-
ع
+

خبر الآحاد بين المرتضى والطوسي

يحيى محمد

بداية نتساءل: هل كان القدماء المحققون من الفقهاء يثقون بالروايات المشتهرة في زمانهم والمدونة في الاصول الاولية والجوامع الحديثية؟ وهل كانوا يرون فيها شيئاً من الحجية كما ذهب اليه المتأخرون من الاصوليين؟

لعل الجزء الرئيسي من الاجابة على هذا التساؤل يتحدد بموقف القدماء من خبر الاحاد وحجيته. فاغلب المحققين من القدماء لم يتقبلوا خبر الاحاد ما لم تكن معه قرائن دالة على القطع، خلافاً لما آل اليه المتأخرون. وقيل ان الذين منعوا الاخذ بخبر الاحاد هو كل من سبق الطوسي، بل والكثير ممن جاء بعده، مثل المفيد والمرتضى وابن ادريس وابن زهرة والطبرسي، كما نسب هذا المنع الى المحقق الحلي وابن بابويه، وجاء في (الوافية) للفاضل التوني انه لم يجد القول بحجية خبر الاحاد صريحاً ممن تقدم على العلامة الحلي[1]، واعتبر الانصاري هذا الأمر عجيباً[2]. ويعد المفيد والمرتضى ابرز القدماء الذين منعوا العمل بهذا الخبر، اذ كان المفيد يقول: ان اخبار الاحاد لا توجب علماً ولا عملاً، بل ‹‹ولا يجوز لاحد ان يقطع بخبر الواحد في الدين الا ان يقترن به ما يدل على صدق راويه على البيان، وهذا مذهب جمهور الشيعة››[3].

اما المرتضى فقد تضافرت نصوصه في المنع من الاخذ بهذا الخبر، وادعى الاجماع على عدم حجيته، ونفى ان تكون في مصنفات المحققين من علماء الطائفة من يعمل به[4]، كما اظهر الايات الناهية عن العمل بغير العلم، والروايات التي تنهى عن العمل بما يخالف الكتاب والسنة. وبذلك لم يجد حاجة للكلام عن ترجيح الاخبار في حالات التعارض؛ باعتبارها فرعاً عن تلك المسألة. وقد استثنى من الامر حالة اجماع الطائفة على صدق خبر الاحاد المضاف الى العمل به، وبرر هذه الحالة بدعوى ان رجال الطائفة ربما قد علموا صدق الخبر ‹‹بامارة او علامة على الصادق من طريق الجملة، ويمكن ايضاً ان يكونوا عرفوا في راو بعينه صدقه على سبيل التمييز والتعيين، لأن هولاء المجمعين من الفرقة المحقة قد كان لهم سلف قبل سلف يلقون الائمة (ع) الذين كانوا في اعصارهم، وهم ظاهرون بارزون تسمع اقوالهم ويرجع اليهم في المشكلات››[5]. وهذا النهج هو الذي سار عليه ابن ادريس الحلي فيما بعد[6].

اما ابرز الذين عولوا على خبر الاحاد من المحققين القدماء فهو الشيخ الطوسي. صحيح انه في احد كتبه الكلامية لم يختلف عن قول استاذه المرتضى، حيث منع العمل بخبر الاحاد، وعد القول به وبالقياس واجتهاد الرأي هو قول فاسد لدى المذهب الشيعي؛ مشيراً الى ما بينه في مواضع من كتبه بهذا الخصوص[7]، كما انه كثيراً ما يقول في كتابه (التهذيب) حين يتعرض لتأويل الأخبار ولا يعمل بها: ‹‹هذا من أخبار الآحاد التي لا تفيد علماً ولا عملاً[8]، الا ان اقواله فيما عدا ذلك تدل على قبوله العمل بهذا الخبر ضمن شروط، وقد ادعى على ذلك اجماع الطائفة كالذي اشار اليه في كتابه (عدة الاصول)[9]، كما استدل عليه لما لاحظه من عدم قطع الموالاة بين علماء الطائفة رغم كثرة خلافاتهم في الفتاوى نتيجة العمل به. وفي بعض كتبه ذكر ما يزيد على (5000) حديث اكثرها مختلف بينهم، واستنكر من يتجاسر ويعتبر ان كل خلاف دال على دليل قاطع من خالفه مخطىء فاسق، اذ على رأيه انه بهذا يضلل جميع الشيوخ المتقدمين[10]. وزاد على ذلك واعتبر ان الله لو عاقب المخطىء لكان اغراء بالقبيح لا يجوز عليه تعالى[11]. لكنه لم يعمم هذا الموقف الى ابعد من حدود رجال الطائفة، حيث اكد على بطلان العمل بالقياس وخبر الواحد الذي يختص المخالف بروايته[12].

