-
ع
+

التسامح في تعديل الصحابة وتكثير الرواية

يحيى محمد

قيل ان عدد الذين رووا عن النبي من الصحابة هم أربعة آلاف رجل وامرأة[1]. كما قيل ان عددهم كبير غير قابل للضبط، وقد سئل ابو زرعة الرازي عن ذلك فقال: من يضبط هذا، شهد مع النبي (ص) حجة الوداع أربعون الفاً، وشهد معه تبوك سبعون الفاً[2]. وعلى رأي ابن حزم ان عدد الصحابة يفوق العشرين ألف انسان، وأن الفتيا لم ترو إلا عن مائة وثمانية وثلاثين منهم فقط[3].

لكن رغم العدد الكبير للصحابة ورغم ان الكثير منهم روى عن النبي؛ الا ان علماء الحديث طبقوا عليهم مبدأ التسامح والتعديل وحملوهم على الاخلاص والتقوى، فغضوا الطرف عما وقع بينهم من خلافات افضت في كثير من الاحيان الى الاقتتال واتهام بعضهم البعض الاخر، كما غضوا الطرف عما كان لبعضهم من مواقف سياسية ومصلحية هي ابعد ما تكون عن روح الاسلام وقيمه. فالمشكلة هي أن العلماء حينما افترضوا العدالة لجميع الصحابة؛ اخذوا يتقبلون كل رواية ترد عنهم، سواء كانوا كباراً او صغاراً، وسواء كانوا ممن تمسك بهدي الاسلام وقيمه، او ممن فتنوا بفتنة السياسة والمصالح الشخصية.

واول ما يتبادر لنا من سؤال بهذا الصدد هو معنى الصحابي لدى علماء الحديث والسنة؟

فالمشهور لدى العلماء هو اعتبار الصحابي كل من صحب النبي من المسلمين قلّ الوقت أم كثر. فقد قال ابن عمرو: رأيت أهل العلم يقولون كل من رأى رسول الله (ص) وقد أدرك الحلم وأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي (ص) ولو ساعة من نهار.. وكذا اعتبر أحمد بن حنبل ان الصحابي هو كل من رأى النبي او صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة. ومثل ذلك ذكر البخاري ان الصحابي هو من صحب النبي (ص) أو رآه من المسلمين.

لكن من القدماء من ذهب الى غير هذا المذهب المشهور. فمن التابعين - مثلاً - كان سعيد بن المسيب يرى انه لا يعد من الصحابة الا من أقام مع رسول الله (ص) سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين. وجاء عن بعض العلماء انه عد الصحابي في اللغة هو غيره في الاستخدام والاصطلاح، فاعتبر انه لا خلاف بين أهل اللغة بان لفظ الصحابي مشتق من الصحبة، وانه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلاً كان أو كثيراً، اذ يقال صحبت فلاناً حولاً ودهراً وسنة وشهراً ويوماً وساعة فيوقع اسم المصاحبة، وذلك يوجب في حكم اللغة اجراء هذا على من صحب النبي (ص) ولو ساعة من نهار، وهذا هو الأصل في اشتقاق الاسم، ومع ذلك فقد تقرر للامة عرف بانهم لا يستعملون هذه التسمية الا فيمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه ولا يجرون ذلك على من لقى المرء ساعة ومشى معه خطى وسمع منه حديثاً[4].

وقد استلزم معنى الصحابي لدى علماء الحديث والسنة مفهوم العدالة. فهم عندما يقررون ان هذا صحابي فانهم يقصدون بذلك ما يتضمن صفة العدل والتقوى، واصبح من المقرر ان من ثبتت صحبته ثبتت عدالته، وان من ظهر منه خلاف العدالة لم يقع عليه اسم الصحبة[5]. لهذا تقبل العلماء التدليس الذي يرد عن صغار الصحابة ورفعهم للحديث[6]. وقيل انه اذا اطلق الصحابي قوله: قال رسول الله؛ كان ذلك منه مقبولاً وإن احتمل الارسال، لان من ثبتت صحبته لم يحمل حديثه الا على سماعه بنفسه ما لم يصرح بالرواية عن غيره[7]. مما يعني انه لو كان الصحابة كلهم عدولاً لما كان ارسالهم وتدليسهم مضراً، في حين لو كان حالهم كحال غيرهم من الناس فان ذلك يعني اسقاط اكثر الروايات التي جاءت عنهم، حيث لم تشر في الغالب الى السماع المباشر عن النبي، وانما رويت بصيغة قال رسول الله.

