-
ع
+

مرجعية النظام الوجودي

يحيى محمد

هناك ثنائية نسبية يمكن ان يلتمسها الباحث داخل موضوعات اي نظام معرفي يراد تسليط ضوء البحث والكشف عنه. وتفترض هذه الثنائية ان يكون هناك طرفان من الموضوعات يقوم احدهما بدور المحور المرجعي في تحديد ما يترتب عليه الاخر. فالطرف الاول هو بمثابة المنطلق المعلوم في قبال الطرف الاخر المجهول. وغالباً ما تتعدد المحاور المرجعية، واحياناً قد تتبادل الادوار بينها وبين الاخر، وذلك تبعاً لطبيعة ما يراد كشفه من القضايا المعرفية. وفي النظام المعرفي الوجودي نجد ان على رأس المحاور المرجعية في تحديد الاخر هو ذلك المتمثل بمبدأ الوجود الاول او الذات الالهية. وعليه فان قراءتنا لهذا النظام ستعمل على كشف وتحليل الصلة الكائنة بين هذا المحور المرجعي وبين الاخر، وذلك تبعاً لاستحكام منطق السنخية الذي اتخذه النظام كأصل مولد للانتاج والفهم المعرفي، مثلما اوضحنا ذلك في كتاب (مدخل الى فهم الاسلام).

على ان (الاخر) في علاقته مع الذات الالهية يتخذ اشكالاً متعددة: فتارة ان (الاخر) يعبّر عن الماهية عندما تكون الذات هي الوجود، وثانية يعبر عن الصفات عندما تكون الذات ذاتاً موصوفة، وثالثة يعبر عن المعلول والشؤون عندما تكون الذات علة وأصلاً. وجميع هذه العلاقات محكومة بمنطق السنخية كمولد معرفي.

ويمكن تلخيصها بأنها علاقة وجود، وعلاقة ادراك، وعلاقة تنزيل. حيث يكون للذات علاقتها الوجودية بالاخر، وكذا علمها به، وايجادها وتكوينها له. فالذات في العلاقة الاولى هي محض الوجود، وفي الثانية محض العقل، وفي الثالثة محض العلة والاصل.

وهذا التقسيم الثلاثي للرؤية الوجودية يناسب التصور الذي تطرحه كل من الرؤيتين الفلسفية والعرفانية. فعلى صعيد الرؤية الفلسفية ان الذات الالهية - او الوجود المحض - تُنشئ التنزيل بالعلم والادراك. فهذا العلم هو سبب الوجود النازل ولولاه ما كان هناك تنزيل قط، ولا كانت هناك رابطة بين الذات والآخر. أما بحسب الرؤية العرفانية فهناك ثلاث حضرات الهية، وهي حضرة الذات وحضرة الصفات وحضرة الربوبية او الافعال، والاولى هي الذات بغض النظر عن كل شيء، والثانية هي الحضرة العلمية، حيث ان العلم هو اول ما تعينت به الذات. ومن حيث المقارنة فإن الحضرة العلمية لا يمكن تصورها من غير حضرة الذات، والعكس ليس صحيحاً. وكذا فإن الحضرة الربوبية تعتمد بدورها على الحضرة العلمية من غير عكس، حيث لولا الاخيرة ما كانت الاولى، وذلك باعتبار ان الافعال تتقوم بالعلم دون العكس. فهذا المعنى نجده عند ابن عربي الذي اعتبر مراتب الوجود هي هذه الحضرات الثلاث: المرتبة الاحدية التي لا وصف لها ولا اسم ولا رسم، فهي في عماء كما جاء في بعض الاحاديث. والمرتبة الواحدية او الالهية التي هي حضرة الاسماء والصفات السبعة وعلى رأسها صفة العلم، حيث ان اول تعينات الذات الالهية او الاحدية هي علمها بذاتها، وصفة العلم لها مقام الامام بالنسبة الى بقية الصفات. فالعلم متقدم على الارادة والقدرة والكلام والسمع والبصر. وحتى صفة الحياة رغم انها متقدمة على العلم وجوداً فانها لا تستحق الامامة لتقدم العلم بالشرف، اذ الحياة لا تظهر الا بالعلم والادراك، فهي بالتالي كالشرط والاستعدادية[i]. ثم ان العلم يقتضي وجود الاعيان الثابتة، او حقائق الاشياء، ومنه تظهر بقية الصفات كالقادرية والمشيئة والتكلم اياها وشهودها سمعاً وبصراً، ومن ذلك يتبين دور ما يأتي من المرتبة الثالثة المسماة بالربوبية[ii].

