-
ع
+

إبن عربي ووحدة الوجود الشخصية

يحيى محمد

إذا كان تاريخ النظام الوجودي قد شهد على يد إبن رشد أبلغ صورة فلسفية عن «الوحدة النوعية» للوجود كما افرزتها علاقة الشبه بين العلة والمعلول، فإن هذا التاريخ قد شهد أيضاً على يد معاصره العارف الشيخ محي الدين بن عربي (المتوفى سنة 638هـ) أعمق صورة عرفانية تثبت «الوحدة الشخصية» للوجود. فهي أعمق مدلول تتطور فيه الدلالة من علاقة الشبه إلى علاقة عضوية للوحدة المطلقة. فإذا كانت علاقة الشبه لدى إبن رشد تستبطن في ذاتها الوحدة النوعية للوجود، فإن التطور الجديد الذي أحدثه إبن عربي كان على العكس، إذ أصبحت وحدة الوجود الشخصية هي التي تستبطن علاقة الشبه كحالة وجودية.

ولا ينكر أن عملية بسط الوحدة العضوية التامة على الوجود قد أخذت نوعاً من الغموض والتعقيد لدى الذين اهتموا بدراسة فكر إبن عربي. فهو كثيراً ما كان يعبّر عن هذه الوحدة بـ «الوجود المطلق»، فإما أن يريد به مطلق الوجود، فيشمل بذلك مبدأ الوجود الأول وما دونه، أو هو الوجود الحامل لجميع الكمالات، وبالتالي فهو عين مبدأ الوجود الأول لاشتماله على الكمالات، لأنه صرف الوجود والقدرة والحياة والعلم وما إليها، ويقابله الوجود المقيد الحامل لشائبة النقصان وفقدان الكمال فيطلق عليه الممكنات مجازاً. أو أن «الوجود المطلق» هو الفعل الخاص بمبدأ الوجود الأول، وهو فعل عام منبسط وشامل، وبذلك يمتاز عن ذات هذا المبدأ، أو أنه وجود أمر واحد منبسط يمثل ذاتاً واجبة لها أطوارها المختلفة، ففي طور تكون هوية أحدية، أو إلهية، أو أنها تتجلى في صور وأشكال مشهودة من الشجر والحجر وكل شيء من دون حصر ولا تقييد.

وسط هذه الإحتمالات الأربعة فهم العارف علاء الدولة السمناني (المتوفى سنة 736هـ) أن ما قصده الشيخ الاعرابي هو الفرض الأخير، لهذا اعترض عليه بذلك، فبينما كان إبن عربي يقول في فتوحاته المكية: «إن الوجود المطلق هو الحق المنعوت بكل نعت، ولا شك أن الوجود المطلق المنعوت بكل نعت هو الوجود الإنبساطي، أعني الحقيقة لا بشرط شيء، ولا يمكن حمله على المرتبة الأولى، أعني الحقيقة بشرط لا شيء، لأنه في هذه المرتبة لا إسم ولا رسم ولا نعت ولا صفة كما عرفت، فكيف يكون الوجود في هذه المرتبة منعوتاً بكل نعت؟»، عقّب عليه السمناني معترضاً بالقول: «إن الوجود الحق هو الخالق تعالى لا الوجود المطلق ولا المقيد». وقد استخدم هذا الاسلوب في كل مرة يعبّر فيها إبن عربي عن الحق بالوجود المطلق، أو أنه عين كل شيء1. حتى أن السمناني عقّب على قول إبن عربي في (الفتوحات المكية): «سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها»، فقال: «يا شيخ إنك لا تستحي من الحق، يا شيخ لو قيل أن فضلة الشيخ عين وجود الشيخ لا تسامحه، بل تغضب عليه، فكيف يجوز لك أن تنسب هذا الهذيان إلى الملك الديان؟! تُبْ إلى الله تعالى لتنجو من هذه الورطة الوعرة التي يستنكف عنها الطبيعيون والدهريون»2.

