-
ع
+

الإمامة ودلالات الاختلاف والحيرة

يحيى محمد

لقد عانى اصحاب الأئمة الكثير من الاختلاف والحيرة والاضطراب، بمن فيهم من وصفوا بالجلالة والتقوى، كما تشير الى ذلك كتب الفرق والمقالات. وقد تمّ تصوير هذا الاختلاف عبر كثرة ما ظهر من الفرق المعاصرة للأئمة.

فأول فرقة نشأت وبدأت الخلاف هي فرقة الكيسانية التي ادعت ان الامامة تعود الى محمد بن الحنفية بعد الحسن والحسين، وانه المهدي المنتظر، ثم بعد ذلك ظهرت فرقة الزيدية التي عدت زيد بن علي بن الحسين هو الامام الواجب طاعته بعد ابيه زين العابدين. وكان لزيد وعدد من علماء آل البيت استقلالية عن الخط العام للامامة، ولشدة الوثوق به وجلالته فقد اعتبره البعض الامام الثالث عشر[1]. وقد استمر الخلاف بين الاصحاب حول الائمة واحداً تلو الاخر كالذي يبرزه اصحاب السير والفرق. وظهرت شدته بعد وفاة الامام الصادق، ولم يخفت حتى اخر الائمة. فما إن توفي الامام الصادق حتى ادعت فرقة انه حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر فيملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، لانه القائم المهدي. وذهبت فرقة اخرى الى ان هذا الامام مات ونصّ على إبنه إسماعيل وانه الامام بعده وأنه القائم المنتظر، وأنكرت وفاته في حياة أبيه. وقال البعض ان إسماعيل قد توفي على الحقيقة في زمن أبيه غير أنه قبل وفاته نصّ على ابنه محمد فكان الامام بعده، وبعضهم قال ان الذي نص على محمد هو الصادق وليس اسماعيل. وذهب البعض الى ان الامام الصادق توفي وان الامام بعده ابنه محمد[2].

واعظم ما ظهر من خلاف واضطراب هو ما ذهب اليه غالبية الشيعة انذاك من امامة ولد الصادق الاكبر عبد الله الملقب بالافطح. ثم انقاد اغلب الشيعة بعد ذلك الى امامة موسى الكاظم. وبعد وفاته قال جمهورهم بامامة علي الرضا، لكن جماعة منهم توقفوا عند موسى الكاظم وادعوا حياته وانه هو المهدي المنتظر. وقال فريق منهم انه مات وسيبعث قائماً. كما اختلفت الواقفة في الامام الرضا ومن قام من آل محمد بعد موسى الكاظم، فقال البعض هؤلاء خلفاء موسى وامراؤه وقضاته إلى أوان خروجه وإنهم ليسوا بأئمة وما ادعوا الامامة قط، وقال الباقون إنهم ضالون مخطئون ظالمون، وقالوا في الرضا خاصة قولاً عظيماً وأطلقوا تكفيره وتكفير من قام بعده من ولده. كما اختلف الشيعة بعد وفاة الامام الرضا، اذ لم يكن له الا ولد واحد وعمره عند وفاة أبيه سبع سنين، وهو محمد الجواد، فذهبت فرقة الى القول بامامته، كما ارتدت فرقة الى قول الواقفة ورجعوا عما كانوا عليه من إمامة الرضا، كما قالت فرقة بإمامة أحمد بن موسى الكاظم، وزعموا ان الرضا نصّ عليه. وبعد ذلك ذهب الشيعة الى امامة علي الهادي باستثناء القليل منهم حيث ذهبوا الى امامة اخيه موسى، ولما توفي الامام الهادي تفرق الشيعة وقال جمهورهم بامامة الحسن العسكري، وقال بعضهم بامامة اخيه محمد بن علي فانكروا وفاته في حياة ابيه وزعموا انه لم يمت وانه حي وانه القائم المنتظر، كما ذهب البعض الى امامة جعفر بن علي[3]. ولما توفي الحسن العسكري افترق اصحابه الى أربع عشرة فرقة كالذي ذكرهم النوبختي في (فرق الشيعة) وذلك كالاتي:

