية أو غير حية، والأولى تتغير، والثانية تتغير أيضاً، إذا كل مادة تتغير. وعلى غير العقلي فمثل ان نستقرئ النمو في كافة أجناس الكائنات الحية الطبيعية، فنقول: كل حي طبيعي هو إما نبات أو حيوان أو مجهري، والنبات ينمو، والحيوان ينمو، والمجهري ينمو، إذا كل حي طبيعي ينمو.

ولا ننسى أننا هنا بصدد الأجناس البعيدة، حيث أغضضنا الطرف عن الأجناس القريبة والأنواع وأفرادها. لكن لو أخذنا هذه الأشياء بعين الإعتبار فإن الإستقراء سيتحول إلى ناقص. إذ ان المثالين السابقين يتضمنان تلك التي يتشكل منها الإستقراء الناقص وعلى رأسها أفراد النوع. وهو ما يجعل الإستقراء الكامل غير قابل للتطبيق حقيقة.

أما الحصر الإعتباري فمثل ان نستقرئ جميع حالات الغياب لمدرسة ما من المدارس، خلال سنة واحدة فقط، لنتعرف على معدل نسبة هذه الغيابات خلال اليوم الواحد من تلك السنة. ويعتبر الإستقراء الأخير من الإستقراءات الصحيحة الإجراء، وعادة ما تستخدمه العلوم، خاصة الاجتماعية منها، لاعطاء نتائج إحصائية معينة. ورغم أنه مشروط، لكنه موظف للتوصل إلى نتائج كلية عامة، فيتحول الإستقراء مما هو كامل إلى ما هو ناقص، لأنه سوف يعمم على حالات لم تخضع للفحص والإختبار. أي انه لا يعد من الإستقراء الكامل حقيقة، خلافاً للإستقراء القائم على الحصر الكلي.

3 ـ الإستقراء الكامل ومفهوم (البرهان)

اعتقد المفكر الصدر ان أرسطو إعتبر المبادئ أو المقدمات الأولى التي تُعزى إليها كافة البراهين، هي بدورها مبرهن عليها بطريقة الإستقراء الكامل3. واستدل على ذلك بنص لأرسطو يقول فيه: ‹‹وينبغي ان تعلم: إن الإستقراء - التام - ينتج ابداً المقدمة الأولى التي لا واسطة لها، لأن الأشياء التي لها واسطة، بالواسطة يكون فيها قياسها، أما الأشياء التي لا واسطة لها، فإن بيانها يكون بالإستقراء››4.

فبهذا النص استدل على أن المقدمات الأولى التي لا واسطة لها، هي برأي أرسطو مبرهن عليها بالإستقراء التام. وظن ان هناك شكلاً من التغيير قد طرأ على هذا الرأي لدى بعض اتباع المنطق الأرسطي، كما هو الحال مع ابن سينا الذي إعتبر تلك المقدمات ليست مثبتة بالإستقراء التام، بل هي واضحة بذاتها5.

وموضع إشكال المفكر الصدر على المنطق الأرسطي يتحدد بأنه إذا كان الإستقراء التام أساس إثبات المقدمات الأولى فهو لا بد أن يتنافى مع مفهوم (البرهان)، وبالتالي ستسقط جميع البراهين لأنها تعتمد عليه. وفي هذا الصدد تساءل الصدر عما يريده المنطق الأرسطي من النتيجة التي يفرزها الإستقراء الكامل؟ وقد إفترض إجابتين ممكنتين عن هذا السؤال كالتالي:

الاولى: ‹‹ان يريد المنطق الأرسطي بالنتيجة التي يفترضها للإستقراء الكامل: قضية عامة تؤكد لوناً من التلازم أو السببية بين الجوع والإنسانية -مثلاً-، عند إستقراء كل أفراد الإنسان والتعرف على انهم يجوعون. فنحن حين نعرف خلال عملية الإستقراء إن هذا الإنسان يجوع وهذا الإنسان يجوع وذاك يجوع، نخرج من ذلك بنتيجة تؤكد إن بين الإنسانية الموجودة في جميع اولئك الأفراد، والجوع رابطة معينة››.

لكن الصدر إعتبر هذه الاجابة خاطئة، وهو محق في ذلك، إذ لو كان الإستقراء الكامل يثبت لنا وجود ذلك اللون من التلازم أو السببية، لكانت النتيجة فيه أكبر من المقدمة، إذ انها تحتضن شيئاً جديداً - هو التلازم أو السببية - لم يكن يظهر لنا في المقدمة، بإعتبار ان هذه المقدمة لا تخبرنا عن وجود تلك السببية، بل تخبرنا فقط بأن هذا يجوع وذاك يجوع... الخ. مما يعني ان الإستقراء الكامل سيفقد مبرره المنطقي القائم على مبدأ عدم التناقض، إذ ان هذا المبدأ - كما عرفنا - يبرر النتيجة عندما تكون مستبطنة داخل المقدمة، أو انها تكون بقدرها أو أصغر منها6.

الثانية: ‹‹إن يكتفي المنطق الأرسطي من الإستقراء الكامل بالخروج بنتيجة تؤكد ان كل إنسان يجوع، دون ان تدعي لنفسها القدرة على الكشف عن تلازم أو رابطة سببية بين الجوع والإنسانية بمفهومها العام››.

وبحسب المفكر الصدر ان هذه الاجابة بخلاف الأولى يمكن تبريرها تبعاً لمبدأ عدم التناقض، إذ تكون النتيجة فيها بقدر المقدمة، لا أكبر منها. لكن الاشكال عليها هو ان الإستقراء الكامل سوف لا يصلح ان يُتخذ كعامل للإستدلال حسب المفهوم الأرسطي للبرهان.