وحاول بعض الفلاسفة أن يدفع هذا الإتهام، فقد احتمل صدر المتألهين الشيرازي أن هناك سوء فهم نابعاً عن الإشتراك اللفظي في الإصطلاح، لصعوبة التعبير عما هو في طور وراء طور العقل، فاعتبر أن بعض العرفاء يطلق الوجود المطلق على ذاته تعالى، كما هو الحال مع صاحب (العروة)، وبعضهم يطلقه على فعله بالخصوص، كما هو الحال مع إبن عربي، مما أدى إلى أن يلتبس الأمر على العارف السمناني3، وهو لا يستبعد أن يكون الإختلاف بين المذهبين الإشراقي والصوفي عائداً إلى التفاوت في الإصطلاح وأنحاء الإشارات والتفنن في التصريح والتلويح، مع إتفاقهم على الأصول والدعائم4. مع أنه في بعض المواضع صرح بإختلاف مذهب إبن عربي عن مذهب الحكماء، إذ اعتبره يرى حقيقة الواجب تتمثل بالوجود المطلق المقدس عن الإطلاق والتقييد معاً5.

وبرأينا أن ما قصده إبن عربي وراء تمويهاته، هو الإعتقاد بمبدأ واحد في الوجود دون سواه، فهو ينبسط إنبساطاً تظهر به مختلف مراتب التجليات والتعينات، لكنه في حد ذاته غير قابل للحد أو التعيين أو الحصر. فهو ثالث إثنين ورابع ثلاثة وخامس أربعة وهكذا من دون حصر إطلاقاً6، وهو بالتالي عين كل شيء، وحقيقته تقتضي الإطلاق واللاحصر7. فهو محدود بحد كل ذي حد، وهو الساري في مسمى المخلوقات المبدعات، وهو عين الوجود، وهو «الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبّر له، فهو الإنسان الكبير»8. وهو صورة العالم كظاهر، وهوية هذا العالم كباطن، وحدّه الكامل عبارة عن ظاهر العالم وباطنه9. فإن حُدّ بحد فلا بد أن يحد بجميع الحدود، فهو يتعين في كل محدود بحسبه وقدره، ولا ينحصر في حد ما، بل ولا في جميع الحدود المحدودة، لكن حيث أن هذه الحدود لا تنحصر، لذا فهو لا يحد بأي منها، وهو بالتالي حد كل شيء دون أن يكون له حد محدود10. فهو الكثير الواحد، الكثير بالصورة والواحد بالعين، مثلما أن الإنسان واحد لكن أفراده لا تتناهى وجوداً وشخصاً، فكذا هو واحد بالعين كثير بالصور والأشخاص. ومن هنا يعلم كيف «يتجلى يوم القيامة في صورة فيُعرف ثم يتحول في صورة فيُنكر، ثم يتحول عنها في صورة فيُعرف، وهو هو المتجلي ليس غيره كل صورة..»11.

وللتأكيد على نفي وجود التعيين والحد للوجود المطلق أو (الحق) يستعين إبن عربي بما أخبر به الشارع المقدس مما له دلالة على محدودية (الحق) في مواضع مختلفة وكثيرة، حتى اعتبر أنه ما من نص قرآني نزل في حق الله تعالى، وما من خبر عنه، إلا ونزل محدداً له، سواء كان تنزيهاً أم غير تنزيه، فقد جاء في بعض الأحاديث النبوية وصف مكانه قبل أن يخلق الخلق بأنه كان في «العماء» الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء12. وجاء وصفه في الآيات القرآنية أنه إستوى على العرش، وهو واضح التحديد، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وهو تحديد أيضاً، كما وجاء أنه في السماء، وأنه في الأرض، وأنه معنا أينما كنّا «الى أن أخبرنا أنه عيننا ونحن محدودون، فما وصف نفسه إلا بالحد، وقوله ((ليس كمثله شيء)) حد أيضاً، إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة، ومن تميّز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود، فالإطلاق عن التقييد تقييد، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم. وإن جاء الكاف للصفة فقد حددناه، وإن أخذنا ليس كمثله شيء على نفي المثل، تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، غير هذا المحدود»13.