حيث قال الجمهور منهم ان للامام الحسن ولداً اسمه محمد وهو القائم المنتظر، وبعض قال ان اسمه علي، كما قال بعض بان القائم بعد الحسن هو ابنه محمد الذي ولد بعد موت ابيه بثمانية اشهر، وهو المنتظر، وقال اخرون ان محمد بن الحسن العسكري مات وسيجيء ويقوم بالسيف فيملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وذهب بعض اخر الى ان الامام الحسن مات عن غير ولد ظاهر ولكن عن حبل من جارية له، وما ولدته امه بعد، وإنه يجوز أنها تبقى مائة سنة حاملاً به، فإذا ولدته أظهرت ولادته. ومنهم من ذهب الى ان الحسن حي لم يمت وانما غاب وهو القائم المنتظر، ومنهم من قال انه مات وعاش بعد موته، وهو القائم المهدي. وبعضهم ذهب الى امامة جعفر بن علي بعد موت اخيه الحسن، كما رجعت فرقة ممن كانت تقول بإمامة الحسن عن إمامته عند وفاته وقالوا لم يكن إماماً وكان مدعياً مبطلاً، وأنكروا إمامة أخيه محمد، وقالوا الامام هو جعفر بن علي بنص أبيه عليه، كذلك رجعت فرقت اخرى عن امامة الحسن بالقول بامامة اخيه محمد فادعوا حياته بعد ما كانوا ينكرونها. وقالت فرقة اخرى إن الامامة قد بطلت بعد الحسن فارتفعت الائمة وليس في الارض حجة من آل محمد، وإنما الحجة الاخبار الواردة عن الائمة المتقدمين، وزعموا أن ذلك سائغ إذا غضب الله على العباد فجعله عقوبة لهم. كما ذهب اخرون الى إن محمداً أخا الحسن العسكري كان الامام في الحقيقة مع أبيه علي وإنه لما حضرته الوفاة وصى إلى غلام له يقال له نفيس وكان ثقة أميناً، ودفع إليه الكتب والسلاح ووصاه أن يسلمها إلى أخيه جعفر، فسلمها إليه وكانت الامامة في جعفر بعد محمد على هذا الترتيب. وقالت فرقة اخرى قد علمنا أن الحسن كان إماماً فلما قبض التبس الامر علينا فلا ندري أجعفر كان الامام بعده أم غيره، والذي يجب علينا أن نقطع على أنه لابد من إمام ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعينه حتى يتبين لنا ذلك. واخيراً قالت فرقة بأن الامامة لجعفر بعد ان نص عليه اخوه الحسن عندما حضرته الوفاة، وزعموا أن الذي دعاهم إلى ذلك ما يجب في العقل من وجوب الامامة مع فقدهم لولد الحسن وبطلان دعوى من ادعى وجوده من الامامية[4].

وتعد هذه المدة من وفاة الامام العسكري اعظم الفترات اضطراباً وحيرة لدى علماء الشيعة وفقهائها. لكنها مسبوقة بعدد من فترات الاضطراب التي فرقت شمل من وصفوا بالاجلة العظام من اصحاب الائمة، خاصة بعد الامامين الصادق والكاظم، لا سيما عند ظهور فرقة الفطحية حيث تحمل من الدلالات ما تحمل[5]. وقد ذهب اليها والى غيرها عدد ممن يعدون من اصحاب الاجماع؛ مثل عبد الله بن بكير وابان بن عثمان الذين ذهبا الى امامة عبد الله بن جعفر الصادق، وبعضهم وقف عند الامام موسى الكاظم مثل أحمد بن محمد بن أبي نصر،  كما ان بعضاً اخر قال بالوقف ثم رجع عنه، مثل جميل بن دراج وحماد بن عيسى[6]. هذا بالاضافة الى غيرهم ممن اعتبروا من الاعاظم والاجلاء، وان لم يكونوا من اصحاب الاجماع، ويكفي ما صرح به الكشي في كل من محمد بن الوليد الخزاز ومعاوية بن حكيم ومصدق بن صدقة ومحمد بن سالم بن عبد الحميد، حيث قال: هؤلاء كلهم فطحية، وهم من أجلة العلماء والفقهاء والعدول، وبعضهم أدرك الرضا عليه السلام، وكلهم كوفيون[7].

