-
ع
+

المثقف الديني والدور الريادي في قبال الفقيه

يحيى محمد

 إن ظاهرة المثقف الديني هي ظاهرة جديدة لم تُعرف من قبل. فقديماً ظهر الفقيه كمجتهد من أحضان أهل الإتّباع من الصحابة والتابعين، وقد إضطره الأمر إلى أن يخالف في كثير من الأحيان مواقف أهل الإتّباع طبقاً لما فرضته الصنعة الفقهية التي قام بتأسيسها بحسب الأصول المعتمدة. كما أن الناظر ولد هو الآخر من أحشاء أهل الفقه من المجتهدين، فأدّاه الأمر إلى أن يخالف أئمة الإجتهاد أحياناً. لكن الحال مع المثقف الحديث يختلف بعض الشيء. فهو لما كان مديناً في مرجعيته المعرفية إلى الواقع، ولكونه لم يتربَّ في أحضان الفقهاء ولم يكن في ميدانه الجديد من أهل الصنعة التي هم عليها؛ لذلك شكّل ظاهرة جديدة أفضت إلى ما أطلقنا عليها القطيعة فيما بينه وبين الفقيه.

مع هذا نشير إلى أن كبار فئة (الكتّاب) القدماء كانوا أقرب العناصر الفاعلة معرفياً إلى مسلك المثقف الديني، من أمثال عبد الحميد الكاتب وإبن المقفع وإبن خلدون، إذ إن لهم مرتكزات معرفية تختلف عن تلك التي يمتلكها الفقيه، وقد أظهر المفكران الأخيران براعة في نقد الآلية الفقهية وإبراز صدامها مع الواقع وكليات العقل العامة، وكشفا عما لدى هذه الممارسة من تناقض. وبالتالي فإن نموذج إبن المقفع وإبن خلدون هو أقرب ما يكون لنموذج المثقف الديني الذي نتحدث عنه، لإعطائهما الدور لكل من العقل والواقع وممارسة النقد ورفض الطريقة التي تبناها الفقيه ولو من نواحي جزئية[1]. أما عبد الحميد الكاتب (المتوفى سنة 132هـ) فكان يحث الكتّاب على التحلي بصنوف المعارف المختلفة، ومما قاله بهذا الصدد: ‹‹فتنافسوا - معشر الكتّاب - في صنوف العلم والأدب، وتفقهوا في الدين، وابدأوا بعلم كتاب الله عزّ وجلّ والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، وأجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك معين لكم على ما تسمون إليه بهممكم، ولا يضعفن نظركم في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج منكم››[2]. وكانت ثقافة الكتّاب تتسع لعلوم عديدة لكنها بعيدة عن النظر في الفقه، ومن ذلك ما عُرف عن أبي أيوب المورياني كاتب المنصور أنه كان يأخذ من كل علم طرفاً إلا الفقه، فكان يقول: ‹‹ليس من شيء إلا وقد نظرت فيه إلا الفقه فلم انظر فيه قط، وقد نظرت في الكيمياء والطب والنجوم والحساب والسحر››[3].

ومثلما يختلف المثقف الديني عن المثقف العلماني فإنه في المقابل يختلف عن الفقيه. فهذا الأخير يكاد يلغي بدوره حظ الواقع من المنظومة المعرفية؛ مكتفياً في الغالب بما جاء في النص وحكم السلف، وهو بذلك يقف على الطرف الآخر الذي يعاكس فيه نهج العلماني. لذا جاء المثقف الديني ليربط بين المسلكين، وينظر بكلا العينين، إحداهما بإتجاه النص خلافاً للعلماني، وأخرى بإتجاه الواقع خلافاً للفقيه.

وكمقارنة بين المثقف الديني والفقيه؛ يلاحظ أن هناك تطلعات وأهدافاً اتجه نحوها الأول بعيداً عن التحفظات والمسالك التي ورثها الثاني. ولإبراز هذا المعنى سنسلط الضوء على مواقف عدد من المفكرين الرواد، بعضهم يزدوج فيه الحال من امتلاك ناصية كل من المثقف من جهة، والفقيه أو المفسر المختص من جهة أخرى، لكن خصال الثقافة فيه بارزة من حيث ميوله وتكوينه الفكري إلى درجة غير قليلة، كما هو الحال مع محمد عبده الملقب بالشيخ الإمام، وبدرجة أضعف مع تلميذه رشيد رضا. أما البعض الآخر فهو لا ينتمي إلى ما ذكرناه من التخصص الفقهي أو التفسيري، لكنه ذو معرفة عالية بالشؤون الإسلامية وثقافة واسعة في ما عداها من قضايا الواقع، كما هو حال عبد الرحمن الكواكبي. وبالتالي فإن من الممكن مقارنة المواقف المعرفية لهؤلاء المفكرين مع نظائرها التي تعود إلى الفقيه. فالذي يطلع على أفكار هؤلاء يرى أنهم يقفون موقفاً مضاداً للنهج الذي ارتسمه الفقهاء قديماً وحديثاً، وقد اتصفت آراؤهم بالجرأة والصراحة؛ تتوسط في مسالكها بين النهجين العلماني والفقهي. ومن حيث المقارنة نبرز ما يلي:

 

1ـ الدعوة إلى تجديد النظر في الدين

لعل أول ميزة امتاز بها المفكر الديني هو أنه دعا إلى تجديد النظر في الدين، ولم يتوقف عند حد فتح باب الإجتهاد بالمعنى التقليدي[4]. كما أنه حوّل النص إلى مرتع للنظر لدى جميع المدركين ليفيدوا منه ما يفهمونه من دون التوقف عند حدود ما يقوله المفسر والفقيه وما إليهما من أصحاب الطرق التقليدية. وهو بهذا يعد نفسه غير مرتبط بالفقيه والمفسر التقليدي لعدة إعتبارات كالتالي:

أـ إنه على الأقل لا يعمل بالتقليد الذي هو شأن غالب الفقهاء، بل إنه يعده من أهم أسباب إنحطاط الأمة وتخلفها. بل في أحيان معينة نجد أن المثقف ينكر التقليد كلياً ويعتبره من الشرك الذي تجب محاربته من غير هوادة، كالذي ذهب إليه محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، ومن ذلك تنديد هذا الأخير بمقلدة الفقهاء حيث ساروا بطريق يخالفون فيه نصوص الآيات أو ظواهرها، مستشهداً بما نقله الفخر الرازي عن أحد شيوخه قائلاً: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها. ثم علّق الرازي بقوله: ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا[5]. وقد إعتبر رشيد رضا أن هذه الظاهرة ظلت متفشية بقوة مع مرّ الزمن إلى عصرنا هذا.

ب ـ إنكار المفكر الديني للتنطعات والتدقيقات الفقهية، ومن ذلك أن الكواكبي إعتبر أن توسيع الفقهاء لدائرة الأحكام أدى إلى تضييق الدين على المسلمين تضييقاً أوقع الأمة في ارتباك عظيم، بحيث جعل المسلم لا يكاد يستطيع أن يعتبر نفسه مسلماً ناجياً لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته تبعاً لطلبات الفقهاء المتشددين الآخذين بالعزائم ‹‹فبذلك أصبح الجمهور الأكبر من المسلمين يعتقدون في أنفسهم التهاون إضطراراً، فيهون عليهم التهاون اختياراً كالغريق لا يحذر البلل. لأنه كيف يطمئن الحنفي العامي حق الإطمئنان في الاستبراء لتصح طهارته؟ وكيف يحسن مخارج الحروف كلها وقد أفسدت العجمة لسانه لتصح صلاته؟ وكذلك كيف يصحح الشافعي العامي نيته على مذهب إمامه في الصلاة؟ أو يعرف شدّات الفاتحة الثلاث عشرة وينتبه لإظهارها كلها ليكون أدى فريضته؟››[6]. وقد ضرب الكواكبي مثلاً بارزاً على التوسع المغالي في الآراء الكثيرة المتعلقة بالسواك. إذ جاء عن النبي (ص) قوله: ‹‹لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك››، فعلى هذا الحديث تشعبت الآراء واتسعت، حيث أخذ الفقهاء يبحثون عن نوع العود المستخدم في السواك وعن طوله وطريقة استعماله والأمكنة والأوقات التي ينبغي فيها إستخدامه وما إلى ذلك من تفريعات منافية للمقصد الشرعي[7].

كما أن محمد عبده هو الآخر قد ندد بطريقة بحث الفقهاء في التوسيع والتفريع واصفاً اياها بأنها هي التي ضيعت الدين، حيث إن الفرد العامي الذي يسعى إلى كسب معاشه لا يسعه صرف سنين طويلة في تعلم أحكام الطهارة وسائر العبادات من الكتب الطويلة الصعبة المألوف إستخدامها لدى الفقهاء كما في الأزهر، فعلى حد قوله: أي حاجة إلى هذه الأبحاث الطويلة؟ والتدقيقات في مسائل المياه والطهارة والصلاة؟! قال (ص): (صلوا كما رأيتموني أصلي). وشرح صلاته ووضوءه، مما يمكن بيانه في ورقات قليلة[8]، وكل ماء يشرب وينقى به البدن يطهر به.

