-
ع
+

الصحابة والتحفظ من الرواية

يحيى محمد

معلوم أن كبار الصحابة والتابعين قد تحفظوا من الرواية وأقلوا منها؛ لعلتين، اذ من شأن الاقلال ان يمنع الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، كما انه يدعو الى ضبط كلام النبي وعدم الكذب عليه. وجاء في الرواية ان النبي قال: يا أيها الناس إياكم وكثرة الحديث ومن حدث عني فلا يقل إلا صدقاً - أو حقاًً - ومن افترى عليّ فليتبوأ بيتاً في النار[1]. وقد تمسك كبار الصحابة بهذا المضمون، وكما وصفهم ابن القيم الجوزية انهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص، ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي مراراً ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون: قال رسول الله[2].

ومن الروايات التي وردت بهذا الخصوص ما جاء عن ابي بكر الصديق انه جمع الناس بعد وفاة النبي فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً؛ فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه[3]. كما روي عن عمر بن الخطاب انه منع الاكثار من الرواية خشية الانشغال بغير القرآن، او لعلة الخوف من الكذب على النبي، ومن ذلك انه حبس كلاً من ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي مسعود الأنصاري لكونهم اكثروا الحديث عن رسول الله (ص) وجاء انه بعث اليهم فقال: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله؟ فحبسهم بالمدينة حتى استشهد[4]. وجاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن الزبير انه قال لابيه: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله (ص) كما يحدث فلان وفلان؟ فأجاب الزبير: أما إني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول: (من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار)[5]. ومثل ذلك روي عن عثمان بن عفان انه قال: ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله (ص) أن لا أكون أوعى صحابته عنه، ولكن أشهد لسمعت رسول الله (ص) يقول: من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار[6]. وكذا قال عمران بن حصين: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله (ص) يومين متتابعين ولكن ابطأني عن ذلك أن رجالاً من أصحاب رسول الله (ص) سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبّه لي كما شبّه لهم[7]. وفي صحيح مسلم قال أنس بن مالك: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً أن رسول الله (ص) قال: من تعمد عليّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار[8]. ومثل ذلك روي عن صهيب حيث سئل عن علة عدم تحدثه عن رسول الله (ص) كما يحدث غيره من اصحاب النبي؟ فقال : أما إني قد سمعت ما سمعوا ولكن يمنعني أن أحدث عنه اني سمعته يقول: من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، وكلف يوم القيامة أن يقعد بين شعرتين، ولن يقدر على ذلك[9]. وجاء انه قيل لزيد بن أرقم يا أبا عمرو ألا تحدثنا؟ فاجاب: قد كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله (ص) شديد[10].

وهناك من الصحابة من كان يحتاط في نقله عن النبي (ص) فلا يقطع باللفظ، بل يقول انه هكذا او على نحوه، واحياناً انه يرتعد حين يحدث عما سمعه منه، وذلك خشية ان يكون قد كذب عليه. وجاء عن عبد الله بن مسعود انه إذا حدث عن رسول الله استقلته الرعدة وقال هكذا أو نحو ذا أو قريب من ذا أو أو[11]. وجاء عن أبي الدرداء انه كان إذا حدث عن رسول الله (ص) ثم فرغ منه قال اللهم إن لم يكن هذا فكشكله[12]، وكذا روي مثل ذلك عن انس بن مالك[13]. بل ومن الصحابة من كان ينسب الامر الى نفسه ولا ينسبه الى الله والنبي، خشية ان يكون كذباً عليهما، ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب انه افتى في مسألة، فكتب كاتبه عقب الفتيا: ‹‹هذا ما رأى الله ورأى عمر›› فقال عمر: ‹‹بئس ما قلت، هذا رأي عمر، فان يكن صواباً فمن الله، وان يك خطأ فمن عمر››[14]. كما ان ابن مسعود قال في احدى فتاويه: ‹‹اقول هذا برأيي، فان يكن صواباً فمن الله، وان يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان››[15]. وجاء ان عدد الذين رويت عنهم الفتيا من الصحابة هم مائة وثمانية وثلاثون من بين اكثر من عشرين ألف صحابي، كالذي قدره ابن حزم[16].