هكذا ليس في الوجود عند إبن عربي إلا عين واحدة هي عين الوجود الحق، تعيّن في مرتبة الجمع فكان واحداً إلهاً، وفي مرتبة الخلق فكان كثيراً خلقاً. فكل من «الوحدة والكثرة والجمع والفرق والحق والخلق والإطلاق والتقييد والتعيّن واللاتعيّن والظهور والبطون، نسب نفسية له ولا تحقق لها بدونه، فما ثم موجود إلا هو»14. وبذلك فإن لحقيقة الوجود الحق مراتب لا يتناهى ظهورها في التعين والتشخيص «فأول مراتبها إطلاقها وعدم انحصارها ولا تعينها عن كل قيد وإعتبار، والمرتبة الثانية تعينها في عينها وذاتها بتعين جامع لجميع التعينات الفعلية المؤثرة وهي مرتبة الله تعالى، ثم المرتبة التفصيلية لتلك المرتبة الجمعية الأحدية الإلهية، وهي مرتبة الأسماء وحضراتها، ثم المرتبة الجامعة لجميع التعينات الإنفصالية التي من شأنها التأثر والإنفصال.. والتقيد ولوازمها، وهي المرتبة الكونية الخلقية. ثم المرتبة التفصيلية لهذه الأحدية الجمعية الكونية، وهي مرتبة العالم، ثم هكذا في جميع الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص والأجزاء والأعضاء والأعراض والنسب، ولا يقدح كثرة التعينات وإختلافها وكثرة الصور في أحدية العين، إذ لا تحقق إلا لها في عينها وذاتها، لا غير، لا إله إلا هو، فالعين بأحدية الجمع النفسي الفيضي الوجودي سار في جميع هذه المراتب والحقايق المترتبة فيها. فهو فيها هي عينها لا غيرها، كما كانت هي فيه في المرتبة المذكورة الأحدية الجمعية الأولى هو لا غيره، كان الله ولا شيء معه.. فافهم»15.

ويدلنا هذا النص على أن للوجود المطلق عند إبن عربي مرتبة مجهولة هي أولى المراتب، وهي المسماة بغيب الهوية، حيث لا يعرف منها شيء ولا يحكم عليها بشيء، إذ لا تشبه شيئاً في العالم ولا يشبهها شيء. وهي المعبر عنها بـ (ليس كمثله شيء). كما يفيدنا النص بأن هناك علاقتين في أن واحد. فهناك وحدة عضوية تحتضن جميع المراتب من غيب الهوية وحتى أدناها، مما يجعلها غير واقعة في التعين ولا الحد ولا الحصر. كما أن هناك علاقة شبه وكمون، تظهر بها المراتب الدانية عن مرتبة الجمع الإلهية. فهذه المرتبة متقدمة ذاتاً من حيث احتوائها لجميع ما دونها.

وبعملية التمييز بين المراتب فإن للوجود الحق في كل مرتبة شأناً وتعيناً، فمن حيث «كونه متعيناً في مرتبة الإلوهية هو عين الله16، فهو بحسب الله وبحسب الصورة الأحدية الجمعية الإلهية ليس خلقاً مخلوقاً، بل خالق المخلوقات مُوجد الموجودات، فليس هو هي، ولا هي هو (ما للتراب ورب الأرباب). فاذكر ولا تخلط بين المراتب ولا تخبط خبط عشواء في الحقايق والمذاهب. ثم الوجود الحق من كونه متعيناً في المرتبة الخلقية المنفعلة والأعيان المتأثرة الكونية قابلاً لصور الأكوان خلق - ليس حقاً - كذلك، ولكن الوجود الحق الواحد المطلق من كونه قابلاً لصور الحقيقة الإلهية وقابلاً أيضاً لصور الخلقية عين الحق والخلق، فهو فيهما معاً حق وخلق، فيصدق من حيث هذا الوجه وضع كل منهما، أعني الحق والخلق، وحمل الآخر عليه. فاعتبر هذه الإعتبارات كلها ولا تطلق القضايا إلا بوجوهها المعتبرة، ولا تغفل عن الحقيقة الوجودية المطلقة الظاهرة في المراتب كلها..»17.