على أن ما يهمنا – هنا - هو العلاقة الأولى، أو علاقة الوجود فحسب.

لقد شغل مبحث الوجود لدى الفلاسفة المسلمين مكانة هامة، خصوصاً ان الفلسفة تُعنى - كما في تعريف الفارابي لها - بالبحث في الموجودات بما هي موجودة[iii]. فالوجود هو اوسع مفهوم للفلسفة واكثرها تجريداً، وقد اتخذه المتأخرون من الفلاسفة اول واهم المباحث التي يعول عليها في تحديد قضاياهم الفلسفية.

لقد بدأ مفهوم الوجود كتعبير اضطر اليه الفلاسفة لوصف مبدأ الوجود الاول (الله). فهذا الاصطلاح يحمل العديد من الدلالات الفلسفية المفيدة، ولهذا الغرض وظفه الفلاسفة المتقدمون ضمن الجهاز المفاهيمي للمنظومة الفلسفية، مع اعترافهم بانه مفهوم مجازي لا يكشف عن طبيعة الهوية الالهية. هكذا بدا الحال في اول الامر كالذي يدلي به ابن سينا على ما سنطلع عليه فيما بعد. لكن هذا المفهوم تعدى التعبير المجازي ليتخذ فيما بعد صفة الحقيقة الفعلية عند المتأخرين، بل وحتى عند المتقدمين احياناً، وذلك بغية التخلص من عدد من الاشكالات الفلسفية، طالما ان الفلاسفة محكومون بالتعبير عن الاشياء ضمن الحصر المألوف بين الوجود والماهية، فالشيء هو إما ان يكون وجوداً او ماهية، واذا كان من المحال وصف مبدأ الوجود بالماهية، فانه لا محالة ان يكون وجوداً. فشهاب الدين السهروردي رغم انه يرى بان حقائق الاشياء تعبر عن كونها ماهيات وليست وجودات، فالوجود عنده اعتباري ذهني محض، لكن كما ينقل عنه انه يستثني من الامر مبدأ الوجود الاول وذلك ليتخلص من الاشكالات التي يمكن ان ترد فيما لو اعتبر هذا المبدأ ماهية. وقد توسع الامر لدى صدر المتألهين (المتوفي سنة 1050هـ)، حيث تجاوز المفارقة التي سقط فيها السهروردي، وهي المفارقة التي تجعل وجود نوعين من الطبيعة يختلفان كل الاختلاف، وهي طبيعة العالم العلوي الذي حقيقته الوجود، وطبيعة العالم السفلي الذي حقيقته الماهية. وبالتالي فمن حيث منطق السنخية لم يتقبل هذه المفارقة، فالكل إما ان يكون وجوداً او ماهية، واذا كان الاصل وجوداً فان ما يصدر عنه يتحتم ان يكون وجوداً هو الاخر. وبذلك اصبح القول باصالة الوجود من المسلمات الفلسفية لدى المتأخرين. الامر الذي جعل كتبهم تنطبع بهذا الطابع من البحث حول الوجود ومراتبه وعلاقاته تبعاً لذلك المنطق.

 



[i]    علماً بان القيصري شارح (فصوص الحكم) يرى ان الاسم الحي هو امام الاسماء السبعة، وذلك لان هذه الصفات لا يتصور وجودها الا بعد الحياة، وهو خلاف رأي ابن عربي كما قدمنا (داود بن محمود القيصري: مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، منشورات انوار الهدى، الطبعة الاولى، 1416هـ،، ج2، ص155).

[ii]    محي الدين بن عربي: رسالة في اسرار الذات الالهية، ضمن رسائل ابن عربي (1)، تحقيق وتقديم سعيد عبد الفتاح، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الاولى، 2001 م، ص198-200. وانظر ايضاً: جمال الدين الافغاني: مرآة العارفين، ضمن رسائل في الفلسفة والعرفان، اعداد وتقديم هادي خسروشاهي، وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي، طهران، الطبعة الاولى، 1417هـ، ص131.

[iii]  الفارابي: كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين، تقديم وتحقيق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1960م، ص80.

comments powered by Disqus