وهناك تسويغ لتعميم هذا الموقف على ارسال التابعي الثقة عندما اسقط اسم الصحابي بقوله قال رسول الله. فلو اعتبرنا الصحابة كلهم عدولاً لكان ارسال التابعي لا يضر، وذلك على عكس ما لو اعتبرنا الصحابة كغيرهم من الناس في العدالة وعدمها، حيث في هذه الحالة لابد من ذكر الصحابي ومعرفة درجة صحبته ومكانته في الاسلام.

على ذلك أورد شهاب الدين القرافي (المتوفى سنة 684هـ) سؤالاً مفاده ان الإرسال هو إسقاط الصحابي من السند، وان الصحابة كلهم عدول فلا فرق بين ذكره والسكوت عنه، لكن كيف جرى الخلاف في ذلك؟ وكان جوابه ان الصحابة عدول ما لم يثبت العكس، واعتبر ان المسكوت عنه فيهم يجرى في حقه التوقف ولا يقبل حديثه حتى تعلم سلامته عن القادح. وهو بهذا تقبل الارسال عند التابعين، واعترض على المخالف بحجة ان الصحابة عدول لا يبحث عن حالهم. في حين كان مبرر الذين لم يتقبلوا الارسال عند التابعين هو اعتبارهم الصحابة كغيرهم من الناس من حيث العدالة وعدمها[8]. وهذا يعني ان قبول المرسل لدى التابعي وعدم قبوله متوقف على الرأي الخاص في عدالة الصحابة، كالذي ذكرناه بخصوص تدليس الصحابي ورفعه للحديث.

ومن الناحية النظرية اختلف العلماء في عدالة الصحابة. فبينما كان النووي في (التقريب) يقول: ‹‹الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به››، ذهب بعض اخر الى نفي ذلك، وهو انه يجب  البحث عن عدالة الصحابة مطلقاً. والاهم من ذلك ما طرقه المازري في (شرح البرهان) من باب لتحديد معنى العدالة وفق معنى الصحابة، فقال: لسنا نعني بقولنا (الصحابة عدول) كل من رآه يوماً ما أو زاره أو أجتمع به لغرض وانصرف، وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه، فإذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمه كان ذلك حجة، ولا تضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم[9].

أما من الناحية العملية والتطبيق فقد اعتبر الحفاظ جميع الصحابة عدولاً؛ كبارهم وصغارهم، سواء صاحبوا النبي مدة طويلة او قصيرة. وكما قال الحافظ الذهبي: ‹‹وأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات، فما يكاد يسلم من الغلط أحد، لكنه غلط نادر لا يضر أبداً، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوا العمل وبه ندين الله تعالى. وأما التابعون فيكاد يعدم فيهم من يكذب عمداً لكن لهم غلط وأوهام، فما ندر غلطه في جنب ما قد حمل احتمل، ومن تعدد غلطه وكان من أوعية العلم اغتفر له أيضاً››[10]. وكذا اعتقد الخطيب البغدادي بعدم الحاجة الى السؤال عن الصحابة، حيث عدالتهم ثابتة ومعلومة، وانما يجب فيمن دونهم، فكل راو للحديث يجب النظر في حاله سوى الصحابي الذي يرفع الحديث الى النبي[11].

وقد استدل الخطيب البغدادي على عدالتهم بتعديل الله لهم واخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن، كقوله تعالى: ((وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)) (البقرة/143) وقوله: ((يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)) (الأنفال/64)[12]. كما جاءت الاخبار في هذا المعنى مطابقة لما شهد عليه النص القرآني، مثل الحديث الذي روي عن عبد الله بن مسعود أن النبي (ص) قال: خير امتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق ايمانهم شهادتهم ويشهدون قبل ان يستشهدوا[13]. وكذا الحديث الذي روي عن ابي سعيد الخدري ان النبي قال: لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه[14].