كذلك عرف عن كبار الصحابة انهم يتثبتون في النقل والرواية عن النبي؛ اما بطلب شاهد اخر لمن يدعي سماعه للحديث عن النبي، او بتحليف الراوي. فقد جاء ان ابا بكر لا يقبل الحديث الا من اثنين، فاذا جاءه واحد بحديث طلب منه ان يؤيده اخر يشهد له، ومن ذلك انه ورد في بعض الروايات أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمسه أن تورث، فقال ما أجد لك في كتاب الله شيئاً، وما علمت أن رسول الله (ص) ذكر لك شيئاً، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله (ص) اعطاها السدس، فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر[17]. وجاء أن عمر استشار اصحابه في أملاص المرأة او السقط، فقال له المغيرة بن شعبة ان رسول الله (ص) قضى فيه بغرة، فقال له عمر ان كنت صادقاً فأت أحداً يعلم ذلك، فشهد محمد بن مسلمة أن رسول الله (ص) قضى به[18].

ومن التابعين قال الشعبي: قد كره الصالحون الأولون الإكثار من الحديث، ولو استقبلت من امري ما استدبرت ما حدثت الا بما اجمع عليه أهل الحديث[19]. وقال إبراهيم النخعي: أقول قال عبد الله وقال علقمة أحب إلينا[20]. وقد كانت هذه سيرة عدد من الفقهاء في تحبيذ الاستدلال باقوال الصحابة والتابعين علماً منهم انها أحاديث منقولة لكنهم جعلوها موقوفة، كالذي قاله ابراهيم النخعي[21].

***

وعموماً يمتاز عصر كبار الصحابة والتابعين بعدد من الخصائص، ابرزها: كراهة تدوين الحديث ومحو المكتوب منه لئلا ينتشر، والاقلال من الرواية ومنع الاكثار منها، والتحفظ من نسبة الحديث الى النبي، وعدم التدقيق في بحث الرجال والاسناد، والتثبت من الحديث غير المعروف. وقد عرفنا ان هذه الخصائص جاءت لسببين هامين: احدهما الخوف من الكذب على النبي، والاخر كراهة الانشغال والاشتغال بغير القرآن.

 



[1] مشكل الاثار، ج1، ص65، وابن الجوزي: الموضوعات، ضبط وتقديم وتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الاولى، 1386هـ ـ 1966م، عن مكتبة سحاب السلفية الالكترونية، ج1، ص70ـ71

[2] ابن القيم الجوزية: أعلام الموقعين عن رب العالمين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف، دار الجيل، بيروت، 1973م، ج4، ص148

[3] تذكرة الحفاظ، مصدر سابق، ج1، فقرة 1.

[4] تذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 2، والموضوعات، ج1، ص94، وجاء عن قرظة بن كعب انه قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لِمَ مشيت معكم؟ قالوا: نعم نحن أصحاب رسول الله (ص) مشيت معنا، فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم؛ جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله (ص) امضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة قالوا حدثنا، قال نهانا عمر بن الخطاب (جامع بيان العلم وفضله، باب ذكر من ذم الاكثار من الحديث دون التفهم والتفقه فيه. وتذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 2). وفي رواية انه قال: انكم تأتون الكوفة فتأتون قوماً لهم ازيز - صوت بالبكاء - بالقرآن فيأتونكم فيقولون: قدم اصحاب محمد، قدم اصحاب محمد، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فاقلوا الرواية عن رسول الله (ولي الله الدهلوي: حجة الله البالغة، دار التراث، القاهرة، 1355هـ، ج1، ص151ـ152). وفي رواية اخرى سئل أسلم مولى عمر بن الخطاب بان يحدث عن عمر، فقال لا أستطيع، أخاف أن أزيد أو أنقص، كنا إذا قلنا لعمر حدثنا عن رسول الله (ص) قال: أخاف أن أزيد أو أنقص إن رسول الله (ص) قال: من كذب عليّ متعمداً فهو في النار (الموضوعات، ج1، ص58).

[5] صحيح البخاري، حديث 107، وفي رواية اخرى قال الزبير: يا بني كان بيني وبينه من القرابة والرحم ما علمت، وعمته أمي وزوجته خديجة عمتي وأمه آمنة بنت وهب وجدتي هالة بنت وهيب ابني وهيب عبد مناف بن زهرة وعندي أمك وأختها عائشة عنده، ولكني سمعته يقول: من كذب عليّ.. كذا رواه البخاري ليس فيه متعمداً (فتح الباري، ج1، ص179).