ولتوضيح الأمر عرض المفكر الصدر المفهوم الأرسطي للبرهان متمثلاً برأي ابن سينا. حيث ان هذا الفيلسوف إعتبر البرهان يتحقق عندما نكتشف العلة لثبوت محمول القضية لموضوعها. فقد تكون هذه العلة ذاتية بين المحمول والموضوع، كما هو الحال مثلاً مع مبدأ عدم اجتماع النقيضين، حيث ان سبب صحة هذا المبدأ منبثق من ذاته فقط. وقد تكون علة البرهان ناشئة من الخارج، كإن نتيقن بأن كل حديد يتمدد بالحرارة، فهذه القضية برهانية لأن علة برهانها ناتجة عبر اكتشاف السببية في الخارج بين الحرارة وتمدد قطع الحديد.

فعلى هذا الفهم قدّم المفكر الصدر الاعتراض الدائر حول العلم الأرسطي كلّه. فإذا كان الإستقراء التام هو أساس تكوين المقدمات أو المبادئ الأولى، لأفضى ذلك إلى انهيار البرهان من الأساس، إذ لا توجد علة يمكن اكتشافها في الإستقراء الكامل، فلو كانت هناك علة ما؛ لاستحال على مبدأ عدم التناقض ان يبرر لنا نتيجة هذا الإستقراء طبقاً للإشكال الوارد على الاجابة الأولى.

وبعبارة أخرى انه لما كانت النتيجة في الإستقراء الكامل لا تنطوي على معرفة السببية، بل تقرر حقيقة واحدة، مثل حقيقة (كل إنسان يجوع) دون ان تؤكد وجود علاقة سببية بين الإنسانية والجوع.. لذا تصبح هذه النتيجة غير برهانية، لكونها لا تتضمن الكشف عن السببية، سواء الذاتية منها أو الخارجية. وبهذا ينتفي البرهان كلياً، إذ البرهان القياسي يتقوم بالمبادئ الأولى، وهذه المبادئ ناشئة من خلال الإستقراء الكامل تبعاً لما ورد عن أرسطو في نصه الآنف الذكر، لكن هذا الإستقراء لا ينتج برهاناً بحسب الاعتراض السابق، مما يعني ان المبادئ الأولى غير مبرهن عليها، وبالتالي فإن كل ما يستنتج من هذه المبادئ غير مبرهن عليه أيضاً7.

هذا هو مفاد الاشكال المثار في تفنيد العلم الأرسطي برمته. وهو لا يخلو من مناقشة كالتالي:

 

أولاً:

يمكن أن نتصور علاقة المبادئ الأولى للمعرفة بالإستقراء من خلال الإفتراضات التالية:

1 ـ ان تكون المبادئ أساساً للبرهنة على الإستقراء.

2 ـ ان تكون أساساً لتبرير الإستقراء، كما يحصل في تبرير النتيجة في القياس من خلال مبدأ عدم التناقض.

3 ـ ان تكون مجرد عناصر شرطية لقيام الإستقراء.

4 ـ ان تكون مستنتجة من ذات الإستقراء.

5 ـ ان تكون خاضعة إلى تبرير الإستقراء.

6 ـ ان تكون منكشفة بالإستقراء كشرط.

وقد اختار المفكر الصدر الإفتراض الرابع، فاعتبر ان أرسطو كان يرى الإستقراء الكامل يمثل أساساً للبرهنة على المبادئ الأولى، على ما فهمه من نص أرسطو القائل: ‹‹.. إن الإستقراء ينتج ابداً المقدمة الأولى التي لا واسطة لها..››.

والحال ان أرسطو يعتقد بأن المبادئ الأولى التي لا واسطة لها هي اقدم واعرف من جميع المعارف بما فيها الحسية أو القريبة عن الحس8، وانه لا يمكن البرهنة عليها اطلاقاً، ومع هذا فهو يعتبر إكتشافها يأتي عن طريق ممارستها من خلال الإستقراء9. فقد وجد جملة من المعارف التي يتعذر البرهنة عليها؛ كإدراك مدلول الالفاظ لدى تحديدها، واستخراج ماهية الشيء (الكلية) من أحواله الجزئية بالإستقراء، وإدراك وجود الشيء بالمشاهدة، وكذلك المقدمات الأولى للبرهان وعلى رأسها مبدأ عدم التناقض؛ الذي يمثل لديه الأساس الأول لجميع المعارف قاطبة10. فمثلاً انه يعبّر عن مبدأ عدم التناقض بقوله: انه ‹‹أثبت من جميع الأوائل، ومن الناس من يروم ان يوضح هذا الأول، ببرهان بجهله وقلة ادبه، فإنه من الجهل وقلة الادب ان لا يعلم أحد لأي الأشياء ينبغي ان نطلب البرهان ولأيها لا ينبغي لنا ان نطلب البرهان، فإنه لا يمكن أن يكون برهان لجميع الأشياء بقول كلي، لأنه ان امكن ذلك صارت الأشياء بلا نهاية ولا يكون على هذا النحو برهان أيضاً››11.

إذاً لو صحت مقولة الإفتراض الرابع لكان موقف أرسطو متناقضاً، إذ كيف يمكن التوفيق بين إعتقاده باستحالة البرهان على تلك المبادئ، وبين إعتبار الإستقراء هو الذي يبرهن عليها؟

والسؤال المطروح: كيف ينبثق إدراك تلك المبادئ من خلال الإستقراء؟ ورغم أن أرسطو لم يطرح هذه المسألة على بساط البحث، ولم يتطرق إلى الإستقراء ذاته إلا عابراً؛ فإن تأكيده على ما للحدس من دخالة جوهرية في كشف تلك المبادئ سيساعدنا في ايجاد الترجيح المناسب للجواب عن هذه القضية، وذلك بتأييد الإفتراض الأخير ضمن الإفتراضات الستة التي طرحناها.