وتتشكل حقيقة هذا الوجود الواحد بأشكال شتى، فتظهر «حقاً خلقاً إلهاً مألوهاً رباً مربوباً، فإن الحقيقة المطلقة في عينها يتساوى نسبة التعين إليها من حيث هي هي، لتساوي اقتضائها الذاتي لهما معاً، فالأمر الخالق هو المخلوق (والأمر المخلوق الخالق) طرداً وعكساً»18.

أما عن علاقات الشبه داخل وحدة الوجود العضوية، فطالما أكد عليها إبن عربي، فهو قد عرّض فكرة الغزالي التي أجازت معرفة الحق من غير نظر إلى العالم للنقد، معتبراً ذلك محالاً، حيث النظر المنفصل عن العالم لا يؤدي إلا إلى إفتراض وجود واجب أزلي قديم، وهذا التحديد مجرد من جميع الصفات والأسماء التي يتألف منها مفهوم الإلوهية، فلو جردنا هذه الصفات والأسماء من ذلك الوجود الواجب لما كان يعدّ إلهاً، وعليه كان لا بد من أخذ صفات الموجودات المخلوقة بما في ذلك صفاتنا، فالحق بنظره لم يظهر بصور الموجودات إلا ليعرف بكونه إلهاً طبقاً للحديث القدسي «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعْرف فخلقت الخلق كي أُعرف»، مفسراً معنى ذلك بأن الله كان هوية أزلية معراة عن النسب والإضافات، فعرض جميع ما في ذاته من كمالات على مرآة الوجود، بحيث إذا عُرفت صور هذه الكمالات ومجاليها فإن كمالاته تعرف هي الأخرى بالتبع19.

وهو يعدّ الإنسان نسخة مختصرة من الحضرة الإلهية، ولذلك خصّه الله تعالى بصورته كما في الحديث «خلق الله آدم على صورته، أو على صورة الرحمن». فهو بذلك عبد الله ورب العالم، وبالتالي فهو خليفة الله، إذ لم يؤدّ أحد من العالم الربوبية غيره، وما أحكم أحد غيره مقام العبودية، فعبد الحجارة والجمادات، لكونه نسخة من الصورتين، الحق والعالم. فنسخته الظاهرة مضاهية للعالم بأسره، أما نسخته الباطنة فتضاهي الحضرة الإلهية، فهو الكلي على الإطلاق والحقيقة، وهو الحد الفاصل بين الله والعالم بإعتباره يمثل صورة الله، والعالم بمثابة المرآة التي تعكس تلك الصورة، وذلك لما أودعه الحق جميع الأسماء وجعله روحاً للعالم، ولهذا فهو يتصف بأنه قابل لجميع الوجودات قديمها وحديثها. وبعبارة أخرى أن فيه يجتمع ظاهر العالم وباطنه، أو هو تعبير عن جمع يتحد فيه الله والعالم، فجسمه شكل من أشكال العرش، وروحه صيغة من صيغ الذات الإلهية، وقلبه مصغر لمثال الكعبة أو البيت المعمور، كما وقد جمع في خصائص روحه ما اجتمع للملائكة والمريخ وزحل والشمس20.