ج ـ والمفكر الديني إذ لا يعول على الفقيه بالتقليد ولا يعمل بالتنطعات والتدقيقات الفقهية فإن له طرقاً معرفية عدة قام بممارستها. ويمكن تصنيفها إلى أربع طرق رئيسة، هي: إنفتاحه على النص مباشرة والعمل بمسلك الفهم المجمل، والتمسك بمسلك السلف الأوائل قبل بروز الخلاف، وممارسة النظر والترجيح بين الآراء العلمية، ثم الإعتماد على مصادر معرفية أخرى. أما بيان هذه الطرق فسيكون كما يلي:

أولاً: الإنفتاح على النص مباشرة: ذلك أن المفكر الديني انفتح على النص مباشرة دون وسائط الفقهاء عادة. فمثلاً شدد الكواكبي في (طبائع الإستبداد) على ضرورة فهم القرآن من غير تقييد، طبقاً لمسلمة كون الدين مبنياً على العقل، وأنه لا بد من التبصر في مقاصده. فالقرآن الكريم من أوله إلى آخره إذا ما لوحظت مقاصده وتفهم أسباب نزول آياته لا تجد فيه من حكم إلا وتلقّاه العقل بالإجلال والإعظام دون حاجة للرجوع إلى الغير ممن يعملون بالتوسعة والتدقيق، ومن ثم التشويش والتضليل[9].

كما طالب محمد عبده بقراءة القرآن وفهمه مباشرة بعيداً عن التفاسير، بل إنه حذّر من هذه التفاسير؛ وقال وهو يخاطب أعضاء جمعية العروة الوثقى: ‹‹داومْ على قراءة القرآن وتفهّم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره، كما كان يُتلى على المؤمنين والكافرين أيام الوحي، وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو إرتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله، ثم اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل بنفسك على ما يحمل عليه، وضع إلى ذلك مطالعة السيرة النبوية واقفاً عند الصحيح المعقول، حاجزاً عينيك عن الضعيف والمبذول››[10]. وعلى هذه الشاكلة إعتبر أن لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتابه، وعن رسوله من كلامه، بغير وساطة أحد من سلف ولا خلف، وإنما يجب عليه قبل ذلك العلم بالوسائل التي تؤهله للفهم، كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها، وأحوال العرب والناس زمن البعثة النبوية، وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار، فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يعده لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما، كما عليه أن يطالب المجيب بالدليل، لا فرق في ذلك إن كان السؤال في العقائد أو في الفقه والأحكام العملية ‹‹فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه››[11].

كذلك إعتبر رشيد رضا أن مسائل الدين البحتة من العبادات والحلال والحرام لا يُرجع فيها إلى آراء الفقهاء، وإنما تُسند إلى الشرع من الكتاب والسنة مباشرة. أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فهي مفوضة بأمر الله إلى أولي الأمر الذين هم رجال الشورى من أهل الحل والعقد، وما يقررونه يجب على حكام المسلمين تنفيذه وعلى الرعية قبوله[12]. وهو في محل آخر إعتبر أن مثل هذه القضايا تفوضها عامة الناس إلى أولي الأمر منهم ومن ثم تتبعهم فيها[13]. وهذا يعني - بحسب رأي رشيد رضا - أنه سواء في القضايا الدينية البحتة، أو القضايا الدنيوية، فإنه لا يصح الإعتماد على رأي الفقهاء.

فهذه الإعتبارات – لا سيما لدى الشيخ محمد عبده – تذكّرنا بما كان يراه زعيم الاصلاح البروتستانتي مارتن لوثر خلال القرن السادس عشر الميلادي. فقد اعتبر الانجيل نصاً يفسر نفسه بنفسه، فيُفهم المعنى عبر ظاهره دون وساطة أحد، مؤكداً بأنه ‹‹لا يوجد على الأرض كتاب كُتب بشكل واضح وشفاف مثل النص المقدس››. وبالتالي فيمكن للقارئ أن يواجه النص وجهاً لوجه، بلا وساطة، ولا تذرع بتعدد المعاني، فلكل فرد القدرة على فهمه كما هو. لذلك أصرّ لوثر على أن يكون لكل تلميذ نسخة من الانجيل كمرجع خاص به، فالانجيل هو المعيار والمرجع النهائي للفهم والتفسير دون حاجة لكهنوت الكنيسة[14]. وفي (عام 1873) كان بعض أتباع لوثر يقول: يجب علينا أن نبحث عن الحقيقة في الكتاب المقدس وليس في مؤلفات علماء اللاهوت. لكنه أكّد في الوقت ذاته على لزوم نبذ تعاليم كوبرنيكوس وغاليلو ونيوتن ومن ساروا على دربهم[15]، تأسياً بزعيمه الروحي (لوثر) الذي سبق له أن احتقر كوبرنيكوس واتهمه بأنه فلكي نصاب، ومما قال في تحقيره: ‹‹يريد هذا الأحمق أن يضع صناعة الفلك كلها بالمقلوب››[16]. كما قال بأن ‹‹هذا المأفون يريد أن يغير وجه علم الفلك تماماً ولكن الكتاب المقدس يخبرنا أن (هوشع) أمر الشمس وليس الأرض أن تقف في مكانها››. ومثل ذلك فعل الزعيم الآخر للإصلاح الديني جون كلفن[17].

وكما يلاحظ هناك بعض التشابه في منهج الفهم بين الإتجاهين النهضوي الإسلامي والإصلاحي البروتستانتي، وهو يوحي بتأثير الأخير على الأول، مع الأخذ بعين الإعتبار وجود فارق بينهما حول الموقف من العلم لإختلاف السياق التاريخي.

ومن حيث الدقة إن المفكر الديني إذ ينفتح على النص مباشرة فإنه يميل في كثير من الأحيان بإتجاه الفهم المجمل. فهو كثيراً ما ينزع على الدين نزعة الإجمال ولا يرضى بالتدقيقات والتنطعات التي ألِفها الفقهاء وأهل الإختصاص، بل يميل إلى إعتبار التدقيقات ليست صفة الدين ذاته، بل هي صفة الواقع لإمكانية اختباره ومعرفة قضاياه بسهولة. وربما لهذا نجد - مثلاً - أن الكواكبي يصرح بالإجمالية في عدد من العبارات، منها إعتباره أن الإسلام ‹‹وضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكل زمان وقوم ومكان››[18]. وعليه إعتبر آيات الأحكام لا تعدو عن مائة وخمسين آية، وفي محل آخر عدها لا تتجاوز المائة[19]. وقد امتدح الطريقة التي يُفهم بها المعنى المتبادر بإطمئنان مع النفور عن التوسع في البحث وعدم إعارة السمع للإشكالات، ومن ثم لا حاجة للتدقيقات والأبحاث المسببة للتشديد والتشويش[20]. وأكثر من هذا أكد على ضرورة التمسك بكل ما يقبل الإتفاق وترك غيره من الموارد التي تثير الإختلاف، عبر الإجتماع على ما نعلمه ونفهمه من النصوص والتخلي عن كل ما يرد من نقل مختلف حوله[21].

وشبيه بهذا الموقف ما أكده رشيد رضا في موارد الأخذ بالقطعيات وتقليص دائرة الأحكام والتكاليف، مؤيداً موقفه هذا بذكر شاهد من السيرة النبوية، وهو أن بعض الأعراب كان يجيء النبي (ص) من البادية فيسلم، فيعلّمه النبي ما أوجب الله وما حرم عليه في مجلس واحد فقط، فيعاهده الأعرابي على العمل به، فيقول النبي (ص): ‹‹أفلح الأعرابي إن صدق››. إذ يمثل هذا الشاهد لدى رشيد رضا أعظم أسباب قبول الناس بالإسلام، لكن ‹‹الفقهاء أكثروا التكاليف بآرائهم الإجتهادية حتى صار العلم بها متعسراً، والعمل بها متعذراً››. لذلك فقد تمسك بالمطالبة بكل ما هو قطعي بحيث يفهمه كل من عرض عليه النص، أما ما هو غير قطعي من الآيات الظنية الدلالة، وأخبار الآحاد الظنية الرواية أو الدلالة، فهي موكولة إلى إجتهاد من تثبت عنده في العبادات والأعمال الشخصية، والى إجتهاد أولي الأمر في الأحكام القضائية والمسائل السياسية[22].

ثانياً: التمسك بمسلك السلف الأوائل: حيث إن المفكر الديني لجأ إلى الأخذ بمسلك الصحابة والتابعين قبل بروز الخلاف ونشأة الفرق والمذاهب، ولو من خلال تحقيق بعض المتأخرين كإبن تيمية، وذلك في القضايا الغيبية والمسائل العبادية. وأكبر الظن أن هذا المعنى الذي اتجه صوبه بعض المثقفين الرواد، كالذي يلاحظ بوضوح لدى الشيخ الإمام وتلميذه، إنما جاء كرد مناسب على الطريقة السائدة لدى العلماء والفقهاء الذين يذهبون مذهب التقليد للمذاهب المعروفة، سواء في الأصول أو الفروع. لهذا طالبَ الشيخ الاستاذ بـ ‹‹تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى››. فقد إعتبر هذا التحرير للفكر صديقاً للعلم من حيث إنه باعث على البحث في أسرار الكون وداعي إلى احترام الحقائق الثابتة، كما طالبَ بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل[23].

ثالثاً: ممارسة النظر المعرفي: ذلك أن المفكر الديني قام بممارسة الترجيح بين الآراء العلمية الموروثة في الحالات التي لا يسعفه النص ولا يجد طريقة أخرى تقربه إلى التحقيق.

رابعاً: الإعتماد على مصادر معرفية أخرى: ذلك أن المفكر الديني اعتمد على مصدرين هامين من مصادر المعرفة، هما العقل والواقع، رغم أنه لا يملك تقنيناً منهجياً واضحاً وصريحاً كالذي نراه لدى الفقيه.