وهذا التفكيك الذي اصطنعه الطوسي حول خبر الاحاد فيما يرويه المخالف وما يرويه اتباع الطائفة، جعله يذهب الى توجيه ما منعه السابقون من قبول خبر الاحاد، وانكار العمل به واعتبار الاجماع منعقد على منعه مثلما يراه الشريف المرتضى، ومنهم من لم يجوزه عقلاً، فاعتبر كل ذلك انما جاء من باب المدافعة للمخالفين في الكلام معهم في الاعتقاد، ثم زعم انهم لم يختلفوا فيما بينهم ولم ينكر بعضهم على بعض بما يروونه[13].

لكن من البيّن ان تصريحات الشريف المرتضى تختلف تماماً عما ذكره الطوسي، وقد ادعى كل منهما اجماع الطائفة على ما يراه، الامر الذي اربك الكثير من العلماء المتأخرين، وقد حاول العديد منهم ان يجد لهذا الاختلاف حلاً يمنع فيه التناقض بينهما، ومن ذلك ما حكاه الانصاري في رسائله من وجوه للجمع؛ مثل ان يكون مراد المرتضى من خبر الواحد المجمع على عدم حجيته هو ذلك الذي يرويه المخالفون، فيكون موضع اتفاق مع الطوسي، خاصة وان الطوسي كما سبق ان عرفنا حاول ان يجد لنفسه اتفاقاً مع من سبقه من امثال المفيد والمرتضى تبعاً لهذا التوجيه. كما قد يكون المراد بالخبر الذي يمنع العمل به هو ذلك الذي يقابل الخبر المحفوظ في الاصول المعمول بها عند جميع خواص الطائفة، فيكون مراد المرتضى قريب المدرك مع ما يريده الطوسي. كما قد يحتمل ان يكون مراد الطوسي من خبر الواحد المجمع على حجيته هو ذلك الذي يكون محفوفاً بالقرائن المفيدة للعلم بصدقه؛ فيتفق مع ما يريده استاذه المرتضى . وقريب من هذا الرأي الاخير ما ذكره الكركي، حيث اعتبر انه على الرغم من ان الطوسي صرح في (عدة الاصول) بجواز العمل بخبر العدل الامامي، الا انه لم يرد بذلك الاطلاق، اذ اكد في محل اخر ان ما يعمل به من اخبار الاحاد هو ما اجمع عليه الاصحاب بالعمل؛ فيكون مدرك الحجة راجعاً الى الاجماع ويزول التعارض بينه وبين استاذه . اما الشيخ الانصاري فقد استحسن الوجه الاول ثم الثاني، الا انه رجح رأيه على جميع الوجوه، حيث رأى ان مراد المرتضى من (العلم) الذي ادعاه في صدق الاخبار هو مجرد الاطمئنان، اذ المحكي عنه في تعريف العلم انه (ما اقتضى سكون النفس) لا اليقين الذي لا يقبل الاحتمال، وانه قد اشار الى احتفاف اكثر الاخبار بالامور الموجبة للوثوق بها، وهو بمعنى العلم الذي يقتضي سكون النفس. وكذا ان مراد الطوسي من قبول خبر الاحاد هو ذلك المحفوف بعدم مخالفة القرائن الاربع، وهي الكتاب والسنة والاجماع والدليل العقلي، اي انه ذلك الذي يبعث على الاطمئنان وسكون النفس[14]. كما رجح المفكر الصدر ان يكون مقصد المرتضى من منعه لخبر الاحاد إما ذلك الذي يرويه المخالفون - كالذي سبق ان اشار اليه الطوسي وبعض المتأخرين كما عرفنا - او ذلك الذي لا يحرز فيه وثاقة الرواة منهم بالخصوص[15].

