-
ع
+

مرحلة التبويب والمساند والصحاح

يحيى محمد

جاءت عملية جمع الحديث وتبويبه كخطوة متممة لما بدأه الزهري من التدوين. اذ نشط العديد من العلماء في وقت متقارب لجمع وتدوين كل من الفقه والتفسير والمغازي والتاريخ وغيرها من العلوم. وعلى تقدير الذهبي فان هذا الحدث العظيم قد حصل في منتصف القرن الثاني للهجرة (سنة 143هـ). وقيل ان اول من جمع الحديث وبوبه هو مالك بن انس، كما قيل ان اول من فعل ذلك هو الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، الى ان قام بعدهم عدد من العلماء فدونوا الأحكام في الحديث، كمالك وابن جريج وسفيان الثوري والاوزاعي وابن دينار وغيرهم. وقيل ايضاً ان هناك عدداً من العلماء ظهروا في فترة واحدة وفي اماكن متعددة شرعوا في تصنيف الحديث كل باب على حدة دون ان يعرف سابقهم من لاحقهم. وقد عرفت مثل هذه الكتب في جمع الحديث وتبويبه بالموطآت، وهي كثيرة لكن لم يبق منها سوى موطأ مالك الذي صنفه في المدينة وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وصنف عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج التصانيف بمكة، وصنف سفيان بن سعيد الثوري كتاب الجامع بالكوفة، وكذا صنف أبو حنيفة الفقه والرأي بالكوفة ايضاً، ومثل ذلك فعل أبو عمر وعبد الرحمن بن عمر والأوزاعي بالشام، وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة[1]، وصنف ابن إسحاق المغازي، وكذا صنف معمر باليمن، وعلى هذه الشاكلة صنف هشام كتبه، وكذا الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، ثم فعل ذلك عبد الله بن المبارك والقاضي أبو يوسف وابن وهب وغيرهم. وبذا كثر تبويب العلم وتدوينه، ورتبت ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس. وقبل هذا العصر كان سائر العلماء يتكلمون عن حفظهم ويروون العلم عن صحف صحيحة غير مرتبة[2].

 واهم خصوصية امتازت بها هذه المرحلة وما قبلها هي التعويل على الحديث المرسل والمنقطع، كالذي اشتهر لدى مالك وابي حنيفة وغيرهما، اذ كان العلماء انذاك يتقبلون ان يقول التابعي: قال رسول الله، وان لم يذكر اسم الصحابي الذي ينقل عنه، وهو معنى المرسل كما عرفنا[3]. وعرف ان أكثر ما تروى المراسيل من أهل المدينة عن ابن المسيب، ومن أهل مكة عن عطاء بن أبي رباح، ومن أهل البصرة عن الحسن البصري، ومن أهل الكوفة عن إبراهيم بن يزيد النخعي، ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال، ومن أهل الشام عن مكحول. وقيل ان مراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي تعد من الصحاح، وان مراسيل عطاء والحسن لا يحتج بها؛ لأنهما كانا يأخذان عمن كان، وكذا مراسيل أبي قلابة وأبي العالية[4].

وقد عدت مراسيل ابن المسيب اصحها جميعاً، كالذي ذهب اليه يحيى بن معين على ما حكاه الحاكم النيسابوري، معللاً ذلك بانه من أولاد الصحابة وأدرك العشرة وفقيه أهل الحجاز ومفتيهم وأول الفقهاء السبعة الذين اعتد مالك بإجماعهم كإجماع كافة الناس. وقيل ان الأئمة المتقدمون تأملوا مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحة، وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره[5].

المساند

ما إن انتهى القرن الثاني للهجرة حتى بدأت مرحلة جديدة شرعت بوضع المساند من الحديث. فقد رأى جماعة من الحفاظ ان يفردوا للحديث النبوي بما يرويه كل صحابي من أحاديث في مختلف القضايا؛ دون التقيد باعتبارات التصحيح والتوثيق، اي سواء كان مما يحتج به أم لا، وسواء كان راويه ثقة او غير ثقة. وقيل ان اول من صنف المسند هو عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، ومن ثم ظهرت بعدهما المساند الاخرى؛ كمسند أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد بن حميد والدارمي وأبي يعلى الموصلي والحسن بن سفيان وأبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبرهيم الحنظلي وأبي خيثمة زهير بن حرب ومسدد بن مسرهد البصري وأسد بن موسى الأموي ونعيم بن حماد الخزاعي وغيرهم. ومن هؤلاء من صنف بحسب التبويب والمساند معاً، كأبي بكر بن أبي شيبة[6].

والمساند التي ظهرت خلال هذه الفترة وما بعدها كثيرة جداً، فقد عدد البعض اثنين وثمانين مسنداً خلال القرنين الثالث والرابع للهجرة، واغلبها أصبح في عداد المفقود، ولم يبق منها الا الشيء القليل. ويتضمن البعض من هذه المساند الكثير من الاجزاء، ومن ذلك مسند ابي يوسف بن شيبة الذي يتضمن مساند لعدد من الصحابة، قيل أن نسخة مسند أبي هريرة منه قد شوهدت بمصر فكانت مائتي جزء. وكذا مسند ابن شاهين البغدادي الذي يحتوي على ألف وستمائة جزء، ومسند الحسين الماسرجسي النيسابوري الذي يحتوي على ألف وثلاثمائة جزء، وقدّر انه لو كتب بخطوط الوراقين لكان في أكثر من ثلاثة آلاف جزء، وقيل أنه لم يصنف في الإسلام مسند أكبر منه[7].