 

2ـ توسعة المصادر المعرفية

لقد أعاد المفكر الديني العقل إلى إطاره الطليعي كمصدر مهم للفهم والتوليد المعرفي، إذ كان على وعي من أن حصر المعرفة بالنص لا يجدي نفعاً. وبذلك عبّر الكواكبي من أنه ‹‹أضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية التي كادت تجعل الغربيين أدرى منّا حتى في مباني ديننا››[24]. وهو يؤكد بأن ميزة الدين الإسلامي كونه مبنياً على العقل المحض، وبالتالي أنه ‹‹أفضل صارف للفكر عن الوقوع في مصائد المخرفين، وانفع وازع يضبط النفس من الشطط، وأقوى مؤثر لتهذيب الأخلاق، وأكبر معين على تحمل مشاق الحياة، وأعظم منشط على الأعمال المهمة الخطرة، وأجل مثبت على المبادئ الشريفة، وفي النتيجة يكون أصح مقياس يستدل به على الأحوال النفسية في الأمم والأفراد رقياً وإنحطاطاً››[25]. ومثل ذلك إعتبر محمد عبده ‹‹العقل من أجلّ القوى، بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها، والكون صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله وسبيل للوصول إليه››[26]. وهو قد أعاد الإعتبار لأولئك الذين أُتهموا بالبدع ممن لجأوا إلى مرجعية العقل مثل المعتزلة.

كذلك فبنظر هؤلاء المصلحين يعتبر الواقع مصدراً رئيساً للمعرفة لا غنى عنه. فمحمد اقبال عبّر عن هذا المصدر بالتجارب والملاحظات والخبرات، بل ورأى أن هناك إتجاهاً تجريبياً عاماً للقرآن يتبدى من خلال ما يستهدفه من ضرورة التأمل للطبيعة[27]، مؤكداً بأن النظر في الكون والآفاق والأنفس، وكذا الوقوف على أخبار الأولين، هي من مصادر المعرفة الإنسانية بحسب القرآن الكريم[28]. أما مرجعية الواقع بنظر الكواكبي فإنها تشمل مختلف الميادين، بما فيها الواقع الغربي، وكذا التجارب الحضارية والحاجات الإجتماعية وجميع أصناف الثقافة المعتمدة على الموضوعات الخارجية؛ كالعلوم الإجتماعية من الحقوق والسياسة والاقتصاد والفلسفة العقلية والتاريخ القومي والجغرافي والطبيعي والسياسي والادارة الداخلية والحربية[29].

وإذا كان البعض من الرواد أبدى أنه لا يعمل بغير الكتاب والسنة، كالذي نراه لدى محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، فلأن هذه التصريحات أتت كرد على مسلك الفقهاء المقلدين الذين وضعوا النصوص المباشرة من الكتاب والسنة خلف أظهرهم. وهو ما يتبين مما ذكره رشيد رضا نقلاً عن محمد عبده بأن شيخاً من أكبر الشيوخ سناً وشهرةً في العلم قال في مجلس إدارة الأزهر على مسمع الملأ من العلماء: ‹‹من قال إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق››، بمعنى أنه لا يجوز العمل إلا بكتب الفقهاء. فردّ عليه محمد عبده قائلاً: ‹‹من قال إنني أعمل في ديني بغير الكتاب والسنة فهو الزنديق››[30].

صحيح أن هذين العَلَمين يعملان بالكتاب والسنة كمختصين لا يختلفان من هذه الناحية عن الفقيه، إلا أنهما لم يتوقفا عند هذا الحد، بل أضافا إلى ذلك مصدراً معرفياً هاماً مستمداً من الواقع، إلى الحد الذي عملا فيه على تأويل النص لصالح الواقع، أو ترجيح مطالب الأخير على الأول، لا سيما إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار حجم ضغط الحاجات الزمنية والحضارية التي صادفتهما. ويكفي أن نعلم بأن رشيد رضا قد رجّح العلوم الكونية على الفقهية والكلامية في فهم القرآن[31]، وأنه إعتبر إدخال العلوم الطبيعية أهم أركان التفسير والعمل بهدي القرآن لامتلائه بذكر آيات الله في خلق السماوات والأرض[32]. الأمر الذي دعاه إلى الجمع بين العلمين الكوني والديني[33]. ولكل ذلك دلالة على ما للواقع من مرجعية معرفية تأسيسية لفهم النص.

إن جعل العلوم الطبيعية أهم أركان تفسير القرآن، قد عمّق من مرجعية الواقع كمصدر معرفي أساس، فإذا كان التفسير ومعه سائر العلوم الإسلامية غير مهتمة بأثر الواقع قديماً، باستثناء الفقه الذي تأثر بضغط الحاجات الزمنية واستجاب لمطالبها بالتفاعل والتغيير، فإن الحال مع الوعي النهضوي قد جعل من التفسير يستجيب للواقع لدواع عديدة، تارة بفعل الضغط الحضاري، وأخرى بفعل الاغراء، وثالثة لطلب الحقيقة. فقد اختلف مجرى التفسير مع الوعي النهضوي إختلافاً جذرياً عما كان عليه من قبل، كما واختلف جذراً عما أصاب الفقه والكلام من تطورات خاصة. فإذا ما كان الفقه قد شق الطريقة التقليدية المتذبذبة تحت تأثير الواقع وضغط الحاجة، وكان علم الكلام قد انتهى ولم يبق منه إلا موضوعات منتقاة أجري عليها جملة من الإصلاح والتحديث لتفي بحاجاة العصر.. فإن ما حدث مع التفسير يختلف تماماً، ذلك أنه لما كان يتعلق بالخطاب الإلهي مباشرة، وبما أن في هذا الخطاب من المرونة ما جعله قابلاً للتأويل والتوجيه والحرف والتعديل، وحيث أنه حدثت ضغوط وحاجات أفرزها الواقع خلال قرني الوعي النهضوي، لذا فإن هذه الضغوط والحاجات لم تفض بالتفسير إلى أن يستجيب استجابة المضطر ــ كما هو شأن علم الفقه ــ فقط، بل تبعاً لمرونة النص الديني وما تضمنه من مادة ‹‹وجودية›› فقد اغتر التفسير بالعلم المعاصر، واندفع للتحرك اتجاهه طمعاً في تعزيز هذا النص ورفعه إلى الحد الذي ينتصر فيه حتى على العلم ذاته. فهو تعبير في النهاية عما انتاب المفكرين المسلمين من شعور بالنقص أمام كشوفات الخصوم لدى الحضارة الغربية الحديثة، فحيث أنه لم يكن بالامكان انكار ما دلت عليه هذه الحضارة من نتائج علمية وكشوفات طبيعية، ولم يكن بالامكان منافستها في الميدان العلمي، لذا لم يبق أمام المفكريين الدينيين ليغطوا على ضعفهم قبال الآخر سوى اللجوء إلى أساليب تعرية الآخر وإعتبار أن ما لديه لا يزيد عما لديهم. فمن حيث التعرية إعتبروا الانجازات الغربية لم يكن لها أن تتم لولا الإمداد الحضاري الذي مهّد له المسلمون بفعل ترجمات كتبنا العلمية إلى الغرب، وبالتالي فإن ما لدى الغرب انما هو مأخوذ عنا بشكل ما من الأشكال. وينطبق هذا الحال على ما لدى الغرب من تحضر على الصعيد الإنساني، حيث الزعم بأن مختلف ما توصل إليه من إعتبارات إنسانية وأنظمة عادلة إنما هي موجودة لدينا من قبل، وما يؤخذ منهم على هذا الصعيد انما يعبّر عن استرجاع ما كان عندنا طبقاً لقاعدة (هذه بضاعتنا رُدّت الينا).

كذلك زاد المفكرون نغمة أخرى في إعتبار أن ما توصل إليه الغرب من إكتشافات انما هو موجود سلفاً في كتابنا الكريم، الأمر الذي كثر الإهتمام بما أُطلق عليه الاعجاز والتفسير العلمي للقرآن، وليس له من علة سوى ما إعتبرناه من أنه جاء كرد فعل نفسي إزاء ما لدى الآخر من قوة. وما زال الحال كذلك إلى يومنا هذا. وهو أمر يذكّرنا بما قاله العالم السويسري لوي أغاسيز: ‹‹تمر كل حقيقة علمية كبيرة عبر ثلاث مراحل: في الأولى يقول الناس إنها تتعارض مع الكتاب المقدس، وفي الثانية يقولون: لقد سبق أن أُكتشفت من قبل، وأخيراً يقولون: لقد كنّا دائماً نؤمن بها!››[34].

وعموماً فإن إعتماد المفكر الديني على الواقع كمصدر رئيس وأساس للمعرفة جعله يبعد نفسه عن الممارسة التقليدية لدى المفسر والفقيه. وهي الممارسة التي تمعن النظر في النص عبر غور معالمه اللغوية والإلتزام بصورها الحرفية، أو من حيث الإرتباط غير المباشر بالنص عبر آليات التقليد التي لجأ إليها الفقهاء المتأخرون التابعون للأئمة الأوائل. فعلى عكس ذلك لجأ المفكر إلى التعامل مع النص؛ تارة بالتأويل والتوجيه بحسب ما تفرضه المعرفة المستوحاة من الواقع، وأخرى من حيث إعتباره مجملاً يحتاج إلى التفصيل المستمد من النظر إلى هذا الواقع وإعتباراته، كالنظر في تجارب المجتمعات والتأثر بميادين العلم. وبالتالي فقد جعل المفكر من الواقع أداة لفهم النص؛ مبعداً نفسه - في ذلك - عن التدقيقات اللغوية التي يوليها كل من المفسر والفقيه جلّ إهتمامه.

هكذا جعل المفكر الديني من الواقع أداة موظفة لدورين في علاقته بالنص:

 

أ ـ دور التفصيل

وهو الدور الذي إعتبر فيه النص مجملاً لا يُحل إجماله بالطرق التقليدية من التحليل اللغوي عادة، وإنما بفعل ما يقدمه الواقع من تفصيل، مثل لحاظ ما للسنن الكونية والإجتماعية من دور في الكشف عن مداليل الكثير من النصوص؛ من قبيل قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ))[35]، وقوله: ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ))[36]، وكذا قوله: ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ))[37].. الخ. وواضح ان وظيفة الواقع هنا لم تأتِ على حساب النص كالذي يحصل في الممارسات التأويلية عادة. فمثلاً ما أشار إليه محمد عبده وهو بصدد تفسيره لآية إختلاف الناس ((كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين))[38]، إذ علّق على الآية بقوله: أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر الآية وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا؟ وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها؟ وهل كانت نافعة أم ضارة؟ وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم. لقد أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علماً، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالاً، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة[39].

