-
ع
+

عباس النابلسي: قراءة في كتاب جدلية الخطاب والواقع

غياب الجدلية وحاكمية الواقع

اسم الكتاب : جدلية الخطاب والواقع
 المؤلف : يحيى محمد
 الناشر: مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط 1، 2002م.
عرض: عباس النابلسي

الإصلاح، الإحياء، التجديد
لم يكن يحيى محمد أول من غامر بالقيام في رحلة نحو الواقع، بما تحتوي هذه الرحلة من مخاطر شتى، وأدنى خطورتها اصطدام هذا الواقع مع النص الديني، الذي يملك من الإمكانيات التاريخية واللغوية، والمضمون ما لا يملكه أي نص آخر.
فكثيرون هم الذين جازفوا في هذا «الطريق الوعر»، أبرزهم على صعيد الإسلام السني: محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وحسن حنفي. وعلى صعيد الإسلام الشيعي: عبد الكريم سروش ومجتهد شبستري وصاحب هذا الكتاب.
ولا يُخفي الكاتب - في مقدمة كتابه - مشروعه الإصلاحي، فلقد صنّف نفسه أحد الداعين إلى «الإصلاح الديني». والإصلاح - كما يراه - لا يفترض خلو الجهاز المعرفي «التقليدي» من الخطأ، وهو عكس ما يحمله عنوانا «الإحياء» و«التجديد»، حيث يبحث الأول عن المساحة المعرفية المغمورة في تراثنا الفكري ليعيد إظهارها من جديد، فيما يبحث الثاني عما هو جديد ليلبس به الفكر الإسلامي من دون تغيير في صيغة الجهاز المعرفي.
وحيث إن منهجية الفكر الإسلامي التقليدي، كما يرى الكاتب، لا تتسق مع «الواقع»، لذا لا بد من أن يكون ثمة خطأ جذري في الجهاز المعرفي، وهو ما يحأول الكاتب الكشف عنه.

النص والواقع: العلاقة الجدلية
يبدأ الكاتب - في الفصل الأول - بتعريف كلٍّ من: النص، الواقع، العقل. فيرى أنّ النص هو «ذلك التنزيل المتخذ إطاراً لغوياً خاصاً، والمعبّر عنه بالخطاب» وهو خطاب الله، ومن بعده خطاب النبي محمد(ص) كما عند أهل السنة، وبإضافة خطاب الأئمة الاثني عشر(ع) كما عند الشيعة الإمامية.
وحيث إنّ المصدريْن الأخيريْن ليسا سوى تبيان للنص القرآني، فإنّ ما هو مقصود بالخطاب هو القرآن نفسه، وهو، وإن كان منزلاً من قبل الله سبحانه، إلاّ أنّه نزل بمعانٍ عرفية سائدة في ذلك الزمان، وألفاظ لم تفارق طبيعة ذلك المكان، وهو - بالتالي - نص يلابس الواقع ملابسة تامة، ويتصل به عبر علاقة جدلية شديدة الارتباط.
ويتطرّق يحيى محمد، من خلال تعريفه للنص، إلى قضية أخذت حيّزاً كبيراً من الجدل في القرون الأولى التي تلت عصر صدر الإسلام، وهي قضية «خلق القرآن»، حيث جعل منها مدخلاً لعرض فكرته السالفة، باعتبار أنّ الاعتقاد بحدوث القرآن أو بخلقه يؤدّي إلى القول بتأثير الواقع على النص، وأنه يستجيب بشكل مباشر وَحَيّ للأسئلة المطروحة في واقع شبه الجزيرة العربية بما يتضمّنه من حوادث ومعتقدات وأفكار وآليات أثمرتها البيئة آنذاك.
وبالانتقال إلى «العقل» الذي عرّفه الكاتب بـ«الأداة المدركة لذاتها ولغيرها»، فهو يرى أنّ هذه الأداة لها مراتب مختلفة، وذلك بحسب الشروط التي تحقّقها، فهي أشبه ما تكون بالمرايا التي تعكس صور الأشياء.
ويبدو أنّ الكاتب غير مقتنع بفعالية هذه الأداة (العقل)، بوصفها آلية لفهم الخطاب، إذا كان المقصود من العقل هو العقل «القبلي»، وهي الأفكار الأولية المزروعة في فطرة الإنسان من دون أن تتدخل فيها تأثيرات البيئة والواقع. ويقسِّم الإدراكات العقلية إلى أربعة أقسام: الإدراك القبلي البحت - الإدراك القبلي الإخباري - الإدراك البعدي الاستنتاجي - الإدراك البعدي الإضافي - . وحيث إنّ هناك اختلافاً جذرياً بين العقل القبلي والعقل البعدي (التجريبي)، فإنّ الكاتب يلتزم بمبدأ المعرفة التي تبدأ من الواقع وتنطلق منه من دون أن يغفل القبليات العقلية ذات الطابع الضروري الرياضي.

