-
ع
+

إبن رشد ونظرية الفيض

يحيى محمد

 

قد يستغرب البعض لو قلنا بأن ابن رشد كان يتبنى نظرية الفيض او الصدور رغم نقده لها من جوانب معينة. فهناك ثلاثة محاور لنقده لهذه النظرية، أحدها يتعلق بمشكـل المنـهج. والثاني يتعلق بمشكل المصطلحات والمفاهيم. أما المحور الثالث فيتعلق بنقد الرؤية الفيضية ذاتها، من حيث الاشكالات والثغرات المفصلية العالقة بها من هنا وهناك، وسنبدأ ببحث هذه المحاور على التوالي كما يلي:

   أ ـ مشكل المنهج الكلامي في نظرية الفيض

لقد اتهم ابن رشد بأن منطق نظرية الفيض (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) قائم على محور قياس الغائب على الشاهد، على الرغم من أنه أرّخ للنظرية عائداً بها إلى ما قبل أرسطو. ومع هذا، فالذي يدقق في طبيعة الاستدلال المقدّم لصـالح هـذه النـظرية يجـد أنـها بعـيدة كل البعد عن المنهج الكلامي ومنطقه في القياس المذكور، بل ومتفقة تماماً مع روح (القوانين الحكمية). فهي على الأقل تقوم على منطق السنخية، فكما أشار البعض  إلى أن النظرية توجب أن يكون الصادر عن مبدأ الوجود الأول أمراً واحداًً من سنخه(7 9).

أما بشأن الاستدلال المعوّل عليه في هذا الصدد؛ فقد ذُكر أن بهمنيار طلب من أُستاذه إبن سينا أن يدلي له ببرهان على نظرية الفيض، أو بالأحرى على تلك القاعدة من الصدور، فكتب مجيباًً بأنه لو كان الواحد الحقيقي مصدراً لأمرين (أ) و (ب) مثلاً؛ لكان يعتبر مصدراً لـ (أ) وما ليس (أ)، وذلك لأن (ب) ليس هو عين (أ)، فيلزم اجتماع النقيضين.

لكن الفخر الرازي عجب من هذا الكلام واعتبره خلاف المعقول والوجدان، وسخر من إبن سينا وقال: «لا أدري كيف اشتبه على الذين يدّعون الكياسة، والعجب ممن يفني عمره في تعليم المنطق وتعلمه ليكون له آلة عاصمة لذهنه عن الغلط ثم لما جاء إلى المطلوب الأشرف أعرض عن استعمال تلك الآلة حتى وقع في الغلط الذي يضحك منه الصبيان». ذلك أن نقيض صدور (أ) هو لا صدور (أ) وليس النقيض هو صدور لا ( أ) الذي هو (ب). فكما أن الجسم إذا قَبِلَ الحركة والسواد يكون ذا حركة وما ليس بحركة، فلا يلزم منه التناقض، فكذلك الحال بالنسبة إلى الأمر السابق، خصوصاً أن إبن سينا في (الشفاء) كان يؤكد هذا المعنى بقوله: «ليس قولنا إن في الخمر رائحة وليس فيه رائحة هو عين قولنا فيه رائحة وما ليس برائحة»، إذ في الثاني يمكن أن يجتمعا بخلاف الأول، باعتباره يتضمن التناقض.

ومع ذلك فإن صدر الحكماء الشيرازي قد دافع عن كلام الشيخ الرئيس، وعدّ الفخر الرازي ممن لم يفهم مراده في معنى الواحد الحقيقي وكونه مبدأً للشيء، فأوضح ذلك بأنه لما كانت العلة الأُولى هي عين الذات الواجبة من غير اختلاف، وحيث إن هذه الذات واحدة، فإنها من حيث كونها علة يجب أن تكون واحدة أيضاً، لذا لو صدر عنها (أ) وغير (أ) لكانت الذات الواجبة عبارة عن علتين أو مصدرين، إذ تكون الذات المتمثلة بالعلة لـ (أ) هي غير الذات المتمثلة بالعلة لغير (أ)، وهو تناقض، باعتبار الفرض السابق. وبعبارة أُخرى إنه لو كان للذات الواجبة جهـتان للصـدور لكـانت إحـداهما تمـثل عين الذات، بينما تمثل الأُخرى غيرها، فيتحقق بذلك التناقض(8 9).

من الواضح إن طبيعة هذا البرهان تعود إلى طبيعة فهمنا لوحدة مبدأ الوجود الأول، فإذا فهمنا ان هذه الطبيعة تعني الوحدة البسيطة والعلة الواحدة والجهة المخصوصة؛ لزم عدم جواز صدور أكـثر من واحـد عنها، وإلا وقع التـناقض المشار اليه سلفاً، فتقييد العلة الواحدة بالجهة المخصوصة هو بعينه نفي الجهات وكثرة الصوادر. لذلك نفهم لماذا لم يصر صدر المتألهين على لزوم حكم الاستحالة والتناقض الآنف الذكر في بعض كتبه التي عدّ فيها أمر صدور الكثرة عن المبدأ الأول هو من الأُمور المستبعدة جداً(9 9). فذلك يرجع بنظرنا إلى خصوصية فهم الوحدة الإلهية وجهتها العلية.

من هنا يلاحظ أن الخزين الفلسفي في هذا الاستدلال يتلخص في التعويل على مفهوم الوحدة الإلهية. فإذا كانت هذه الوحدة بسيطة؛ أمكن بها تبرير الصدور المشار اليه تبعاً لمنطق السنخية. وبذلك إن قاعدة الصدور أو الفيض لا ترجع إلى المنهج الكلامي في قياس الغائب على الشاهد، بل ترتد أساساً إلى المفهوم الفلسفي الخاص بالوحدة الإلهية. فتاريخ الفلسفة قد شهد (تردداً) واضحاً فيما يتعلق بطبيعة هذه الوحـدة وعلاقـتها بالكـثرة(0 0 1)، فهـناك من نفى وجود أيّ كثرة صورية داخل هذه الوحدة، وهو الاعتقاد الذي يتسق تماماً مع القاعدة الانفة الذكر طبقاً للقوانين الحكمية، إذ كيف يمكن تبرير صدور ما هو أكثر من واحد، مع أن للواحد جهة واحدة هي عين ذاته؟!

