-
ع
+

عواقب سد باب الاجتهاد لدى السنة

يحيى محمد

ذكر ولي الله دهلوي في كتابه (ازالة الخفاء) بأنه «حتى انقراض الدولة الاموية لم يكن احد يدعو نفسه حنفياً او شافعياً، وانما كانوا يستنبطون المسائل بالأدلة الشرعية على طريقة ائمتهم واساتذتهم. ولما كان زمان الدولة العباسية اتخذ كل واحد من المسلمين نسبة معينة له. وبلغ من شدة تقليدهم انهم لم يكونوا يحكمون في امر بحجج القرآن والسنة ما لم يجدوا فيه نصاً من نصوص أكابر مذهبهم، وبذلك رسخت فيهم واستحكمت بينهم الاختلافات التي نشأت عن الاختلاف في تأويل القرآن والسنة بين علماء السلف. ثم لما انقضت الدولة العربية وقام مقامها الحكم التركي وانتشر الناس في شتى الممالك، اتخذ كلهم ما كان يذكره من تعاليم مذهبه الفقهي اصلاً ومرجعاً، فاصبح ما كان قبل ذلك في حكم المذهب المستنبط سنة مستقرة. وبقي مدار عملهم الآن على ان يخرّجوا من المخرج ويفرّعوا من المفرع!»([1]).

هكذا فإن أهم ما ترتب على عملية سد باب الاجتهاد وحصر العمل بالمذاهب الأربعة هو إلزام الناس، ومنهم العلماء، بعدم ممارسة النظر والترجيح خارج نطاق تلك المذاهب المعترف بها. بل طال الامر بمنع الناس من النظر والترجيح خارج حدود المذهب المتبع. وهو ما سنسلط عليه الضوء كما يلي..

 1ـ الالزام في اطار المذاهب الاربعة

فمن حيث الالزام في اطار المذاهب الاربعة منع دعاة التقليد الناس من الركون الى النصوص وعمل الصحابة وغيرهم من التابعين والفقهاء ممن هم خارج دائرة هذه المذاهب، حتى قال بعضهم: «لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الاربعة ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الاربعة ضال مضل، وربما أدّاه ذلك الى الكفر، فان الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من اصول الكفر»([2]).

وقد تمسك نهاة النظر ودعاة الحصر والتقليد في المذاهب الاربعة ببعض المبررات نجملها بالشبهتين التاليتين:

 أ ـ فأول ما يرد من شبهة هو ان الائمة الاربعة، كما قال إمام الحرمين الجويني، قد سبروا ونظروا وبوبوا، في حين ان الصحابة لم «يعتنوا بتهذيب المسائل والاجتهاد وايضاح طرق النظر بخلاف من بعدهم». وكذا ذكر الشيخ تقي الدين بن الصلاح من ان التقليد يتعين لهذه الائمة الاربعة دون غيرهم «لأن مذاهبهم انتشرت وانبسطت حتى ظهر فيها تقييد مطلقها وتخصيص عامها وشروط فروعها، فاذا اطلقوا حكماً في موضع وجد مكملاً في موضع آخر، وأما غيرهم فتنقل عنه الفتاوى مجردة، فلعل لها مكملاً او مقيداً او مخصصاً لو انضبط كلام قائله لظهر فيصير في تقليده على غير ثقة بخلاف هؤلاء الاربعة»([3]).

ويمكن الجواب على هذه الشبهة من وجهين، أحدهما ان المذاهب المنضبطة والمدونة ليست محصورة في الاربعة المذكورة. أما الثاني فهو ان الشبهة اذا كانت تصدق على العامي القاصر من حيث انه لا يصح له الالتزام بفتوى معينة لا يعلم سياقها وملابساتها الخاصة؛ فان الامر مع الناظر شيء مختلف، اذ قد لا يقنع بالدليل المقدم من قبل تلك المذاهب، وقد يرى أن ما ورد عن الصحابة او عن النص هو اقرب الى الاطمئنان في الحكم الشرعي. فكيف الحال اذا ما كان من الفقهاء المتمرسين وان لم يبلغ درجة ما كان عليه الائمة الاربعة؟!

 ب ـ ان ممارسة النظر وترجيح الفتوى على ما قدّمه الائمة الاربعة، سواء تمت من خلال النظر في النص او فتاوى الصحابة او غيرهم، قد تفضي الى الوقوع في الفتن، وكما صوّرها البعض بأنها تفتح «لسان الطعن والتشنيع في الائمة الكبار، خصوصاً في أعظم الائمة ابي حنيفة وغيره، ويقول يكفي كتاب الله وسنة رسوله (ص)، ولا يفهم ان تقليد هذا المذهب عين تقليد النصوص، قال تعالى: ((فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))..»([4]).

ثم تساءل بأنه اذا كان هناك حديث يخالف ما ذهب اليه ابو حنيفة هل يجوز ان يقال انه لم يبلغه؟  وأجاب على ذلك بما قاله جماعة: لا، لانه وجده غير صحيح او مؤولاً. واشتهر على هذا القول: كل آية او خبر يخالف قول أصحابنا يُحمل على النسخ او التأويل او الترجيح([5]).

وقد ردّ البعض على ما تراه الطريقة الوهابية القائلة بانه في بعض المسائل اذا صح هناك نص جلي من كتاب او سنة غير منسوخ ولا مخصوص ولا معارض بأقوى منه فانه يعول عليه ولا يعول على مخالفه كان من كان. فاعتبر البعض هذه الطريقة مدعاة للطعن في الائمة الكبار وتجهيلهم، وهي تفتح باب اللا مذهبية لدى العوام وتجرؤهم على الائمة الاعلام([6]).

