-
ع
+

نجيب نور الدين: قراءة في كتاب نقد العقل العربي في الميزان

في مقدّمة كتابه " نقد العقل العربي في الميزان" لا يشك مؤلف الكتاب يحيى محمد أنّ مشروع (نقد العقل العربي) للمفكر المغربي محمد عابد الجابري يعدّ من المشاريع الرئيسة الناضجة التي شهدتها سني "النهضة الحديثة"، بل يعتبرها على رأسها جميعاً... وهو على حد تعبيره بمثابة بداية نهضة للنهضة الآنفة الذكر وذلك بما يحمله من طابع كلّي ومنهجي منظم لمعالجة طرق التفكير العامة التي مرّ بها الفكر العربي الإسلامي في تراثنا المعرفي.

وشرح المؤلف منهجته النقدية ومنطلقاته في معالجة نصوص الجابري بالقول " الواقع أننا تجاوزنا الدخول في نقد هو أشبه بالمعارضة الجدلية، وتحاشينا التعامل مع أطروحات الجابري تعاملاً أيديولوجياً، بخلاف ما تعامل به هو في قراءته لمنظومة العقل العربي، والذي يفترض أن تكون دراسته محافظة على النهج المعرفي العلمي (الابستمولوجي)، لكنه لم يحقق ما وعد به". ويضيف المؤلف، لقد حاولنا قدر المستطاع أن نجعل مناقشتنا تدور ضمن أخذ اعتبار نفس المنطلقات والمسلمات التي ينطلق منها الجابري، ونتحاشى ما يتعارض معها من رؤى مبدئية أو مسلّمات أولية، رغم بدائية هذه المسلّمات لوضوح خطئها، كتجنّيه على رجال العرفان ومن لفّ حولهم من الفلاسفة جملة وتفصيلاً، وكذا ما فعله بخصوص فلاسفة المشرق في قبال زملائهم في المغرب واتهاماته المغالية لكلّ من ابن سينا والغزالي وغيرهما، ورفض جميع الأفكار التي تصدر من أوساطهم، رغم أنّ الكثير منها هي ذاتها تصدر من رجالات المغرب، الأمر الذي جعلنا نكشف عن تناقضاته ومطابته الأيديولوجية.
يعتبر المؤلف أنّ أهم الدراسات التي جسّدت ما يسمّيه " النهج البرّاني" الأخير هي تلك التي تعود للجابري، حيث توصّلت إلى أنّ مردّ آلية البنية والثبات تعود إلى وحدة التكوين والمنشأ التي تحدّدها البيئة العربية، ومن ثم تجسدها الصيرورة التاريخية متمثلة بالعامل السياسي. مما يعني أنّ هذه الدراسة قد جمعت بين التحليلين البيئي والتاريخي كأساس لإثبات الوحدة المعرفية، وعملت على المزاوجة بين ثلاث أنواع من الطرح، هي الطرح البنيوي والتحليل التاريخي والطرح الأيديولوجي.
ففي الجزء الأول من مشروع "نقد العقل العربي" كرّست الدراسة جهدها لممارسة التحليل التاريخي والكشف عن الاستمرارية التاريخية كأساس لتجسيد الوحدة المعرفية... أمّا في الجزء الثاني من المشروع (بنية العقل العربي) فقد كان الجهد منصبّاً باتجاه التحليل الجغرافي ومفرزاته كأساس لتحديد الوحدة البنيوية المتمثلة بطبيعة العقل العربي.. وقد جاء كلا الطرحين-الذين شغلا الجزئين الأول والثاني من مشروع النقد العربي على التوالي-على حساب المنطق الاكسيمي للمعرفة- على حدّ تعبيره- ولو من حيث لم يرد المشروع ذلك، لأنّه قام أساساً لتثبيت هذا المنطق، كما شهدت عليه محاولته الخاصة بطي تاريخ الفكر العربي ضمن الوحدة المعرفية المتمثلة بالعقل العربي... لكن تأسيسه لهذه الوحدة وإقامتها على وحدة التاريخ والجغرافيا جعلته يضطر إلى أن يمارس حالة الهدم والتفتيت فيها، خصوصاً وقد كان للعامل الأيديولوجي دوره في هذا المجال.
إنّ أول ما يلاحظ هو أنّ الجابري قام بتقسيم تاريخ الثقافة العربية إلى لحظتين اعتبرهما منفصلتين بفاصل "القطيعة الابستمولوجية". ويعدّ هذا المفهوم من أهمّ المفاهيم التي وظّفها في المشروع خدمة لأغراضه الأيديولوجية. وهو موضوع يرجح تاريخ استخدامه إلى فيلسوف العلم الفرنسي (باشلار).... ذلك أنه بمفهوم القطيعة جعل الفكر العربي منقسماً إلى لحظتين؛ إحداهما مشرقية ترتبط بكل من الاسماعيلية والفارابي وابن سينا والسهرودي والغزالي وصدر المتألهين ثم داخل الفكر الإيراني إلى اليوم الحاضر، بينما ترتبط اللحظة المغربية بكلّ من ابن حزم وابن باجة وابن طفيل وابن خلدون والشاطبي، وكلّ من يقوم على النموذج الأرسطي باستخدامه طريقة " البرهان" وتحصيل القطع في النتائج من خلال التسليم بمبدأ السببية الحتمية، وهو بذلك المفهوم يقضي على ما هومسلّم به من القول بأنّ الفلسفة في الأندلس هي استمرار للفلسفة في المشرق، فبرأيه أنّ الفلسفتين متقاطعتان بكل من الإشكالية والمنهج والمفاهيم والرؤية.