لكن هذا الموقف ليس هو الموقف الوحيد للمنطق الفلسفي. فهناك من اعترف بوجود كثرة صورية داخل الوحدة الإلهية، مما يبرر على أساسه صدور الكثرة عن الواحد، فالواحد هو واحد وكثير في الوقت نفسه. ولما كان الفارابيان من أصحاب المقولة الأُولى، وكان إبن رشد من أصحاب المقولة الثانية، لذا اضحى منطقياً أن يمنع الفارابيان صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي البسيط للاعتبار الفلسفي الآنف الذكر، مثلما من المنطقي أن يجوّز إبن رشد هذا الصدور للاعتبار المقابل. وفي كلا الحالتين فإن الأمر يتأسس مبدئياً على منطق السنخية وليس خارجاً عنها.

 ب ـ مشكل اصطلاحات نظرية الفيض

بخصوص الجانب الاصطلاحي لم يتقبل إبن رشد ألفاظ نظرية الفيض، مثل (صدر، فاض، لزم) وغيرها من الألفاظ التي اعتبرها لا تصح مفهوماً بالنسبة للمفارقات، إذ «ليس هناك صدور ولا لزوم ولا فعل حتى نقول إن الفعل الواحد يلزم أن يكون عن فاعل واحد، وإنما هنالك علة ومعلول على جهة ما نقول إن المعقول هو علة العاقل»(1 0 1). لذا اعتبر أن تلك الألفاظ هي «من صفات الفاعلين.. فإن الفاعل.. ليس يصدر عنه شيء إلا إخراج ما بالقوة إلى الفعل، وليس ها هنا ـ في عالم المفارقات ـ قوة، ولذلك ليس هناك فاعل وإنما ثم عقل ومعقول»(2 0 1(.

وهذا النقد كما هو واضح لا يلوح المعنى الذي تتضمنه نظرية الفيض. فالفارابيان لا ينظران إلى الفيض والصدور والفعل والإبداع وما شاكل ذلك من الاصطلاحات بهذا المفهوم الظاهر، بل يقدران أنها تعابير مجازية تكشف عن طبيعة التقدم الموجود بين العلة والمعلول في عالم المفارقات، وهو عالم الثبات والدوام أزلاً وأبداً. لذلك فإن إبن سينا قصد بقوله (العقل يفعل المعقولات) هو أنه «ليس بالفعل العامي الذي بعد أن لم يفعل، بل معـنى وجـود لازم كـما نعـلمه»(3 0 1). كما ان معـنى الإبداع عـنده «هـو أن يكون من الشيء وجود لغيره متعلق به فقط دون متوسط من مادة أو آلة أو زمان. وما يتقدمه عدم زماني لم يستغن عن متوسط. فالإبداع أعلى رتبة من التكوين والإحداث..»(4 0 1)، وهو المعنى نفسه الذي ذكره السهروردي في (التلويحات) 5 0 1.

على أن إبن رشد نفسه لم يسلم من استخدام مثل تلك التعابير برغم نقده لها كما تقدم. فهو في بعض مواضع كتابه (تهافت التهافت) لا يكترث لاستعمال تلك الاصطلاحات، ومن ذلك تصريحه بأن القدماء من الفلاسفة ـ وعلى رأسهم أرسطو ـ يرون أن بعض الموجودات قد صدر عن الأول مباشرة، والبعض الآخر بالواسطة(6 0 1). أما من حيث المعنى فقد ظل هو هو، وهذا ما يبديه في تنويهه إلى أن استخدام (الفاعل، الخالق) وما إلى ذلك من ألفاظ في عالم المفارقات إنما هو على نحو المجاز، حيث لا يفهم منه غير ما يليق بذلك العالم العقلي الثابت. فهو يرى أن هذه المفارقات «لها من المبدأ الأول مقامات معلومة لا يتم لها وجود إلا بذلك المقام منه، وأن الارتباط الذي بينها هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض وجميعها عن المبدأ الأول وأنه ليس يُفهم من الفاعل والمفعول والخالق والمخلوق في ذلك الوجود إلا هذا المعنى فقط»(7 0 1).

 ج ـ نقد الرؤية الفيضية

أما من حيث الرؤية التفصيلية لنظرية الفيض، فهناك عدة مؤاخذات يطرحها إبن رشد في وجه الفارابيين كالآتي:

أولاً:

من هـذه المؤاخـذات يرى إبن رشـد أن الفارابيين قـاما بجعل مـبدأ الوجود الأول عاطلاً كلياً عن أي فعل يقوم به. إذ بحسب النظرية الأرسطية تكون المفارقات جميعاً جواهر محركة للأفلاك، وعلى رأسها المبدأ الأول. فكل جوهر من تلك الجواهر «هو مبدأ للجوهر المحسوس على أنه محرك وعلى أنه غاية». وهو يستشهد على ذلك بقول أرسطو: «إنه لو كانت ها هنا جواهر لا تحرك لكان فعلها باطلاً»(8 0 1).

وحقيقة الأمر هو أن الفارابيين برغم أنهما لم يجعلا الفاعل الأول يقوم بفعل معين بشكل مباشر، إلا إن اعتباره أصلاً يدين له كل شيء بالوجود، وغاية يتوجه اليها كل شيء؛ كل ذلك يجعل منه غاية وفاعلاً ومحركاً حقيقياً وإن كان ذلك يجري عبر الوسائط، بحسب تنزلات الوجود طبقاً لقاعدة (الإمكان الأشرف). أما السبب الذي جعل الفارابيين يتجنبان اضفاء صفة التحريك والفعل المباشر على المبدأ الأول؛ فيرجع الى المفهوم نفسه الذي شيداه عن الوحدة الإلهية، وذلك من حيث أن تكثر جهات العلاقة العلية تؤدي الى تكثر العلة ذاتها، وهو أمر يختلف الحال فيه عند المذهب الأرسطي، لاختلاف مفهومه عن الوحدة ذاتها.