لهذا فهناك العديد من المشاكلات التي يذكرها إبن عربي بين الإنسان والحق، أو العبد والرب، منها قوله: «فأنت عبد وأنت رب لمن له فيه أنت عبد، وأنت رب وأنت عبد لمن له في الخطاب عهد، أنت عبد له من حيث ظهور سلطانه عليك، وأنت رب له حيث ظهور سلطانك به على من دونك وعليه أيضاً من حيث أجابته لسؤالك، فما أنت على كل حال إلا تعيناً من تعيناته وتجلياَ من تجلياته، وأنت رب أيضاً من حيث ظهور الربوبية بك وفيك لرب خاطبك بخطاب ((ألست بربكم)) فقلت بلى بين العباد الراضين بربوبيته المرضيين عنده حين قالوا ما قلت، فنالوا ما نلت وما توجه الخطاب من الأحدي الذات إليك خاصة»21، وقوله: «فرضى الله عن عبيده فهم مرضيون ورضوا عنه، فهو مرضي، فتقابلت الحضرتان تقابل الأمثال، والأمثال أضداد، لأن المثلين، يعني حقيقة لا يجتمعان إذ لا يتميزان، وما ثم إلا متميز، فما ثم مثل، فما في الوجود ضد، فإن الوجود حقيقة واحدة والشيء لا يضاد نفسه»22.

وأنشد في بيت من الشعر:

فيحمدني وأحمدهويعبدني وأعبده

وجاء في شرح الجندي لهذا البيت أنه «يعني يحمدني الحق على كمال قابليتي وحسن قبولي لنور وجوده وإظهار صورته على ما هي عليها من غير تغيير، وأحمده اعرّفه بالكمالات التي ظهر بها فيّ أو ظهرت بها فيه، ويعبدني، أي يطيعني لما سألته بالإجابة»23.

وجاء في قول الجندي أيضاً: «إن الحق هو عين هويتنا من كونه عين سمعنا وبصرنا ويدنا ورجلنا وساير قوانا وعين نفوسنا وأعياننا، ونحن صوره.. فنحن لسانه الذي يقول: سمع الله لمن حمده، فنحن من هذا الوجه عين سمعه وبصره ولسانه، فنحن بحسبه من هذا الوجه، ومن الوجه الآخر هو ظاهرنا كما ذكرنا، فإذا ظهر بنا لنا فنحن وقايته عن الكثرة المشهودة في أحديته العينية، إذ نحن الأعضاء والجوارح، وإن ظهر هو في أحدية عينه، فنحن باطنه وهو عين قوانا وأعضائنا ونفوسنا، ولما كانت للنفس هذه السعة فهي من حيث توحدها وأحديتها نفس الحق، ومن حيث نسبها وشعبها الغير المتناهية عيننا، فمتى عرفنا بهذه السعة عرفناها عين الحق حق معرفتها وتحققنا بحقيقتها في قوله: من عرف نفسه فقد عرف ربّه، فإن هذه النفس الواحدة من حيث هويتها الغيبية واحدة هي نفس الحق ومن حيث أنانياتها وأنياتها الفرقانية نحن»24.

كما جاء في تفسير الجندي لآية ((الحمد لله رب العالمين)) أنها «ثناء من الحق على نفسه بألسنة العالمين، أو ثناء العالمين على الله بألسنة الحق أو ثناء الحق على الحق بألسنة الحق من كونه عين العالمين ومن كون العالمين عين الوجود الحق المتعين في أعيان العالمين، فثناء من العالمين على الحق أو على العالمين من بعضه لبعض، فتدبر..»25.