ثم أن محمد عبده اعتبر - وهو بصدد تبيان حاجة المفسّر إلى التعرف على الواقع والكشف عن دور القرآن لهداية البشر جميعاً - أن من الواجب على المفسّر أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم، ذلك لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وبالتالي كيف يفهم المفسّر ما قبّحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة إن لم يكن عارفاً بأحوالهم وما كانوا عليه؟ ثم أنه استند إلى ما قاله عن عمر بن الخطاب كما روي عنه: ‹‹إنما تنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية››، حيث بيّن أن المراد من ذلك أن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله فإنه سيجهل تأثير هدايته وكيف أن الله تعالى غيّر أحوال الناس وأخرجهم من الظلمات إلى النور ‹‹ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي، كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو، لأنه من ضروريات الحياة عندهم، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر وتأثير تلك الآداب من أين جاء››[40].

كما حاول رشيد رضا أن يبيّن دور الواقع في تفصيل ما أجمله النص، ومنه أنه فسّر قوله تعالى: ((يريد الله ليبين لكم))[41]؛ إعتماداً على ما يجري في الواقع، وذلك وهو بصدد الآيات المتعلقة بما أُحل من النكاح وقيوده وشروطه، فجاءت تلك الآية التي علّق عليها بقوله: ‹‹هذا ما فتح الله به علينا في بيان المراد من الآية من حيث إنه لم يذكر معمول (ليبين) لنلتمسه من سنن الفطرة بمعونة ارشادنا إلى كون ديننا دين الفطرة ((فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) (الروم\30)، فقد جاءت هذه الآية بعد آية الزوجية بثمان آيات. وقال تعالى: ((وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون)) الذاريات\19ـ20››[42].

فهذا هو دور الواقع في تفصيل ما أجمله النص.

 

ب ـ دور التوجيه والتأويل

وهو الدور الذي يغلب أثره عند ربط النص بمباحث العلوم الطبيعية، وكذلك ميادين السنن الكونية والإجتماعية. وقد قام محمد عبده بتبرير إدخال العلوم الطبيعية في الفهم والتفسير من خلال تأويله لآية ((يتلو عليهم آياته))[43]؛ مفسراً إياها بأنها بيان الآيات الكونية والإستفادة منها والإعتبار بها[44]. وأن الكواكبي اعتبر المباحث العلمية الحديثة تبياناً للإعجاز القرآني، حتى أخذ يعدد الكثير من الآيات التي لم يعرف مضمونها الحقيقي إلا بفعل المكتشفات الحديثة.

كذلك قام الشيخ طنطاوي جوهري (المتوفى سنة 1940م) بتقسيم الدين إلى علمين: أحدهما علم الآفاق والأنفس، أي معرفة العوالم العلوية والسفلية، والآخر علم الشريعة. وزعم أن ديننا يأمرنا بذلك، وإلا ما الفرق بين قوله تعالى: ((قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))[45]، وقوله: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ))[46]؟ فكلاهما أمر، والأمر دال على الوجوب، فإذا كنّا قد قرأنا الأحكام الشرعية وقضينا بها؛ فلنقرأ - أيضاً - العجائب الكونية ولنعمل بها[47]. لا سيما أن القرآن - برأيه - يتضمن ما يربو على سبعمائة وخمسين آية كلها في عجائب الكون ومنافعه وغرائبه، وهي أكثر مما يتضمنه من الأحكام الشرعية، حيث إن آيات الفقه والأحكام الصريحة لا تزيد على مائة وخمسين آية[48]. وبالتالي حسِب أن علوم الطبيعة والكائنات أفضل من علوم الفقه وأحق بالرعاية؛ لكونها دالة على الله والتوحيد ولأن فيها نظام الأمم وحياتها[49]. لذلك نقد المسلمين لإهمالهم العلوم الأولى وحصروا إهتمامهم في الفقه وأصوله[50]، ورأى أنهم وإن حافظوا على الكتاب الكريم لكنهم خالفوا نهجه في الحض على النظر في الكون والتعقّل والتفكّر، وناموا على الوضوء والنجاسات والبيع والفرائض[51]. لهذا ولع هذا الشيخ بالتفسير العلمي كولع الفخر الرازي بالجدل الكلامي في تفسيره الكبير، فكلاهما لم يترك للنص حيّزاً من البحث والتداول كما هو في ذاته. وقد وصف إبن حيان الفخر الرازي في (البحر) بأنه جمع كل شيء إلا التفسير، وكذلك إتّهم البعض طنطاوي جوهري بأنه قام بإلصاق كل شيء بالدين حتى كاد يجعل القرآن كله علوماً طبيعية، مثلما كاد الفقيه يجعل من القرآن فقهاً فحسب، كالذي فعله القرطبي في (جامع أحكام القرآن)[52].

يظل أن الجمع والتوفيق بين العلمين الكوني والديني كان يشوبه الكثير من التعسف في التأويل لصالح الواقع والنظريات العلمية. فمثلاً قام محمد عبده بتحميل العديد من الآيات ما لا تحتمله من معاني التفسير العلمي مما جعله عرضة للنقد. ومن ذلك أنه فسر سورة الفيل تفسيراً قائماً على المكروبات والجراثيم، فجوّز أن تكون الطير الوارد ذكرها في السورة هي بعض الحشرات كالبعوض والذباب، كما وجوّز أن تكون الحجارة هي جراثيم بعض الأمراض. كما جوّز رشيد رضا إعتبار الجراثيم المرضية (المكروبات) نوعاً من الجن[53]. كذلك قام الكواكبي، هو الآخر، بتأويل وتوجيه عدد من الآيات طبقاً لما ساد من نظريات وحقائق علمية، كحدوث الجدري الذي أصاب أصحاب الفيل بالمكروب ((وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل))[54]، وامتلاء الكون بالأثير وأنه أصل مادة الحياة ((ثم استوى إلى السماء وهي دخان))[55]، وأن القمر منشق من الأرض ((أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها))[56].. ((اقتربت الساعة وانشق القمر))[57]، وكالإخبار عن المركبات البخارية والكهربائية ((وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون))[58]، وكذا الإخبار عن إمساك الظل أو التصوير الشمسي ((ألم ترَ إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً))[59]، وأيضاً تطور الكائنات الحية تبعاً لنظرية داروين ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين))[60].. والكواكبي لا يجد في كل ذلك ما يخالف أصلاً دينياً كما هو الجاري لدى الفقهاء والمفسرين التقليديين[61].

مع هذا نشير إلى أن للمفكر الديني دوراً في التعامل المعاكس لما قدمنا؛ وذلك بجعله مقاصد النص ومبادئه العامة تتخذ إطاراً من التوجيه لمفاصل المعرفة المستمدة من الواقع. وبالتالي فإن العلاقة بين النص والواقع لدى المفكر الديني مزدوجة، فالمعرفة المستمدة من كل منهما تؤثر في الأخرى. لكن بشكل عام يمكن القول بأن المفكر الديني يحفظ للنص مقامه ليس في التكوينات الجزئية مثلما هو الحال لدى الفقيه؛ وإنما في التوجيه الكلي بإعتباره مصدراً للهداية والارشاد مثلما سيتضح لنا ذلك فيما بعد.

 

3ـ الميل إلى التفسير السنني

لقد مال المفكر الديني إلى الأخذ بالأسباب الطبيعية وكذا التفسير السنني للنصوص التي تتحدث عن الأحداث والوقائع، مع الإبتعاد عن التفاسير القائمة على الخوارق الغيبية غير الطبيعية، اتساقاً مع المنهج العلمي المتبع في الغرب، بل وإعترافاً بما له من فضل في التنبيه على ذلك كما سيأتي ذكره. فهذه التوفيقية هي التي نادى لها رشيد رضا معتبراً أن الله أقام سنناً طبيعية مجبرين عليها، ووكل إلينا إقامة سنناً تشريعية مختارين فيها، فإذا لم نوفق باختيارنا بين النوعين من السنن فإنه سيثبت الجبري ويبطل الاختياري[62].

لهذا لم يتقبل المفكر الديني ما يُنقل من نصوص ظاهرها يدل على الخوارق غير العادية ما لم تثبت ثبوتاً قطعياً. فقد عمل على تكذيب الخبر المنافي للسنن إن كان غير قطعي السند مما يرجع إلى أخبار الآحاد، أو سعى إلى تأويله إن كان السند فيه قطعياً كما في الآيات القرآنية الكريمة. وهذا النمط من التعامل مع النصوص هو الجاري في تفسير الشيخ الإمام وتلميذه، حيث ممارسة التأويل للنصوص القطعية التي تتصف بالغيبية أو تبدي جوانب خرق العادة، ومن ثم اضفاء الصبغة السننية على المعنى المأول وجعل الفكر الإسلامي يحمل معان معقولة برد الأمور إلى التجارب والمشاهدات الحياتية والعلمية؛ بحيث تتسق مع الإكتشافات الحديثة وتقرّب المعنى إليها، كما يلاحظ في التأويلات التي لاحت قضايا ومفاهيم قرآنية ظاهرها غيبي وتحويلها إلى معانٍ طبيعية لها شواهد من الواقع، مثل مفاهيم الجن والشيطان وما تضمنته سورة الفيل وغيرها، خلافاً للنهج الذي سلكه الفقيه والمفسر التقليدي.

