-
ع
+

بين المعنى الفعلي والمعنى الذاتي للوجود

يحيىمحمد

لقد ادلى صدر المتألهين وغيره من الفلاسفة بالعديد من النصوص التي تشهد على المعنى الفعلي والكوني للوجود في قبال الماهية. فكثيراً ما يعبر هذا الفيلسوف عن الوجود بأنه محض التحصل والفعلية1. او انه ليس له في ذاته الا الحصول والفعلية والظهور2، او الثبوت والتحقق والتشخص3. وكان القيصري شارح (فصوص الحكم) لابن عربي يؤكد على هذه المعاني، فالوجود عنده وعند العديد من العرفاء هو الكون والحصول والتحقق والثبوت4، وهو بهذا المعنى لا يمكن ان يكون اعتبارياً5. فبعض العرفاء يرى ان الوجود هو ما يتحقق به الشيء في الخارج، ومن تعابيرهم انه عبارة عن الكون في الخارج6. وعلى ما يرى العارف عبد الرزاق الكاشاني فان الوجود موجود بذاته لا بغيره، بل هو المقوم لكل شيء سواه، وهو غني بذاته عن كل شيء، والكل مفتقر اليه7. او هو عبارة عن حقيقة واحدة ونوع بسيط لا جنس له ولا فصل له ولا يعرض له الكلية والعموم والجزئية والخصوص، وهو حقيقة واحدة مشتركة بين جميع الماهيات بالاتحاد بها، فالوجود ظاهر بذاته بجميع انحاء الظهور، ومظهر لغيره، حيث به تظهر الماهيات8. وهذه الاخيرة بحسب نفسها لا يحكم عليها بالانتساب الى غيرها ما لم يكن لها كون او وجود تُنسب به الى مكونها وجاعلها، وليس المقصود من الوجود الا ذلك الكون الذي لا يمكن تعقله وادراكه الا بالشهود الحضوري9.

وبالتالي فالوجود هو نفس ثبوت الماهية لا ثبوت شيء للماهية حتى يكون فرع ثبوت الماهية10. او ان الوجود ليس الا كون الشيء لا كون الشيء لشيء11. وان الماهية اذا كانت، فكونها بعينها هو وجودها12. فالوجود ليس ما به يوجد الشيء في الاعيان او في الاذهان، اذ هو نفس تحقق الشيء وصيرورته في شيء منهما لا غير13. او ان الوجود في كل شيء عين تشخصه، وتشخصه عين وجوده، فمفيض وجوده مفيض تشخصه14. وكذا القول ان الوجود هو نفس صيرورة الشيء في الاعيان15. وعليه فان مما يذكر في اصالة الوجود هو ان الفاعل يفيد الماهية المعدومة شيئاً حين تصير موجودة، وليس هذا الشيء الا الوجود، حيث لا تصير الماهية موجودة بغير الوجود16.

والعلاقة بين الوجود والماهية لها نوع من الاتحاد، ففيه يكون الوجود موجوداً بذاته وتكون الماهية موجودة بوجوده. اذ يمكن للعقل ان يحلل ويفكك الموجود الى ماهية ووجود، فيحكم بتقدم الاخير على الاولى، اما الاصل في الخارج فهو الوجود باعتباره الصادر عن الجاعل بالذات، وتكون الماهية متحدة به محمولة عليه، لكن لا كحمل العرضيات اللاحقة، بل حملها عليه واتحادها به وفق نفس هويته وذاته. وبذلك يكون الوجود اولى واسبق من الماهية وجوداً وحقيقة. ذلك انه لما كانت حقيقة كل شيء هي خصوصية وجوده التي تثبت له، فالوجود اولى من ذلك الشيء، بل من كل شيء ذي حقيقة، كما ان البياض اولى ببياضه مما ليس ببياض ويعرض له البياض، فالوجود بذاته موجود، اما سائر الاشياء غير الوجود فليست بذواتها موجودة، بل الوجود يعرض لها فتكون موجودة. ومن ثم فان الوجود هو الموجود كما ان المضاف هو الاضافة، لا ما يعرض لها من الجوهر والكم والكيف وغيرها؛ كالاب والمساوي والمشابه وغير ذلك. ونُقل عن بهمنيار في (التحصيل) انه قال: ‹‹وبالجملة فالوجود حقيقة انه في الاعيان لا غير، وكيف لا يكون في الاعيان ما هذه حقيقته››17.