أي واقع نتحدث عنه؟!
والكاتب، في حديثه عن النص والعقل، يوضح بشكل علمي متين تعريفهما وتقسيماتهما، ويبدي ملاحظات كثيرة على طرائق التعامل معهما وآلياته، لكنه في المقابل لم يعرّف الواقع تعريفاً علمياً دقيقاً، واكتفى ببعض «الشعارات» و«الخطابيات» العامة، ولم يتناوله بأي نقد يُذكر بل حتى أنه عدّ الواقع كياناً لا يمكن الخطأ فيه وليس فيه لبس أو غموض.
فما هو الواقع؟ وما هي حدوده؟ وما هي تقسيماته - رغم تعدده الهائل؟ وما مدى معرفتنا به؟ وعبر أي آلية يمكننا تحديده؟ وهل هو الواقع الخاص أو العام؟ أو كما يعبّر عنه في أصول الفقه، العرف الخاص والعرف العام. وكيف نميّز بين الواقع الصالح والواقع الفاسد؟ وهل تكفي العودة إلى الوجدان - كما يدعي الكاتب - لدحض فكرة «الواقع الوهمي» الذي ادعاه الفيلسوف جورج باركلي؟ وما الفرق بين الواقع والواقعية بوصفهما مفهوميْن ملتبسيْن؟
هذه التساؤلات جميعها لم يعرها الكاتب أيّ اهتمام، فقد اكتفى بالحديث عن ضرورة فهم الواقع المعيش، وعدم الميل إلى المثاليات والتجريدات، والتفكير المطلق، ورأى أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش بلا واقع، وأنّ القرآن حثّ على دراسته والنظر فيه مستشهداً بآيات قرآنية كثيرة، وما إلى ذلك من خطابيات بعيدة عن التحليل والتفسير. لكن تجدر الإشارة إلى أنه، في الفصل الثاني، عرّف الواقع بأنه عبارة عن ذلك الشيء المشخّص والملتبس مع غيره من المصاديق والصفات والطبائع الجزئية، إلا أنه لم يرتقِِ به إلى مستوى التحليل والنقد!
بين التفكير الماهوي والتفكير الوقائعي
في الفصل الثاني، من الكتاب، قدّم الكاتب أنموذجين من فهم الخطاب: أحدهما عقلي إطلاقي أُطلق عليه مصطلح «التفكير الماهوي» والآخر الواقعي المتغيّر أطلق عليه مصطلح «التفكير الوقائعي». والمصطلح الأول مستمدّ من الماهية - كما في الفلسفة الإغريقية - وهي عبارة عن الطبيعة النوعية للشيء، بوصفه أمراً ثابتاً يتصف بالكلية والعموم. ومن هنا استمدّ أصحاب الفهم الثابت للخطاب شرعية رؤيتهم في التفسير والاستنباط. وفي المقابل فإنّ أهم ما يحمله المنهج الوقائعي هو التغيّر والمرونة، وذلك تبعاً لمعطيات الواقع وتنوّعاته الخارجية.
وهنا يكمن السؤال الأساسي: هل أنّ الخطاب الديني، أو«المشرع»، تعامل في ترتيب أحكامه ومعالجاته للأمور والأحداث طبقاً لاعتبارات ثابتة «ماهوية» أو تبعاً لالتباسات الواقع وتغيّراته. وعلى هذا، فهل نفهم أنّ مقت الخطاب (النص)، للكفر، إنّما يعني مقتاً للكافرين جميعهم؟ وهل أنّه حينما أحب الإيمان كانت المحبة لجميع المؤمنين مهما كان أمرهم؟ وهل الدعوة إلى محاربة الشرك تعني دعوة إلى محاربة جميع المشركين بكافة أشكالهم وتياراتهم واختلافاتهم المكانية والزمانية؟
من هنا ينطلق السؤال، وتنطلق معه جملة من الإشكاليات الجادة على النهج الثابت الماهوي. وقد نجح الكاتب في هذا الفصل، في وضع المشكلات الأساسية التي تكمن في هذا النوع من الفهم، ومن أبرزها تضارب مضامين النصوص في ما بينها، ومع التضارب، تسقط حجية هذا الفهم لاعتبارات تخص المنطق الماهوي نفسه، إذ إنّ قواعد هذا المنطق ترى أنّ التضارب في النتيجة ينبىء عن تضارب في المقدمات. فالآية القرآنية {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[الكهف/29] تتضارب بحسب هذا المنطق مع الآية {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان/30]. إلاّ أنّ هاتين الآيتين لا تتضاربان، حسب المنهج الوقائعي، فكل آية تتجه في سياق واقعي خاص ومختلف.