وعلى رأي البغدادي ان جميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع بعدالتهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم الى تعديل الخلق لهم مادام الله ابلغ بعدالتهم جميعاً وبرأهم عن المعاصي ورفع اقدارهم ومنازلهم، اذ كانوا من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والاموال وقتل الآباء والاولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين، ما يقطع بعدالتهم والاعتقاد بنزاهتهم وانهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين من بعدهم ابد الآبدين. واعتبر ان هذا هو مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء[15]،

لكن البغدادي لم يتعرض الى ما ورد في الصحاح من سوء عاقبة ناس من الصحابة لما فعلوه من تبديل وتغيير، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس ان النبي (ص) قال: إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً، ثم قرأ: ((كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين)) وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وإن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي؟ فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: ((وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم))[16]. كما روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد انه سمع النبي يقول: أنا فرطكم على الحوض من ورده شرب منه ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم. وجاء ان ابا سعيد الخدري زاد على ذلك بقول النبي: إنهم مني، فيقال إنك لا تدري ما بدلوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي[17] . كما روى هذان الشيخان روايات اخرى فيها تحذير لقتال المسلم اخاه المسلم واعتباره من الكفر، وقد تكرر هذا الامر بين الصحابة، ومن ذلك ما روي عن عبد الله ان النبي (ص) قال: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[18]. وفي رواية اخرى عن ابي بكرة انه قال: خطبنا النبي (ص) يوم النحر فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، وقال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، وقال: أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض[19]. يضاف الى ما ورد في القرآن من ايات دالة على وجود الكثير من المنافقين والمتربصين بالنبي ممن اظهروا الاسلام وتظاهروا بالايمان، خاصة تلك التي تضمنتها سورة التوبة.

على ان ما قدره العلماء بحق الصحابة هو حكم صحيح، لكنه مضيق - في الاعم الاغلب - بحدود الذين صبروا مع النبي ولاقوا معه المصاعب والمتاعب طيلة سني البعثة والهجرة، ويشهد على هذا الامر ما نصت عليه الكثير من الايات القرآنية. وليس هناك ما يدل على توسعة الحكم - كالذي افاده العلماء - ليشمل جميع الصحابة، حيث منهم الصغار الذين لم يتميز فيهم العدل  عن غيره، كما ان منهم من اسلم بعد الفتح، وقد يكون اغلب هؤلاء دخلوا الاسلام ملجئين لا خيار لهم بعد الفتح العظيم، او بعدما خيروا بين الاسلام والقتل.

ومن الاهمية بمكان التمييز بين مفهومين عامين للصحابة، احدهما مجرد وبريء لا يتضمن ولا يستلزم اي معنى قيمي اخر كالعدالة وما اليها. فعندما نقرر - حسب هذا المفهوم - ان فلاناً صحابي؛ فذلك لا يقتضي حكماً معيناً او صفة اخرى ترفع من شأنه لمجرد حمله سمة الصحبة. فقد يكون الانسان كثير الصحبة والاقتران مع النبي او غيره، لكن لا يلزم عن ذلك ان يكون تقياً وعادلاً، وكذا العكس صحيح ايضاً. وبالتالي لا شأن للصحبة حسب هذا المفهوم باي حكم قيمي يخص العدالة وما اليها، سواء كان معنى الصحبة من طالت مدة رؤيته للنبي وسماعه عنه، او قصرت هذه المدة. أما المفهوم الاخر للصحابة فيتميز بانه غير بريء ولا مجرد، بل يتضمن حكماً ومعنى قيمياً من العدالة والتقوى والطهارة والايمان وما الى ذلك. وخطورة هذا المفهوم هو ان تحديد معنى الصحبة يستلزم معه حكماً ومعنى اخر كتلك التي ذكرناها. فلو اعتبرنا الصحابي هو كل من رأى النبي وسمعه ولو لساعة واحدة؛ لكان هذا يعني ان من يصدق عليه هذا الوصف هو عادل وتقي باللزوم او التضمن.

ويمكن ان يستند علماء الحديث والسيرة فيما يقولونه عن عدالة جميع الصحابة الى كلا المفهومين السابقين باعتبارين مختلفين. ولتصوير هذا الامر علينا لحاظ كيف يمكن انتزاع حكم عدالة جميع الصحابة وفق نوعين من المغالطة حسب القياسين التاليين:

الاول: ان مفهوم الصحابة هو مفهوم بريء ومجرد، وان الصحابة الذين لازموا النبي في ايام العسرة وناصروه وصدقوه واطاعوه هم ممن يجب التعويل عليهم في العدالة والتقوى والطهارة. لكن لمفهوم الصحبة معنى عاماً يشمل كل من رأى النبي وسمعه ولو لساعة واحدة، وبالتالي فان الحكم الذي يصدق على الصحابة الاولين ممن لازم النبي مدة طويلة في الطاعة والنصرة والجهاد سوف يصدق على غيرهم ممن رآه وسمعه ولو لساعة واحدة، وهذا يعني ان حكم العدالة على الجماعة الاولى يصدق ذاته على الجماعة الاخيرة. وبعبارة اخرى، ان للصحابة معنى عاماً يصدق على كل من رأى النبي طالت مدة ذلك أم قصرت، وان من طالت مدة لزومه للنبي ايام العسرة والشدة يتصف بحكم العدالة والتقوى، لذا فان هذا الحكم يصدق ايضاً على من قصرت مدة رؤيته للنبي باعتباره ممن يشمله مفهوم الصحبة كالاول.

الثاني: ان مفهوم الصحبة مفهوم يستلزم ويتضمن المعنى القيمي للعدالة والتقوى، وان الصحابي على ذلك يكون عادلاً لا يبحث فيه بسبب فضل الصحبة. وبالتالي اذا كان معنى الصحبة يصدق فعلاً على اولئك الذين لازموا النبي وتابعوه مدة طويلة كالمهاجرين والانصار مثلما تشير الى ذلك النصوص الدينية، فكذا يمكن توسعة هذا المعنى بحسب الامر اللغوي لمفهوم الصحبة كي يشمل كل من رأى النبي ولو لساعة واحدة، وبالتالي يمكن القول ان هؤلاء الرجال الذين عممنا عليهم سمة الصحبة هم ممن يصدق عليهم حكم العدالة والتقوى للتلازم بين تلك الصحبة وهذا الحكم. وهذا يعني ان كل الرجال الذين رأوا النبي وسمعوه هم عدول، سواء طالت مدة ملازمتهم للنبي أم قصرت، وذلك لاقتضاء الصحبة للعدالة.

ومن حيث المقارنة بين القياسين يلاحظ ان التوسعة بحسب قياس المفهوم الاول تجري في الحكم لا الموضوع، اي في العدالة لا الصحبة. حيث بحسب هذا المفهوم ان كل من رأى النبي فهو صحابي طالت مدة ذلك أم قصرت، وهو امر لا يتضمن معنى العدالة والتقوى، وكل ما فعله العلماء هو انهم عمموا حكم العدالة الذي يصدق فعلاً على الصحابة الاولين من المهاجرين والانصار كما تشير الى ذلك الكثير من الايات على غيرهم من ‹‹الصحابة›› الاخرين بمن فيهم صغار الصحابة والذين اسلموا بعد فتح مكة. في حين ان التوسعة حسب قياس المفهوم الثاني تصدق على الموضوع لا الحكم، اي ان التوسعة قد اصابت الصحبة مباشرة فافضت الى النتيجة ذاتها من الاخذ بعدالة الصحابة جميعاً لافتراض ان الصحبة تتضمن العدالة.

ومن الواضح ان كشف المغالطة في القياس والتوسعة حسب المفهومين السابقين يجعل اكثر الاحاديث التي رويت عن النبي موضع بحث ونقد لعلاقتها المباشرة بالعدالة، وذلك لانها رويت في غالبها عن صغار الصحابة الذين اكثروا من التدليس ورفع الحديث. فاذا كانت العدالة ثابتة مبدئياً فيما يخص كبار الصحابة الذين لازموا النبي على الدوام؛ فان ذلك لا يمكن تعميمه وبسطه على الصغار منهم كلية . مع ان علماء الحديث واصحاب الصحاح اجروا هذه التوسعة والقياس المغالط حسب احد المفهومين السابقين، وقد سوغ لهم ذلك الاعتماد على المكثرين من صغار الصحابة في جمع الحديث، وكان منهم من عاصر النبي وهو مازال حدث السن، فرغم هذه الحداثة للعديد من هؤلاء الصغار فقد روي عنهم الكثير من الاحاديث. وممن كثرت الرواية عنه وكان سماعه في الصغر: أنس بن مالك وعبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري[20]، ومن بين هؤلاء من جاء فيه انه لم يدرك حديث النبي لصغره، لكن مع ذلك روي عنه الكثير من الحديث المنسوب الى النبي مباشرة، فكما جاء عن السيدة عائشة انها قالت: ما علم أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري بحديث رسول الله وإنما كانا غلامين صغيرين[21]. وهذه الرواية تتنافى مع ما ورد عنهما انهما سمعا عن النبي العديد من الحديث، ومنها تلك التي لها علاقة بكراهة التدوين كما عرفنا. وقد نقل عن كل واحد من هؤلاء الصغار ما يفوق الالف رواية مسندة الى النبي، وبعضهم فاقت روايته الالفين، فما الذي يبرر قبول مثل هذه الروايات؟