وتتكشف هذه المشاكلات - بين الإنسان والحق - بصراحة أكثر لدى القونوي (المتوفى سنة 667هـ) الذي يعد أبرز تلامذة إبن عربي، فهو يذكر أن بين ذات الإنسان وذات الحق مضاهاة بحيث أن كل ما في الحق من مجمل أو مفصّل فهو في الإنسان أيضاً، سواء في العوالم أو العلم أو الصفات. فهناك مضاهاة بين العوالم الإلهية وبين الأجزاء الإنسانية، كما هو الحال بين القلم وروح الإنسان، واللوح وقلبه، والعرش وجسمه، والكرسي ونفسه. فكل واحد من هذه العوالم مرآة لما يضاهيه في الآخر، وكذا العكس صحيح أيضاً. فما في القلم من مجمل هو مجمل في روح الإنسان أيضاً، وما في اللوح من مفصل فهو في قلبه مفصل، وما في العرش من مجمل فهو في جسمه مجمل، وما في الكرسي من مفصل فهو في نفسه مفصل. وأيضاً فإن هناك مضاهاة بين العلمين الإلهي والإنساني. فكما أن علم الحق بذاته يستلزم علمه لجميع الأشياء، فكذا هو الحال في حق الإنسان الكامل من حيث أن علمه بذاته هو أيضاً مستلزم لعلمه بجميع الأشياء، أي أنه يعلم الأشياء جميعاً بمجرد علمه بذاته، لكونه جميع الأشياء جملة وتفصيلاً. وكذا هو الحال من حيث صفاتهما، فالحق تعالى يتصف بصفات العبد من الضحك والبكاء والبشاشة والفرح والمكر والاستهزاء والمرض والجوع والعطش وما أشبه ذلك. كما أن العبد هو الآخر يتصف بدوره بصفات الحق تعالى من الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والإحياء والإماتة والإنبساط والإنقباض والتصرف في الأكوان وغير ذلك. فالإنسان الكامل هو برزخ أو كتاب جامع لجميع الكتب الإلهية والكونية، وهو مرتبة التنزل الرباني التي يتصف فيها الحق بالصفات العبدانية، كما أنه مرتبة ارتفاع العبد التي يتصف فيها العبد بالصفات الربانية26.

وفي مذهب إبن عربي أن الأشياء أو الأسماء بعضها يشبه البعض الآخر، فمن جهة يكون بعضها عين البعض الآخر، ومن جهة أخرى تكون عين الحق. فهو يتبنى رأي العارف أبي القاسم بن قسّ الاندلسي (المتوفى سنة 546هـ)، فيقول: «فقد بان لك بما هو كل إسم عين الإسم الآخر وبما هو غير الإسم الآخر. فبما هو عينه هو الحق، وبما هو غيره هو الحق المتخيل..»، حيث لكل إسم ناحيتان، إحداهما تدل على الصفة الخاصة به، والأخرى تدل على الذات الإلهية. فهي متحدة به من وجه ومختلفة عنه من وجه آخر27. لذلك وظّف إبن عربي بعض الآيات القرآنية لإسناد فكرته عن الشركة في الأسماء، كما في قوله تعالى: ((قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن))28، فإسم الله هو عين إسم الرحمن، وعين كل إسم من الأسماء الإلهية29.

وتتخذ ظاهرة الشبه والمشاكلة للتعينات والظهورات والإيجاد والخلق داخل وحدة الوجود الشخصية شكلاً ثلاثياً ثابتاً لتفسّر حالة توليد الكثرة عن الوحدة، وهي ما يطلق عليها إبن عربي «النكاح». وقد استعار فكرة العدد (ثلاثة) من الفيثاغوريين كما يُعتقد، فهم يحسبون ان الثلاثة هي الأصل في الأعداد الفردية لا الواحد، فالواحد بذاته ليس عدداً وهو لا يفسر الكثرة في العالم، حيث لا يصدر عن الواحد إلا الواحد، مما يعني أن أبسط الأعداد داخل الكثرة هو الثلاثة30. وجاء في (الفتوحات المكية) لإبن عربي أن الواحد لا يكون عنه شيء البتة، وأن أول الأعداد هو الإثنان، ولا يكون عن الإثنين شيء أصلاً ما لم يكن ثالث يزوجهما ويربط بعضهما ببعض، فعند ذاك يتكون عنهما ما يتكون. ومع ذلك فإنه يعتبر الواحد هو الأساس لبقية الأعداد، في حين تكون الأخيرة تكراراً له، ومن ثم فإن الواحد هو الموجود في الكل وليس غيره موجود31.

