-
ع
+

الشيعة والتقسيم الجديد للحديث

يحيى محمد

لقد بدأت الدعوة الى اجراء التحقيق في سند الحديث من قبل بعض المتأخرين خلال القرن السابع للهجرة، وذلك تأثراً بالطريقة الشائعة لدى اهل السنة. حيث عمل العلامة الحلي او شيخه ابن طاوس على استعارة تقسيم الحديث منهم الى اربعة اقسام هي الصحيح والحسن والموثق والضعيف[1]، حتى صار مسلكاً يحتذي به الاصوليون الشيعة الى يومنا هذا.

ومفهوم الصحيح بحسب التقسيم الجديد هو ان يكون رواته كلهم اماميين موثقين، اما لو كانوا اماميين ولكنهم ممدوحين كلاً او بعضاً مع توثيق الباقي؛ سمي الحديث حسناً، وان كانوا كلهم موثقين لكنهم غير اماميين كلاً او بعضاً؛ سمي الحديث موثقاً، وقد يعبر عنه بالقوي، لكن المتعارف بين الفقهاء ان القوي يطلق على مروي الامامي الذي لم يرد بشأنه مدح ولا ذم، ويسمى الحديث بغير هذه الاقسام الثلاثة او الاربعة ضعيفاً، وميزته ان في سنده مذموماً، أو فاسد العقيدة غير منصوص على ثقته، أو مجهول، وإن كان باقي رواته ممدوحين بالعدالة وما شاكلها. وهناك من يسمي غير القسمين الاولين ضعيفاً. وللضعيف اقسام كثيرة كالمرسل والمرفوع وغيرهما[2]. والمعروف ان ابا حاتم بن حبان اوصل اقسام الضعيف الى تسع واربعين قسماً، وذكر ابن الملقن أن أنواعه تزيد على المائتين[3].

ويعد العلامة الحلي اول من اجرى تطبيق مبدأ تقسيم الحديث، كما في كتابيه (الدر والمرجان في الاحاديث الصحاح والحسان) و(النهج الوضاح في الاحاديث الصحاح) لكن هذه المحاولة مع غيرها من المحاولات ظلت محدودة لا تتسع لجميع اخبار الكتب المعتبرة، واكبر محاولة ظهرت في هذا المجال هي تلك التي دشنها محمد باقر المجلسي في مطلع القرن الثاني عشر الهجري وذلك في كتابه (مرآة العقول) حيث عمل على تقسيم الحديث لكتاب الكافي للكليني دون غيره من الكتب الاربعة المعروفة. ولم يظهر بعد هذا الكتاب ما يضاهيه سعة وشمولاً في التصحيح والتمييز، وظل التقليد العلمي للفقهاء هو جعل التصحيح والتمييز مهمة فردية يقوم بها المجتهدون، كل بحسب ظنه واجتهاده، مع ترك الروايات المدونة في الموسوعات الحديثية على ما هي عليه كمصدر للاجتهاد. وكان من ابرز الموسوعات التي اعتمدها الفقهاء المتأخرون في الاجتهاد هي موسوعة (وسائل الشيعة) للحر العاملي، وذلك لانها اشتملت على روايات الاحكام في الكتب الاربعة مع غيرها من الكتب المعتبرة الاخرى، وقد ألحق بها الشيخ النوري موسوعته المتممة (مستدرك وسائل الشيعة).

وقد افضى تقسيم الحديث الى طرح الكثير من الاخبار لعلة ضعف سندها، حتى قدّر ما ضعّف من الأخبار التي تضمنتها الجوامع الاربعة إلى ما يتجاوز النصف من الأخبار. ففي (الكافي) وحده أحصى المجلسي في (مرآة العقول) الأخبار التي تطرح استناداً إلى ذلك الاصطلاح، وبغض النظر عن القرائن الأخرى، فبلغت أكثر من ثلثي الأخـبار الموجـودة فـيه[4]. فعدد الأحاديث الموجودة في (الكافي) هو (16199) حديث، وبحسب الاصطلاح الجديد للحديث يكون منها (5072) حديثاً صحيحاً، و(144) حديثاً حسناً، و(1118) موثقاً، و(302) قوياً، و(9485) ضعيفاً[5]. اما كتاب (من لا يحضره الفقيه) فقد عدت أحاديثه المرسلة (2050) حديث، اما أحاديثه المسندة بما فيها الضعيفة والصحيحة فهي (3913) حديث[6].