وما سبق له دلالات عديدة كما يلي:

1ـ ان عدد الائمة لم يكن معروفاً اثناء حياتهم، وذلك بدلالة القول بالوقف لدى الكثير من الاصحاب، وبدلالة انه لم يظهر من يبطل حجج هؤلاء بدعوى نقصان العدد. اذ كيف يتسق ذلك مع شيوع خبر الائمة الاثني عشر؟! وكل ما روي بهذا الشأن لا يقف قوة قبال هذه الدراية، فلعلها ظهرت في عصر الغيبة لتبرير النهاية بعد الحيرة، ويقرب هذا المعنى انه جاء في رواية عن احمد بن محمد البرقي تبين ان الائمة اثنا عشر اماماً، حيث رواها محمد بن يحيى عن محمد بن حسن الصفار عن البرقي المذكور، فعلق محمد بن يحيى وقال للصفار: يا أبا جعفر وددت أنّ هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله (البرقي)، فأجاب الصفار: لقد حدّثني قبل الحيرة بعشر سنين[8]. وقيل ان ظاهر هذا الحديث يفيد ان البرقي صار متحيراً في امر الامامة او خصوص امامة المهدي[9] ، واجاب العلماء على ذلك بوجوه مختلفة[10]. والمعروف ان الحيرة ظهرت عند وفاة الحسن العسكري، وسميت بذلك لاضطراب الناس حول الامام بعده[11]. والخبر المذكور يدل بان زمن الحيرة يدعو الى حالة وضع الاحاديث الخاصة بالاثني عشر اماماً.

بل ويدلنا على ذلك ان ما وصلنا من الروايات عن عدد الائمة كان لدى كتاب (بصائر الدرجات) قليلة للغاية ربما لم تتجاوز ثلاث روايات[12]، وانها كانت لدى (الكافي) عشرين رواية الكثير منها تعتليها الصفة الاسطورية، وان ما جاء فيها من الاحاديث المعدة صحيحة حسب الاعتبارات المصطلح عليها؛ حديث منفرد وصف بانه حسن كالصحيح، واخر مروي عن احمد بن محمد البرقي بطريقين مختلفين، وهو الحديث الذي دار حوله الحوار المذكور بين محمد بن يحيى ومحمد بن حسن الصفار، ويتصف الحديث بالطابع الاسطوري[13]. اما غير ذلك من الاحاديث فانها معدودة ضمن الاحاديث غير الصحيحة، حيث بعضها ضعيف، وبعض اخر يتضمن الرفع او المجاهيل[14].

وعليه لو ابعدنا الحديث الاسطوري المعدود ضمن الاحاديث الصحاح، فانه يبقى حديث واحد من بين العشرين حديثاً أُعتبر حسناً كالصحيح. لكن هذا الحديث ليس بشيء قبال الدراية التي مرت معنا، مع ما في سنده من بعض الذين لم يرد فيهم نص من التوثيق، وهو ابراهيم بن هاشم القمي، وان الحديث مروي عن بعض الائمة المتقدمين لا المتأخرين ممن عاصرهم الشيخ المذكور وابنه علي[15].

هذا ما جاء في عصر الغيبة الصغرى، اما بعدها فالملاحظ ان روايات خبر الائمة الاثني عشر قد زادت عدداً. حيث اورد الشيخ الصدوق في (الخصال) اكثر من خمسين رواية[16]. كما روى معاصره احمد بن عياش الجوهري (المتوفى سنة 401هـ) روايات اخرى من العامة والخاصة تقارب عدد ما رواه الكليني[17]. وجاء في كتاب (كفاية الاثر) المنسوب الى الخزاز القمي اضعاف الاعداد السابقة مروية عن النبي واصحابه والائمة[18]، لكن الكتاب لم تثبت نسبته، فمع ان النجاشي والطوسي ذكرا الخزاز في كتبهما الرجالية، الا انهما لم يذكرا له هذا الكتاب، فقد وثقه النجاشي وقال عنه كان فقيهاً وجيهاً له كتاب الايضاح في اصول الدين على مذهب أهل البيت (ع)[19]، كما وثقه الطوسي في (الفهرست) وقال عنه بانه متكلم جليل، له كتب في الكلام، وله انس بالفقه، وكان مقيماً بالري وبها مات رحمه الله[20]، كذلك ذكره الطوسي في رجاله واكتفى بالقول عنه: علي بن أحمد بن علي الخزاز، نزيل الري، يكنى أبا الحسن، متكلم جليل[21]. وبهذا فان النجاشي والطوسي لم يعرّفا بان للخزاز كتاباً بالعنوان المذكور، وكان الاولى ان يذكرا ذلك في فهرستيهما، إن صح ان له ذلك الكتاب. وسار على هذا المسار عدد من اصحاب الرجال المتأخرين مثل العلامة الحلي في (خلاصة الرجال) حيث عرفه دون ان يذكر له كتباً[22].