والواقع ان جميع الوجوه السابقة ليست صحيحة، فالذي يرجع الى نصوص المرتضى يجد انه لا يقبل من اخبار الاحاد حتى تلك التي تعود الى العدول والثقات، او تلك المنقولة في الكتب المعتمدة، وذلك باعتبارها تفيد الظن دون العلم، على ما فصل ذلك في اجوبته على المسائل التبانيات والموصليات والحلبيات وغيرها[16]. وهذا ما جعله ينكر الروايات الخاصة بالترجيح، ومنها الترجيح بما يأتي على خلاف ما يذهب اليه اهل السنة، وقد اعتبر هذه الروايات قائمة على الدور، اذ انه ينفي حجية العمل باخبار الاحاد في الفروع؛ فكيف الحال في الاصول التي هي اولى منها بذلك[17]. في حين تقبل الطوسي خبر الاحاد وعمل بالترجيح عند التعارض بين الاخبار، بل وعول على الاخبار الضعيفة ضمن شروط.

اما دعاوى الاجماع التي كثيراً ما يرددها الفقهاء ومنهم المرتضى والطوسي وغيرهما، فانها لا تحضى لدى العلماء المتأخرين بالاعتبار، وذلك لكثرة التناقضات فيها. ومن ذلك ان الشهيد الثاني افرد ما يقارب اربعين مسألة نقل الطوسي فيها الاجماع مع انه خالفها في الحكم. فمثلاً قال الطوسي في (النهاية) ضمن كتاب الحدود: ان من استحل اكل الجري والمارماهي وجب قتله، وهو قد زاد في هذا الحكم على الاجماع على تحريم أكلهما، مع انه في كتاب الاطعمة من (النهاية) بعينه جعلهما مكروهين. وقد علق الشهيد الثاني على ذلك بقوله: قد افردنا هذه المسائل للتنبيه على ان لا يغتر الفقيه بدعوى الاجماع، فقد وقع فيه الخطأ والمجازفة كثيراً من كل واحد من الفقهاء، سيما من الشيخ الطوسي والمرتضى. كما ذكر المحدث الكاشاني انه كثيراً ما يقع من الفقهاء نقل الاجماع في مسألة على حكم؛ مع نقل الاجماع على خلاف ذلك الحكم بعينه لتلك المسألة؛ اما في ذلك الكتاب بعينه أو في غيره، فضلاً عن نقل الخلاف فيها، مثل ما وقع من الشيخ الطوسي من نقله الاجماع على وجوب سجود التلاوة على السامع، ونقله اياه على عدم وجوبه عليه ايضاً. ولهذا انزل الشهيد الثاني لفظ الاجماع الواقع في كلامهم على معنى الشهرة في ذلك الوقت أو عدم اطلاعهم حينئذ على المخالف او ما يقرب من ذلك صوناً لكلامهم عن التهافت[18].

 



[1] عبد الله بن محمد الخراساني التوني: الوافية في اصول الفقه، تحقيق محمد حسين الرضوي الكشميري، مؤسسة مجمع الفكر الاسلامي، قم، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص158

[2] فرائد الاصول، ج1، ص109

[3] اوائل المقالات، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (4) ص122

[4] رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص26

[5] رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص19 و212

[6] محمد بن إدريس الحلي: السرائر، مؤسسة النشر الاسلامي، الطبعة الثانية، 1410هـ، عن مكتبة التبيان الالكترونية، ص5.

[7] الطوسي: تمهيد الاصول في علم الكلام، انتشارات دانشگاه طهران، 1362هـ.ش، ص354

[8] انظر: وسائل الشيعة، ج20، ص64ـ65

[9] فهو يقول: ‹‹فاما ما اخترته من المذهب، فهو ان خبر الواحد اذا كان وارداً من طريق اصحابنا القائلين بالامامة وكان ذلك مروياً عن النبي (ص) او عن واحد من الائمة (ع) وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديداً في نقله ولم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لانه ان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار بالقرينة، وكان موجباً للعلم. ونحن نذكر القرائن فيما بعد التي جاز العمل بها . والذي يدل على ذلك اجماع الفرقة المحقة، فاني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في اصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه، حتى ان واحداً منهم اذا افتى بشيء لا يعرفونه سألوه: من أين قلت هذا؟ فاذا احالهم على كتاب معروف، او اصل مشهور، وكان راوية ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الامر في ذلك، وقبلوا قوله، وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي (ص) ومن بعده من الائمة (ع) ومن زمن الصادق جعفر بن محمد (ع) الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته، فلولا ان العمل بهذه الاخبار كان جائزاً لما اجمعوا على ذلك ولأنكروه، لان اجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو›› (عدة الاصول، ج1، ص126).