فبحسب عملية التثليث هذه؛ أن أول صورة تعينت فيها الذات الإلهية كانت ثلاثية، وهي الصورة العلمية، حيث العلم والعالم والمعلوم كلها حقيقة واحدة. وهو أول تعين حبّي، حيث الحب والمحب والمحبوب كلها حقيقة واحدة، واليه يشير إبن عربي في بيته الشعري:

تثلث محبوبي وقد كان واحداًكما صيروا الأقنام بالذات أقنما

كما أن أول حضرة إلهية ظهر عنها العالم كانت ثلاثية أيضاً، فهي حضرة الذات الإلهية المتصفة بجميع الأسماء والصفات. وكذلك فإن عملية الخلق كانت ثلاثية بإعتبارها تقتضي وجود الذات الإلهية والإرادة وقول (كن)، كما في قوله تعالى ((إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون))32، مما يقتضي وجود فردية ثلاثية في الشيء ليتم خلقه، فلا بد من شيئية الشيء المخلوق وسماعه أمر التكوين وإمتثاله ذلك الأمر. ويسمي إبن عربي هذه العملية من التثليث في الخلق والتوليد بـ «النكاح». فالنكاح أساس كل خلق وايجاد، فهو المسمى نكاحاً في عالم الصور العنصرية، حيث الإتحاد بين عنصرين لإنتاج ثالث، أو الإتصال بين الذكر والأنثى لإنتاج النسل33، كما هو المسمى همّة في عالم الأرواح، إذ يعبّر عن التوجّه الإلهي نحو الطبيعة وفتح صور العالم فيها، وأيضاً فهو المسمى بترتيب المقدمات في عالم المعاني والإنتاج العقلي، إذ النتيجة لا تتولّد إلا عن مقدمتين منطقيتين34.

أخيراً نستخلص من مذهب إبن عربي وعلاقته بما نحن فيه، هو أنه على الرغم من تأكيده على وجود وحدة شخصية شاملة تجمع جميع المراتب الوجودية، وهي مراتب بعضها يشابه البعض الآخر طبقاً للسنخية، إلا أنه مع ذلك يستفرد مرتبة واحدة لم يُجز وصفها وينكر أن يكون لها شبه بغيرها، وهي مرتبة الأحدية أو غيب الهوية. مع أنه في الوقت ذاته يرى أن هذه المرتبة انبثقت عنها سائر المراتب الأخرى وانعكست فيها كمالاتها بالظهور، الأمر الذي لا يخرجها بالنتيجة عن شكل ما من أشكال الشبه. لهذا فنحن نعتبر مذهب إبن عربي واقعاً هو الآخر في التردد بين الشبه ونفيه. فإذا كان قد صرح بنفي الشبه، فإن حقيقة ما يؤول إليه المذهب هو الشبه ولو بنحو ما من الأنحاء.

 

1الأسفار،ج2،ص336ـ337. وايقاظالنائمين،ص11ـ12. وقرةالعيون،ص177ـ178.

2الأسفار،ج2،ص333 ـ337. وايقاظالنائمين،ص10ـ13.

3نفسالمصدرينوالصفحاتالسابقة.

4صدرالمتألهين: تفسيرالقرآن،تصحيحمحمدخواجوي،انتشاراتبيداربقم،ج4،ص348ـ349. وتحفه،ص133.

5تفسيرالقرآنلصدرالمتألهين،ج4،ص112.

6الجندي: شرحفصوصالحكم،تعليقوتصحيحالأشتياني،انتشاراتدانشگاهمشهدبايران،ص285.

7المصدرالسابق،ص279.

8المصدرالسابق،ص433ـ434.

9 قال إبن عربي في كتاب (المعرفة): «الناس يعتقدون أن العالم هو الظاهر والحق غيب لم يبدُ، وأهل الله يتحققون أن الحق هو الظاهر والعالم غيب لا يظهر قط ولن يظهر أبداً».

كما ذكر قائلاً: «كنت جالساً في الذكر فإذا بهاتف يقول لي: قل هو الأول والآخر، والظاهر والباطن.. ثم كرر الهاتف قوله ثلاث مرات فقلت: أفهم الأول، وأفهم الآخر، وأفهم الباطن، ولا أفهم الظاهر، لأنني لا أرى إلا الأشياء المخلوقة. فقال الهاتف: لو كان ظاهراً غيره لكان قلت لك، فلا ظاهر سواه».

