-
ع
+

صحيح البخاري ومسلم وتضارب المتون

يحيى محمد

ورد في الصحيحين عدد من الروايات التي بعضها يكذب البعض الاخر، ومن ذلك ما نقل ان مسلماً روى عن النبي انه توجه الى مكة يوم النحر فطاف طواف الافاضة ثم صلى الظهر بمكة، ثم رجع الى منى[1]، لكن في رواية اخرى جاء انه طاف طواف الافاضة ثم رجع فصلى الظهر بمنى[2]. وقد قال ابن حزم في هاتين الروايتين احداهما كذب بلا شك[3].

ومثل ذلك روى مسلم روايتين عن الاعور الدجال تارة ان عينه اليمنى طافئة، واخرى انها اليسرى، اذ روى عن ابن عمر ان النبي (ص) ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال: ان الله تعالى ليس بأعور ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافئة[4]. لكنه روى في الوقت ذاته عن حذيفة ان النبي قال: الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر معه جنة ونار، فناره جنة وجنته نار[5].

وروى مسلم عن يدي الله روايتين احداهما تكذب الاخرى، ففي احداهما جاء ان كلتا يديه يمين، وجاء في الاخرى ان يديه يمين وشمال. فقد روى عن رسول الله (ص): إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين[6]. لكنه روى ايضاً عن النبي (ص) انه قال: يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون[7].

كما روى مسلم روايتين عن كلب زرع احداهما لا تتسق مع الاخرى، حيث جاء في احداهما ان عبد الله بن عمر روى أن رسول الله (ص) أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية، فقيل لابن عمر إن أبا هريرة يقول أو كلب زرع، فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعاً[8].

وفي هذه الرواية لوّح ابن عمر الى ان ابا هريرة قد زاد في الحديث عن النبي لمصلحة شخصية. في حين جاءت رواية اخرى عن ابن عمر تؤيد ما ذهب اليه ابو هريرة، وهو انه نقل عن النبي قوله: من اتخذ كلباً إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط[9].

وروى مسلم ايضاً بعض الروايات المتعارضة حول اللعن والسباب، فقد جاء عن ابي الدرداء ان النبي (ص) قال: لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة[10]، وكذا جاء عن ابي هريرة انه قيل للنبي: يا رسول الله ادع على المشركين، فقال النبي: إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة[11]. لكن في روايات اخرى تبدي ان النبي لعن وسب بعض الناس، ومن ذلك ما روي  عن عائشة انها قالت دخل على رسول الله (ص) رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو، فأغضباه فلعنهما وسبهما، فلما خرجا قلت: يا رسول الله من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان، قال: وما ذاك؟ قلت: لعنتهما وسببتهما، فأجاب النبي: أو ما علمت ما شارطت عليه ربي، قلت اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجراً[12].

كذلك روى البخاري روايتين متعارضتين حول الاستقبال والاستدبار في قضاء الحاجة، ففي رواية عن ابي ايوب الانصاري ان النبي قال: إذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا[13]، لكن جاء في رواية اخرى عن عبد الله بن عمر انه قال: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله (ص) يقضي حاجته، مستدبر القبلة، مستقبل الشام[14].

وورد في بعض كتب الحديث ما يجمع الحديثين السابقين في رواية واحدة، حيث روي عن جابر انه قال: نهى النبي (ص) أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها[15]. وقد اختلف العلماء في الجمع بين الخبرين او الحكمين المتعارضين، فذهب قوم الى نسخ احد الحكمين للاخر، كالذي يقوله ابن حزم معترضاً عمن يرى النهي وارداً في الصحارى دون البنيان، وذلك باعتبار انه لم يرد عن النبي هذا التقييد[16]. وهو التقييد الذي يقول به كل من الشعبي والشافعي وغيرهما[17]، ويؤيده ما ورد من رواية عن  مروان الاصفر انه قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نـهي عن ذلك؟ فقال: بلى إنما عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس[18]. كما ذهب اخرون إلى أن القول عام محكم والفعل يحتمل كونه خاصاً بالنبي (ص) فلا ينتهض ناسخاً ولا مخصصاً[19].