يعود بنا هذا التساؤل الى ما قرره علماء الحديث والسيرة بشأن عدالة جميع الصحابة وقبول ما يصدر عنهم من التدليس ورفع الحديث، ومن ذلك تعليق الذهبي على ما ذكره شعبة من ان أبا هريرة كان يدلس، حيث قال: ان تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه، فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول[22]. وكذا كان يقول ابن قتيبة قبله، وهو ان ابا هريرة يقول قال رسول الله (ص) كذا، وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه، ومثله كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة، معتبراً ذلك ليس بالكذب[23].

مع ان هذا المنطق يفضي الى التناقض وعدم الاتساق، ذلك انه اذا كانت صفة الرفع والتدليس مقبولة عن الصحابة لعدالتهم، فكيف لا تقبل عن غيرهم من الرواة العدول؟ وبعبارة اخرى، لماذا شدد اصحاب الصحاح على الشرط الخاص بالاسناد المتصل والسماع المباشر؛ بلا ارسال ولا تدليس، رغم افتراضهم العدالة في الرواة مثل تلك التي افترضوها في الصحابة؟

فالاتساق يدعو إما الى الاخذ بالمرسل والمدلس عن جميع الرواة العدول صحابة وغير صحابة، او الترك عنهم جميعاً بلا تمييز ولا استثناء. هذا اذا كان الامر يرتبط بالعدالة، اما لو اخذنا بحساب عناصر اخرى فاعلة كقرب الإسناد وما اليه فسيكون الامر مختلفاً، حيث تصبح علة الاخذ عن الصحابة لا لكونهم عدولاً فحسب، بل لقربهم من عصر النبي. لكن ذلك سوف يفضي الى قبول المرسل والمدلس العائدين الى التابعي؛ لذات العلة المذكورة من العدالة والقرب، وهو ما لم يراعه الحفاظ واصحاب الصحاح.

اخيراً يمكن القول ان اصحاب الصحاح والجوامع الحديثية قد بلغوا غايتهم في الافادة من المبدأ القائل بعدالة جميع الصحابة، اذ به تمكنوا من توسعة رواياتهم عبر الاخذ عن المكثرين من صغار الصحابة، ولسان حالهم يقول: كلما كثر العدول كثرت الرواية، وكلما عم العدول سادت الرواية وشاعت!

 

 



[1] المدخل إلى الإكليل.

[2] وفي رواية اخرى سئل ابو زرعة: أليس يقال حديث النبي (ص) أربعة آلاف حديث؟ فرد على ذلك: ان من قال هذا قلقل الله انيابه، هذا قول الزنادقة ومن يحصي حديث رسول الله (ص) وقد قبض عن (114) ألف من الصحابة ممن رآه وسمع منه (لاحظ: مقدمة ابن الصلاح، باب معرفة الصحابة).

[3] النبذ في أصول الفقه، مصدر سابق، ص25.

[4] الكفاية في علم الرواية، باب القول في معنى وصف الصحابي انه صحابي.

[5] البحر المحيط، فقرة 1069

[6] المقصود بالحديث المرفوع هو ما أخبر فيه الصحابي عن قول الرسول (ص) أو فعله (الكفاية في علم الرواية، معرفة ما يستعمل أصحاب الحديث من العبارات).

[7] ابن امير الحاج الحلبي: التقرير والتحبير، سي دي مكتبة الفقه واصوله، عن دار الفكر، تحقيق مكتب البحوث والدراسات، بيروت، 1996م، الطبعة الاولى، ج2، ص385

[8] قواعد التحديث، ص141.

[9] قواعد التحديث، ص199

[10] قواعد التحديث، ص187

[11] الكفاية في علم الرواية، باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة. وشروط الائمة الخمسة، ص42

[12] يضاف الى ايات اخرى مثل قوله تعالى: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس)) (آل عمران/110) وقوله: ((لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً)) (الفتح/18) وقوله: ((والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه)) (التوبة/100) وقوله: ((والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم)) (الواقعة/10ـ12) وقوله: ((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون)) (الحشر/8ـ9) (الكفاية في علم الرواية، باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة).