الدافع الأيديولوجي للمشروع
يعتبر المؤلف  أنّ هناك دافعاً هاماً يقف خلف مشروع الجابري ككلّ. إذ إنّ إضفاء "وسام العروبة" على مشروعه في العقل، أو العقل في العروبة، على حد تعبيره، كان لبعض الدواعي، وليس المهم فيما ذكره من هذه الدواعي، بل الأهم هو ما سكت عنه بالذات. حيث هناك الدافع الأيديولوجي كهدف واضح في المشروع. إذ المشروع يهدف إلى نهضة، وهذه النهضة تريد أن تتكىء على نموذج صالح للانطلاق منبعث من نفس التاريخ العربي، وحيث إنّ النظام البياني لا يفي بهذا الشرط من الصلاحية، وحيث إنّ ما يراه المشروع كنموذج صالح للنهضة إنما هو الاعتماد على طريقة البرهان "العقلانية"، لذا فمن غير المعقول أن يكون المشروع يهدف إلى نهضة عربية من خلال عقل غير عربي، في الوقت الذي يطرد النموذج العربي البياني الأصيل. وعليه كان من الضروري أن يجعل من النموذج اليوناني عربياً حتى يتسق مع برنامج النهضة ذاتها، في الوقت الذي يحقق من خلاله إيصال تاريخنا بالتاريخ الثقافي العالمي... وإتماماً للمطاف يرى أن إعادة بناء الذات العربية لا تتحقق إلاّ من خلال النظام البرهاني الأرسطي... لذا فإنه يدعو إلى قطع الصلة بالجنبة المشرقية البيانية والعرفانية من العلم العربي، وإبعاث الجنبة المغربية المغيبة التي تقوم أساساً على البرهان الفلسفي الأرسطي كما لدى ابن رشد... وقد كلّفه ذلك أن يخلط بين مفكري الأندلس والمغرب ليضمهم في قائمة أرسطية واحدة، بالرغم من أنّ بعضهم، ينتمي صراحة إلى العرفان كما هو الحال مع ابن طفيل والبعض الآخر إلى البيان كما هو الحال مع ابن حزم والشاطبي وابن خلدون...

حول العقل الشيعي
يعتقد المؤلف أنَّ الجابري يخطىء خطأ جسيماً حينما يجرّد الإمامية الإثني عشرية من صفتها المعيارية البيانية-كما يقول- ليضعها في دائرة العرفان والباطنية المحضة، شبيهاً بالإسماعيلية، فهو يرى وجود عقلين "باعتبار أنّ الأمر لا يتعلّق بعقيدتين بل بنظامين معرفيين مختلفين يقرءان نفس العقيدة"، وهو في محلّ آخر قدّم بعض الأدلة والمؤشرات التي تثبت بنظره النزعة الباطنية للاتجاه الشيعي الإمامي. فهو من جهة اعتبر العالم الشيعي القديم هشام بن الحكم الذي ينتمي إلى مجموعة الإمام  موسى الكاظم متأثراً بالديناصية، وهي حركة غنوصية تلتقي مع الهرمسية. كما أنّه من جهة ثانية استدل على تلك النزعة من خلال وجود بعض الروايات ذات المسحة الباطنية في كتاب (الكافي في الأصول والفروع) الذي يعد أهم كتب الحديث المعتبرة عند الشيعة الإمامية... يضاف إلى أنه اعتبر الإمامية تتفق مع الاسماعيلية في نظرتها إلى الأئمة وعلاقة الإمام بالنبوّة، لاختصاص جهة الرواية بل أيضاً اعتماداً على منهجهم المفضّل منهج المماثلة أي المماثلة العرفانية. وفوق ذلك فإنّه يساوي بينهما في نظرتهم إلى مصادر الشريعة، إذ يعتبر الأمامية تنظر بذات النظرة التي يراها العالم الاسماعيلي الباطني القاضي النعمان الذي يرفض القياس والاجتهاد والاستدلال وكذلك الإجماع ... وكل هذه الدلالات بالتأكيد، في نظر المؤلف، ليست سليمة فضلاً عن أنها ليست دقيقة أو صحيحة بمعنى أشمل. وتبغي من ورائها القول في المحصلة أنّ هناك إسلاماًَ شيعياًَ في قبال الإسلام السني كما يروج إليه العديد من المستشرقين في وقت أن النظر إليهما من منظار ابستمولوجي يجعلهما قائمين ضمن نظام واحد من المعرفة، إلى درجة يمكن اعتبار أحدهما يعمل كامتداد للآخر وليس القطيعة مع الآخر، كما ينحو التوجيه الأيديولوجي لمعطيات التاريخ والاعتقاد عند الجابري.

مشروع الجابري: المفارقات
من المفارقات التي حملها مشروع الجابري حسب المؤلف هو أنّه يفضي إلى نقد ذاته بذاته، ذلك أنّ المشروع قائم في الأساس على تحليل العقل العربي بإبراز الخصوصية فيه. لكن هذا العقل قد ضمّ ثلاثة أنظمة معرفية: بعضها عربي أصيل والبعض الآخر دخيل، وجميعها تتشكّل عقولاً للعالم. الأمر الذي أفقد خصوصية ما أطلق عليه بالعقل العربي. إذ لم يعد "العقل العربي" على هذا الاعتبار عربياً خالصاً. فكان من نتائج ذلك أنّ المشروع نقض نفسه عن كلّ محاولاته التي رمت إلى إبراز الخصوصية البيانية للعقل العربي، والتي تشكّل جوهر ما قام عليه. وهكذا فقد جعل من المشروع أحلام فكرية لا تمت إلى الواقع بصلة.

قراءة السيد نجيب نور الدين

عن موقع تواصل معنا

http://tawasolonline.net/pages.php?pageid=showarticle&articleid=284

comments powered by Disqus