هكذا ان المقدمات الأولى تُكتشف بواسطة الإستقراء بدل ان تكون مستنتجة عنه. ووظيفة الإستقراء لا تتعدى الشرط الممهد لتحقيق حالة الكشف الحدسي لدى الذهن عبر الإنتقال من الجزئي إلى الكلي، والذي تعرف به ماهية الشيء كتصور، حيث يصبح الجزئي دالاً على الكلي وكاشفاً عنه عبر الإستقراء، فأرسطو يعترف بأن الإستقراء الذي يتحدث عنه هو محدود دائماً لتعذر ايجاد الإستقراء الكامل.

إذاً لم يضع أرسطو الإستقراء ضمن وظائف البرهنة وتنضيد المنطق، أو ضمن المقدمات المنطقية التي يستعان بها في الإنتاج المعرفي. والتلازم الحاصل بين الإستقراء والحدس هو الذي جعل بعض المناطقة الغربيين يتصور تمايز هذا النوع الإستقرائي عن غيره من الإستقراء الأرسطي، حتى أطلق عليه جونسون مصطلح ‹‹الإستقراء الحدسي››12.

بل يلاحظ ان ابن سينا قد اعتمد في تأليف كتابه (البرهان) على كتاب (البرهان) لأرسطو، وحاذاه في موارد كثيرة، واقتبس منه عدداً غير قليل من الفصول. وهو في ذات الكتاب والفصول التي لخصها عنه وشرح مادتها وعلق عليها، وبالتحديد في المقالة الثالثة من (البرهان)، تعرض إلى نفس الموضوع الذي طرحه أرسطو مجملاً في تحليلاته، وأخذ في بسطه وايضاحه13، وكانت الصورة التي طرحها هي ذاتها التي سبق ان اشرنا اليها، أي انه قد جمع بين الإستقراء وفطرة النفس، كما جمع بين الحس والعقل، وجعل الأول من كل منهما منبهاً للآخر. فهو يقول: ‹‹إن تصديق المعقولات يكتسب بالحس على وجوه أربعة: أحدها بالعرض والثاني بالقياس الجزئي والثالث بالإستقراء والرابع بالتجربة. أما الكائن بالعرض فهو ان يكتسب من الحس بالوجه الذي قلنا، المعاني المفردة المعقولة مجردة عن الاختلاط الحسي والخيالي، ثم يقبل العقل على تفصيل بعضها عن بعض وتركيب بعضها من بعض. ويتبع ذلك أحكام العقل بالفطرة في بعضها ويتوقف في بعضها إلى البرهان. وأما القسم الأول من هذين فيكون باتصال من العقل بنور من الصانع مفاض على الانفس والطبيعة يسمى العقل الفعال، وهو المخرج للعقل بالقوة إلى الفعل، ولكنه وإن كان كذلك؛ فإن الحس مبدأ ما له بالعرض لا بالذات. وأما القسم الثاني منهما فيفزع فيه إلى الحد الاوسط... وأما الكائن بالإستقراء فإن كثيراً من الأوليات لا تكون قد تبينت بالعقل بالطريق المذكور أولاً. فإذا إستقرا جزئياته تنبه العقل على إعتقاد الكلي من غير أن يكون الإستقراء الحسي الجزئي موجباً لإعتقاد كلي ألبتة، بل منبهاً عليه، مثل ان المماسين لشيء واحد وهما غير متماسين يوجبان قسمة لذلك الشيء. فهذا ربما لا يكون ثابتاً مذكوراً في النفس، فكما يحس بجزئياته يتنبه له العقل ويعتقده››14. ويقول أيضاً: ‹‹وإن كنا قد نستقرئ من تكرار المحسوسات أموراً كلية، لا لأن الحس ادركها ونالها، ولكن لأن العقل من شأنه ان يقتنص من الجزئيات المتكررة كلياً مجرداً معقولاً لم يكن الحس ادركه، ولكن إدراك جزئياته فاختلق العقل من الجزئيات معنى معقولاً لا سبيل إليه للحس، بل يناله باشراق فيض الهي عليه››15.

كما يلاحظ ان ابن سينا هو الآخر - كأرسطو - يستخدم إصطلاح الحدس في التعبير لما له علاقة بكشف المبادئ الأولية وما شاكلها، عن طريق إلهام العقل الفعال للنفس البشرية بالمعارف والصور الذهنية المختلفة16. وبالتالي لا نجد هناك اختلافاً بين أرسطو وابن سينا حول مصدر المبادئ الأولى، وإن كان قد يختلفان حول تحديد هوية هذه المبادئ. لكن على فرض انه طرء تغير في موقف المنطق الأرسطي السابق على يد ابن سينا، فالنتيجة هي ان الإشكال في تفنيد البرهان سوف لا ينسحب على الأخير، وإنما يختص بالمعلم الأول فحسب.

يضاف إلى ان الإشكال السابق يقع بنوع من المفارقة، فهو من جهة يعترف بالتغاير الحاصل بين نظريتي أرسطو وابن سينا، لكنه من جهة ثانية يعترض على أرسطو عبر استخدام مفهوم البرهان الوارد ذكره عند ابن سينا. والحال انه مادام الفيلسوفان يفترقان في موقفهما حول الأساس الذي يعتمد عليه البرهان، فربما يكون مثل هذا الاختلاف مؤثراً في صياغة المفهوم السابق، وإن كان الواقع انه لا يوجد تمايز بين الفيلسوفين17.