[13] صحيح البخاري، حديث 2509، والكفاية في علم الرواية، باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة.

[14] صحيح البخاري، حديث 3470، والكفاية في علم الرواية، باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة. ومثل ذلك روي عن أبي هريرة عن النبي (ص) انه قال: خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال أبو هريرة: فلا ادري ذكره مرتين أو ثلاثاً، ثم يخلف من بعدهم قوم يحبون السمانة ويشهدون ولا يستشهدون (الكفاية في علم الرواية، نفس الباب السابق. وروي على شاكلة هذا الحديث منقولاً عن عمران بن حصين في صحيح البخاري، حديث 2508). وعن ابن عباس قال رسول الله (ص): مهما اوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحدكم في تركه، فان لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فان لم تكن سنة مني ماضية فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيها أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة (الكفاية في علم الرواية، نفس الباب السابق).

[15] الكفاية في علم الرواية، باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة.

[16] صحيح البخاري، حديث 3171، وصحيح مسلم، حديث 2860

[17] صحيح البخاري، حديث 6643، وصحيح مسلم، حديث 2290، كذلك جاء في صحيح البخاري (حديث 6220) وصحيح مسلم (حديث 2293) عن أسماء بنت أبي بكر ان النبي (ص) قال: إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم وسيؤخذ ناس دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي؟ فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم، فكان ابن أبي مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا. كما روى البخاري (حديث 6642) عن عبد الله ان النبي (ص) قال: أنا فرطكم على الحوض فليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي؟ فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك. ومثله في صحيح مسلم (حديث 2297) عن عبد الله ان رسول الله (ص) قال: أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواماً ثم لأغلبن عليهم فأقول: يا رب أصحابي أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. كذلك جاء في صحيح مسلم (حديث 2304) عن أنس بن مالك أن النبي (ص) قال: ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي اختلجوا دوني فلأقولن: أي رب أصحابي أصحابي؟ فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وجاء في صحيح البخاري (حديث 6213) عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري. وفي رواية اخرى في صحيح البخاري (حديث 6215) عن أبي هريرة ان الناجين من الصحابة هم القلة المعبر عنهم بمثل همل النعم.

[18] صحيح البخاري، حديث 48، وصحيح مسلم، حديث .116

[19] صحيح البخاري، حديث 1652ـ1655، وصحيح مسلم، حديث 118ـ120.

[20] وكما قال البغدادي: لو كان السماع لا يصح الا بعد العشرين لسقطت رواية كثير من أهل العلم سوى من هو في عداد الصحابة ممن حفظ عن النبي (ص) في الصغر، فقد روى الحسن بن علي بن أبي طالب عن النبي (ص) ومولده سنة اثنتين من الهجرة، وكذلك عبد الله بن الزبير بن العوام والنعمان بن بشير وأبو الطفيل الكناني والسائب بن يزيد والمسور بن مخرمة، وروى مسلمة بن مخلد عن رسول الله (ص) وكان له حين قبض عشر سنين، وقيل أربع عشرة سنة، وتزوج رسول الله (ص) عائشة وهي بنت ست سنين وابتنى بها وهى بنت تسع، وروت عنه ما حفظته في ذلك الوقت، وروى عمر بن أبي سلمة أن النبي (ص) قال له: ادن يا غلام وسم الله وكل بيمينك مما يليك، وروى معاوية بن قرة المزني عن أبيه انه قال: كنت غلاماً صغيراً فمسح رسول الله (ص) رأسي ودعا لي، وقال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: كنت غلاماً العب فجاء رسول الله (ص) من سفر فاستقبلته فحملني بين يديه، وقال يوسف بن عبد الله بن سلام: سماني رسول الله (ص) يوسف وأقعدني في حجره ومسح على رأسي (الكفاية في علم الرواية، باب ما جاء في صحة سماع الصغير).

[21] جامع بيان العلم وفضله، باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض.

[22] سير أعلام النبلاء، ج2، فقرة 608 

[23] تأويل مختلف الحديث، باب ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي.

comments powered by Disqus