ولعل اول من ذكر ان للخزاز الكتاب المذكور - ولو بشيء من الاختلاف في الاسم -  هو ابن شهر آشوب (المتوفى سنة 588 هـ) حيث عرفه في (معالم العلماء) بقوله: ان له كتباً في الكلام وفي الفقه، من كتبه: كتاب الاحكام الشرعية على مذهب الامامية، والايضاح في الاعتقاد، والكفاية في النصوص[23]. كما اسند الحر العاملي هذا الكتاب الى الخزاز عبر سلسلة طويلة من الرجال[24].

بل حتى لو ثبت ان للخزاز كتاباً بذلك الاسم، فمن غير المعلوم ان ما عثر عليه من نسخة هي ذاتها له دون زيادة ولا نقصان. فقد كتب على النسخة التي عثر عليها في الاخر: ‹‹تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه وعونه، ووافق الفراغ منه يوم الثلاثاء مستهل جمادي الاولى من سنة أربع وثمانين وخمسمائة››[25]. مع انها وصفت مكتوبة ‹‹بخط وورق وترتيب كلها في غاية الجودة، وورقه لم يبله مر القرون وان أثر فيه، وتفوق هذه النسخة في حسن الترتيب في كتابتها المطبوعات العصرية الجيدة الترتيب››[26]. وهو ما يبعث على الشك بان تكون النسخة كتبت في الزمن المذكور، بدلالة ان هناك من قام بتقديم تأريخ كتابة نسخة اخرى للكتاب مائة عام دون ذكر اسمه، وهي النسخة التي اعتمدها محقق الكتاب مع نسخة ثانية[27].

وقديماً لم يحظ الكتاب بوصف يليق بما يتضمنه من اخبار، ولم يظهر للعلماء القدماء ادنى اهتمام به على فرض وجوده مع اهميته من حيث كثرة عدد الاخبار الدالة على الاثني عشر امام. هذا ناهيك عما جرى من لبس في اسم الكتاب ونسبته، فقد ذكر محقق الكتاب: ‹‹رأيت بخط بعض الافاضل على ظهر كتاب (الكفاية) المذكور أنه قد يعرف تارة بكتاب الكفاية وتارة بكتاب مقتضب الاثر في النصوص على الائمة الاثني عشر، والحق أنه سهو ظاهر. وقد يعرف هذا الكتاب بكتاب (مشكاة الانوار) أيضاً على ما قيل، ولكن لم يثبت عندي، وبالجملة هو غير (مشكاة الانوار) لسبط الشيخ الطبرسي وغير (مشكاة الانوار) للكفعمي في الادعية، وهو ظاهر. ثم من الغرائب أنه قد ينسب إليه أيضاً في بعض المواضع كتاب (الباب المفتوح الى ما قيل في النفس والروح) وكتاب (مختصر المصباح) وكتاب (مختصر المختلف) وكتاب (مختصر مجمع البيان) ورسالة (في المنطق)، إذ هو سهو ظاهر، لان اكثر هذه الكتب قد ألف بعد هذا الشيخ بزمان كثير، ومن البين أن مؤلف هذه الكتب هو الشيخ زين الدين البياضي صاحب كتاب (الصراط المستقيم) وغيره››. كما نقل السيد محسن الامين العاملي عن المجلسي نسبة هذا الكتاب الى المفيد وعن غيره نسبته الى الصدوق[28].