ثانياً:

إنه حتى لو فرضنا بأن الإستقراء الكامل هو الاصل المعتمد عليه في البرهنة على المبادئ الأولى لدى المنطق الأرسطي، فإن ذلك لا يقوض (البرهان). فكما علمنا أن هناك اجابتين مفترضتين حول طبيعة النتيجة التي يخلفها الإستقراء الكامل، فهي إما ان تحمل لزوماً غير موجود في المقدمات، وهو ما يتعارض مع ضرورة المساواة بين المقدمة والنتيجة، أو أنها خالية من أي لزوم، فيفضي الأمر إلى ان تعجز عن إثبات المبادئ الأولى تبعاً لمفهوم البرهان. لكن ينبغي ان نعرف بأن شكل البرهان الأرسطي وإن كان ذا دلالة علية، إلا ان هذه الدلالة تأتي في حالتين ممكنتين، إحداهما حالة ما يسمى (البرهان اللمي) والذي يُفترض تضمّنه للعلية في التصديق والوجود معاً، وهو ما توقف عنده المفكر الصدر. أما الحالة الأخرى فهي المطلق عليها (البرهان الإني) المتضمن للعلية في التصديق دون الوجود، وهو المعول عليه في تصحيح الإستقراء وتفسيره. فمثلاً يقول ابن سينا في هذا الصدد: ‹‹إذا كان القياس يعطي التصديق بأن كذا كذا ولا يعطي العلة في وجود كذا كذا كما أعطى العلة في التصديق؛ فهو برهان إنّ. وإذا كان يعطي العلة في الامرين جميعاً حتى يكون الحد الاوسط فيه كما هو علة للتصديق بوجود الأكبر للاصغر أو سلبه عنه في البيان، كذلك هو علة لوجود الأكبر للاصغر أو سلبه في نفس الوجود، فهذا البرهان يسمى برهان لِمَ››18.

ولابن سينا نص آخر يعدّ فيه الإستقراء الكامل من جملة البرهان الإنّي، حيث يقول: ‹‹والإستقراء الذي تستوفي فيه الجزئيات كلها فإنه بهذا اليقين أيضاً إن كانت القضايا الجزئية يقينية، وهي التي تصير في القول كبريات، وإن كان حقها ان تكون صغريات، وهي في جملة البرهان المفيد للإن››19.

من هنا لو كان المنطق الأرسطي يرى الإستقراء الكامل أساس البرهنة على المبادئ الأولى، لسقط في الدور المحال، لأن البرهان في الإستقراء ذاته متوقف على التسليم بمبدأ العلية واللزوم كما عرفنا، فكيف يمكن أن يكون هذا المبدأ مستنتجاً عن الإستقراء؟!

4 ـ الإستقراء الكامل والنتيجة الجديدة

تبقى هناك مسألة تعرض لها المفكر الصدر، وتتعلق بالنتيجة التي يخلفها الإستقراء الكامل، فهل ان هذه النتيجة جديدة كما يدعيه المنطق الأرسطي، أم أنها تحصيل حاصل وتكرار للمقدمة كما يذهب إليه المذهب التجريبي؟

وفي هذه المسألة لجأ المفكر الصدر إلى موافقة الإتجاه الأرسطي، واستدل لهذا الغرض إستدلالاً دقيقاً حاول فيه ايضاح الامتياز الذي تحظى به النتيجة، بحيث صوّرها تختلف عن المقدمات التي انتجتها. فقد إعتبر الإستقراء الكامل ينطوي على إستقرائين، لا واحد. فمثلاً لو أردنا أن نصل عبر الإستقراء الكامل إلى القضية التي تقول: ان كل قطع الحديد تتمدد بالحرارة، ففي هذه الحالة نجد أن هناك إستقرائين كالتالي:

في الإستقراء الأول يقوم المستقرئ باحصاء جميع قطع الحديد في العالم دون أن يدع أي قطعة منها، ودون ان يخلطها مع بقية قطع المواد الأخرى، كالذهب والفضة والخشب وغيرها. وعند ذلك سيصل إلى النتيجة التي تقول: ان هذه المجموعة المحصاة هي كل قطع الحديد في العالم. أما في الإستقراء الثاني فإن المستقرئ يقوم بفحص كل قطعة من قطع الحديد ليتبين له أنها تتمدد بالحرارة. وفي هذه الحالة يحصل على نتيجة تقول: ان كل قطعة من تلك القطع تتمدد بالحرارة.

وبهذا فقد حصل المستقرئ على قضيتين ناتجتين عن إستقرائين مختلفين، الأولى تقول: هذه كل قطع الحديد في العالم. والثانية تقول: كل قطعة من هذه القطع تتمدد بالحرارة. وبطبيعة الحال فإن هاتين القضيتين يلزم عنهما نتيجة صحيحة منطقياً كالتالي: ان كل قطع الحديد تتمدد بالحرارة.