ثانياً:

هناك نقد آخر يتعلق بقول الفارابيين بأن الأول يعقل ذاته، ومن خلال عقله لذاته فإنه يعقل ما يصدر عنه مباشرة. بينما عند الفلاسفة الأرسطيين ـ كما يصرح إبن رشد ـ هو أن الأول لا يعقل إلا ذاته دون أن يعقل أمراً مضافاً دونه، لكنه بعقله لذاته «يعقل جميع الموجودات بأفضل وجود وأفضل ترتيب وأفضل نظام» وذلك في نفس ذاته لا خارجها، حيث أن كل مفارق «لا يعقل ما دونه لأنه معلول، ولو عقله لعاد المعلول علة»، في حين إن كل معلول مفارق يعقل علته، وإن كان ذلك يتم بأن «لا يكون الأقل شرفاً ـ وهو المعلول ـ يعقل من الأشرف ـ وهو العلة ـ ما يعقل الأشرف من نفسه، ولا الأشرف يعقل ما يعقل الأقل شرفاً من ذاته، أعني أن يكون ما يعقل كل واحد منهما من الموجودات في مرتبة واحدة، لأنه لو كان ذلك كذلك لكانا متحدين ولم يكونا متعددين، فمن هذه الجهة قالوا إن الأول لا يعقل إلا  ذاته، وإن الذي يليه إنما يعقل الأول ولا يعقل ما دونه لأنه معلول، ولو عقله لعاد المعلول علة، واعتقدوا أن ما يعقل الأول من ذاته فهو علة لجميع الموجودات، وما يعقله كل واحد من العقول التي دونه فمنه ما هو علة الموجودات الخاصة بذلك العقل، أعني بتخليقها»(9 0 1). على أن إبن رشد لا ينسى أن يذكر بأن من قال بعقل الأول لذاته ولمعلوله هو بعض المشائين الذين تأوّلوا أنه مذهب أرسطو(0 1 1).

ومن المفترض أن يكون المبرر الذي يجعل الفارابيين يعتقدان بتسلسل التعقل من الأول فما دونه يرجع أساساً إلى المبدأ الفلسفي القائل: (العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول)، وهو مبدأ لا يختلف عليه الفلاسفة. إذ بحسب طريقة الفارابيين أن عقل الأول لما دونه يتم عبر عقله لذاته طبقاً لذلك المبدأ. فعقله لذاته عبارة عن عقله لها بما هي علة، الأمر الذي يفضي به إلى أن يعقل المعلول الأول من خلال عقله لذاته، وعقله للمعلول الأول يفضي إلى عقله للمعلول الثاني، من حيث أن المعلول الأول هو عبارة عن علة أيضاً، العلم بها يفضي إلى العلم بمعلولها، وهكذا حتى يكون العقل الأول عاقلاً لجميع الموجودات من خلال عقله لذاته، على نحو النظام والتسلسل الرتبي.

ومن حيث العموم خضع إبن رشد، هو الآخر، إلى نفس المنطق الخاص بالمبدأ الآنف الذكر. فهو أيضاً يبرر عملية علم الأول بما دونه انطلاقاً من كون العلة تعلم معلولها بما تعقل به ذاتها(1 1 1). وعليه فإن الأول يعلم جميع ما دونه من نظام الأشياء وترتيبها على ما هي عليه، فذاته من حيث هي هي عبارة عن كل الأشياء على نحو التمام والكمال والترتيب والنظام. فإدراك الأول لذاته هو إدراكه لهذا النظام والترتيب، وبالتالي فهو في حد ذاته عبارة عن إدراك الأشياء التي دونه. مما يعني أن اختلاف إبن رشد عن الفارابيين هو أنه يعتبر المبدأ الآنف الذكر لا يلزم عنه العلم الخارجي، أي علم الذات بما دونها على نحو خارج عنها كما يقول الفارابيان.

والواقع هو أن كلا الطريقتين لا تسلمان من بعض الإشكالات والمؤاخذات. فطريقة الفارابيين تقتضي ولا بد أن يكون الأول عبارة عن كل الأشياء بترتيبها وتنظيمها، وذلك استناداً الى مبدأ (العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول)، اذ لا مبرر لهذا العلم، إن لم تكن العلة تحمل في ذاتها كل ما في المعلول على نحو الكمال والتمام. وهذا يعني ضرورة أن يكون الأول حاملاً لكل ما في دونه من المعلولات على ذلك النحو.

أما طريقة إبن رشد فهي وإن أمكن تبريرها طبقاً للمبدأ الآنف الذكر؛ لكن من الواضح أن علم العلة بمعلولها بحسب هذه الطريقة هو علم مغلق في ذاتها، فكيف يتسنى لها أن تعرف بأن لها معلولاً خارجياً، وأن تعلم بأنه على شاكلتها؟ ذلك أن هذه المعرفة لا يمكن تبريرها من ذلك المبدأ. ولو أنا استعرنا لغة الفيلسوف الألماني (عمانوئيل كانت) لقلنا إن طريقة إبن رشد تجعل من سلسلة الوجودات بعضها وإن أمكنه ادراك البعض الآخر (لذاته)، لكن لا يسعه أن يدركه (في ذاته). فإدراك الشيء للآخر الأقل منه رتبة ليس إدراكاً له على أنه (آخر)، بل إدراكه له على أنه نفس ذاته، أي أن المدرِك متحد مع المدرَك، وبالتالي فالشيء لا يعرف إن كان هناك وجود للآخر، فكل ما يعرفه إنما هو وجود ذاته التي فيها صورة (الآخر) من غير أن يدرك أن لهذا الآخر وجوده المنفصل المستقل.