وهنا نحن أمام اعتبارات تجعل الائمة الاربعة في رتبة تعلو على رتبة الاجتهاد وتضعهم في موضع العصمة والنص، أو أرفع من ذلك درجة. أما ما قيل بخصوص شبهة الطعن فيكفي الرد على ذلك بأن تخطئتهم لا يعني الطعن فيهم، فهم في جميع الاحوال محمولون على محمل العدالة والايمان والتدين.

 2ـ الالزام في اطار المذهب الواحد

أما فيما يتعلق بالالزام الثاني الخاص بالنهي عن النظر خارج حدود المذهب الواحد من المذاهب الاربعة؛ فان له، هو الآخر، بعض المبررات نجملها بالشبهتين كالتالي:

 أ ـ لما كان من الواجب على الناس الانضمام تحت راية كل من المذاهب الاربعة باعتبارها مدونة ومنضبطة، وحيث انه لا يجوز للمسلم اتباع المذهب المختار ما لم يعتقد انه على حق، لذا فقد كان عليه الوفاء بموجب اعتقاده هذا([7]).

وهذا يعني انه لا مجال للنظر، مع ان اتباع المسلم لأحد المذاهب لا يقتضي ان يكون صحيحاً ـ عنده ـ بالضرورة من كل وجه. فقد يلتزم المسلم بالمذهب باعتباره أصح من غيره على الاغلب، لا انه صحيح في جميع الموارد. كما قد لا يلتزم الناظر بأي من المذاهب الاربعة، وانما يكفيه من ذلك ممارسة النظر بترجيح الأدلة المقدمة بعضها على البعض الآخر دون الوقوف عند حد مذهب معين.

 ب ـ ان على المكلّف ان يجتهد في اختيار مذهب محدد على التعيين من بين المذاهب الاربعة؛ دون ممارسة التحول والتخيّر بينها، وذلك كي لا يفضي الامر الى التمسك برخص المذاهب ومن ثم انحلال التكليف. فلو جاز للمكلف اتباع أي مذهب شاء لأدى به الامر الى التقاط ما يسعه من رخص المذاهب بحسب الهوى، فيتخير على الدوام ما هو حلال إن عارضه واجب او حرام، ويعلم ما في الامر من الانحلال واسقاط التكليف في كل مسألة مختلف حولها([8]). فعلى رأي البعض ان من تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رق دينه، وقال الاوزاعي او غيره: ان من أخذ بقول المكيين في المتعة، والكوفيين في النبيذ، والمدنيين في الغناء، والشاميين في عصمة الخلفاء، فقد جمع الشر كله([9]). لذلك انشد بعضهم:

فاشرب ولُط وازنِ وقامر واحتجج        في كل مسألة بقول إمام

ويقصد بذلك شرب النبيذ، وعدم الحد في اللواط كما هو رأي ابي حنيفة، والوطء في الدبر على ما يعزى الى مالك، ولعب الشطرنج بحسب رأي الشافعي([10]).

ومع انه قد يقال بأن ما ذكر من انحلال التكليف باتباع الرخص هو من جانب لا ضير فيه، فقد كان ابن عباس ممن يوصف بهذا الوصف، ولم يستهجن الفقهاء منه ذلك. أما من جانب آخر فإن سقوط التكليف او انحلاله عند إتباع رخص المذاهب يمكن ان يصح في القضايا الفرعية المختلف حولها، لأنها في الاصل ليست من القضايا المقطوع بها شرعاً، وشرط ان لا يتعارض ذلك مع مقاصد الشريعة. فطالما كانت القضايا بهذا الشكل؛ فلا ضير في اتباع الرخص، انما المحذور متعلق بما لو علم المكلّف بشرعية القضية الفقهية على وجه القطع. أما ما صُوّر في البيت الشعري الآنف الذكر فمبالغ فيه، والا كان طعناً في الائمة ذاتهم قبل الطعن في المقلدين لهم على نحو التخيير.

والغريب ما تقرر من نهي عام عن التخيير والانتقاء لكل من لم يبلغ درجة الاجتهاد، حتى من «الفقهاء وأرباب سائر العلوم»([11]). الامر الذي يمنع النظر حتى لدى المتمرسين ممن لهم قابلية الترجيح في الأدلة والآراء. وإن كان الشاطبي يستثني في التخيير من غير المجتهدين كل من تقيّد بالترجيح حسب الدليل، اذ يصبح متبعاً للدليل لا الهوى.

 



[1] المودودي: تاريخ تجديد الدين واحيائه، ترجمه الى العربية محمد كاظم سباق، الدار السعودية للنشر، 1405هـ ـ1985م، ص96ـ97.

[2] هداية الموفقين، ص65.

[3] مواهب الجليل، ص30 .

[4] الحبل المتين، ص6.

[5] ابن عابدين: العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، دار المعرفة، بيروت، ص333.

[6] هداية الموفقين، ص67ـ68 .

[7] صفة الفتوى، ص71.

[8] صفة الفتوى، ص72 .

[9] سير اعلام النبلاء، ج8، فقرة 90.

[10] رسالة المصلحة للطوفي، نفس المعطيات السابقة، ص135 .

[11] صفة الفتوى، ص72.

comments powered by Disqus