وللمنهج الوقائعي مسوّغاته وشرعيته المستمدة من الخطاب الديني نفسه، لأنّ الخطاب - في الأصل - مرتكز على المصدر المعرفي المعيش، ولدينا من النصوص الغزيرة ما يؤكّد صحة الاعتماد عليه بوصفه مصدراً معرفياً لا غنى عنه، فالخطاب لا يكف عن الحث على التعقّل والتفكّر والنظر في الآفاق والأنفس، بل ثمة قضايا كثيرة لا يمكن فهمها من غيرعرضها على الواقع نفسه، ولا يمكن الادعاء بأنّ معاملة الخطاب للقضايا الخارجية الاجتماعية كانت عن طريق المنهج الماهوي المغلق.
بيد أنّ الكاتب، حين يثير أمامه بعض الإشكاليات على طرحه الوقائعي، يسعى إلى محاولة التوفيق بين المنهجين آنفيْ الذكر، لكنه وفي عملية سريعة يغيب عن هذا التوفيق وينسى طرحه «الجدلي»، ويذهب مع الواقع إلى حد التماهي.
البعد الحضاري وفهم النص
في القسم الثاني من الكتاب (الفصل الثالث)، يطرح الكاتب قضية البعد الحضاري وفهم النص، فيرى أنّ المجتمع العربي كان منقسماً إلى قسمين: أحدهما بدوي يمتاز بالجهل والعصبية، والآخر حضري يمتاز بالمعرفة والرشد، إلاّ أنّ الخطاب ركّز عنايته الأساسية على أصحاب العقلية الراشدة. ويعتقد الكاتب بأنّ الخطاب، وإن كان قد نزل للناس كافة، وبأنّه يمتلك حقائق علمية مذهلة ظلّت خافية على الجميع حتى العصر الحديث، وإنه يحمل رسالة عظمى فيها من الشمولية والمقاصد الكلية ما يجعله متناسباً مع كل زمان ومكان، إلا أنّه - رغم هذا كلّه - لم يسلك طريق التحرّر من ظروف الواقع آنذاك. وفي هذا الفصل، يستشهد الكاتب بمجموعة كبيرة من الأمثلة القرآنية والروائية يسعى من خلالها إلى إثبات دعواه، فمنها ما يختص بالعقيدة، ومنها ما يختص بالتشريع والتكوين، ويستخدم كلا المنهجين «المعياري» و«الوقائعي» لفهم الخطاب، ليثبت بعد ذلك صحة هذا المنهج الاخير.
ومن الأمثلة العقدية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان/34]. فبحسب النظام الماهوي المعياري، فإنّ الآية تتعارض مع الواقع في ما يتعلق بـ «ما في الأرحام»، إذ إنّ العلم أصبح يمتلك من المعرفة الدقيقة جداً ما يتكون داخل رحم المرأة. إلاّ أنّ الكاتب يسوغ لأصحاب المنهج الماهوي صحة فهمهم في المرحلة السابقة، وذلك تبعاً للمعطيات الحضارية المكوّنة في تلك المرحلة، فهو يرى أنّ الواقع آنذاك لم يكن يجري جرياناً امتدادياً متصاعداً، بل كانت خطواته أشبه بالسكنات الدائر بعضها على بعضها الآخر، بينما خطت البشرية في العصر الحديث نحو التقدم العلمي والتقني خطوات هائلة أنتجت خلالها حضارة مختلفة اختلافاً جوهرياً عن سابقاتها. لذا فإنّ الواقع قد اختلف أيضاً، وأصبح الفهم التقليدي «الماهوي» ليس لديه أي مسوغ!
ولأول مرة يضع الكاتب الواقع أمام إشكالية التباين، فالواقع في رأيه ذو طبيعة تباينية متلونة، صارخة في الأطراف، ملتبسة في الوسط، إلاّ أنّه لم يوضّح لنا مقصوده من هذا الكلام الغامض جداً!