وهناك توجيهات للآيات تخدم الغرض من التفسير السنني، وهي ليست بتأويلات بالمعنى الذي يبعد عن ظاهر النص. ومن ذلك أن محمد عبده قام باضفاء الصبغة السننية والافادة من الواقع في تفسير الآيات التي تتحدث عن القرار الإلهي في اختيار الإنسان خليفة له في الأرض مع اعتراض الملائكة ورد الباري وعرض الأسماء عليهم وسجودهم لهذا الخليفة وعصيان ابليس عن السجود، فكل ذلك تناوله الشيخ الإمام بطريقة قرّب فيها المعاني الغيبية إلى صور منتزعة عن حقيقة الواقع البشري والسنن التي تحكمه .

 

4ـ إعادة الإعتبار للمصلحة والمقاصد

أعاد المفكر الديني إعتبارات المصلحة والمقاصد خلافاً للفقيه الذي لم يولِها – عادة - الإهتمام الكافي، بل ولا يقر بها إن كانت على خلاف المنصوص فيه، بدلالة رفض الفقهاء ما جاء به نجم الدين الطوفي من قبول ترجيح المصلحة على حكم النص عند التعارض. في حين جاء المفكر الديني ليحيي هذه الناحية ويفعّل دورها وتطبيقها على القضايا المستجدة والمعاصرة. الأمر الذي جعل البناء المعرفي للمفكر يختلف إنتاجاً عن المألوف لدى الفقيه.

فالسيد رشيد رضا إعتبر أن المراد بكلمة (الفقه) كما وردت في نصوص الشريعة ومنها النصوص النبوية؛ هي معرفة مقاصد الشريعة وحكمها، وليست هي علم أحكام الفروع المعروف. فالمعنى الأخير مستحدث مثلما بيّن ذلك الغزالي والحكيم الترمذي والشاطبي وغيرهم. وعلى ذلك كان رؤوس المسلمين في عصر النبي والخلافة الراشدة من أهل هذا الفقه المقاصدي في الغالب[63]. وهنا تأتي أهمية كتاب (الموافقات في أصول الشريعة) للشاطبي عند السيد واستاذه الذي كثيراً ما كان يوصي طلابه بالإهتمام بدراسة الكتاب والتحقيق فيه، كما ينقل ذلك المرحوم عبد الله دراز في مقدمة تحقيقه للكتاب. كذلك فإن رشيد رضا قام بنشر رسالة نجم الدين الطوفي (في رعاية المصلحة) في أحد أعداد مجلته (المنار)، وأيد ما جاء فيها من نظرية.

فإبتداءاً إن السيد واستاذه رأيا أن العمل برأي أولي الأمر في كل زمن بشرطه - فيما ليس له حكم في الكتاب والسنة - هو أولى من العمل برأي فقهاء القرون الخالية، بإعتباره أقرب للمصلحة. لذا أشرط أن يكون أصحاب الرأي عالمين بالنصوص ومقاصد الشريعة وعللها، كي لا يخالفوها وليتيسر لهم رد المتنازع فيها إليها[64]. أما من حيث الموقف المعرفي من نظرية الطوفي، أو علاقة المصلحة بالنصوص، فالملاحظ أن رشيد رضا يجعل التعارض بين المصلحة العامة والعمل ببعض النصوص إنما يعود إلى التعارض بين النصوص، لأن مراعاة المصلحة مؤيدة بها. وهذا هو أهم مبررات الطوفي في ترجيح المصلحة على حكم النص، مشيراً إلى أنه قلما يوجد في الكتب المتداولة بحث مشبع في هذه المسألة الهامة التي تتوقف عليها حياة الشريعة والعمل بها ‹‹وإنك لترى المشتغلين بالفقه لا يبالون بتقديم نصوص علماء مذاهبهم على العمل بما تحفظ به المصلحة العامة، فما بالك بنصوص الكتاب والسنة››[65]. لكنه مع هذا أشار في محل آخر إلى تقييد العمل بأصل المصلحة في قبال النصوص ضمن حدود لم ترد لدى الطوفي كما سيتضح عما قريب.

ومن حيث التطبيق تعتبر قضية الرق أهم القضايا التي عولجت تبعاً للمقاصد. فقد أخذ تيار المثقفين يتنكرون للرق ويقدرون أن الشريعة حاربته بالتدريج، وعلى حد قول الشيخ الإمام، كما نقله الكواكبي وأيّده فيه، بأن ‹‹قصد الشريعة الإسلامية إبطال الرق أساساً بالتدريج››[66]. كما أن رشيد رضا برر جواز منع الرقيق بتحريم المباح طبقاً للمصلحة، وذلك أنه جعل المصلحة أصلاً في الأحكام السياسية والمدنية يرجع إليه في غير تحليل المحرمات أو إبطال الواجبات[67]. وكأنه يريد أن يقول إن تحليل المحرمات وإبطال الواجبات غير جائزين، لكن تحريم المباحات أو ايجابها جائز طبقاً للمصلحة، وهو ما ينطبق على قضية الرق. وبمثل هذا الإعتبار يمكن تبرير فتوى تحريم محمد عبده للزواج المتعدد[68].

ولا شك أن مثل هذه الأحكام وتبريراتها هي على خلاف الموروث الفقهي.

 

5ـ الإهتمام بالحقوق الإنسانية العامة

لقد اهتم المفكر الديني بقضايا الحقوق الكلية التي تهم المجتمع والأمة، خلافاً للفقيه الذي حصر إهتمامه في القضايا الجزئية بالتفريع والتوسيع. وإن هذا الفارق يعود إلى إختلاف المصادر التي يعولان عليها في الأخذ والإعتبار. فبينما يقتصر الفقيه على النص وسلطة السلف عادة؛ فإن المفكر يجد في الواقع ومقاصد التشريع المدار الأكبر لحركته المعرفية ونشاطه الإنساني. وبالتالي كان له موقف واضح وصريح إزاء حقوق الإنسان؛ تأثراً بالمصدرين السابقين.

فهو ينادي بالعدل والحرية والمساواة من دون تمييز ديني بين الناس. وهو يدافع عن حقوق المرأة ويساويها مع الرجل في قضايا كثيرة خلافاً للرؤية السائدة في التركة الفقهية. كذلك أنه يدعو إلى الدستور وتقييد صلاحيات الحاكم؛ خلافاً لمفاهيم الفقه التقليدي عن الخلافة وسلطتها غير المحدودة، إذ هي تنعقد بقيد، لكنها ما أن تنعقد فإنها تصبح طليقة بلا تقييد ملزم سوى ما هو صريح الشرع. فهذا هو الإتجاه الذي آل إليه الطهطاوي والتونسي والأفغاني والنائيني والكواكبي وغيرهم. والذي لفتهم إليه هو التجربة الغربية. فكما رأى رشيد رضا أن الحكم الدستوري المقيد لم يلتفت إليه المسلمون إلا من خلال رؤية الغربيين ومعاشرتهم رغم أنه واضح وصريح في القرآن. الأمر الذي جعل المفاهيم الغربية تختلط بالإسلامية، ومن ذلك ما ظهر من خلط بين المفاهيم الثلاثة التالية: الشورى والديمقراطية والإشتراكية. فمثلاً أن الكواكبي رأى أن الإسلام مؤسس على أصول الحرية برفعه كل سيطرة وتحكّم، وبأمره بالعدل والمساواة والقسط والأخاء، وبحضه على الاحسان والتحابب، وقد جعل أصول حكومته الشورى الارستقراطية أو ما يطلق عليه شورى الحل والعقد في الأمة، كما وجعل أصول إدارة الأمة التشريع الديمقراطي، أي الإشتراكي[69].

وما يعنينا هنا أن المفكر الديني هو الذي لفت العقول إلى وجود التقييد في الحكم الدستوري في القرآن والإسلام، وذلك بفعل المرجعية الواقعية والإفادة من الخبرة البشرية. أما الفقهاء فلم تسعفهم أدواتهم بإكتشاف ذلك التقييد أو الإعتراف به تبعاً للمسلك الجزئوي الذي سلكوه بعيداً عن إعتبارات الموجهات الكلية في النص.

 

6ـ الحساسية إتجاه الواقع الإجتماعي والسياسي

يمكن القول إنه بفعل تأثر كل من المثقف والفقيه بمصادره المعرفية؛ فإنه تنشأ لكل منهما حساسية خاصة تختلف عما لدى الآخر حيال ما يواجهانه من قضايا. فالذي يثير حساسية المثقف الديني هو قضايا الواقع الإجتماعي والسياسي، لا سيما تلك التي تتعلق بالمصالح والحقوق العامة. في حين إن ما يثير الفقيه هو القضايا الدينية من الشعائر والحدود والعبادات وما إليها.

وبعبارة أخرى، إن ما يثير المثقف هو الواقع، وما يثير الفقيه هو النص أو الدين. لذا تجد الأخير لا يمانع عادة من مداهنة السلطان المسلم الظالم، ويمتنع من أن يفعل نفس الشيء مع السلطان الكافر العادل. وعلى خلافه يلجأ المثقف الديني، حيث يميل إلى مداهنة السلطان العادل وإن كان كافراً ويفضله على السلطان الظالم وإن كان مسلماً.

على ذلك نجد الكواكبي كثيراً ما يمجد الحكومات الغربية ويفضلها على الحكومات المسلمة تبعاً لإعتبارات العدالة وخدمة المجتمع. فهو قد شكر اوروبا في منعها الرقيق[70]، كما وامتدح التشريع الغربي وعدّه حبل الله لأنه في يد الأمة[71]. كذلك أنه فضّل أن يحكمنا الملوك الغربيون عن أن يحكمنا الرؤساء المسلمون؛ معتبراً أن الأوائل أفضل من الآخرين وأولى منهم حكماً، شرعاً وعقلاً، لكونهم أقرب إلى العدل وأقدر على إعمار البلاد وترقية العباد ومن ثم تحقيق المصالح العامة، مؤيداً وجهة نظره هذه بفتوى الفقيه رضي الدين علي بن طاووس الذي أفتى بتفضيل الحاكم العادل الكافر على المسلم الجائر، أيام السلطان هولاكو[72]. ونحن نعلم ما ينقله إبن تيمية عن بعض مشايخه وما يقوله في تلك الأيام من الحملة المغولية، وهو أن ‹‹الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء››[73].