[10] عدة الاصول، ج1، ص135ـ136

[11] عدة الاصول، ج1، ص137

[12] قال بهذا الصدد: ‹‹والذي اذهب اليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتقدمين والمتأخرين، وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى واليه كان يذهب شيخنا ابو عبد الله (المفيد) ان الحق في واحد وان عليه دليلاً من خالفه كان مخطئاً فاسقاً. واعلم ان الاصل في هذه المسألة القول بالقياس والعمل باخبار الاحاد، لان ما طريقه التواتر وظواهر القرآن فلا خلاف بين اهل العلم ان الحق فيما هو معلوم من ذلك، وانما اختلف القائلون بهذين الاصلين فيما ذكرناه، وقد دللنا على بطلان العمل بالقياس وخبر الواحد الذي يختص المخالف بروايته››. كما قال: انه ‹‹اذا ثبت ذلك دل على ان الحق في الجهة التي فيها الطائفة المحقة، واما على ما اخترته من القول في الاخبار المختلفة المروية من جهة الخاصة فلا ينقض ذلك، لان غرضنا في هذا المكان ان نبين في الجهة التي فيها الطائفة المحقة دون الجهة التي خالفها، وإن كان حكم ما يختص به الطائفة والاختلاف التي بينها الحكم الذي مضى الكلام عليه في باب الكلام في الاخبار، فلا تنافي بين القولين››. وقال ايضاً: ‹‹والذي اذهب اليه ان خبر الواحد لا يوجب العلم، وان كان يجوز ان ترد العبادة بالعمل به عقلاً. وقد ورد جواز العمل به في الشرع، الا ان ذلك موقوف على طريق مخصوص، وهو ما يرويه من كان من الطائفة المحقة، ويختص بروايته، ويكون على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها›› (عدة الاصول، ج1، ص100).

[13] عدة الاصول، ج1، ص127،  كذلك: فرائد الاصول، ج1، ص112 و146ـ147

[14] محمد رضا المظفر: اصول الفقه، دار النعمان، النجف، الطبعة الثانية، 1386هـ ـ1966م، ج3، ص86ـ87

[15] محمد باقر الصدر: بحوث في علم الاصول، تحرير محمود الهاشمي، المجمع العلمي للامام الصدر، الطبعة الاولى، 1405هـ، ج4، ص344

[16] مما قاله بهذا الصدد: قد بينا في مواضع كثيرة من كتبنا ان الخبر الواحد لا يقطع في صحته ولا يجوز العمل به وإن رواه العدول الثقات ‹‹لأنا لا نأمن فيما نقدم عليه من الحكم الذي تضمنه ان يكون مفسدة، ولا نقطع على انه مصلحة، والاقدام على مثل ذلك قبيح، حتى ان من اصحابنا من يزيد على ذلك ويقول: ان اخبار الاحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبد باحكامها من طريق العقول. وقد بينا في مواضع كثيرة ان المذهب الصحيح هو تجويز ورود العبادة بالعمل باخبار الاحاد من طريق العقول، لكن ما ورد ولا تعبدنا به، فنحن لا نعمل بها، لان التعبد بها مفقود وان كان جائزاً›› (مجموعة رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص30). وقال ايضاً : ‹‹اذا كان خبر الواحد لا يوجب عملاً، فانما يقتضي اذا كان راويه على غاية العدالة ظناً›› لذا يجوز ان يكون كذبه ثابتاً، وبالتالي كان العمل بقوله يقتضي الاقدام على القبيح (مجموعة رسائل الشريف المرتضى، ج3، ص269ـ270، ولاحظ ايضاً: ج3، ص309ـ313، وج1، ص21 وما بعدها، وص210ـ212).

[17] مجموعة رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص212

[18] الفيض الكاشاني: الاصول الأصيلة، تصحيح وتعليق مير جلال الدين الحسيني، سازمان چاب دانشگاه، ايران، 1390هـ، ص145

comments powered by Disqus