في الفصل الرابع، يبيّن يحيى محمد إشكالية التعارض في المنهج المعياري المغلق، ويعطي أنموذجاً على ذلك موقف الخطاب الديني من أهل الكتاب، ليصل إلى نتيجة مفادها أنّ الآيات القرآنية التي تتمحور حول علاقة المسلمين بأهل الكتاب في قضايا: السلم، الحرب، الجزية، جميعها خاضعة لظروفها الخاصة، وأنّ الفهم المعياري لها يتعارض مع نصوص قرآنية أخرى تدعو للعدل والقسط مع أهل الكتاب.
ظاهرة النسخ وارتباطها بالعلاقة الجدلية
في القسم الثالث (الفصل الخامس)، يتعرّض الكاتب لمسألة النسخ في الأحكام وهي مسألة شائكة وأساسية، ولها علاقة بمفهوم الجدلية بين النص والواقع. فيبدأ باستعراض مجمل الآراء المتعلقة بمفهوم النسخ، وبالمقدار المسموح به من النسخ إذا كان من خارج النص، كالسنة والعقل والقياس، وما إلى ذلك من أدلّة خارجية.
إلا أنّ النسخ، في مفهوم يحيى محمد، هو أحد أركان ظاهرة الجدل تلك، ولا يمكن فهمه إلاّ على هذا الاعتبار، وإنّ تبديل حكم  بآخر ما هو إلاّ حركة في مراعاة ظروف الواقع بما يفرزه من ضرورات ومتطلّبات. ومع ذلك، فإنّ التغيير لا يمسّ الدلالات الثابتة للمقاصد التي تتحكّم بالحكم وجوداً وعدماً، فالمقصد ثابت على الدوام، والحكم متغيّر بتغيّر الظروف والأحوال.
واعتماداً على عملية إحصائية يقول الكاتب: إنّنا لو اعتمدنا على إحصاء قضايا النسخ في القرآن، كما أحصاها السيوطي في حوالي عشرين آية، وهو ما يقارب عمر الرسالة المحمّدية، أي أنّ معدل النسخ يساوي «قضية» واحدة من كل سنة، فإنّ وجود أكثر من «1400» عام يجعل من حساب النسخ يبلغ أكثر من «1400» قضية، هذا إذا رأينا أنّ التغيّر الحضاري بطيء بالدرجة السابقة نفسها، أما إذا أدرجنا على اللائحة الظروف المهمة والأبعاد الهائلة للتطور الحضاري الحديث، فإنّ المسألة تصبح مختلفة تماماً، أي أنّ العدد المفترض لعملية النسخ ينبغي أن يتضاعف بشكل كبير.
غير أنّ الملاحظة التي يمكن طرحها، في هذا الكلام، ترتكز إلى حديث الكاتب عن ثبات المقاصد. فإذا كان المنهج الذي يتخذه هو المنهج الوقائعي، فلماذا لا نرى أنّ المقاصد أيضاً - بحسب دلالاتها - تابعة للواقع أيضاً وتتعايش مع ظروف البيئة المحيطة آنذاك، وتتعامل مع الواقع على أساس جدلي؟ فما هو مسوغه لنظرية ثبات المقاصد؟ هنا ينحني الكاتب أمام المنهج الماهوي الذي رفضه جملة وتفصيلاً في عملية الاستنباط الفقهية.
في الفصل السادس، يستعرض الكاتب جملة من الأحكام التي قام بتبديلها النبي(ص) بأحكام أخرى، وقد شهدت السيرة النبوية أشكالاً مختلفة من التعامل مع المتّهمين وذوي الجرائم وغيرهم تبعاً للظروف السياسية التي يفرضها الواقع، وذلك بناءً على عدة اعتبارات، منها حاكمية النبي وولايته على شؤون الأمة. كما أنّ عصر الخلافة (الراشدة) حفل بالكثير من التغيرات طبقاً للمصلحة ومراعاة للظروف والأحوال، وقد شهد هذا العصر من التغيرات ما لم يشهده العصر النبوي نفسه.
في الفصل السابع، قسّم الكاتب الممارسات التغييرية للأحكام إلى ثلاثة أنماط، وهي كما يأتي:
1 - وحدة الدليل الاجتهادي، وهي عبارة عن تبديل للحكم ضمن دليل اجتهادي واحد إلاّ أنّ الاختلاف كان نتيجة تبدّل العادة والعرف.