وكما ينطبق هذا على إدراك العلة للمعلول، حيث إن العلة لا تدرك المعلول كشيء منفصل، بل تدركه بما تحمل له من صورة في ذاتها، فكذا الأمر ينطبق على إدراك المعلول لعلته، فهو لا يعي انها مستقلة عنه، اذ يمثل هذا الادراك عين ذات المعلول بلا اختلاف؛ فكيف يمكنه الوعي بأنها مستقلة عنه وأنها اكمل واتم منه، بله انه جاء على شاكلتها؟ فكل ذلك ما لا سبيل اليه باعتبار ان كل تعقله وعلمه انما هو من حيث صورتها في ذاته.

ولا يشفع في الامر ما تراه النظرية الارسطية من كونه محض التعلق أو الإضافة مع علته(2 1 1)، كما ان رأي ابن رشد في كون المعلول يعلم من ذاته معنى مضافاً إلى علته(3 1 1)؛ يحتاج الى دليل خاص غير ما هو مطروح. فكل ما يمكن ان يقال هو ان علمه بذات العلة مرتد الى علمه بذاته، وهو امر لا يبرر العلم بما هي في ذاتها، ولا كونها مستقلة عنه، ولا انه محض التعلق باعتباره غير منفصل عنها، ولا انه جاء على سنخها.

هكذا يفضي الأمر الى أن تكون الموجودات عبارة عن ذرات روحية (مونادات) مغلقة الإدراك، لا يعرف كل منها ما يدور حولها. فلا العلة بإمكانها أن تعرف طبيعة معلولها، ولا حتى تعرف أنها علة لغيرها، وكذا الحال مع المعلول، فهو أيضاً لا يعرف طبيعة علته، ولا كونه معلولاً  او محض اضافة تعلقية. فالإدراك يظل إدراكاً استبطانياً ذاتياً محضاً، فلا يعرف أحد أصله ولا ما يلزم عنه. من هنا كانت أهمية نظرية الإشراق النوري للسهروردي، فهي بطريقتها تقضي على هذه الثغرة، وإن كانت نفسها لم تتخلص من ثغرة نفي العلم الصوري الإلهي كما تقتضيه (السنخية)، الأمر الذي حدا بصدر المتألهين إلى تسديد الثغرتين معاً. فهو يثبت كلا العلمين؛ الصوري كما يقول به شيخ الفلسفة إبن رشد، والإشراقي كما يقول به شيخ الإشراق السهروردي.

ومن جهة أُخرى فإن الإشكال الذي أثاره إبن رشد في وجه الفارابيين؛ ينقلب عليه. فهذا الفيلسوف يحيل أن تعقل العلة معلولها، بمبرر أن هذا التعقل يفضي إلى اتحادهما أو انقلاب المعلول إلى العلة، من حيث إن لا شيء يعقله المفارق إلا ويتحد به، لعدم وجود المادة المانعة من الاتحاد. لكن هذا المحذور بعينه ينطبق على ما اختاره فيلسوفنا من حل. فهو يرى أن المعلول هو الذي يعقل العلة دون عكس، وعاقليته لها هي عين ذاته من دون اختلاف، لنفس الاعتبار من اتحاد العاقل بالمعقول.

صحيح إنه يجاب على ذلك بأن ما يعقله المعلول من علته لا يعني أنه يعقلها كلها حتى يكون ذاتها بالتمام، وإنما يعقل منها بحسب قابليته أو درجته في الوجود، أي أنه لا يعقل منها إلا ما هو أقل منها تماماً وكمالاً، وإلا انقلب المعلول علة وهو مستحيل بحسبـ (القوانين الحكمية)، لهذا هو لا يعقل من مبدئه إلا بقدر قابليته الخاصة.

ولو طبقنا الأمر على العلاقة التي تسود بين المعلول الأول ومبدئه الذي يُعدّ واحداً بسيطاً؛ لعنى ذلك أن المعلول إنما يعقل من مبدئه الأول بحسب قابليته، فهو لا يعقل كل المبدأ، وإنما يعقل شيئاً منه، وهذا يفضي إلى أن يكون هناك شيء ما لم يعقله المعلول، مثلما أن هناك شيئاً قد عقله، وهو يتحد بما عقله دون ما لم يعقله، مما يفضي إلى أن يكون المبدأ الأول منه ما هو معقول، ومنه ما هو غير معقول، وبجزئه المعقول يصبح عبارة عن نفس المعلول لاتحاد العاقل بالمعقول، مما يعني أن المعلول قد أصبح جزءاً من مبدئه الأول وليس خارجاً عنه، وهكذا كل معلول مفارق بالنسبة لعلاقته بعلته. وهذا إن كان يُرضي أهل العرفان والتصوف ويؤكد مقالتهم، فإنه لا يُرضي أهل الفلسفة وعلى رأسهم فيلسوف قرطبة.

ثالثاً:

كما عرّض إبن رشد النـظرية الفارابية السينوية للـنقد لكـونها ترى المعلول الأول ممكناً بذاته واجباً بغيره، مما يعني أن له طبيعتين، طبيعة ممكنة من ذاته، وأُخرى واجبة استفادها من المبدأ الأول. كما وأن اعتبارها المعلول الأول يعقل من جهتين، إذ يعقل ذاته ويعقل مبدأه؛ يجعل منه طبيعتين أو صورتين «فأيّ ليت شعري هي الصادرة عن المبدأ الأول، وأيّ هي غير الصادرة»(4 1 1)؟!

لكن سبق أن أوضحنا مفاد تلك النظرية حول مقولة (الممكن بذاته الواجب بغيره)، حيث بيّنا أن الازدواجية الظاهرة في هذه المقولة هي ازدواجية اعتبارية، عدمية، ذهنية، لا تحتم أن يكون المعلول فيها ذا طبيعتين.