وبعبارة اخرى، ان اتصاف الماهية بالوجود هو امر عقلي ليس كاتصاف الشيء بالعوارض الخارجية؛ كالجسم بالبياض. فكون الماهية والوجود معاً في الواقع يعني كون الوجود بذاته موجوداً والماهية متحدة به وموجودة به لا بغيره، فالفاعل اذا أفاد الماهية أفاد وجودها، واذا أفاد الوجود أفاده بنفسه. وبهذا يكون الوجود متقدماً على الماهية، وهذا التقدم ليس كتقدم العلة على المعلول اذ لا يتضمن التأثير، فالماهية غير مجعولة، ومن ثم لا يلوحها التأثير والعلية. كما ان هذا التقدم ليس كتقدم القابل على المقبول، بل انه كتقدم ما بالذات على ما بالعرض، وما بالحقيقة على ما بالمجاز18. وكما يقول ملا هادي السبزواري: ان ‹‹المتقدم والمتأخر وإن كانا ماهية لكن ما فيه التقدم والتأخر هو الوجود الحقيقي››.19

ولدى تحليل صدر المتألهين لمسألة نجاسة الكلب والكافر، افاد بان في الامر شيئين، احدهما وجوده، والاخر ماهيته او ذاته، فهو من حيث ماهيته التي هي بمعنى ذاته فانه نجس، اما من حيث وجوده الذي هو بمعنى الكون فهو طاهر ليس بنجس20.

كما سبق لنصير الدين الطوسي ان ميّز بين الوجود والماهية تبعاً لذلك المعنى، وهو ان الماهية عبارة عن الذات والهوية، وان الوجود عبارة عن كونها وتحققها. فقد جاء عنه وهو يحلل اعتبارات التكثر في الصدور، انه اعتبر كون المعلول صادراً عن الاول يسمى وجوداً من حيث كونه صادراً، ومن حيث كونه هوية لازمة لذلك الوجود فهو ماهية.21

هكذا يتبين ان المقصود من الوجود هو ليس الماهية المتحققة، بل تحقق الماهية، او انه محض التحصل والتشخص والكينونة، وبه تكون الماهية موجودة، فالمعنى المعطى للوجود هنا هو عين الفعل والكون وليس الذات والهوية، او انه عين الاضافة وليس المضاف. وبالتالي من المحال ان نجد – هنا - اي نسبة شبه او حكاية بين الوجود والماهية، فليس هناك شَبه وظلية بين معنى الذات من جهة، ومعنى الفعل والكون والحصول من جهة اخرى.

***

في قبال المعنى السابق يظهر لنا معنى اخر مختلف، ففيه يكون الوجود عين الذات المتحققة وليس الفعل والكون، وبه تتحقق صورة شبحية الماهية وحكايتها له، فصورتنا الذهنية للذات المتشخصة في الخارج تحاكي ما هي عليه، وبالتالي فان الماهية الذهنية تطابق ما عليه الوجود الخارجي. وبهذا المعنى تكون الماهية في الخارج هي عين الوجود لا غير، خلافاً للمعنى الاول، فالنار كصورة ذهنية مثلاً هي ماهية محضة، لكنها كحقيقة خارجية تكون ماهية متشخصة، فالصورة والحقيقة الخارجية كلاهما يمكن تسميتهما بالماهية، سوى انها في الخارج لها اثارها الفعلية بخلاف ما هي عليه في الذهن، لهذا يطلق عليها الوجود في الخارج دون الذهن، باعتبارها غير موجودة الا بحسب الوجود الذهني، وهو نحو من الوجود. فهذا هو معنى كون الوجود عين الماهية في الخارج. لكن بهذا المعنى يفضي الخلاف بين القائلين باصالة الماهية واصالة الوجود الى خلاف لفظي.