كما ورد في صحيح البخاري أحاديث متضاربة حول مصير الصحابة، ففي بعض الاحاديث جاء ان عصرهم هو خير القرون، وانه لا يوجد لهم مثيل، وانهم ناجون من النار، لكن في بعض اخر جاء ان الناجين منهم قلة هم المعبر عنهم بهمل النعم، اي ضوال الابل. فمثلاً روى البخاري عن ابي سعيد الخدري ان النبي (ص) قال في حديث له أمام جمع من اصحابه: ان في يوم القيامة ينادي الله تعالى مخاطباً ادم فيقول: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد ((وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)) فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّر الصحابة، ثم قال: ثلث أهل الجنة فكبّروا، ثم قال: شطر أهل الجنة، فكبّروا[20]. وقريب من هذا الحديث ما رواه البخاري عن أبي هريرة[21]. وهو يعني ان اغلب الناس في النار، وان نصف اهل الجنة هم من اصحاب النبي. في حين جاء عن أبي هريرة ما يخالف الرواية الانفة الذكر، وهو ان النبي (ص) قال: بينما أنا نائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم، قلت أين؟ قال إلى النار والله، قلت ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم[22].

كما روى البخاري رواية اخرى لا تتسق مع الاولى ولا مع الثانية، اذ روى عن ابي ذر ان النبي قال له: عرض لي جبريل فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت يا جبريل وإن سرق وإن زنى؟ قال نعم وإن شرب الخمر[23].

وروى مسلم أحاديث متعارضة حول المرأة وقطع الصلاة، ففي رواية عن ابي ذر ان النبي قال: إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل. فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود[24]. وعلى هذه الشاكلة ما روي عن ابي هريرة ان النبي قال: يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل[25].

لكن جاء في نفس الصحيح عدد من الروايات عن عائشة تكذب ذلك، ففي رواية انها قالت: أن النبي (ص) كان يصلي من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة[26]. وفي رواية عن عروة بن الزبير ان عائشة قالت: ما يقطع الصلاة؟ قال فقلنا: المرأة والحمار، فقالت: إن المرأة لدابة سوء! لقد رأيتني بين يدي رسول الله (ص) معترضة، كاعتراض الجنازة، وهو يصلي[27]. كما في رواية اعتراضية اخرى انه ذكر عند عائشة ما يقطع الصلاة (الكلب والحمار والمرأة) فردت: قد شبهتمونا بالحمير والكلاب، والله! لقد رأيت رسول الله (ص) يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله فأنسل من عند رجليه[28].

ومن الروايات المتعارضة ان حديث اعتزال امراء الجور جاء مخالفاً لغيره من الروايات العديدة التي تأمر بالطاعة والصبر دون مفارقة الجماعة، حيث روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة ان النبي قال: يهلك الناس هذا الحي من قريش، فقال اصحابه: فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم[29].

في حين روى الشيخان العديد من الروايات التي تأمر بطاعة امراء الجور والصبر عليهم دون مفارقة الجماعة، ومن ذلك ما روي عن النبي أن اسمع وأطع الامير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك[30]، ومثله قوله: من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية[31]، وقوله: اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة[32]، وقوله: اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم[33].

وهذه الروايات تخالف الحديث الاول الذي ينصح باعتزال امراء الجور، وقد كان الامام احمد ينكر هذا الحديث ويأمر بالضرب عليه لمخالفته للاحاديث الاخرى الانفة الذكر والتي تأمر بالسمع والطاعة والصبر[34].

كما جاء في الصحيحين عدد من الروايات التي ضعّفها الحفّاظ لاصطدامها بمسلمات النصوص التاريخية وبعض اعتبارات القرآن الكريم. فقد روى البخاري ومسلم حديث الاسراء وفيه عبارة (قبل ان يوحى اليه)[35]، وقد تكلم الحفاظ في هذه اللفظة وضعفوها. حيث انكرها ابو سليمان الخطابي وابن حزم وعبد الحق والقاضي عياض والنووي، وذلك لأن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء فكيف يكون قبل الوحي[36]. ونقل عن ابن حزم قوله بهذا الصدد: لم نجد للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً الا حديثين، وهذا واحد منهما[37]. كما ان الخطابي عد قصة الاسراء بطولها في الحديث انما هي حكاية يحكيها أنس بن مالك من تلقاء نفسه لم يعزها إلى النبي (ص) ولا نقلها عنه ولا أضافها إلى قوله، فهي اما من أنس واما من شريك فإنه كثير التفرد بمناكير الالفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة[38].