وقد إعتبرت هذه النتيجة تختلف عن المقدمة المتمثلة في القضيتين. ذلك ‹‹ان القضية المستدلة بالإستقراء تعبر عن العلاقة بين الوصفين اوالمحمولين للمجموعة الواحدة، وهي علاقة مستنتجة منطقياً من علاقتين: إحداهما علاقة أحد المحمولين باعضاء المجموعة، والأخرى علاقة المحمول الآخر بالمجموعة››20. فليست النتيجة هي نفس وصف القضية الأولى، كما انها ليست نفس وصف القضية الثانية، بل هي ربط الوصفين معاً. إذ الوصف في القضية الأولى يدلي بأن هذه كل قطع الحديد، والوصف في القضية الثانية يدلي بأن كل قطعة من هذه القطع تتمدد بالحرارة، لكن النتيجة غير الوصف الأول أو الثاني، وإنما هي علاقة تجمع الوصفين معاً. وهنا الجدة في الإستقراء الكامل. ورغم دقة هذا الإستدلال لإثبات الامتياز الذي تمتازه النتيجة عن المقدمة في الإستقراء الكامل، إلا انه لا يخلو من مناقشة كالتالي:

اولاً: ماذا يراد من التعبير عن كون النتيجة هي علاقة تربط بين الوصفين الموجودين في قضيتي المقدمة؟ فهل يراد من ذلك ان تحظى النتيجة بوجود ‹‹علاقة›› تميزها عن الوصفين؟ أو يراد التأكيد - فقط - على أن النتيجة تحظى بالوصفين مجتمعين معاً، في قبال المقدمة التي تحظى بهما متفرقين؟

فالوصف الأول هو حصر قطع الحديد كاملة، والوصف الثاني هو ظاهرة التمدد لكل منها، والنتيجة بحسب الفرض الثاني هي مزج وصف التمدد بوصف قطع الحديد كاملة. واذا فرضنا ان المراد من ذلك إثبات وجود ‹‹علاقة›› لم توجد في المقدمة، فسوف يتنافى ذلك مع الكشف السابق من أن النتيجة في الإستقراء الكامل هي بقدر المقدمة دائماً، في حين أصبحت النتيجة - هنا - أكبر من المقدمة، بإعتبارها تتضمن وجود شيء جديد يعبّر عنه بـ ‹‹العلاقة››. لذا لا يعقل ان يكون المراد هذا المعنى بالذات.

وعليه، ليس أمامنا إلا الإفتراض الثاني، وهو القول بوجود وصفين مجتمعين معاً. لكن في هذه الحالة ليس ثمة اختلاف وامتياز حاصل بين المقدمة والنتيجة، إلا بالتعبير والتجزئة والتركيب. فحال هذه المسألة كحال القضية التي تقول: (2 + 3 = 5). حيث في هذه القضية نلاحظ أن (الخمسة) ما هي إلا عبارة عن نفس (الاثنين مع الثلاثة) سوى انها في الطرف الأول مجزئة، وفي الطرف الثاني مركبة، وليس هناك اختلاف إلا في التعبير، فيمكنك أن تقول: (5 = 5)، أو تقول: (2 + 3 = 5)، او: (1 + 4 = 5). فرغم الاختلاف اللغوي لهذه التعابير إلا انها تدل من الناحية المنطقية على معنى واحد، لا تختلف فيه المقدمة عن النتيجة. وكذا هو الحال حين نجمع صفة ‹‹تمدد كل قطعة حديد›› مع صفة ‹‹شمولية كل القطع الموجودة››، حيث سنحصل على مركب يجتمع فيه الوصفان معاً، رغم عدم اختلافه منطقياً عن محتوى الوصفين.

وتجدر الاشارة إلى ان تحديد ‹‹الجديد›› في النتيجة - هنا - يخضع للامر المنطقي لا الواقعي. فقد يحصل تغاير في الامرين، إذ قد تكون النتيجة جديدة بإعتبارات الواقع، رغم أنها ليست جديدة من الناحية المنطقية. فمثلاً يحصل الطفل على نتيجة جديدة عند إدراكه للخمسة من خلال حاصل جمع الاثنين مع الثلاثة. في حين من الناحية المنطقية فإن هذا الجمع لا يترتب عليه أي اثر جديد سوى اختلاف التعبير. وكذا حين نجمع عدداً كبيراً مع آخر مثله سنحصل على نتيجة نعتبرها جديدة بحسب إدراكنا الخاص، رغم أنها منطقياً ليست جديدة. وعليه ان الجدة وعدمها في النتيجة إذا أخذت بحسب المعنى المنطقي فستكون ثابتة لا تتغير، ولو أخذت بحسب المعنى الواقعي، فإنها تكون نسبية متغيرة. فما هو جديد لإدراكي الآن؛ لا يكون كذلك فيما بعد، كما قد لا يكون جديداً لإدراك زيد من الناس مثلاً، وهو الحال المتعلق بعلم النفس التكويني والبنائي كالذي يعالجه عالم النفس الفرنسي بياجيه.

 

ثانياً: ان الإستقراء الذي أحصى جميع الحديد في العالم - وكذا الإستقراء الذي احصى جميع حالات التمدد للحديد - يعتبر من الإستقراء الكامل، رغم كونه يشكل أساس وجود إستقراء كامل آخر كما عرفنا. وعليه فإما ان يكون هذا الإستقراء يتضمن وجود إستقرائين كاملين آخرين، وكذا هذان الأخيران يتضمن كل منهما اخرين بإعتبارهما من الإستقراء الكامل، وهكذا إلى ما لا نهاية له، وهو مستحيل. وإما ان يكون لدينا نوعان من الإستقراء الكامل، أحدهما ينطوي على وجود إستقرائين كاملين مزدوجين، والآخر لا يتضمن ذلك لأنه فرد واحد، لا اثنين.