ومن دلالات هذا المعنى هو ان صدر المتألهين اعتبر الوجود هو الاصل والماهية تبعاً له، كاتّباع الظل للشخص، والشبح لذي الشبح من غير تأثر وتأثير، فالوجود موجود في نفسه بالذات، والماهية موجودة بالوجود او بالعرض، وبهذا الاتحاد متحدان22. ومثّل على ذلك بوجود الصور في المرايا، حيث وجودها بالعرض بتبعية الأشخاص، ووجودها على سبيل الحكاية في الخارج، وكذا الأمر بالنسبة للماهية او الكلي الطبيعي، اذ انها بحسب ذاتها ليست موجودة وما شمت رائحة الوجود، ولكنها من حيث نسبتها الى الوجود فهي موجودة بالعرض لأنها تمثل حكاية الوجود، ليست معدومة مطلقاً ولا موجودة من حيث الأصل، بل وجودها ظلي تابع للوجود23. وانطلاقاً من هذا المعنى اعتبر ان اي نحو من انحاء الوجود تتبعه ماهية خاصة من الماهيات، وذلك كتابعية الصورة الواقعة في المرآة للصورة المحاذية لها. فكما ان الظل يوجد بوجود ذي الظل ويتقدر بتقدره ويتشكل بتشكله ويتكيف بتكيفه ويتحرك بتحركه ويسكن بسكونه، وما الى ذلك من الاوصاف التي تتعلق بها الرؤية، وذلك عن طريق الحكاية والتخيل وليس الاصالة والحقيقة، فكذا حال الماهية قياساَ بالوجود وتوابعه، حيث ان الماهية هي نفسها خيال الوجود وانعكاسه الذي يظهر منه في المدارك العقلية والحسية، وعليه يتقرر الامر عند صدر المتألهين ما ذهب اليه المحققون من العرفاء من ان العالم كله خيال في خيال24.

ومن تصريحاته التي تفيد كون الوجود هو نفس الماهية قوله: ‹‹الوجود عين الماهية خارجاً وغيرها ذهناً››، وكذا: ‹‹الوجود عين الماهية على تقدير العينية فلم يكن بينهما اتصاف بالحقيقة وغيرها››، وايضاً: ‹‹ثبت كون وجود كل ممكن عين ماهيته في العين››، ومثله: ‹‹الوجود نفس الماهية عيناً››، كذلك قوله: ان كلاً من الماهية والوجود ‹‹غير الآخر حسب المعنى عند التحليل الذهني مع اتحادهما ذاتاً وهوية في نفس الامر››25.

اذن يلاحظ ان هذا المعنى هو ليس كالمعنى الاول الذي يفيد الفعلية والصيرورة. مع هذا فهناك نصوص قد تكون قابلة لان تفهم بحسب المعنى الاول او المعنى الثاني. وربما ان بعض النصوص التي طرحناها ما يقبل الفهم الاخر، وذلك لدقة المعاني وتقاربها ولوجود عدد من المشتركات بين المعنيين، رغم التعارض بينهما، فاحدهما يعطي دلالة الفعل والكون والثبوت، والاخر يعطي دلالة الذات والماهية الخارجية، اي احدهما يعبر عن الوجود بانه كون الماهية وثبوتها وتحققها خارجاً، والاخر يعبر عنه بانه ذات الماهية خارجاً. واذا كان المعنى الاخير يفضي الى ان تصبح العلاقة بين الوجود والماهية غير المتحققة هي علاقة شيء بصورته، احدهما يحاكي الاخر، فانه بحسب المعنى الاول لا يمكن ان نتصور اي علاقة شبه ومحاكاة بين الامرين، حيث يكون الوجود فعلاً وكينونة، وتكون الماهية ذاتاً وهوية. لكن يظل ان المشترك في المعنيين (الفعلي والذاتي) هو اعتبار الماهية تابعة للوجود، وان وجودها عرضي نسبة للوجود، حيث انه متحقق بذاته.