كذلك روى مسلم عن ابي سفيان انه قال للنبي (ص) لما اسلم: يا رسول الله اعطني ثلاثاً: تزوج ابنتي أم حبيبة، واجعل ابني كاتباً، وامرني ان اقاتل الكفار كما قاتلت المسلمين، فاعطاه النبي ما سأله[39].

وقد عدّ هذا الحديث موضوعاً، حيث ان أم حبيبة تزوجها النبي وهي في الحبشة واصدقها النجاشي، كما ان ابا سفيان انما اسلم عام الفتح، وبين الهجرة والفتح عدة سنين، واما امارة ابي سفيان فانها غير معروفة. ومع ذلك فعلماء الحديث، على ما يقول الحافظ الناقد عبد القادر القرشي، يجيبون على هذه الامور باجوبة غير طائلة على سبيل التجوه ‹‹فيقولون في انكاح ابنة ابي سفيان انه اعتقد ان نكاحها بغير اذنه لا يجوز، وهو حديث عهد بكفر فاراد من النبي تجديد النكاح، ويذكرون عن الزبير بن البكار باسانيد ضعيفة ان النبي امره في بعض الغزوات، وهو امر لا يعرف››[40].



[1] لم اجد هذه الرواية في صحيح مسلم حسب النسخة الالكترونية التي اعتمدتها.

[2] صحيح مسلم، حديث 1308

[3] الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، ص591، وتعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص61ـ62

[4] صحيح مسلم، حديث 169

[5] صحيح مسلم، حديث 2934.

[6] صحيح مسلم، حديث 1827

[7] صحيح مسلم، حديث 2788

[8] صحيح مسلم، حديث 1571

[9] صحيح مسلم، حديث 1574، وإن كان في (سلسة الذهب) لابن حجر لم يستثنى كلب زرع، حيث روى عن ابن عمر عن النبي قوله: من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية أو ضارياً نقص من عمله كل يوم قيراطان. وبه أن رسول الله (ص) أمر بقتل الكلاب ( ابن حجر العسقلاني: سلسلة الذهب، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص58).

[10] صحيح مسلم، حديث 2598

[11] صحيح مسلم، حديث 2599

[12] صحيح مسلم، حديث 2600

[13] صحيح البخاري، حديث 144، كذلك حديث 386

[14] صحيح البخاري، حديث 148، ومثله حديث 2935،

[15] دليل أرباب الفلاح.

[16] النبذ في أصول الفقه، ص40ـ41.

[17] ولي الله الدهلوي: الانصاف في بيان أسباب الاختلاف، دار النفائس، الطبعة الثانية، 1404 هـ، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ص30.

[18] دليل أرباب الفلاح.

[19] الانصاف في بيان أسباب الاختلاف، ص30.

[20] صحيح البخاري، حديث 4464.

[21] صحيح البخاري، حديث 6164.

[22] صحيح البخاري، حديث 6215

[23] صحيح البخاري، حديث 6078

[24] صحيح مسلم، ج1، حديث 265

[25] صحيح مسلم، ج1، حديث 266

[26] صحيح مسلم، ج1، حديث 267، ومثله حديث 268، وحديث 272

[27] صحيح مسلم، ج1، حديث 269

[28] صحيح مسلم، ج1، حديث 270، ومثله حديث 271 

[29] صحيح البخاري، حديث 3409، وصحيح مسلم، حديث 2917

[30] صحيح مسلم، حديث 1847

[31] صحيح مسلم، حديث 1849، وصحيح البخاري، حديث 6724

[32] صحيح البخاري، حديث 6723

[33] صحيح مسلم، حديث 1846

[34] مسند الامام احمد بن حنبل، وبهامشه منتخب كنز العمال، دار صادر، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج2، ص301

[35] صحيح البخاري، حديث 7079، وصحيح مسلم، حديث 262

[36] فتح الباري، ج13، ص399

[37] فتح الباري، ج13، ص404

[38] فتح الباري، ج13، ص403

[39] جاء في صحيح مسلم ان ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي (ص) يا نبي الله ثلاث أعطينهن، قال نعم، قال عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان ازوجكها، قال نعم، قال ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال نعم، قال وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال نعم (صحيح مسلم، حديث 2501).

[40] تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص61ـ62، والجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، ص593

comments powered by Disqus