وقيل ان السبب الذي دعا الى تقسيم الحديث هو انه لما طالت المدة بين العلماء المتأخرين وبين الصدر الاول، وخفيت عليهم القرائن التي اوجبت صحة الاخبار عن المتقدمين، لجأوا الى التنويع والتقسيم، لمعرفة صحيح الاخبار من ضعيفها[7]. كما علل بعض الاصوليين الوضع الجديد بانه كان بسبب اختلاط الاصول المعتمدة بغيرها واندراس هذه الاصول فضلاً عن خفاء القرائن، ولأن اصحاب الجوامع الاربعة كانوا يعتمدون على اجتهاداتهم في تصحيح الاحاديث[8]. لكن الحر العاملي اعترض على هذا التعليل فانكر ان يكون قد حصل اختلاط واندراس في الاصول، لا في زمن اصحاب الجوامع الاربعة ولا بعدهم[9]، واستشهد على ذلك بما اشار اليه الشيخ حسن العاملي في (المعالم والمنتقى) بان أحاديث الكتب الاربعة وامثالها كانت محفوفة بالقرائن، وانها منقولة من الاصول والكتب المجمع عليها من غير تغيير، وكثيراً ما سلك المتأخرون مسلك المتقدمين وعملوا باصطلاحهم[10].

وعلى رأي الاخبارية ان الفهم السابق للحديث الصحيح كما يعول عليه المتأخرون من الاصوليين هو غير فهم قدماء المحدثين والجامعين للاخبار. فقد ذكر الاسترابادي وتابعه الحر العاملي ان للحديث الصحيح عند القدماء والاخبارية ثلاثة معان يقابلها ثلاثة اخرى للحديث الضعيف، احدها بمعنى القطع بصدور الخبر عن المعصوم، وثانيها يتضمن نفس المعنى الاول مع زيادة قيد آخر هو عدم وجود معارض اقوى منه، وثالثها ما كان مضمون الخبر معبراً عن حكم الله في الواقع وان لم يقطع بصدوره عن المعصوم[11].

وبهذا المنطق اعتبرت الاخبارية ان إحداث الاصطلاح الجديد في تقسيم الحديث يفضي الى زوال الدين، حتى قال بعضهم ان الدين هدم مرتين: يوم السقيفة، ويوم احدث الاصطلاح الجديد في الاخبار، او يوم ولد العلامة الحلي - كما في عبارة اخرى - وذلك باعتباره المسؤول عن هذا الإحداث[12].

ومن الناحية العلمية قدمت الاخبارية شهادتين للقدماء تستبعد فيهما التقسيم المستحدث للاصوليين، احداهما تخص توثيق الرواة، والاخرى تؤكد صحة الاحاديث المدونة في الجوامع الاربعة وغيرها من الاصول القديمة، وتفصيل ذلك يأتي من خلال الفقرتين الاتيتين:

اولاً: ذهب الاخباريون الى تعديل رواة الحديث من اصحاب الائمة بما يشبه ما ذهب اليه اهل السنة في تعديل الصحابة، فزعموا ان القدماء وثقوا رجال الامام الصادق الذين يقدر عددهم باربعة الاف رجل. واحتج الحر العاملي على ذلك بكلمات بعض القدماء من امثال الشيخ المفيد وابن شهر آشوب، حيث صرح المفيد بان اصحاب الحديث نقلوا اسماء الرواة عن الامام الصادق من الثقات وكانوا اربعة الاف رجل، كالذي اطلعنا عليه من قبل. كما عبر ابن شهر آشوب في (المناقب) من أن الذين رووا عن الصادق من الثقات كانوا أربعة آلاف رجل، وأن ابن عقدة ذكرهم في رجاله[13]. ولم يستبعد الحر العاملي في (أمل الآمل) ان يكون أصحاب الصادق كلهم موثوقين إلا من ثبت ضعفه[14].

وقد توهم بعض الاخباريين من ان الاصل في توثيق اصحاب الصادق هو ابن عقدة، كالذي ذهب اليه الشيخ النوري[15]. فعلى ما اشار اليه المحقق الخوئي هو ان اصل التوثيق يعود الى الشيخ المفيد، وتبعه في ذلك ابن شهر آشوب وغيره، أما ابن عقدة فإن ما نسب إليه هو فقط تعداد هؤلاء الاصحاب مع ذكر لكل واحد منهم حديثاً. واضاف الخوئي ان هذه الدعوى من التوثيق غير قابلة للتصديق، اذ لو فرضنا ان اصحاب الصادق عبارة عن اربعة الاف رجل فقط، وكانوا جميعاً ثقاة، فان ذلك سيتنافى مع تضعيف الشيخ الطوسي لجماعة منهم؛ كابراهيم بن أبي حبة والحارث بن عمر البصري وعبد الرحمن بن الهلقام وعمرو بن جميع وغيرهم. ناهيك عن ان من المستحيل عادة ان يكون جميع الرجال ثقاة وهم من طبقات ومذاهب شتى. اما لو فرضنا العدد اكثر من المذكور، وان الثقاة منهم اربعة الاف فقط، فهذا الافتراض وان كان ممكناً وقابلاً للتصديق في نفسه، الا انه لا يترتب عليه اثر، فلو فرض ان اصحاب الصادق كانوا ثمانية آلاف، والثقات منهم أربعة آلاف، فانه ليس لنا طريق إلى معرفة الثقات منهم على وجه التشخيص. وبالتالي فسواء كان اصحاب الامام الصادق اربعة الاف او اكثر فهم ليسوا سواء من حيث التوثيق، طالما ان المنقول عنهم هم بين ثقات وغير ثقات، كالذي يدل عليه تضعيف الطوسي لجماعة منهم[16].