2- تعارض الدليل الاجتهادي، وهو في ما لو حصل التغيّر طبقاً لتعارض بعض الأدلة كتعارض الحاجة العرفية والمصلحة مع القياس والاستصحاب.
3- التعارض مع النص، وهو فيما لو حصل تغير الحكم نتيجة تعارض أدلة اجتهادية مثل العقل مع وجود نص مخالف.
وفي هذا الفصل، تجاوز الكاتب ما يعرف بالترجيحات غير المنضبطة بالمعيار الشرعي، أو ما هو متناقض مع نصوص إسلامية معتبرة، ولم يعرها اهتماماً، وركّز عنايته على دورالواقع في تغيير الأحكام من دون اعتبار لهذه «المخالفات»! وهنا تبرز إشكالية اخرى تتعلق بالفهم الديني، إذ إنّ كثيراً من الأحكام كانت تنطلق وفقاً لمعايير سياسية كما في تحريم العمليات الاستشهادية هذه الأيام، أو مزاجية أو استحسانية، أو تماشياً مع الميول والأهواء على أسوأ تقدير، فلم يضع حداً فاصلاً بين النشاط العلمي وغير العلمي، واكتفى بإلقاء الضوء عليه والقفز فوقه!
في الفصل الأخير من الكتاب، يستعرض الكاتب خمس شبهات ترد على مبدأ جواز تغيير الأحكام، ومن ثم يبدأ بالرد على كل واحدة على حدة، إلاّ أنّ معظم ردوده تتشابه مع الردود التقليدية للفقهاء على طريقة: «إنْ قلتَ قلتُ» التي لا تكون في الغالب مقنعة، فهي أشبه بردود تتحرر من اللفظ لتسقط في فخ المضمون.
وقفة أخيرة
يبقى أن نشير إلى أنّ الكاتب لم يكن في نظريته هذه يتعامل، في فهم الخطاب والواقع، على أساس جدلي متين، بل على أساس حاكمية الواقع على الخطاب الديني، إذ إنّ الصيغة الجدلية، كما تفترض تأثر النص بالواقع تفترض أيضاً تأثر الواقع بالنص، وهذا ما لم نجد بيانه عند الكاتب. ومن مميزات الخطاب الإبداعي أيضاً لغته التجاوزية للزمان والمكان، كما تحفل بذلك معظم النصوص الأدبية والفلسفية والأعمال الفنية للشعراء والفنانين أمثال: أرسطو، شكسبير، فاغنر، تولستوي، وغيرهم. فالمبدع إذا ما انطلق من واقع ما استطاع بقدرته هذه على التجاوز والانطلاق إلى عوالم أخرى. فنرى في الشعر والموسيقى والفلسفة نظريات وأعمال لا تزال إلى اليوم تتوهّج أكثر فأكثر. فكيف إذا كان النص موحى من قبل الله تعالى، وهو نص - لا شك - تجاوزي إلى أبعد الحدود.
ومن الجدير ذكره، في ختام هذا العرض، أنّ الكاتب يمتلك من الشمولية وسعة الاطلاع ما لا يملكه كثير من الكتّاب المعاصرين، فقد اعتمد المنهج الاستقرائي في جمع النصوص ودراستها، ومن ثم الانطلاق من خلالها إلى قواعد عامة، وهو منهج حديث اعتمده في جميع كتبه التي تحفل بكثير من العمق والعلمية والموضوعية في البحث والتجديد، وهذا الكتاب هو أحد الكتب المثيرة للجدل لجرأته العلمية ودقة المعلومات التي يكتنزها وأفق الكاتب الواسع والعميق في فهمه للخطاب الديني، وقد انتهج منهجاً مغايراً لأغلب كتابات الفريقيْن الشيعي والسني، فغالباً ما يتجه مؤلفوها إلى الانحياز في جمع المصادر، فيحصر كل كاتب مصادره ومراجعه ضمن مذهبه الخاص، بينما نرى في هذا الكتاب دراسة مقارنة دقيقة يصح من خلالها أن يكون مرجعاً للمذهبيْن على السواء.

عن موقع تواصل اون لاين

http://tawasolonline.net/pages.php?pageid=showarticle&articleid=285

comments powered by Disqus