أما ما يتعلق بتكثر جهات تعقل المعلول الأول وغيره من المعلولات المفارقة؛ فيمكن أن يجاب بالنيابة عن الفارابيين كتوجيه مناسب وذلك بالقول: إن اختلاف جهات التعقل لا يقتضي بالضرورة تكثراً في حقيقة المعلول إذا ما أخذنا باعتبار السبب نفسه من الاعتبارات العدمية. فعقل المعلول لمبدئه هو عين عقله لذاته، حيث أن عقله لمبدئه يشكل حقيقته بما هو موجود واجب بغيره لكونه من طبيعة (المضاف). وعليه إن تكثر التعقل إنما هو تكثر اعتباري عدمي. مثلما يقال عن المبدأ الأول إنه يعقل ذاته ويعقل إنه علة ومبدأ، وكلاهما واحد وإن اختلف الاعتبار. لذلك قال الفلاسفة المتأخرون: (لولا الاعتبارات لبطلت الحكمة).

نعم من الحق أن يؤاخذ على هذا المنهج بأنه مدعاة للاختلاف، كما شهدت عليه هذه النظرية. فطبقاً لهذا المنهج ظهرت العديد من الطرق المختلفة التي وجدت نفسها معنية في تبرير عملية صدور الكثرة عن الواحد وتحقيق الرؤية الخاصة بها. ففضلاً عن الطريقة الفارابية الثنائية التي تعول على اعتبارات إدراك المعلول لذاته من جهة ولعلته من جهة أُخرى، كذلك الطريقة الفارابية السينوية الثلاثية التي تضيف الى ما سبق اعتبار كون المعلول ممكناً بذاته واجباً بغيره.. هناك طرق أُخرى مختلفة، منها الطريقة الرباعية التي تعول على الاعتبارات التالية: وجود المعلول، وماهيته، وعلمه بالأول، وعلمه بذاته. فعن هذه الاعتبارات الأربعة ينشأ عقل وصورة فلك ومادته ونفسه(5 1 1). كما ولـنصير الدين الطوسي طريقة سداسية، ذكرها في شرحه لإشارات إبن سينا، وهو أن الصادر عن الأول فيه اعتبارات كالتالي: فهو إنه صادر عن الأول ويسمى الوجود، وكونه هوية لازمة لذلك الوجود ويسمى الماهية، وباعتباره ممكناً لذاته، كما إنه واجب بغيره، وإنه يعقل ذاته، ويعقل المبدأ الأول الذي صدر عنه(6 1 1).

وهناك بعض الطرق التي عُدّت غير مستندة الى منهج الاعتبارات مع أنها لا تختلف عنه كثيراً، كما هو الحال في طريقة الطوسي الذي اعتبر أنه حين يصدر المعلول الأول عن مبدأه فإنه يصح أن يصدر معلول ثان عن المبدأ بتوسط المعلول الأول، كما يصح أن يصدر معلول ثالث عن المعلول الأول لحاله، ثم يجوز أن يصدر معلول رابع عن المبدأ الأول بواسطة المعلول الثاني وحده، ومعلول خامس بواسطة المعلول الثالث وحده، ومعلول سادس بواسطة المعلولين الأول والثاني معاً، ومعلول سابع بواسطة الثاني والثالث، وكذا معلول ثامن بواسطة المعاليل الثلاثة، كما يجوز أن يصدر معلول تاسع عن المعلول الأول بواسطة المعلول الثاني، وهكذا تتكثر المعاليل بتلك الطريقة الى غير نهاية(7 1 1).

وأصل هذه الطريقة يعود إلى شيخ الإشراق السهروردي الذي جوّز صدور شيء واحد عن المبدأ الأول، وصدور شيء آخر عن المعلول الأول، وكذا صدور ثالث عن مجموعهما، حتى يكون في المرتبة الثانية شيئان في درجة واحدة، وهكذا... وهي طريقة عرّضها صدر المتألهين للنقد واعتبرها كسائر الطرق القائمة على الاعتبارات، بأنها جميعاً غير صحيحة(8 1 1)، معولاً على طريقة الجمع والتوفيق في ما أفاده الفلاسفة والصوفية معاً كما سنعرف.

وربما كان تسخيف إبن رشد لنظرية الفيض الفارابية السينوية يعود أساساً إلى ما تحمله من منهج الاعتبارات. فهو وإن لم يتعرض إلى طبيعة هذا المنهج، لكنه ادرك بحسّه الفلسفي أن تطبيقاته مدعاة للظنون والخيالات، مما جعله يسخر من طريقة الفارابيين واصفاً إياها بالقول «وبحق صارت العلوم الإلهية لما حُشيت بهذه الأقاويل أكثر ظنية من صناعة الفقه»(9 1 1).

ذلك أن منهج الاعتبارات لم يكن مدعاة للاختلاف فحسب، كما سبق أن رأينا، بل يواجه شبهة قوية تجعله وكأنه غير معقول، وهي شبهة سبق أن طرحها صاحبـ (مصارع الفلاسفة) الشهرستاني، ومفادها يتجلى عبر السؤال: كيف يمكن لمثل هذه الاعتبارات أن تكون منتجة ومبررة لصدور الكثرة عن الواحد، مع أنها من العدميات؟ وبعبارة أُخرى ما هو مبرر صدور الوجود عن العدم؟

وقد تصدى لهذه الشبهة صاحبـ (مصارع المصارع) نصير الدين الطوسي مجيباً بأن الشروط العدمية يجوز أن تكون متممة لفاعلية الفاعل، كعدم الدسومة في الثوب لصنعه، إذ عدم الدسومة ليس صانعاً للثوب بل مجرد شرط للصنع، وكذا الحال مع الشروط العدمية للاعتبارات، حيث إنها ليست سبب الصدور وإنما هي مجرد شروط له لا أكثر(0 2 1).

والحقيقة إن المسألة لو كانت مجرد شروط عدمية لما كان هناك تأكيد على المسانخة من الناحية العددية والكيفية مع ما يصدر وينتج. فمجرد الشروط العدمية لا يحتم أن يكون عددها بعدد ما ينتج، إذ قد يكون هناك شرط واحد عدمي يكفي لإنتاج العديد من الأشياء، كما قد لا يتكون شيء واحد إلا من خلال عدة شروط عدمية.