وهذا يعني، إذا كانت النتيجة في الإستقراء الكامل (المزدوج) تعتبر جديدة لوجود إستقرائين أديا إلى إيجادها؛ فسوف لا ينسحب ذلك على الإستقراء الفردي بإعتباره لا يحمل إلا إستقراءاً واحداً فحسب. الأمر الذي يتفق وما صرح به المفكر الصدر من أنه لو كان الإستقراء الكامل مجرد تجميع للقضايا الجزئية - أي إستقراء فردي - لما كانت النتيجة فيه جديدة. فهو يقول: ‹‹وقد يتبادر إلى الذهن أن النتيجة المستدلة إستقرائياً وهي أن كل قطع الحديد تتمدد بالحرارة ليست إلا مجرد تجميع للقضايا الجزئية التي تقول هذه القطعة تتمدد بالحرارة وهذه تتمدد أيضاً وتلك تتمدد وهكذا... ولما كانت هذه القضايا الجزئية كلها معلومة مسبقاً، خلال نفس عملية الإستقراء، فلا يوجد أي جديد في النتيجة المستدلة إستقرائياً، مادامت مجرد تجميع لقضايا معلومة مسبقاً. ولكن الحقيقة ان النتيجة المستدلة إستقرائياً بالطريقة التي أوضحناها ليست مجرد تجميع للقضايا الجزئية، التي عرفت خلال عملية الإستقراء، وإنما هي قضية جديدة تختلف عن تلك القضايا››21.

وما نخلص إليه هو ان النتيجة في الإستقراء الكامل، سواء كان فردياً أو ازدواجياً، هي غير جديدة.

***

ولا يتوقف الخلاف بين المذهبين الأرسطي والتجريبي عند ذلك الحد، وإنما يتعداه حول قضية القياس إن كانت تخلّف نتيجة جديدة أم لا؟

فالمذهب الأرسطي يعتقد بتحقق النتيجة الجديدة، وعلى خلافه يذهب المذهب التجريبي وعدد من الفلاسفة والمفكرين القدماء، حيث النتيجة عندهم ما هي إلا دور ومصادرة على المطلوب. فمثلاً إذا قلنا: كل نجم يضيء، والشعرى نجم.. إذن الشعرى يضيء. ففي هذا المثال ان النتيجة المتخلفة ما هي إلا صدى وتكرار للمقدمة الكبرى (كل نجم يضيء)، فهي مصادرة على المطلوب وليست جديدة.

وأول من اثار هذا الاعتراض من الدور والمصادرة هو الفيلسوف الشكاك سكستوس امبريكوس22. وقد عرض ابو حامد الغزالي هذه الشبهة القديمة ونسبها إلى السفسطائيين، فقال: ‹‹منها قولهم: إن الطريق الذى ذكرتموه في الإنتاج لا ينتفع به، لأن من علم المقدمات على شرطكم فقد عرف النتيجة مع تلك المقدمات، بل في المقدمات عين النتيجة، فإن من عرف أن الإنسان حيوان، وان الحيوان جسم، فيكون قد عرف في جملة ذلك أن الإنسان جسم. فلا يكون العلم بكونه جسماً، علماً زائداً مستفاداً من هذه المقدمات››23. وحاول أن يجيب بنفسه عن هذه الشبهة قائلاً: ان ‹‹العلم بالنتيجة علم ثالث زائد على العلم بالمقدمتين. وأما مثال الإنسان والحيوان - الآنف الذكر - فلا نورده إلا للمثال المحض، وإنما ينتفع به فيما يكون مطلوباً مشكلاً، وليس هذا من هذا الجنس. بل يمكن أن لا يتبين للإنسان النتيجة، وإن كان كل واحدة من المقدمتين بينة عنده، فقد يعلم الإنسان أن كل جسم مؤلف - أي مركب - وأن كل مؤلف حادث، وهو مع ذلك غافل عن نسبة الحدوث إلى الجسم وان الجسم حادث. فنسبة الحدوث إلى الجسم غير نسبة الحدوث إلى المؤلف، وغير نسبة المؤلف إلى الجسم. بل هو علم حادث يحصل عند حصول المقدمتين واحضارهما معاً في الذهن مع توجه النفس نحو طلب النتيجة››24.

لكن هذه الإجابة ليست مفيدة أبداً، لأن المعتبر فى الإستنتاج الجديد هو الجانب المنطقي لا الواقعي، فسواء كان الإنسان ملتفتاً إلى نسب المقدمات أم غافلاً عنها، فإن حقيقة الموقف لا تتغير شيئاً، كما هو الحال مع الحسابات الرياضية، إذ رغم ذهول الإنسان - أحياناً - عن إدراك ما تقتضيه مقدمات الحساب، فإن العملية - مع ذلك - تظل غير منتجة لشيء جديد. في حين أن القياسات التي تستمد مقدماتها الكبرى من العقل تعطي نتائج جديدة في كل الأحوال. ففي نفس المثال السابق لو كان التعليل منصباً على إعتبار المقدمة (كل مؤلف حادث) عقلية، لكانت النتيجة جديدة بغض النظر عن مسألة التفات الإنسان وذهوله عن نسب المقدمات. وكذا الحال في بعض القياسات الأخرى التي لا علاقة لها بالمقدمات الكبرى الإستقرائية، من قبيل قياس التساوي كقولنا: (م) يساوي (ب)، و(ب) يساوي (ج)، وعليه فإن (م) يساوي (ج). إذا النتيجة في مثل هذا القياس تظل جديدة وغير تكرارية وإنما مساوية لأي من المقدمتين.