2ـ كذلك وللسبب السابق ذاته لا تقف روايات تشخيص الائمة قبال الدراية الخاصة بجهل المقربين من الائمة بهم. فمثلاً ان زرارة مات ولم يعرف من هو الامام بعد جعفر الصادق، اذ روي انه بعث ولده لاستقصاء الامر ولما قربت وفاته اخذ المصحف ووضعه على صدره وقال: اللهم إني أئتم بمن يثبت هذا المصحف إمامته[29]. كذلك الحال فيما عرفناه من ان اغلب اصحاب الامام الصادق لم يعرفوا في البدء من هو الامام بعده، فعولوا على ابنه الاكبر عبد الله الافطح، وكذا بالنسبة للاخرين الذين قالوا بالوقف، او الذين اختلفوا على اولاد الائمة. وقد ادرك عدد من المحققين ما تستلزمه هذه الدراية،  فقال الميرزا ابو الحسن الشعراني بعد ذكره لخلاف الاصحاب على الائمة: انه ‹‹لو كان الأئمة متعينين لم يعهد منهم التفحص››[30]. كما قال البهبودي: ‹‹ان الاحاديث المروية في النصوص على الائمة جملة من خبر اللوح وغيره كلها مصنوعة في عهد الغيبة والحيرة وقبلها بقليل، فلو كانت هذه النصوص المتوفرة موجودة عند الشيعة الامامية لما اختلفوا في معرفة الائمة الطاهرة هذا الاختلاف الفاضح، ولما وقعت الحيرة لاساطين المذهب واركان الحديث سنوات عديدة، وكانوا في غنى ان يتسرعوا الى تأليف الكتب لاثبات الغيبة وكشف الحيرة عن قلوب الامة بهذه الكثرة››[31].

3ـ ان الدلالتين السابقتين تثيران اشكالية جوهرية تحتاج الى تحليل، وذلك اننا نواجه افتراضين لكل منهما شواهده الدالة عليه، احدهما المعطيات السابقة من النقل الخاص عن اضطراب اصحاب الائمة حول معرفتهم على وجه التحديد، اما الاخر فهو النقل الخاص بالروايات التي تعرف بتشخيص الائمة وتبيان عددهم بوضوح. ومن الواضح ان الافتراض الاول لا ينسجم مع الثاني، فاحدهما لا بد ان يكون كاذباً، وكلا النقلين قد تفشيا في عصر الغيبة. فأيهما اقوى دليلاً من الاخر؟

لنختبر النقلين من حيث دوافع الكذب والمصلحة، حيث الملاحظ ان النقل الخاص باختلاف الاصحاب ليس فيه ما يبعث على مصلحة الكذب، وذلك لأن نقلة هذا الاختلاف هم من المنتسبين الى الشيعة وثقاتهم، وليسوا من اطراف خارجية كي يطرأ احتمال الكذب، بل أصبح من الميقن عند العلماء بلا خلاف ان هذا الاختلاف كان جارياً وانه ظهرت على اثره الكثير من الفرق الذين يعرف رجالهم واراؤهم. وعليه بنى اصحاب المقالات والفرق وكذا اصحاب الرجال والتوثيق علومهم، فيقال هذا واقفي، وذاك ناووسي او فطحي او اسماعيلي او غير ذلك. ولو انه تم طرح مثل هذه الروايات لبطلت كتب التوثيق ومثله كتب الفرق والمقالات التي اعتمدت عليها، بل لبطلت كذلك الكثير من الكتب التي اعتمد عليها العلماء بعد الغيبة، كالذي اشار اليه الطوسي من ان الكثير من اصحاب الاصول هم من المذاهب الفاسدة وان كانت كتبهم معتمدة، وهو بدوره سيفضي الى ابطال الكثير من الروايات، بل لاصبح من غير الممكن الاعتماد والتعويل على شيء من النقل والروايات لكثرة الرواة المعدين ضمن تلك الفرق المنحرفة. اما النقل الخاص بعدد الائمة وتشخيصهم فهو ما جاء في الروايات المنقولة عن الائمة، ودوافع الكذب فيها بادية، حيث ان من مصلحة المنتسبين الى المذهب اظهار هذه القضية دون غبش، والا لم يعد هناك مجال للاخذ بالمذهب، كذلك فان الروايات التي وصلتنا لا تعد بشيء، فهي من الاحاد، وانه اذا جاز ترك الاحاديث الكثيرة المنافية لاصول العقيدة كروايات التحريف وما اليها، فان من الاولى ترك هذه الاحاديث القليلة التي تتعارض مع معطيات الافتراض الاول، خاصة وان هذا الافتراض يعد دراية لو ازلناه لزال كل شيء يتعلق بالتوثيق والرواية في المذهب.