وتختلف هذه المرحلة عن سابقتها بميزتين: فاولاً انها اهتمت بكتب المساند التي افردت فيها لكل صحابي الاحاديث المروية عنه، وذلك على خلاف المرحلة السابقة التي عولت على فكرة التبويب حسب الموضوعات دون ان تفرد لاحد شيئاً من الحديث الجامع. وثانياً هو ان هذه المرحلة بخلاف سابقتها لا تعول على المرسل والمنقطع من الحديث. وقد يكون الشافعي هو اول من نقد هذه الطريقة كما زاولها علماء التبويب ومن سبقهم، فقرر ان لا يأخذ بالمرسل الا بشروط[8]، حيث لم يتقبل المرسل ما لم يكن عائداً الى كبار التابعين، بل وان ينضم اليه ما يؤكده من قرائن[9]. وقيل انه يتقبل المرسل عن كبار التابعين شرط العلم بانه يروى عن العدل الثقة، فيكون المرسل بهذا حجة، ومن ذلك انه وافق على مراسيل سعيد بن المسيب، لأنه تفرد بهذه المزية. اذ سئل مرة: كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً ولم تقبلوه عن غيره؟ فأجاب: لأنا لا نحفظ لسعيد منقطعاً إلا وجدنا ما يدل على تسديده، ولا انه حدث عن احد الا كان ثقة معروفاً، فمن كان بمثل حاله أحببنا قبول مرسله[10].

الصحاح

تلك كانت مرحلة المساند التي لها تأثيرها البالغ على فكرة كتابة الحديث المتصل الصحيح كما دشنها الامام محمد بن اسماعيل البخاري (المتوفى سنة 256هـ) حينما صنف كتابه (الجامع المسند الصحيح) كاول مصنف توخى به الصحيح من أحاديث النبي. وجاءت هذه الفكرة كمحاولة للجمع بين كمال مرحلة التبويب وكمال مرحلة المساند مع ترك ما اتصفا به من نقاط ضعف، فعول البخاري على ما اهتمت به مرحلة التبويب من توخي الحديث الصحيح مع ترك المرسل والمنقطع، كما عول على مرحلة المساند باخذ الاتصال في الحديث المؤدي الى النبي مع اهمال الحديث الضعيف. وبذلك أصبحت فكرة الحديث المتصل الصحيح فكرة مألوفة سار عليها العديد من اصحاب المصنفات الحديثية، كما تحدثنا عنها في دراسة مستقلة. لكن ما نلفت النظر اليه هو ان هناك فروقاً جوهرية بين عصر الصحابة والعصر الأخير ازاء الموقف من الرواية والحديث، ويمكن اجمال هذه الفروق بالنقاط التالية:

1ـ كان العصر الاول للصحابة يمنع تدوين الحديث وكتابته، في حين كان عصر الصحاح والجوامع الحديثية يشجع عليه.

2ـ كان العصر الاول يقل من الرواية، في حين كان العصر الاخير يكثر منها.

3ـ كان العصر الاول يتهم المكثرين للرواية ويتجنبهم، في حين كان العصر الاخير يعتمد عليهم.

4ـ كان العصر الاول يبدي تحفظاً من ان ينسب الحديث الى النبي، في حين كان العصر الاخير لا يتحفظ من ذلك.

5ـ كان العصر الاول يتثبت من الحديث غير المعروف؛ بالقسم او بطلب شاهد ثان رغم قرب العهد بالنبي، في حين كان العصر الاخير لا يعمل بمثل هذا التثبت.

6ـ كان العصر الاول لا يدقق في بحث الرجال والاسناد، في حين كان العصر الاخير يدقق في ذلك.

7ـ اخيراً كان العصر الاول يكره الانشغال بالحديث والاشتغال فيه؛ خشية ان يتبدل الدين الى دين اخر كالذي حصل مع اهل الكتاب. في حين كان العصر الاخير يشجع على الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، ولا يخشى ان يتبدل الدين ازاء فعله المستحدث.

 

 

 



[1] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الاول.

[2] جمال الدين يوسف بن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، عن مكتبة نداء الايمان.

[3] نقل عن بعض التابعين انه لا يرسل الا عندما يكون الحديث مروياً عن عدة من الصحابة، فقد روي ان الحسن البصري قال: ‹‹اذا اجتمع اربعة من الصحابة على حديث ارسلته ارسالاً››، وعنه انه قال: ‹‹متى قلت لكم حدثني فلان فهو حديثه لا غير، واذا قلت: قال رسول الله (ص) اكون قد سمعته من سبعين او اكثر›› (تاريخ المذاهب الاسلامية، ص269) .

[4] البحر المحيط، فقرة 1158

[5] معرفة علوم الحديث. وقواعد التحديث، ص141، ولاحظ ايضاً: البحر المحيط، فقرة 1163.

[6] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الاول.

[7] الرسالة المستطرفة، ص69ـ73

[8] حجة الله البالغة، ج1، ص146، وتاريخ المذاهب الإسلامية، ص270

[9] ابن كثير: اختصار علوم الحديث، شبكة المشكاة الالكترونية، فقرة النوع التاسع (لم تذكر ارقام صفحاته). والبحر المحيط، فقرة 1163، وقواعد التحديث، ص169.

[10] النكت على كتاب ابن الصلاح، ج2، باب أقوال العلماء في حكم المرسل. والبحر المحيط، فقرة 1162

comments powered by Disqus