وفي الفترة الحديثة يعد الفيلسوف التجريبي جون ستيوارت مل وبرادلي أبرز من طرح المعارضة على القياس الأرسطي. ويمكن ايضاح المعارضة كالتالي25:

لنفترض أننا أمام هذا المثال القياسي: كل إنسان فان، ومحمد إنسان.. إذا محمد فان. فالمغالطة في هذا القياس هو اننا حين نقول في المقدمة الأولى ‹‹كل إنسان فان›› نقصد بذلك ان جميع أفراد الإنسان فانون، وحين نعقب على ذلك بالقول في المقدمة الثانية ‹‹إن محمداً إنسان››؛ فإما أن نكون عالمين مسبقاً بأن محمداً هو من ضمن الأفراد الذين شملتهم المقدمة الكبرى، وفي هذه الحالة يصبح محمد من ضمن الناس في المقدمة الأولى دون حاجة للنص عليه في المقدمة الثانية ما دام معلوماً في الأولى، وبالتالي يصبح من الفانين في هذه المقدمة بلا حاجة لذكره في النتيجة ما دام معلوماً فيها، ولهذا فالنص عليه في النتيجة هو صدى وتكرار لما موجود في المقدمة الأولى التي فيها علمنا أنه من الفانين.. فهذا الإفتراض يحقق غرض مغالطة (المصادرة على المطلوب). والإفتراض الآخر هو أن لا نكون عالمين مسبقاً بأن محمداً هو من ضمن الأفراد الذين شملتهم المقدمة الأولى. وفي هذه الحالة كيف يصح التعميم فيها ما دمنا لم نختبر شأنه إن كان يخضع للفناء أو لا ؟ فالتعميم القائل ‹‹كل إنسان فان›› كان بغير حق، ما دمنا لم نعلم الفناء لجميع أفراد الناس على وجة التحديد.

وقد قيل في الجواب عن الاعتراض السابق بأنه ‹‹ساقط على أصول المذهب العقلي، لأن الكبرى - المقدمة الأولى من القياس - لو كنا نريد إثباتها بالتجربة ولم يكن لنا مقياس غيرها لكان علينا أن نفحص جميع الأقسام والانواع لنتأكد من صحة الحكم وتكون النتيجة حينئذ قد درست في الكبرى بذاتها أيضاً، وأما إذا كانت الكبرى من المعارف العقلية التي ندركها بلا حاجة إلى التجربة، كالأوليات البديهية والنظريات العقلية المستنبطة منها، فلا يحتاج المستدل لإثبات الكبرى إلى فحص الجزئيات حتى يلزم من ذلك أن تتخذ النتيجة صفة التكرار والاجترار››26.

ويلاحظ في هذا الجواب انه يفترض كون المقدمة الكبرى من المعارف العقلية التي سلّم بها المنطق الأرسطي، مع ان اغلب هذه المقدمات إستقرائية لا عقلية كالذي انتهى إليه الصدر في (الأسس المنطقية للإستقراء)27. وعليه إعتبر هذا المفكر ان المقدمة الكبرى إذا لم تكن عقلية - كما في المثال السابق - فهي مستمدة من الإستقراء الناقص المفيد لليقين. وفي هذه الحالة لا يصح الاعتراض السابق، حيث يمكن التعميم في المقدمة الكبرى رغم عدم إختبار جميع أفرادها تبعاً لمبدأ الإستقراء.

وحقيقة الأمر ان المشكلة المنطقية للقياس قد انقلبت لدى الفكر الحديث إلى مشكلة منطقية للإستقراء، إذ كيف يمكن تبرير التعميم لدى المقدمة الكبرى للقياس، وبأي حق يمكن أن نستدل بالشاهد على الغائب، وما وجه العلاقة الضرورية بين السابق واللاحق للظواهر الإستقرائية؟ كل ذلك جعل المفكرين والفلاسفة المحدثين يعدلون عن الصيغة القياسية للمنطق الأرسطي لخلوها من الجدة والفائدة.

مع هذا هناك حالتان، إحداهما يصح فيها ان يكون القياس منتجاً دون الأخرى. إذ يشترط في القياس المنتج ان يكون علمنا بالمقدمة الصغرى غير سابق على علمنا بالمقدمة الكبرى. أما العكس فإنه لا يثمر نتيجة جديدة. فمثلاً لو كنا على علم سلفاً بأن محمداً هو إنسان، ومن ثم علمنا بعد ذلك ان كل إنسان فان.. فإذا رتبنا النتيجة القائلة ‹‹محمد فان››، أصبحت هذه النتيجة ليست جديدة لكونها متضمنة في المقدمة الكبرى ذاتها. ولتوضيح ذلك نفترض أن أفراد الإنسان عبارة عن ثمانية فقط، نعلم منهم هؤلاء: محمد وعلي وزيد وخالد وعمرو. وقد اختبرنا منهم الأفراد الثلاثة الأخيرين فتبين لنا أنهم فانون، ولنفترض انه يحق لنا في هذه الحالة ان نعمم النتيجة فنقول: ‹‹ان كل إنسان فان››، فسيصبح هذا القياس مؤلفاً بالشكل التالي:

محمد إنسان نعلم به سلفاً..

وكل إنسان فان..

اذن محمد فان.

ولا شك ان هذه النتيجة موجودة في ذات المقدمة الكبرى لاننا حين نقول ‹‹كل إنسان فان››، إنما نعني بذلك حسب التحليل: ان محمداً ومن على شاكلته ممن تعينت معرفته سلفاً بأنه من الناس كلهم فانون. فالنتيجة منصوص عليها في المقدمة الكبرى ذاتها. وفي هذه الحالة أصبح القياس متضمناً لمغالطة المصادرة على المطلوب، وان النتيجة هي تكرار لما في المقدمة.

لكن كل ذلك مرهون على صحة التعميم في النتائج الإستقرائية، أما مع عدم القدرة على التعميم فإن القياس يصبح غير ملزم ولا منطقي. إذ حتى لو علمنا أن محمداً هو إنسان، فإن المقدمة الكبرى إذا كانت محتملة وليست يقينة فإنه لا يسعنا ان نستنتج منها منطقياً ان محمداً فان.

***

أخيراً نستخلص مما سبق النتائج التالية:

1ـ إن الإستقراء الكامل هو نوع من القياس، الأمر الذي لم يشمله المفكر الصدر ضمن دراسته المعرفية.