***

ما ننتهي اليه هو ان هناك تردداً فعلياً في تصور امر الوجود، لا بحسب فهمنا لنصوص المتأخرين من الفلاسفة، وانما لاعتبارات توظيفية، فتارة يراد من الوجود ان يستدل به على بعض القضايا التي تتسق مع معنى الفعلية من الكون والصيرورة، واخرى يراد له الاستدلال على قضايا تتسق مع معنى الذاتية او الماهية، ولا شك ان بين المفهومين بوناً شاسعاً، لكن شاء المتأخرون ان يقعوا في عدد من المفارقات عندما وجدوا انفسهم امام محاولات للتوفيق بين الرؤية الوجودية وبين القضايا الاسلامية، ومن ذلك تظهر المفارقات التي تتعلق بالمبدأ الاول وعلاقته بالماهيات او الاعيان الثابتة، فكثيراً ما ينكرون الشبه والتشاكل بينهما، مع ان الماهيات هي صور الاشياء، وان هناك تشاكلاً بينها وبين الاشياء، كما ان المبدأ الاول يمثل صور كل هذه الاشياء فكيف لا يكون هناك شبه وتشاكل بينهما؟! ولو اردنا تبرير ذلك لوجدنا التبرير جاهزاً من حيث النظر الى حمل الوجود على المعنى الاول فحسب. فالتوظيف الفلسفي تارة يتكئ على الوجود بمعناه الاول الدال على الفعلية والتحقق، كالذي يتعلق بعدد من المباحث الخاصة بمبدأ الوجود الاول، واخرى ان هذا التوظيف يتكئ على الوجود بمعناه الثاني (الذاتي).

 

1 ايقاظ النائمين، ص6.

2 صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مع تعليقات ملا هادي السبزواري ومحمد حسين الطباطبائي، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1981م، ج1، ص259. والسهروردي: المشارع والمطارحات، ضمن مجموعة في الحكمة الإلهية من مصنفات السهروردي، صححه هنري كربين، مطبعة المعارف، استانبول، 1945م، ص354.

3 محمد حسين الطباطبائي: بداية الحكمة، دار المصطفى، بيروت، الطبعة الثانية، ص23. وكذا شبيه له في: نهاية الحكمة، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم، 1404هـ، ص268.

4 القيصري: مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، مصدر سابق، ج1، ص17و52. ورسالة نقد النقود، مصدر سابق، ص634-635.

5 مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، ج1، ص14. ورسالة نقد النقود، ص632.

6 رسالة نقد النقود، ص624.

7 رسالة نقد النقود، ص631.

8 الاسفار العقلية الاربعة، مصدر سابق، ج1، ص68.

9 شرح رسالة المشاعر، مصدر سابق، ص61.

10 الاسفار، ج1، ص43. وكذا مثله في شرح رسالة المشاعر، ص115.

11 شرح رسالة المشاعر، ص143. ومثل ذلك في: صدر المتألهين: الشواهد الربوبية، مقدمة وتصحيح وتعليق جلال الدين اشتياني، مركز نشر دانشكاهي، الطبعة الثانية، ص10.

12 المبدأ والمعاد، مصدر سابق، ص24.

13 المبدأ والمعاد، ص26.

14 صدر المتألهين: المظاهر الالهية، تحقيق وتقديم وتعليق جلال الدين اشتياني، چابخانه خراسان، مشهد، ص16.

15 الاسفار، ج1، ص48.

16 المشارع والمطارحات، مصدر سابق، ص345.

17 الاسفار، ج1، ص38-39.

18 شرح رسالة المشاعر، ص98-100.

19 السبزواري: شرح المنظومة، مصدر سابق، ص32.

20 صدر المتألهين: رسالة جبر وتفويض، ص7. وتفسير القرآن الكريم، حققه وضبطه وعلق عليه محمد جعفر شمس الدين، دار التعارف، 1419هـ - 1998م، ج5، ص114.

21 نصير الدين الطوسي: مصارع المصارع، تحقيق حسن المعزي، نشر مكتبة المرعشي، قم، 1405 01هـ، ص88 و97 . كذلك: الاسفار ج1، ص5. وملا نعيم الطالقاني: أصل الأصول، مقدمة وتصحيح وتعليق جلال الدين أشتياني، طبعة طهران، ص82-83.

22 الشواهد الربوبية، مصدر سابق، ص8.

23 الشواهد الربوبية، ص40-41.

24 الاسفار، ج1، ص198.

25 لاحظ شرح رسالة المشاعر، ص112و113و127و132و133و136.

comments powered by Disqus