وتبعاً للحساسية الواقعية فإن مفكرنا هذا قد رجّح الوفاق الوطني والقومي على الديني والمذهبي، حيث دعا إلى المساواة والأخاء والوطنية مع غير المسلمين، ومجّد ما إستطاعت إليه امريكا والنمسا في الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق القومي والوطني دون المذهبي. وهو القائل بعد ذلك مباشرة: ‹‹دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط. دعونا نجتمع على كلمات سواء، إلا وهي: فلتحي الأمة، فليحي الوطن، فلنحي طلقاء أعزاء››[74]. وفي القبال إعتبر الدين سلاحاً ذا حدين، إذ يكون فعالاً في الإصلاح والافساد، في الخير وفي الشر. وقد عدّه أقوى تأثيراً من السياسة في ذلك[75]. بل وإعتبر الإستبداد السياسي متولداً عن الإستبداد الديني. الأمر الذي إهتم فيه بعلوم الحياة والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الإجتماع والسياسة المدنية؛ معتبراً أنها هي التي يخاف منها المستبدون دون غيرها من قضايا الدين التقليدية، لهذا فقد رجحها على العلوم الدينية[76].

وعلى العموم يمكن القول إنه إذا كان هناك تمييز بين حق الله وحق الإنسان فالملاحظ أن الحساسية الثقافية يغلب عليها الدفاع عن الحق الأخير، خلافاً للحساسية الفقهية التي تنحو باتجاه الدفاع عن الحق الأول.    

فقد كانت العصور القديمة تخضع لمنهج (حق الطاعة)، وبه يتأسس ما نطلق عليه ‹‹تديين الواقع››. أما بعد الوعي النهضوي فقد أصبح الحال معكوساً - من بعض الوجوه - نتيجة تطور الواقع، إذ برز منهج جديد يتعامل طبقاً لإعتبارات (المصلحة) والذي تتأسس عليه طريقة ‹‹توقيع الدين››.

لكن ننبّه على ان العلاقة بين الواقع والدين ليست علاقة تنافر وتضاد. وبالتالي فإن عملية ‹‹تديين الواقع›› لا تقع في تناقض مع عملية ‹‹توقيع الدين››، وذلك فيما لو أخذتا على شرط الاعتدال والتوسط دون افراط وتفريط. فمثلاً إذا كنا في قضية القضاء والقدر نفسر الاحداث تبعاً للمشيئة الإلهية وهي أنها المتحكمة فيما يجري من امور، كطريقة يراد منها ‹‹تديين الواقع›› فإن العكس لا يناقض ذلك، فلو قلنا ان الاحداث تجري ضمن سلسلة من السنن التي تتفاعل مع ارادة الإنسان هي التي تحدد مصير الأخير في النهاية، لم يكن هذا مناقضاً للسابق. فالسنن تارة نعتبرها سنناً طبيعية لأنها مدركة في عالم الشهود، وهي من هذه الجهة تكون واقعية لا غيبية، وأخرى نعتبرها تمثل سنن الله المجعولة، فتكون من هذه الجهة غيبية لا واقعية. فلو قلنا إن مصير الإنسان تحكمه السنن والظروف لكان التفسير واقعياً، ولو قلنا ان هذا المصير تحكمه المشيئة الإلهية لكان التفسير دينياً، وكلاهما لا يتناقضان، طالما ان السنن غير مفصولة عن المشيئة الإلهية.

 

7ـ التأثر بالواقع الغربي

لعل أهم ما يلفت النظر هو أن المفكر الديني لا ينكر فضل الغرب في تعريفنا بما لم ينتبه إليه فقهاؤنا وعلماؤنا من قبل. وهو يعي هذه المفارقة الحادة، حيث الزعم أن ما اكتشفه الغرب هو ذاته ما كان يؤكد عليه الإسلام والقرآن، رغم أن علماء المسلمين قد غفلوا عنه كلياً. مما جعل بعض المفكرين الدينيين لا يتحفظ من إبداء الخجل أمام هذه المفارقة الجسيمة، فكما قال الشيخ حسين النائيني وهو بصدد تبرير الديمقراطية أو ما يطلق عليها الشوروية العمومية: ‹‹مع مزيد الأسف والحسرة ما أشد جهلنا - عبدة الظالمين وحاملي شعبة الإستبداد الديني - بمداليل الكتاب والسنة وأحكام الشريعة وسيرة النبي المطهر والإمام المكرم.. وترانا عوضاً من أن نقول في حق الشوروية العمومية: هذه بضاعتنا ردّت الينا، نعدها مخالفة للقانون الإسلامي، فكأننا لم نقرأ تلك الآيات الواضحة الدلالة أو لم نحصل على مفادها››. ثم أنه في محل آخر يقول: ‹‹أما اليوم وقد حصلنا بعد اللتيا والتي على شيء من التنبه والشعور، وقمنا نأخذ مقتضيات ديننا من الأجانب مع تمام الخجل قائلين هذه بضاعتنا ردّت إلينا››[77].

وقبل ذلك كتب رشيد رضا عام (1907م) وهو بصدد إثبات الحكم الدستوري يقول: ‹‹لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم (الدستوري) هو أصل من أصول ديننا استفدناه من الكتاب المبين وسيرة الخلفاء الراشدين لا من معاشرة الاوروبيين والوقوف على حال الغربيين، فإنه لولا الإعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام، ولكان أسبق الناس إلى الدعوة لإقامة هذا الركن علماء الدين في الأستانة وفي مصر ومراكش، وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤكد حكومة الأفراد الإستبدادية ويعد من أكبر أعوانها... فلولا اختلاطنا بالاوروبيين لما تنبهنا من حيث نحن أمة أو أُمم إلى الأمر العظيم، وإن كان صريحاً جلياً في القرآن الحكيم››.

وعلى هذه الشاكلة كتب عام (1909م) وهو بصدد التأكيد على الأخذ بالأسباب والسنن الطبيعية فقال: أما قول البعض ‹‹إن الأخذ بالأسباب والعمل بمقتضى السنن الطبيعية وانطباق ذلك بحسب إجتهادنا على القرآن لم يكثر ولم ينتشر عند بعض المسلمين إلا بسبب ما رأوه من تقدم الأمم الغربية باتباع هذه السنن وسبب ضغط اوروبا على الكثير منهم؛ فهو صحيح في الجملة ولا يضرنا أن تعدّنا حوادث الزمن للعمل بما يرشدنا إليه القرآن، وأن نفهم منه ما لم نكن نفهمه نحن ولا آباؤنا الأولون. فإن كلام الله تعالى بحر لا تنفد حِكَمه، بل هي تفيض في كل عصر على المستعدين بما يناسبه››[78].

مهما يكن فقد تأثر المفكر الديني بالواقع الغربي وسلّم بالكثير من منتجاته الحضارية، جاعلاً لهذه المنتجات أصولاً إسلامية لتمريرها في أوساط الأمة؛ تبعاً لمقولة: هذه بضاعتنا رُدت الينا. وواضح أن الاستعارة لا تتوقف عند حدود البضائع المادية، وإنما تمتد إلى المفاهيم والمبادئ النظرية، كالإعتراف بالمساواة والحريات العامة والإشتراكية والوطنية وغيرها مما يعتبرها الفقيه أجنبية تتصادم مع النص ولا تتلاءم مع المرجعية الدينية.

فالطهطاوي مثلاً هو أول من تحدث عن الوطنية ودعا إلى الإعتزاز بالتاريخ المصري والتراث الفرعوني، كما وادخل النشيد الوطني، وأول من كتب عن ‹‹الوطنية القومية››. كما ودعا إلى الدستور والحرية[79]. وكذا هو الحال مع محمد عبده والكواكبي فيما تأثرا فيه بجملة من مفاهيم الغرب وأفكاره، ومن ذلك مبادئ الثورة الفرنسية المتمثلة بالحرية والأخاء والمساواة[80]. وعلى هذه الشاكلة ما قام به محمد اقبال من توظيف عقيدة التوحيد إلى معان آيديولوجية تتسق والمفاهيم الغربية، حيث اعتبر هذه الفكرة - التوحيد - قابلة لأن يستخلص منها مفاهيم يمكن تنفيذها على مستوى المساواة والاتحاد والحرية[81]. فهنا أن العقيدة قد تم توظيفها في خدمة الآيديولوجيا الإجتماعية، خلافاً لمسلك الفقيه الذي يتحفظ من التعاطي مع المعاني العقدية، وكذا التأثر بالعناصر الأجنبية والغربية.

يضاف إلى أن المفكر الديني استحسن جملة من الممارسات والنشاطات الفنية المزدهرة في الغرب، ومن ذلك النحت والرسم وإقامة المسارح والتمثيل، فضلاً عن تذوق الموسيقى والغناء وما إليها. مع أن ذلك يعد من الممارسات غير الشرعية لدى الفقيه في الغالب. وبالتالي يعود الفضل في كل ما نجده اليوم من مفاهيم إنسانية ومستحدثات حضارية راسخة إلى ما بذله كل من المثقف الديني والعلماني من جهود مضنية لزرع وإنبات هذه القضايا في واقعنا المعاصر.