***

ما نستنتجه بحسب الدلالات الثلاث السابقة هو ان الائمة لم ينص عليهم بنص مخصوص والا لما خفي ذلك على المقربين والاجلاء من اصحابهم، ولما اختلفوا اشد الخلاف، وكذا لما ادعى الكثير منهم المهدية، والله تعالى يقول: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)) (النساء/82).

فالائمة انفسهم كانوا لا يعلمون - سلفاً - من الذي يتلوهم في وجوب الطاعة، والا لعرّفوهم للاصحاب من غير خلاف.

ولا يقال ان جهل الكثير من الاصحاب لأشخاص الائمة سببه ضغط الظرف السياسي. وذلك باعتبار ان هذا الافتراض يجرنا الى اشكال اعمق، وهو اذا كان المقربون لا يعرفون اشخاص الائمة على التحديد بسبب ذلك الظرف، فكيف تسنى لنا معرفة ما لم يعرفوا، ونحن انما تلقينا علمنا من خلالهم؟!

هكذا فبحسب المعطيات السابقة ووفق الدلالات التي ذكرناها يكون تصور الامامة بحسب الصورة التي رآها المتقدمون من القميين هي اقرب من تلك التي رآها غيرهم ممن وصفوهم بالارتفاع والغلو. واذا كان من الصحيح ما قيل من ان التصور الذي بناه القميون كان يصدق على اغلب الرواة في عصر الائمة، كالذي يشير اليه الشهيد الثاني، فاذا كان هذا صحيحاً فان الامر اقد انقلب فيما بعد واصبح معكوساً، حيث غلبت على المتأخرين الرؤية الاخرى وصارت من المقدسات التي يصعب مخالفتها حتى يومنا هذا.

 

 

 

 



[1] فكما ذكر النجاشي ان هبة الله بن احمد بن محمد الكاتب عمل كتاباً ذكر فيه ان الائمة ثلاثة عشر، حيث اضاف الى ذلك زيد بن زين العابدين، واحتج بحديث في كتاب سليم بن قيس الهلالي ان الائمة اثنا عشر من ولد امير المؤمنين (رجال النجاشي، ص440).

[2] المفيد: الفصول المختارة، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص305ـ306

[3] الفصول المختارة، ص313ـ317

[4] الفصول المختارة، ص318ـ321

[5] روى النوبختي في (فرق الشيعة) ان عبد الله بن الامام الصادق جلس مجلس أبيه وادعى الامامة ووصية ابيه، وان اتباعه رووا عن الامام الصادق انه قال: الامامة في الاكبر من ولد الامام، وهذا ما جعل غالبية الفقهاء والمشايخ من الامامية في ذلك الزمان يميلون الى عبد الله، لكن لما مات عبد الله ولم يخلف ذكراً رجع عامة الفطحية عن القول بامامته - سوى قليل منهم - الى القول بامامة موسى بن جعفر (عن: خاتمة المستدرك، ج5، ص15ـ16).

[6] الغيبة، مصدر سابق، ص71

[7] اختيار معرفة الرجال، فقرة 1061ـ1062، ص835.

[8] الاصول من الكافي، ج1، باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم، حديث 2، وقد عاش البرقي بعد وفاة العسكري أربعة عشر سنة، وقيل: عشرين (خاتمة مستدرك الوسائل، ج4، ص45)

[9] ورأى عدد من العلماء ان الحوار المذكور يدل على ان البرقي لم يكن موثوقاً لدى محمد بن يحيى.

[10] انظر حول ذلك: خاتمة مستدرك الوسائل، ج4، ص43 وما بعدها.

[11] وكما قال المحقق النوري: المراد بالحيرة زمن الغيبة، هي السنة التي مات فيها العسكري (ع) وتحيرت الشيعة، ومن طالع الكتب التي صنفت في الغيبة، علم أن إطلاق لفظ الحيرة على مثل ما قلناه شائع في كلامهم (خاتمة مستدرك الوسائل، ج4، ص44).

[12] انظر: بصائر الدرجات، باب في الائمة انهم عليهم السلام محدثون مفهمون، الحديث الثاني والرابع والخامس.