لهذا فهو يقول:

فما نظرت عيني إلى وجه غيره ولا سمعت أذني خلاف كلامه

(ابو العلا عفيفي: فصوص الحكم والتعليقات عليه، دار إحياء الكتب العربية، 1365هـ ـ1946، ج1، ص25. ومحمد علي حكيم: لطائف العرفان، چابخانه دانشگاه تهران، 1340هـ.ش، ص115. وأحمد توفيق عياد: التصوف الإسلامي، مكتبة الانجلو المصرية، 1970م، ص311).

10شرحفصوصالحكم،ص277.

11المصدرالسابق،ص599.

12العماءهوالحضرةالأحديةالتيلايعرفهاأحدغيرالحقتعالى،كماجاءعنالنبي(ص) أنهقالحينسُئل(اينكانربكقبلأنيخلقالخلق)،فقال: كانفيالعماء. وقيلأنالعماءهوالحضرةالواحديةالحائلةبينسماءالأحديةوبينأرضالكثرةالخلقية،وهذهالحضرةتتعينبالتعينالأوللأنهامحلالكثرةوظهورالحقائقوالنسبالأسمائية،وتسمىبحضرةالجمعبينأحكامالوجوبوالإمكانوالحقيقةالإنسانية(عبدالرزاقالقاشاني: إصطلاحاتالصوفية،تحقيقوتعليقمحمدكمالابراهيمجعفر،الهيئةالمصريةالعامةللكتاب،1981م،ص131ـ132).

13شرحالفصوصللجندي،ص432.

14المصدرالسابق،ص341.

15المصدرالسابق،ص613.

16هناكمناعتبرمرتبةالإلوهيةتمثلمراتبالأحديةوالواحديةوالوحدة،ولايجوزإطلاقهاعلىمراتبالكونوالخلق(التهانوي: كشافإصطلاحالفنون،مكتبةخيامفيطهران،1967م،ص1464).

17شرحالفصوص،ص340.

18المصدرالسابق،ص337.

19شرحفصوصالحكمللجندي. كذلك: الفصوصوالتعليقاتعليه،ج1،الفصالخامس،ص81،وج2،ص60ـ61.

20كتابنقشالفصوص،ضمنرسائلإبنعربي،ج1،ص1 و2. والفصوصوالتعليقاتعليه،ج1،الفصالأول،ص48ـ49 و55،والفصالخامسوالعشرين،ص199،وج2،ص12 و329. كذلكأعلامالفلسفةالعربية،ص302.

21شرحالفصوص،ص385ـ386.

22المصدرالسابق،ص386.

23المصدرالسابق،ص356ـ357.

24المصدرالسابق،ص466ـ467.

25المصدرالسابق،ص284.

26القونوي: مرآةالعارفين،معالترجمةالانجليزيةلحسنعسكري،لندن،ص19ـ21 و37ـ38.

27الفصوصوالتعليقاتعليه،ج1،الفصاليوسفي(التاسع)،ص104،وج2،ص112ـ113 و254.

28الإسراء/110.

29المصدرالسابق،ج1،الفصالثالثوالعشرين،ص190ـ191،وج2،ص283.

30إبنعربي: الفتوحاتالمكية،تحقيقوتقديمعثمانيحيى،مراجعةوتقديمابراهيممدكور،اصدارالمجلسالأعلىللثقافةفيالقاهرة،1405هــ1985م،ج9،ص172،وج1،ص309. كذلك: إبنعربيحياتهومذهبه،ص268.

31 كتاب الألف، من رسائل إبن عربي، ج1، ص5. والفتوحات المكية، دار احياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1418هـ ـ 1998م، ج1، ص322.

32سورةالنحل/ 40.

33طبقاًللسنخيةيقولإبنعربيبهذاالصدد: «وأعظمالوصلةالنكاحوهونظيرالتوجّهالإلهيعلىمنخلقهعلىصورتهليخلفه».

34الفصوصوالتعليقاتعليه،ج2،ص322ـ323 و332ـ333. والفتوحاتالمكية،ج1،ص310.

comments powered by Disqus