 

8ـ المرونة والإنفتاح على الآخر

يعتبر المثقف أكثر مرونة وإنفتاح على الآخر من الفقيه، سواء كان الآخر ينتمي إلى الدائرة الإسلامية أو خارج عنها. ففي الدائرة الداخلية أنه يخالف نزعة الفقيه التي تمرست على الدعوة إلى الفرقة والتمذهب والتضليل تبعاً لمقالة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال. والمثقف الديني على خلاف الفقيه يتوق إلى جمع الشمل ويؤمن بالأخوة الصادقة بين الطوائف الإسلامية، بل وينحاز إلى الأخوة العالمية الشاملة[82]. فلسان حاله يقول إنه في الفهم ليست هناك حاجة أعظم من أن يحمل الدين شعار النزعة الإنسانية العامة دون إستثناء.

فمثلاً إن بفعل المرونة والتطلع إلى تجارب الأمم نجد للكواكبي أحاسيس تسع لعالم الإنسانية كلها، فيرى أن الناس جميعاً هم قومه وليس قبيلته، والأرض هي وطنه وليس بلده الذي ولد فيه وترعرع، معتبراً ذلك من جملة الكمالات بالخصال[83]. لكن التفضيل عنده هو بحسب التقوى التي فهمها فهماً يختلف عما لدى الفقيه وهي أنها تعم غير المسلمين بإطلاق[84]. وفعلاً إنه لا يتحفظ من ثنائه ووثوقه بالآخر المتمثل في الغرب؛ لِما قدّمه من تشريعات وتنظيمات اعتبرها هي نفسها التي يقصدها الدين ويرضى بها الله تعالى[85]. وأكثر من هذا فقد بشّر بقرب ميلاد مجتمع إشتراكي بلا دولة، أو بمجتمع ‹‹العولمة›› الذي تحكمه الشركات[86]. فهو يمتدح المعيشة الإشتراكية معتبراً إياها من أبدع ما تصوره العقل، مثنياً بذلك على بعض الحكومات التي لم تسمح بالتملك إلا ضمن حدود ضيقة[87].

***

إذاً يتضح مما قدمنا أن المسالك المعرفية بين المفكر الديني والفقيه هي جد مختلفة، وأن المفكر كان يعي تمايزه عن الفقيه والقطيعة معه، ويرى نفسه رسول الإصلاح، سواء على الصعيد المعرفي بإعادة فهم الدين فهماً حضارياً مؤدلجاً من دون تصادم مع الإنفتاح الحضاري ومتطلبات العصر، أو على الصعيد الإجتماعي عبر العمل على توعية الأمة ودفعها بالطريق التي يكون لها شيء من الحق والخيار.

ومن حيث معارضته لمسلك الفقيه فقد عبّر الكواكبي عن ذلك بقوله في (أم القرى) على لسان أحد أعضائها المجتمعين: ‹‹وعندي أن داءنا الدفين: دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين، وبعبارة أخرى تحت ولاية الجهال المتعممين››[88].

ومن المعلوم أيضاً ما كان يبديه محمد عبده من نفرة لمسلك الفقيه التقليدي، حتى أنه هوجم لمعارضته لنظام الأزهر القديم، وقيل له في التدليل على مصداقية هذا النظام بأنه قد تعلّم ووصل عن طريقه إلى أرقى الدرجات، فأجاب: ‹‹إن كان لي حظ من العلم الصحيح فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة››[89].

كذلك فإن لجمال الدين الأفغاني كلمة بالفارسية ينكر فيها ما تسالم عليه رجال الدين من رؤى ومعارف؛ منبهاً الناس بالتخلي عما جاءوا به من شريعة وهمية لا تمت إلى حقائق الدين بصلة، إذ قال وهو يخاطب الإيرانيين: ‹‹ان وطننا العزيز ايران يسير في سياسته في طريق معوج، وفي ديانته في طريق معوج. أيها الناس تمسكوا بحقائق الدين المحمدي، إن الذي تتمسكون به الآن هو شريعة الملالي، وهي غلط، فقد كتب كل ملا - أي رجل دين - كتاباً على مقدار تفكيره وليس ذلك الملا مقصراً فيما كتب، إذ إن مقدار تفكيره ومعلوماته كانت محدودة إلى هذه الدرجة، ولو أننا جمعنا كل هذه الكتابات وأضفناها إلى بعضها لما تمكنت أن تزيد في عظمة الإسلام، بل العكس تصغره››[90].

مع هذا فمن الناحية المعرفية إن ما يؤاخذ عليه الرواد من المثقفين الدينيين هو أن ربطهم للواقع بالدين لم يكن ربطاً يحمل تنظيراً ابستيمياً. فالعلاقة التي اجريت بينهما هي علاقة يغلب عليها الطرح الآيديولوجي، فهم عاشوا في عصر اتصف بالانبهار لكل ما ظهر للغرب من مكاسب. وقد انعكس هذا الانبهار على محاولاتهم الرامية إلى التوفيق بينهما، فأخذوا يتعللون إما بالإلتفاف على المكاسب الغربية وإعتبارها مكاسب إسلامية في الأصل، أو بالسعي نحو إبراز الإتفاق بين النصوص الدينية ونظريات الغرب ومنتجاته العلمية، وإن أدى هذا إلى جر النصوص إلى حلبة التأويل والتلاعب والإلتفاف. وفي الجملة رؤوا أنه لا بد من أن يفسروا الشريعة على ضوء الحاجات الحديثة وما اقتضى ذلك من التأثر بالعالم الغربي ومفاهيمه العلمية والثقافية.

على أن نقطة الخلل في ذلك هي عدم معالجتهم الإشكاليتين الدينية والواقعية - ومنها العلمية - كلاً على حدة، قبل المبادرة إلى لحاظ ما بينهما من توافق أو تعارض.

أما من جاء بعد هؤلاء، وهم يشكلون مختلف الحركات الثقافية والسياسية الإسلامية، فيلاحظ أن منهم من التزم بالخط الذي أسسوه، عبر الجمع بين الكتابين الكوني والنصي بإعتبار ما لأحدهما من إكمال للآخر، مثلما يظهر لدى الإتجاه الذي يحمل سمة (إسلامية المعرفة)، والذي يعتبر الواقع مصدراً آخر للمعرفة يضاف إلى النص. فتأسيس الفكر الإسلامي أو إسلامية المعرفة لدى هذا الإتجاه يتم عبر ‹‹الإعتماد على المنهجية المعرفية القرآنية التي تجمع بين قراءة الوحي وقراءة الوجود، أو منهج الجمع بين القراءتين››[91].

فإسلامية المعرفة تجعل من القرآن الكريم - ذاته - هو من أسّس القراءتين معاً. فمثلاً جاء في أول كلمة للوحي قوله تعالى: ((إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم))[92]، وبالتالي فإن القراءة المأمور بها في هذه الآيات ما هي إلا ‹‹تعبير يتسع ليشمل المسطور في الكتب والمنشور في الوجود، فسور الكتاب تقرأ وآفاق الكون تقرأ، وتتلازم القراءتان حتى ينتج من هذا التلازم علوم ومعارف وخبرات وتجارب، يقام عليها العمران وتنبثق منها حضارة الإيمان››[93]. الأمر الذي يذكرنا بما مرّ علينا من تأويل محمد عبده لقوله تعالى: ((يتلو عليهم آياته))، إذ إعتبر المقصود من معنى (الآيات) في هذه الآية بأنها الآيات الكونية لتبرير إدخال العلوم الكونية في التفسير.

والغرض من هذه القراءة هو أن يُقرأ الوحي والكون بمنهجية واحدة من دون نزاع وتضارب بين المعرفتين المستلهمتين منهما[94]. وبالتالي فإن إسلامية المعرفة هي منهج معرفي ‹‹يمثل بديلاً للمادية والوضعية المتجاهلة لله وللغيب من ناحية، كما يمثل بديلاً عن اللاهوتية والكهنوتية المستلبة للإنسان والطبيعة من ناحية أخرى››[95]. أي أنها بالتالي بديل عن توجه كل من المثقف العلماني والفقيه. وعليه إن ما تهدف إليه هو ‹‹إعادة النظر في علوم ووسائل فهم النص وخدمته وقرائته، قراءة الجمع مع الكون والتداخل المنهجي معه، وتخليصه من كثير من أنواع التفسير والتأويل والربط الوثيق النسبي، من خلال إسقاط الإسرائيليات، والربط الشديد بأسباب النزول والمناسبات››[96]. وهي تقارب ما كان يطمح إليه الرواد من المفكرين الدينيين.

لقد غلب على المثقف الديني خضوعه تحت تأثير الواقع المعاصر وحكمه؛ رغم ما يزخر به الأخير من أشكال نسبية. إذ جعل منه روحاً كلية قابلة للإسقاط والتطبيق على مختلف البيئات والتشكيلات. فإهتماماته بالقضايا المثارة حالياً؛ كقضية الحداثة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والمواطنة والمساواة وغيرها؛ ليست معزولة عن التأثير الحاسم للفكر الغربي، حتى تمّ إرجاع جملة من المبادئ المفرزة غربياً إلى أصول إسلامية، كدلالة على التأثير الغربي بجعل المثقف يستهوي ما ينتجه الغرب حيال الجمود الذي حطّ بالفقيه.

هذا فيما يخص أولئك الذين اتبعوا النهج الذي سار عليه الرواد من المثقفين الدينيين. لكن في قبالهم ظهر الكثير ممن لم يسلك هذا الخط الذي ارتاده سلفهم، بل إن بعضهم اتخذ طريقة معاكسة بالرجوع إلى النص كلياً؛ متجاهلاً بذلك الواقع، بل ومكفراً له أحياناً. وربما يعود سبب ذلك إلى غياب التنظير الابستيمي في ربط النص بالواقع، مما جعل بعض الشخصيات الريادية البارزة تؤول إلى جعل إعتبارات المصدرين بعضها بجنب البعض الآخر من غير لحاظ ما يطرأ عليهما من تعارضات وإشكاليات، فتارة تراه سلفياً حرفياً، وأخرى واقعياً عقلياً.