[13] ينص الحديث كالاتي: قال الامام ابو جعفر الثاني (الجواد): أقبل أمير المؤمنين ومعه الحسن بن علي وهو متّكئ على يد سلمان فدخل المسجد الحرام فجلس إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللّباس فسلّم على أمير المؤمنين فردّ عليه السلام فجلس ثم قال: يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل إن أخبرتني بهنّ علمت أنّ القوم ركبوا من أمرك ما قضي عليهم وأنهم ليسوا بمأمونين في دنياهم وآخرتهم وإن تكن الأخرى علمت أنّك وهم شرع سواء. فقال له أمير المؤمنين: سلني عمّا بدا لك. قال: أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه وعن الرجل كيف يذكر وينسى وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال؟ فالتفت أمير المؤمنين إلى الحسن فقال: يا أبا محمد أجبه. فأجابه الحسن فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله ولم أزل أشهد بها وأشهد أنّ محمداً رسول الله ولم أزل أشهد بذلك وأشهد أنّك وصيّ رسول الله والقائم بحجّته - وأشار إلى أمير المؤمنين - ولم أزل أشهد بها وأشهد أنّك وصيّه والقائم بحجّته وأشار إلى الحسن وأشهد أنّ الحسين بن علي وصيّ أخيه والقائم بحجّته بعده وأشهد على علي بن الحسين أنّه القائم بأمر الحسين بعده وأشهد على محمد بن علي أنّه القائم بأمر علي بن الحسين وأشهد على جعفر بن محمد بأنّه القائم بأمر محّد وأشهد على موسى أنّه القائم بأمر جعفر بن محمد وأشهد على علي بن موسى أنّه القائم بأمر موسى بن جعفر وأشهد على محمد بن علي أنّه القائم بأمر علي بن موسى وأشهد على علي بن محمد بأنّه القائم بأمر محمد بن علي وأشهد على الحسن بن علي بأنّه القائم بأمر علي بن محمد وأشهد على رجل من ولد الحسن لا يكنّى ولا يسمّى حتّى يظهر أمره فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. ثمّ قام فمضى فقال أمير المؤمنين: يا أبا محمد اتبعه فانظر أين يقصد؟ فخرج الحسن بن علي فقال: ما كان إلا أن وضع رجله خارجاً من المسجد فما دريت أين أخذ من أرض الله فرجعت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال: يا أبا محمد أتعرفه؟ قلت الله ورسوله وأمير المؤمنين أعلم. قال هو الخضر (الاصول من الكافي، ج1، باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم، حديث 1).

[14] لاحظ حول ذلك: الشافي في شرح اصول الكافي، ج4، ص688ـ702

[15] روي الحديث كالاتي: علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن سعيد بن غزوان عن أبي بصير عن أبي جعفر (الباقر) قال: يكون تسعة أئمّة بعد الحسين بن علي تاسعهم قائمهم ( الاصول من الكافي، ج1، باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم، حديث 15).

[16] الصدوق: الخصال، صححه وعلق عليه علي اكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص462 وما بعدها.

[17] انظر: ابن عياش الجوهري: مقتضب الاثر في النص على الائمة الاثني عشر، خرّج أحاديثه وقدم له لطف الله الصافي، تعليق وتصحيح هاشم الرسولي، نشر مكتبة الطباطبائي، قم، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية. 

[18] لاحظ: الخزاز القمي: كفاية الاثر في النص على الائمة الاثني عشر، تحقيق عبد اللطيف الحسيني الخوئي، انتشارات بيدار، مطبعة الخيام، قم، 1401هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية.

[19] رجال النجاشي، ص268

[20] الفهرست، ص100

[21] رجال الطوسي، فقرة 6172، ص430

[22] خلاصة الرجال، ص180 و188

[23] معالم العلماء، ص106

[24] وسائل الشيعة، ج30، الفائدة الثانية، الطريق الواحد والعشرون.

[25] قال السيد محسن الامين العاملي في كتابه (معادن الجواهر ونزهة الخواطر في علوم الاوائل والاواخر) : عثرنا في بعض مكتبات جبل عامل القديمة على كتاب مخطوط قديم جداً من بقايا ما أخطأته أيدي الحوادث والفتن.. وهذا الكتاب من أنفس المخطوطات وعليه اجازات وخطوط قديمة لمشاهير العلماء بعضها قبل سبعة قرون ونصف وبعضها أقل من ذلك وهو كتاب (كفاية الاثر). ثم انه نقل عن العلامة البهبهاني في تعليقاته على رجال الميرزا الكبير الذي قال: رأيت كتاب الكفاية كتاباً مبسوطاً جيداً في غاية الجودة جميعه نصوص عن الرسول(ص) وعن غيره أيضاً في الائمة الاثني عشر (كفاية الاثر، نقلاً عن مقدمة المحقق، ص11).