[6] الموضوعات، ج1، ص59

[7] ابن قتيبة الدينوري: تأويل مختلف الحديث، دار الجيل، مراجعة محمد زهري النجار، بيروت، 1972م ـ1393هـ، عن مكتبة سحاب السلفية الالكترونية،  باب ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي (لم تذكر ارقام صفحاته). والكفاية في علم الرواية.

[8] صحيح مسلم، ج1، حديث 2، والموضوعات، ج1، ص79، وفي رواية اخرى عن انس انه قال: لولا أن أخشى أن أخطأ لحدثتكم بأشياء قالها رسول الله (ص)، سمعت رسول الله (ص) يقول: من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار  (الموضوعات، ج1، ص79).

[9] الموضوعات، ج1، ص.66.

[10] الكفاية في علم الرواية، باب ما جاء في رواية الحديث على اللفظ.

[11] تذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 5، وحجة الله البالغة، ص151

[12] جامع بيان العلم وفضله، باب الأمر بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث. والكفاية في علم الرواية، باب ذكر من كان يذهب الى إجازة الرواية على المعنى من السلف.

[13] حيث جاء ان أنس إذا حدث عن رسول الله (ص) حديثاً ففرغ منه قال: أو كما قال رسول الله (جامع بيان العلم وفضله، باب الأمر بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث).

[14] ابو زهرة: تاريخ المذاهب الاسلامية، دار الفكر العربي، ص247

[15] تاريخ المذاهب الاسلامية، ص247

[16] ابن حزم: النبذ في أصول الفقه، شبكة المشكاة الالكترونية، ص26

[17] تذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 1، والكفاية في علم الرواية، باب ذكر بعض الدلائل على صحة العمل بخبر الواحد ووجوبه. علماً ان اسم محمد بن مسلمة قد ورد في شهادة اخرى على هذه الشاكلة مع عمر بن الخطاب، على ما سنرى، فهل كان ذلك صدفة؟!

[18] تذكرة الحفاظ، ج1،  فقرة 2، وجاء عن  أبي سعيد الخدري ان ابا موسى سلّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره، فقال: لِمَ رجعت؟ قال سمعت رسول الله (ص) يقول: إذا سلّم أحدكم ثلاثاً فلم يجب فليرجع، قال: لتأتني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك، فجاءنا أبو موسى منتقعاً لونه ونحن جلوس، فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم كلنا سمعه، فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر فأخبره (صحيح مسلم، باب الاستئذان، وتذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 2). كما جاء عن عبد الله بن أبي بكر في رواية طويلة ان عمر بن الخطاب ردّ على ابي بن كعب فيما رواه من حديث عن النبي (ص) وقال له: لتأتني على ما تقول ببينة، فذكر أبي ذلك لجماعة من صحابة النبي، فقالوا: قد سمعنا هذا من رسول الله (ص) فقال عمر: أما إني لم أتهمك ولكني أحببت أن أتثبت (تذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 2). }. وكان الامام علي لا يقبل الحديث الا بعد استحلاف قائله، فكان يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله (ص) حديثاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته { الكفاية في علم الرواية، باب الرد على من زعم أن العدالة هى إظهار الإسلام وعدم الفسق الظاهر. كذلك: تذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 4، وابو عبد الله الحاكم النيسابوري: المدخل إلى الإكليل، شبكة المشكاة الالكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته). كما جاء عن الامام علي انه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله (ص) فوالله لأن أخرّ من السماء احب الي من ان اكذب على رسول الله (ص) (الكفاية في علم الرواية، باب الكلام في الجرح واحكامه).

[19] تذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 76، وجاء انه سئل الشعبي عن حديث أيرفع الى النبي؟ فقال: لا، على من دون النبي احب الينا، فان كان فيه زيادة ونقصان كان على من دون النبي (تذكرة الحفاظ، ج1، وحجة الله البالغة، ص144ـ145).

[20] تذكرة الحفاظ، ج1

[21] حجة الله البالغة، ص144.

comments powered by Disqus