[1] مثلاً يرى إبن المقفع أن إختلاف الأحكام على قسمين: أحدهما ناتج عن شيء مأثور عن السلف لم يجمع عليه، حيث يراه قوم بوجه، ويدبره آخرون على وجه آخر. وفي هذا القسم يوجب إبن المقفع أن يُنظر ويؤخذ بأحق الفريقين بالتصديق وأشبه الأمرين بالعدل. أما القسم الثاني فهو الإختلاف الناتج عن الرأي تبعاً للقياس والمقايسة، حيث قد يكون الغلط في أصل المقايسة، ويبتدئ الأمر على غير مثاله. وقد يكون الغلط لطول ملازمة القياس وعدم مفارقته في الأحكام والدين. وبرأي إبن المقفع أن الذي يتصف بهذه الصفات إنما يقع في الورطات ويمضي على الشبهات ويغمض عن القبيح الذي يعرفه ويبصره وذلك كراهة ترك القياس. إنما القياس على رأيه عبارة عن دليل يستدل به على المحاسن، فإذا كان ما يقود إليه حسناً معروفاً أخذ به، واذا قاد إلى القبيح المستنكر تُرك، لأن المبتغي ليس القياس يبغي ولكن محاسن الأمور ومعروفها. وأما من يتبع القياس للقياس فإنه يجد نفسه في صدام مع محاسن الامور. فمثلاً أن القايس يدرك أن الصدق حسن كما تدل عليه مختلف الشواهد، وانه بحسب القياس يستنتج أن الصدق ينبغي أن يكون على الدوام هو المطلوب، لكن لو سُئل عن رجل هارب ممن يريد قتله؛ هل يحسن الكشف عن مخبئه لمن يعرفه بدعوى حسن الصدق وقبح الكذب؟ وواضح أن الصحيح هنا هو الكذب، وبالتالي كُسر القياس وتُرك ومن ثم تم الإنصراف إلى المجمع عليه، وهو المعروف والمستحسن (رسالة الصحابة، ضمن آثار إبن المقفع، ص354ـ355).

[2] أبو عبد الله الجهشياري: كتاب الوزراء والكتّاب، تصحيح وتحقيق ومراجعة عبد الله اسماعيل الصاوي، مطبعة عبد الحميد أحمد حنفي بمصر، ص48، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: http://www.mediafire.com.

[3] نفس المصدر السابق، ص65.

[4] طبائع الإستبداد، مصدر سابق، ص493.

[5] المنار، ج8، ص169.

[6] الكواكبي: أم القرى، مصدر سابق، ص344.

[7] أم القرى، ص326ـ327.

[8] الأعمال الكاملة، ج3، ص196.

[9] طبائع الإستبداد، مصدر سابق، ص508.

[10] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص183.

[11] الأعمال الكاملة، ج3، ص286.

[12] المنار، ج3، ص327.

[13] المنار، ج5، ص302.

[14] دايفيد جاسبر: مقدمة في الهرمينوطيقيا، ترجمة وجيه قانصو، الدار العربية للعلوم – ناشرون، الطبعة الأولى، 1428هـ ـ 200م، ص87ـ89، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[15] برتراند رسل: الدين والعلم، ترجمة رمسيس عوض، دار الهلال، ص37، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[16] جورج كانغيلام: دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها، ترجمة محمد بن ساسي، مراجعة محمد محجوب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الاولى، 2007م، ص83، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[17] الدين والعلم، ص17 و18. وانظر بهذا الصدد أيضاً: يحيى محمد: منهج العلم والفهم الديني، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2014م.

[18] طبائع الإستبداد، ص447.

[19] أم القرى، ص336. وطبائع الإستبداد، ص508.

[20] أم القرى، ص328.

[21] أم القرى، ص282.

[22] المنار، ج11، ص262 و263.

[23] الأعمال الكاملة، ج2، ص318. كذلك: رشيد رضا: تاريخ الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، مطبعة المنار، مصر، الطبعة الأولى، 1350هـ ـ1930م، ج1، ص11.

[24] أم القرى، ص302ـ303.

[25] طبائع الإستبداد، ص508.

[26] الأعمال الكاملة، ج1، ص183، عن المقدم محمد عمارة.

[27] محمد اقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلامي، ترجمة عباس محمود، الطبعة الثانية، 1968، ص21.

[28] المصدر، ص144ـ145.

[29] طبائع الإستبداد، ص530.

[30] المنار، ج4، ص283.

[31] المنار، ج1، هامش ص182.

[32] المنار، ج9، ص177.

[33] المنار، ج4، ص44.

[34] قصة الفيزياء، مصدر سابق، ص83.

[35] الرعد\11.

[36] البقرة\251.

[37] الزخرف\32.

[38] البقرة\213.

[39] المنار، ج1، ص23. كذلك: محمد عبده: مشكلات القرآن الكريم، ص17ـ18.

[40] المنار، ج1، ص23ـ24.

[41] النساء/26.

[42] المنار، ج5، ص33.

[43] آل عمران\164.

[44] المنار، ج4، ص222.

[45] يونس\101.

[46] الكوثر\2.

[47] طنطاوي جوهري: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، مطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده، مصر، 1341هـ، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية http://www.al-mostafa.com، ج1، ص7.

[48] الجواهر في تفسير القرآن الكريم، ج1، ص3 و6.

[49] المصدر السابق، ج3، ص150.

[50] نفس المصدر، ج2، ص85.

[51] نفس المصدر، ج2، ص115.

[52] نفس المصدر، ج14، ص152، وج3، ص164. وانظر أيضاً الفصل الأول من حلقة النظام الواقعي.

[53] المنار، ج3، ص96.

[54] الفيل\3ـ4.

[55] فصلت\11.

[56] الرعد\41.

[57] القمر\1.

[58] يس\41ـ42.

[59] الفرقان\45.

[60] المؤمنون\12.

[61] أم القرى، ص302ـ303. وطبائع الإستبداد، ص454ـ456.

[62] محاورة المصلح والمقلد لرشيد رضا، ص55. عن عزيز العظمة: العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 1998م، ص164ـ165.

[63] المنار،ج5، ص196.

[64] المنار، ج5، ص227.

[65] المنار، ج5، ص212. أيضاً: ج7، ص194.

[66] أم القرى، ص260.

[67] المنار، ج5، ص9.

[68] محمد عبده: المساواة بين الرجال والنساء، نصوص نشرتها مجلة منبر الحوار، عدد8، 1408هـ ـ1987م، ص170. والأعمال الكاملة، ج2، ص84 وما بعدها. والمنار، ج4، ص349 وما بعدها.

[69] طبائع الإستبداد، ص450.

[70] أم القرى، ص63.

[71] طبائع الإستبداد، ص523.

[72] أم القرى، ص293ـ294.

[73] مجموع فتاوى إبن تيمية، مكتبة النهضة الحديثة، مكة، 1404هـ، ج28، ص146.

[74] طبائع الإستبداد، ص515.

[75] طبائع الإستبداد، ص445.

[76] طبائع الإستبداد، ص458 و457.

[77] النائيني: تنبيه الأمة وتنزيه الملة، تعريب صالح الجعفري، نُشرت ترجمة الكتاب في: مجلة الغدير، عدد 10ـ11، 1990م، ص84 و86.

[78] عن: وجيه كوثراني: ثلاثة ازمنة في مشروع النهضة العربية والإسلامية، ضمن الحركات الإسلامية والديمقراطية، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1999م، ص327.

[79] الفكر العربي المعاصر، ص64 و36.

[80] أم القرى، ص262.

[81] تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص178

[82] ومن ذلك أن بعض الإتجاهات المعاصرة من الحركات الإسلامية - التي ارادت لنفسها أن تنخرط في صف الإصلاحية الأولى للمثقفين الدينيين - قامت برد الإعتبار للإتجاهات المعارضة غير الرسمية من المذاهب كالخوارج والشيعة، كما وأمدت جسور الإنفتاح على الحكومات التي تحكم باسمها مثل ايران. كذلك أنها على الصعيد العام التزمت بمبدأ عدّته من مقاصد التشريع الأساسية، ألا وهو الإنسانية أو الاخوة الشاملة.

[83] طبائع الإستبداد، ص522.

[84] طبائع الإستبداد، ص450.

[85] طبائع الإستبداد، ص517 و523. وأم القرى، ص306ـ307.

 [86]طبائع الإستبداد، ص534.

[87] طبائع الإستبداد، ص477ـ479.

[88] أم القرى، ص298.

[89] محمد عبده، الأعمال الكاملة، ج3، ص179. والفكر العربي المعاصر، ص509.

[90] علماً أن هذه الكلمة أثارت السيد محسن الأمين العاملي الذي لم يستوعبها فنقدها دفاعاً عن مسلك الفقهاء التقليدي قائلاً: ‹‹اذا تأملت في هذا الكلام الأخير وجدته خالياً من المعنى. فحقائق الدين المحمدي إما ضرورية أو نظرية، والضرورية لا تؤخذ من الذين سمّاهم الملالي، والنظرية لا سبيل إلى معرفتها إلا من العلماء، فقوله (الذي تتمسكون به هو شريعة الملالي) هي غلط غلط›› (لاحظ: محسن الأمين: أعيان الشيعة، حققه واخرجه واستدرك عليه حسن الأمين، دار التعارف، بيروت، 1406هـ ـ1986م، ج4، ص216).

[91] العلواني، طه جابر: إصلاح الفكر الإسلامي، كتاب قضايا إسلامية معاصرة (12)، مؤسسة الاعراف للنشر، قم، 1419هـ ـ1998م، ص94.

[92] العلق\1ـ5.

[93] إصلاح الفكر الإسلامي، ص102.

[94] المصدر، ص107.

[95] المصدر، ص96.

[96] المصدر، ص97.

comments powered by Disqus