[26] المصدر السابق، ص12

[27] قال محقق الكتاب: رجعنا في تحقيق هذا الكتاب الى: 1 - نسخة قيمة قديمة مصححة كتبها مؤمن بن عبد الجواد الكاظمي وفرغ منها يوم الاثنين غرة شهر شعبان المعظم سنة ست وثمانين بعد الالف، وقد جعلناها أصلاً. 2 - نسخة أخرى مصححة استكتبها العلامة حسين النوري الطبرسي صاحب المستدرك، صححها وكتب في الصفحة الاولى بيده الشريفة: ‹‹مما استكتبته لنفسي في الدنيا الفانية ذخيرة لرمسي في الربوع الخاوية...››. وفي آخر الكتاب: ‹‹استكتبته ثم قوبلته مع نسخة لا تخلو من سقم نفعنا الله وجميع المؤمنين به بمحمد وآله الطاهرين، وانا الجاني المسيء حسين بن محمد تقي الطبرسي في ليلة الجمعة لثمان بقيت من جمادي الاولى سنة 1280››. وتاريخ الفراغ من الكتابة أيضا في هذه السنة، ولم يكتب الكاتب اسمه. ولا يخفى أن اليد الخائنة عملت في تاريخ الكتاب في المقامات الثلاث وجعلته 1180 وغفل عن عصر المستكتب النوري طاب رمسه وزعم أن تكثير التاريخ يجلب المنفعة الكثيرة وهو النافع (كفاية الاثر، مقدمة المحقق، ص18ـ19).

[28] كفاية الاثر، مقدمة المحقق، ص8

[29] الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة، صححه وعلق عليه علي اكبر الغفاري، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، 1405هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص75، وقد روى الكشي هذه الحادثة عن علي بن يقطين انه قال: لما كانت وفاة الامام الصادق قال الناس بعبد الله بن جعفر، وبعضهم قال بأبي الحسن الكاظم، فدعا زرارة ابنه عبيداً فقال: يا بني الناس مختلفون في هذا الامر: فمن قائل بعبد الله فانما ذهب إلى الخبر الذي جاء ان الامامة في الكبير من ولد الامام، فشد راحلتك وامض إلى المدينة حتى تأتيني بصحة الامر، فشد راحلته ومضى إلى المدينة. واعتل زرارة فلما حضرته الوفاة سأل عن عبيد، فقيل انه لم يقدم، فدعا بالمصحف فقال: اللهم اني مصدق بما جاء نبيك محمد فيما أنزلته عليه وبينته لنا على لسانه، وأني مصدق بما انزلته عليه في هذا الجامع، وان عقيدتي وديني الذي يأتيني به عبيد ابني وما بينته في كتابك، فان أمتني قبل هذا فهذه شهادتي على نفسي واقراري بما يأتي به عبيد ابني وانت الشهيد عليّ بذلك. فمات زرارة (اختيار معرفة الرجال، فقرة 251، ص371).

[30] محمد صالح المازندراني: شرح اصول الكافي، تعاليق الميرزا أبو الحسن الشعراني، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج7، ص361، نقل بهذا الصدد عن هشام بن سالم انه قال: كنا بالمدينة - بعد وفاة الامام الصادق - انا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون على عبد الله بن جعفر - الأفطح - انه صاحب الأمر بعد ابيه، ثم لقينا الفضيل وابا بصير، فدخلا على موسى بن جعفر وسمعا كلامه وسألاه، وقطعا عليه بالامامة، ثم لقينا الناس افواجاً فكل من دخل عليه قطع إلا طائفة عمار واصحابه، وبقي عبد الله - الأفطح- لا يدخل عليه إلا قليل من الناس (اختيار معرفة الرجال، فقرة 502، ص565ـ566، كذلك: الاصول من الكافي، ج1، باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في امر الامامة، حديث 7، وبحر العلوم: الفوائد الرجالية، ج1، ص396).

[31] معرفة الحديث، ص109

comments powered by Disqus