يضاف إلى أن هذه الشروط ليس من المفترض أن تكون مسانخة مع الأمور التي تنتج من خلالها، مع أن نظرية الفيض الفارابية السينوية تؤكد على كلا الجانبين. فمن جهة تكون الاعتبارات العدمية بقدر صادراتها، كذلك فإنهما يشكلان فيما بينهما شكلاً مناسباً من السنخية. فإضافة إلى أن إدراك المعلول لعلته الواجبة يصدر عنه عقل، وهو مسانخ لعلته الواجبة؛ فكذلك أن إدراك المعلول لذاته الممكنة يصدر عنه فلك، وهو مناسب للإمكان، وكذا فإن اعتبار المعلول ممكناً بذاته واجباً بغيره يصدر عنه نفس، وهو مناسب لطبيعة الإمكان والوجوب معاً، إذ النفس ليست عقلاً حتى تكون واجبة محضاً، بل هي بين بين، أو أنها واجبة وممكنة. وإبن سينا نفسه ينصّ على هذا المعنى إذ يقول: «ثم يجب أن يكون الأمر الصوري منه مبدأً للكائن الصوري، والأمر الأشبه بالمادة مبدأً للأمر المناسب للمادة. فيكون بما هو عاقل للأول الذي وجب به؛ مبدأً لجوهر عقلي، وبالآخر مبدأً لجوهر جسماني»(1 2 1).

وخلاصة الامر هو أن الاعتبارات في نظرية الفيض رغم أنها عدمية إلا أن لها دوراً ايجابياً فاعلاً في عملية الايجاد والصدور. فلو افترضنا كونها مجرد شروط عدمية دون أن يكون لها ذلك الدور الايجابي من الفعل، أي دون أن يكون لها دور في تحديد المسانخة من جهة العدد والكيف كما أوضحنا.. فلو إنّا افترضنا ذلك؛ لتعذّر علينا معرفة ما إذا كان لهذه الاعتبارات مدخل في عملية الصدور والانتاج، ذلك أنها تصبح مجرد اعتبارات نحن فرضناها على المفارقات دون أن نعلم أي صلة وعلاقة تربطها بالصادرات. وبالتالي فبقدر ما يمكننا أن نفترض المزيد من هذه الاعتبارات الذهنية؛ بقدر ما نعجز عن ايجاد مكان لها في عالم نفس الأمر.. عالم العقول والمفارقات.

***

 يبقى أن نقول بأن منطق القطيعة في نظرية الفيض الذي أسقطه المفكر المغربي محمد عابد الجابري على علاقة إبن رشد مع المشرق العربي والاسلامي لا يمت الى حقيقة الواقع بصلة. فالاتجاه الصوفي لم يتقبل تلك النظرية بصورتها القائلة (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)، فهو على الرغم من اعتقاده بصدق المقولة نظرياً، لكنه لم يجد لها تطبيقاً على أرض الوجود. فالمبدأ الأول عنده ليس مجرد واحد بسيط، بل له نسب متكثرة تجعله عبارة عن (الواحد الكثير)، الأمر الذي يبرر صدور الكثرة عنه. حتى إن إبن عربي استدل بدليل رياضي ذهني على خطأ النظرية، وذلك في كتابه (الفتوحات المكية)، حيث أشار الى قضية خروج خطوط متعددة من مركز الدائرة الى محيطها، فبرغم أن نقطة المركز واحدة غير متعددة، إلا أن هناك خطوطاً عديدة تخرج منها لتنتهي الى نقط متعددة على المحيط، كلها تكون في مقابل تلـك النقطة وجهاً لوجه(2 2 1). وفي موضع آخر من كتابه المذكور أقر بعدم قدرة تفسير تلك المقولة لصدور الكثرة، لذلك عوّل على فكرة العدد (3) الذي أخذه عن الفيثاغوريين لكونه يمثل عندهم الأصل في الأعداد الفردية، معتبراً أن أبسط الكثرة في داخل العدد هو الثلاثة(3 2 1).

كما أن هناك جماعة من المتكلمين وافقوا أيضاً على تلك المقولة نظرياً، إلا أنهم أنكروا أن يكون لها مصداق في الوجود. اذ يجوز برأيهم أن يصدر عن المبدأ الأول أُمور كثيرة، وذلك لوجود الكثرة الاعتبارية في ذاته، كالسلوب والاضافات النسبية، كعالميته وقادريته ورازقيته وخالقيته، الى غير ذلك من الاضافات، وكذا مع ما هو مسلوب عنه من صفات الممكنات وأحوالها. فبحسب كل سلب واضافة يصدر عنه موجود عيني، فهذه الاعتبارات هي نظير الاعتبارات التي أثبتها الفلاسفة في العقل الأول المعلول، إذ هي بنظرهم لا تقدح في وحدته وبساطته(4 2 1).

 كذلك انطلق إبن رشد من الموقع ذاته الذي انطلق منه الصوفية وبعض المتكلمين، فهم جميعاً سلّموا بصحة قاعدة (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) نظرياً، لكنهم نفوا أن يكون لها مصداق في الوجود. فالمبدأ الأول عندهم عبارة عن (الواحد الكثير) ولو اعتباراً. فقد اثبت الصوفية للمبدأ الأول صفات ونسباً مغايرة لذاته عقلاً لا خارجاً، وبالتالي جاز عندهم صدور الكثير عن الواحد(5 2 1). وعلى هذه الشاكلة أثبت بعض المتكلمين الكثرة الاعتبارية في ذاته. ومع ذلك فانهم يتفقون جميعاً على صدق القاعدة نظرياً.

وكذا هو الحال مع إبن رشد، فهو لا ينفي المقولة نظرياً، بل على العكس أن تحليله لها يجعله يؤكدها. فرأيه بجواز صدور الكثرة عن الواحد مستمد من منطق اعتقاده بأن هذا الواحد البسيط فيه كـثـرة صورية مختلفة لا تتنافى مع كونه واحداً بسيطاً(6 2 1). ومن هذا الموقع فهو يصحح جواز صدور الكثرة عنه، الى درجة إنه يقول: «ليس يمتنع فيما هو بذاته عقل ومعقول أن يكون علة لموجودات شتى من جهة ما يعقل منه أنحاء شتى، وذلك إذا كانت تلك العقول ـ أي المعلولات الفلكية المفارقة ـ منه أنحاء مختلفة من الصور»(7 2 1). 