2ـ من الناحية الواقعية ليس من الممكن اخضاع الإستقراء الكامل للتطبيق، وبالتالي فإنه لا يشكل موضوعاً بالنسبة للعلوم الكلية، وذلك إذا ما استثنينا حالة الحصر الكلي للأجناس البعيدة مع بعض الشروط.

3ـ لدى المنطق الأرسطي لا يعد الإستقراء الكامل أساساً لإستنتاج المبادئ الأولى، بل العكس هو الصحيح.

4ـ إن الإستقراء الكامل لا يثمر عن نتيجة جديدة، طالما ان هذه النتيجة تعبر عن نفس مضمون المقدمة بلا اختلاف.

 

 

 

1ابن سينا، منطق الشفاء، تحقيق ابو العلا عفيفي، ج2 ، ص558 و559. كذلك: البرهان، تحقيق ابو العلا عفيفي، ص79.
2المصدر، ص19ـ21.
3الاسس المنطقية للاستقراء، ص16.
4 منطق أرسطو، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1948م 89م، ج1 ، ص295ـ296.
5 لاحظ، ص17.
6لاحظ، ص18.
7 لاحظ، ص18ـ19.
8فهو يقول: ‹‹.. يلزم ضرورة ان يكون العلم البرهاني من قضايا صادقة، واوائل غير ذات وسط.. واعني بالتي هي اقدم واعرف عندنا تلك التي تكون اقرب إلى الحس، واما التي هي اقدم واعرف على الاطلاق فإنها هي الأشياء التي هي أكثر بعداً منه. والأشياء التي هي ابعد ما تكون منه هي الأمور الكلية خاصة، والتي هي اقرب ما يكون منه هي الأشياء الجزئية والوحيدة. فهذان قد يقابل بعضهما بعضاً››. ويقول أيضاً: ‹‹فان لم يكن سبيل إلى علم الاوائل، فإنه لا سبيل إلى ان نعلم على الاطلاق الأشياء أيضاً التي عن هذه، ولا سبيل أيضاً إلى ان تعلم على الحقيقة›› (منطق أرسطو، مكتبة النهضة المصرية، 1949م، ج2 ، ص313ـ314 و318).
9 عبد الرحمن بدوي: أرسطو، دار القلم، بيروت، الطبعة الثانية، ص8.
10 لاحظ: منطق أرسطو، ج2، ص413 و415. كذلك بدوي: أرسطو، ص78ـ80. وماجد فخري: أرسطو طاليس، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1967 79م، ص34ـ35.
11ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1986م، ج1 ، ص347.
12 ماهر عبد القادر: المنطق ومناهج البحث، دار النهضة العربية، بيروت، 1405هـ ـ 1985م، ص149.
13 لاحظ مقدمة المحقق ابو العلا عفيفي للبرهان، ص11.
14 البرهان، ص222ـ223.
15 لاحظ البرهان، ص250. علماً بأن المحقق ابو العلا عفيفي ذكر في حاشيته بأن مقالة ابن سينا في الفيض الإلهي الاشراقي لا وجود لها عند أرسطو، بل هي ادنى إلى نظرية افلاطون في المثل. وفي الحقيقة ان هذه النظرة هي السائدة حالياً بين الباحثين والمحققين المعاصرين. لكن عندنا الأمر يختلف، فلو أخذت نظرية أرسطو بكاملها لما كانت بعيدة الصلة عن نظرية الفيض الاشراقي، خاصة انها تقوم على مبدأ السنخية الذي جاءت عنه مقولات أرسطو في حركة الموجودات من خلال العشق وقاعدة الإمكان الاشرف ووجود العقل الفعال وعلم الأول بكل الأشياء من خلال علمه بذاته، بل هو كل الأشياء؛ لكن على نحو ألطف وأشرف، وغير ذلك مما فصلنا الحديث عنه في كتابنا: (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 2008م)، وايضاً القسم الثاني من: (مدخل إلى فهم الإسلام، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الثالثة، 2012م).
16ابن سينا: النجاة، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الثانية، 1357هـ1938، ص167ـ168.
17 لاحظ رأي أرسطو في: بدوي: أرسطو، ص76.
18 البرهان، ص79. ويقول ابن سينا أيضاً: ان ‹‹برهان اللم هو الذي ليس إنما يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق بها فقط تكون فائدته ان تعتقد ان القول لِمَ يجب التصديق به، بل يعطيك أيضاً مع ذلك علة اجتماع طرفي النتيجة في الوجود فتعلم ان الأمر لِمَ هو في نفسه كذا فيكون الحد الاوسط فيه علة لتصديقك بالنتيجة وعلة لوجود النتيجة... واما برهان الإنّ فهو الذي إنما يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق فيعتقد ان القول لِمَ يجب التصديق به، ولا يعطيك ان الأمر في نفسه لِمَ هو كذلك›› (النجاة، ص66 و67. كما لاحظ هذا المعنى أيضاً عند الفارابي في رسالته المسماة بكتاب تحصيل السعادة، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، 1345هـ، ص5).
19 البرهان، ص79.
20لاحظ، ص24ـ25.
21لاحظ، ص23.
22 ابو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1967م، ج2 ، ص50.
23 الغزالي: معيار العلم، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، 1961م، ص31ـ32.
24 المصدر السابق، ص32.
25 زكي نجيب محمود: المنطق الوضعي، مكتبة الانجلو المصرية، الطبعة الثالثة، 1961م، ج1، ص270ـ271. وفلسفتنا، ص76.
26 فلسفتنا، ص48.
27 لاحظ القسم الأخير من الأسس المنطقية للإستقراء.   
comments powered by Disqus