ثانياً: كما استشهد الاخباريون على دعواهم في صحة الاخبار المدونة في الجوامع الحديثية المعروفة باقوال عدد من العلماء المتأخرين والمتقدمين، ومن بينهم اصحاب الكتب الاربعة. فمن المتأخرين استشهدوا بقول الشيخ بهاء الدين العاملي في (مشرق الشمسين) حيث علق على التقسيم المستحدث للحديث فقال: ‹‹وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم، بل المتعارف بينهم إطلاق (الصحيح) على ما اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه، أو اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه، وذلك بامور: منها وجوده في كثير من الأصول الأربعمائة التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتصلة بأصحاب العصمة، وكانت متداولة في تلك الأعصار ومشتهرة بينهم اشتهار الشمس في رائعة النهار، ومنها تكرره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة، ومنها وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم؛ كزرارة ومحمد بن مسلم والفضيل بن يسار، أو على تصحيح ما يصح عنهم، كصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، أو العمل برواياتهم كعمار الساباطي وغيرهم ممن عدهم شيخ الطائفة في (العدة) كما نقله عنه المحقق الحلي في بحث التراوح من (المعتبر) ومنها اندراجه في أحد الكتب التي عرضت على الأئمة صلوات الله عليهم فأثنوا على مصنفيها، ككتاب عبيد الله بن علي الحلبي الذي عرضه على الصادق، وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكري، ومنها كونه مأخوذاً من الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها؛ سواء كان مؤلفوها من الفرقة الناجية المحقة ككتاب (الصلاة) لحريز بن عبد الله، وكتب ابني سعيد وعلي بن مهزيار، أو من غير الإمامية ككتاب حفص بن غياث القاضي، وكتب الحسين بن عبيد الله السعدي وكتاب (القبلة) لعلي بن الحسن الطاطري، وقد جرى رئيس المحدثين على متعارف القدماء فحكم بصحة جميع أحاديثه، وقد سلك ذلك المنوال جماعة من أعلام علماء الرجال لما لاح لهم من القرائن الموجبة للوثوق والاعتماد[17].

لكننا ناقشنا وجهة النظر المطروحة من قبل الإخباريين في دراسة مستقلة، كالذي فعلناه في كتابنا (مشكلة الحديث).



[1] يوسف البحراني: الدرر النجفية، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، ص165، والحدائق الناضرة، ج1، ص14، كذلك: وسائل الشيعة، المكتبة الاسلامية، طهران، ج20، ص68

[2] لاحظ حول ذلك: الفيض الكاشاني: الاصول الأصيلة، تصحيح وتعليق مير جلال الدين الحسيني، سازمان چاب دانشگاه، ايران، 1390هـ، ص63، وحسن بن زين الدين العاملي: منتقى الجمان، تعليق علي اكبر الغفاري، منشورات جامعة المدرسين بقم، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج1، ص4ـ5، ونهاية الدراية، ص264ـ266، والمير محمد باقر الداماد: الرواشح السماوية في شرح الاحاديث الامامية، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص40ـ41

[3] الرسالة المستطرفة، ص217

[4]  يوسف البحراني: لؤلؤة البحرين، حققه وعلق عليه محمد صادق بحر العلوم، مطبعة النعمان، النجف، ص394ـ395، كذلك: هاشم معروف الحسني: الموضوعات في الآثار والأخبار، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعـة الأولى، 1973م، ص44

[5] لؤلؤة البحرين، ص394ـ395، لكن يلاحظ أن مجموع تلك الأعداد يعطي (16121) حديثاً، ولا يعطي العدد الكلي المتمثل بـ (16199).

[6] روضات الجنات، ج6، ص109

[7] الحدائق الناضرة، ج1، ص15

[8] الدرر النجفية، ص165ـ166، كذلك: وسائل الشيعة، ج20، ص68

[9] قيل ان اضمحلال تلك الاصول إنما وقع بسبب الاستغناء عنها بكتب الجوامع التي دوّنها اصحاب الاخبار، لكونها احسن منها جمعاً وأسهل تناولاً، وإلا فتلك الاصول قد بقي اكثرها إلى زمن ابن طاوس الذي نقل منها شيئاً كثيراً في مصنفاته (الحدائق الناضرة، ج1، ص19).

[10] وسائل الشيعة، ج20، ص77 و68ـ69.

[11] محمد امين الاسترابادي: الفوائد المدنية، طبعة حجرية قديمة، ص177، كذلك: وسائل الشيعة، ج02، ص107، والاصول الاصيلة، ص63.

[12] اعيان الشيعة، ج5، ص401.

[13] وسائل الشيعة، ج30، الفائدة السادسة، ص208.

[14] معجم رجال الحديث، ج1، ص55ـ56.

[15] خاتمة المستدرك، ج4، ص52 و220.

[16] معجم رجال الحديث، ج1، ص56ـ57.

[17] وسائل الشيعة، ج30، الفائدة السادسة، ص199

comments powered by Disqus