بل إن فيلسوف قرطبة يتوغل الى أكثر من هذا، اذ لا يكتفي بالاعتراف بقاعدة الصدور نظرياً فحسب، وإنما يقيم مذهبه انطلاقاً منها دون تجاوزها. إذ يرى أن الكثرة التي تصدر عن الواحد البسيط هي كثرة مجملة في الواحد، فكما أن المبدأ الأول عبارة عن مطلق لأنه كل الأشياء، فإن ما يصدر عنه من فعل لا بد أن يكون مطلقاً وحاملاً للكثرة على شاكلة الأول طبقاً للسنخية. وبذلك يكون الصادر هو عبارة عن واحد وكثير مثلما أن الأول عبارة عن (الواحد الكثير). وعليه اعتبر قضية صدور الواحد عن الأول صادقة، مثلما أن قضية صدور الكثرة عنـه صادقة أيضاً(8 2 1). وهو بهذا ينحو منحىً قريباً جـداً من المنحى الذي سلكه الإشراقيون خاصة صدر المتألهين، وهو المسلك الذي جمع بين رأي الفلاسفة كالفارابيين ورأي العرفاء. فهو وإن كان يقول بصدور الفعل المطلق دفعة واحدة، لكنه في الوقت نفسه لا ينكر التسلسل في مضامين هذا الفعل طبقاً لقاعدة (الإمكان الأشرف) القائمة على السنخية. وكما يصرح بأن ما من صفة ناقصة إلا ويسبقها وجود صفة كاملة على شاكلتها، فمثلاً «إن ما وجدت فيه حرارة ناقصة فهي موجودة له من قبل شيء هو حار بحرارة كاملة، وكذلك ما وجد حياً بحياة ناقصة... وكذلك ما وجد عاقلاً بعقل ناقص فهو موجود له من قبل شيء هو عقل بعقل كامل، وكذلك كل ما وجد له فعل عقلي كامل فهو موجود له من قـبل عـقل كامـل»(9 2 1).

وينطـبق هـذا الحال على عالم العقول المـفارقة الموصوفة بالبساطة والكمال، فهي ليست متغايرة تغاير النوع ولا تغاير الشخص، بل إنها تتغاير من جهة شدة البساطة، باعتبارها ليست في مرتبة واحدة من الاضافة أو المعلولية الى المبدأ الأول، فهي تتفاضل بحسب حالها من القرب والبعد منه، فكلما كانت متقدمة في رتبة الوجود وقريبة من الأول كانت أكثر بساطة وكمالاً، وبالتالي فإن المعلول الأول هو أبسط وأكمل من المعلول الثاني، وهذا أبسط وأكمل من الثالث، وهكذا. وهي وإن كانت بسيطة من حيث إنها وحدات تامة بالفعل دون مادة ولا قوة، إلا أنها بنظره لها نوع من الكثرة والتركيب الذي تتفاوت فيه فيما بينها بحسب القرب والبعد من المبدأ الأول، وذلك لأنها تعقل من ذواتها معنى مضافاً الى عللها، بخلاف ما هو الحال في المبدأ الأول الذي نفى عنه مثل تلك الكثرة والتركيب، إذ إنه «يعقل من ذاته معنى موجوداً بذاته لا معنى ما مضافاً الى علة»(0 3 1).

على أن الجمع بين الدفعة الواحدة للفعل المطلق وبين التسلسل الذي يقتضيه التفكير الفلسفي؛ جعل ابن رشد يعتقد بوجود قوة روحية واحدة تربط بين أجزاء ذلك التسلسل وتجعل من الكثرة أمراً واحداً، فهي تسري في الكل سرياناً واحداً. واذا لم يصح وجود الأشياء إلا بارتباطها ببعض لكون كل منها يفتقر الى البعض الآخر كما تقتضيه علاقة العلة والمعلول؛ فإن وجودها يصبح تابعاً لارتباطها، مما يعني أن معطي الرباط هو معطي الوجود، إذ الأشياء تفتقر بوجودها الى المبدأ الأول من حيث ارتباطها وعالقيتها به، وحيث أن هذا المبدأ واحد، فما يعطيه يجب أن يكون واحداً طبقاً لقاعدة الصدور (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)، لكن «هذه الوحدة تتنوع على جميع الموجودات بحسب طبائعها، ويحصل من تلك الوحدة المعطاة في موجود موجود وجود ذلك الموجود، وتترقى كلها الى الوحدة الأُولى»(1 3 1).

وعلى هذا الأساس قام إبن رشد بتصوير فيض هذه القوة السارية في الكل وتشبيهها بجسم الحيوان، مؤكداً على أن الفلاسفة القدماء قد أجمعوا على ذلك، فهو يقول: «وأما كون جميع المبادىء المفارقة وغير المفارقة فائضة عن المبدأ الأول وأن بفيضان هذه القوة الواحدة صار العالم بأسره واحداً وبها ارتبطت جميع أجزائه حتى صار الكل يؤم فعلاً واحداً كالحال في الحيوان الواحد المختلف القوى والأفعال، فإنه إنما صار عند العلماء واحداً وموجوداً بقوة واحدة فيه فاضت عن الأول؛ فأمر أجمعوا عليه لأن السماء عندهم بأسرها هي بمنزلة حيوان واحد.. وقد قام عندهم البرهان على أن في الحيوان قوة واحدة بها صار واحداً وبها صارت جميع القوى التي فيه تؤم فعلاً واحداً وهو سلامة الحيوان، وهذه القوى مرتبطة بالقوة الفائضة عن المبدأ الأول.. فإن كان واجباً أن يكون في الحيوان الواحد قوة واحدة روحانية سارية في جميع أجزائه بها صارت الكثرة الموجودة فيه من القوى والأجسام واحدة حتى قيل في الأجسام الموجودة فيه إنها جسم واحد، وقيل في القوى الموجودة فيه إنها قوة واحدة، وكانت نسبة أجزاء الموجودات من العلم كله نسبة أجزاء الحيوان الواحد من الحيوان الواحد؛ فباضطرار أن يكون حالها في أجزائه الحيوانية وفي قواها المحركة النفسانية والعقلية هذه الحال، أعني أن فيها قوة واحدة روحانية بها ارتبطت جميع القوى الروحانية والجسمانية وهي سارية في الكل سريانـاً واحداً»(2 3 1).

ويعوّل ابن رشد في هذه النظرية على كلام الاسكندر الذي يقول: «إنه لا بد أن تكون ههنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم كما يوجد في جميع أجزاء الحيوان الواحد قوة تربط أجزاءه بعضها ببعض»(3 3 1).

والملاحظ أن هذا التصور لعلاقة الكثرة بالوحدة من خلال الفعل الساري الفائض عن المبدأ الأول؛ يتفق تماماً مع ما يقوله الإشراقيون في المشرق العربي والاسلامي، فهم يعبّرون عن هذا الفعل المطلق بأنه عبارة عن وجود منبسط مطلق يرتبط بالمبدأ الأول ارتباط الفعل بالذات، فهو فعل الله الساري في كل شيء، وهو واحد وكثير ومجمل ومفصّل. فالفيلسوف المشرقي صدر المتألهين يعتبر أن هناك ثلاث مراتب في الوجود: الأُولى عبارة عن مبدأ الكل وهو الواجب الأول، والثانية عبارة عن الوجود المتعلق بغيره كالعقول والنفوس والطبائع والأجرام والمواد، أما المرتبة الثالثة فهي الوجود المنبسط على هياكل الأعيان والماهيات، وهو المسمى بالنفس الرحماني وبالحق المخلوق به، حيث إنه الصادر الأول وأصل وجود العالم وحياته ونوره الساري في جميع ما في السماوات والأرضين؛ كل بحسب رتبته(4 3 1).

وهذا هو وجه اختلاف الإشراقيين عن الصوفية، فكلا الفريقين يعتقدان بأصالة وثبوت الوجود الواحد البسيط ذي المراتب المتنزلة، إلا  أن الإشراقيين يعتبرون المبدأ الأول تمام الأشياء وعينها ـ كلها ـ من حيث جمعه لكمالاتها، وغيره يعد من التعلقات المرتبطة به(5 3 1)، وهي ما تمثل أطواره وشؤونه. أما الصوفية فتجعل من المبدأ الأول عين هذا الوجود المنبسط، حيث سريانه كسريان النفس في البدن، بل الكل واحد بمراتبه من التجرد والتجسد، كما هو الحال مع النفس حيث تحتفظ بمرتبة لها في نفسها ومراتب أُخرى تجامع فيها سائر الأعضاء. مما يعني أن الخلاف بين الفريقين ينحصر في موضوع السريان إن كان يخص الذات الإلهية أم فعلها، إذ الصوفية تقول بسريان الذات، والإشراقيون يقولون بسريان الفعل الواجب مع حفظ الذات في عزّ مرتبتها وعلوّها.

أما المشاؤون فهم وإن اعتقدوا بأن الوجود يمثل حقائق متخالفة، لكن اقرارهم بأنه عبارة عن معنى بسيط ومشترك لجميع الكائنات يجعلهم يقتربون من المعنى الإشراقي الآنف الذكر، بل ربما لهذا السبب كان صدر المتألهين يرى طريقته لا تختلف عن طريقتهم عند التدقيق والتفتيش(6 3 1).

ولعل أعظم اتفاق للمشائين مع الإشراقيين يتمثل فيما نقله إبن رشد من إجماع القدماء، كما نص عليه شارح أرسطو الاسكندر، على الفعل المطلق الواحد الساري في سلسلة الوجودات. وقد قصد به نفس ما أراده الإشراقيون من العقل الأول، وذلك من حيث إنه صادر أول تستمد منه سائر السلسلة الوجودية وجودها وارتباطها وحياتها، ذلك أنها تمثل تنزلات هذا الفعل، مما يعني أن هذا الفعل المطلق الساري كما يسميه المشاؤون، أو الوجود المطلق المنبسط كما يسميه الإشراقيون، هو عبارة عن نفس ذلك العقل الأول الفائض عن المبدأ الواجب باعتبارين مختلفين، إذ إن هذا العقل يمثل من جهة صدارة وكمال ذلك الفعل أو الوجود وتمامه، وهو من جهة أُخرى يعتبر سارياً في جميع أرجاء ما دونه، أي أنه مفارق مع كل مفارق، وملابس للمادة مع كل مادة، فهو مفارق وملابس، كل بحسب رتبته الخاصة في سلسلة الوجود، ولولا حضوره فيها بنحو ما من الأنحاء ما كان لها من أثر ولا وجود.

هكذا لو نظرتَ الى مجموع العالم بما هو حقيقة واحدة حكمتَ بأنه صدر عن الواحد صدوراً واحداً وجعلاً بسيطاً. أما لو نظرتَ الى معانيه المفصّلة فستحكم بأن الصادر الأول هو العقل الأول لأنه أشرف أجزاء ذلك العالم وأتم مقوماته باعتباره يمثل كل الأشياء، وهكذا الأشرف فالأشرف، إذ العقل الأول هو عين العالم ككل، والاختلاف بينهما إنما هو من حيث الاجمال والتفصيل، مما يعني أن صدور العالم وإبداعه يصبح بكليته دفعة واحدة باعتباره ذا وحدة حقيقية جامعة لكل ما فيه بما في ذلك التجددات والحركات التي عدّها صدر الحكماء مطوية في جناب هذه الوحدة من العالم(7 3 1).

 هكذا يظهر لنا إبن رشد في نظريته الفيضية وكأنه إشراقي مشرقي، إذ لا خلاف بينه وبين من جسّدوا الظاهرة الإشراقية كما هو الحال مع صدر المتألهين.

 

comments powered by Disqus