-
ع
+

موقف المثقف والفقيه من علاقة الدين بالواقع

يحيى محمد

في التوليد المعرفي يستهدف الفقيه ما نطلق عليه ‹‹تديين الواقع››، أي تنزيل الدين على الواقع وطبعه بطابعه الخاص، وبالتالي العمل ضمن إطار ما يطلق عليه الحق الإلهي. في حين إن ما يستهدفه المفكر الديني من التوليد المعرفي إنما هو ‹‹توقيع الدين››، أو جعل الأخير يتخذ صبغة واقعية تتحقق من خلالها المصلحة الإنسانية. وبالتالي فإن هناك منهجين متعاكسين؛ أحدهما يرى أن الغاية التي يتوجه إليها عملاً وسلوكاً هي حق الطاعة، خلافاً للآخر الذي يرى أن غايته العظمى مجسدة بالمصلحة الإنسانية. فبحسب نهج الفقيه أن حق الطاعة يدعو إلى الإلتزام التام بما يرد في النص دون غيره من المصادر المعرفية الأخرى، وأن المصلحة الإنسانية ليس لها من إعتبار إلا من حيث جعلها تابعة ضمن ذلك الحق المستهدف، الأمر الذي يفسر الاستغراق العميق للفقهاء في البحث عن الشكليات الحرفية للنص وما يترتب عنها من إجتهادات لا علاقة لها بمساهمة الواقع، إلا عند الضرورة وضغط الحاجة.

في حين أن الأمر لدى المفكر يختلف كلياً طالما أنه يجعل من المصلحة الإنسانية هدفاً يتوجه إليه عبر تحديدأبعاده المعرفية وما يترتب عليها من مواقف. وهو بالتالي لا يرهن نفسه ضمن دائرة ما يرد من تحديدات تكوينية ولفظية في النص، بل يذهب إلى الاستكشافات العقلية والواقعية ليحدد من خلالها طبيعة المصالح التي يراد تحقيقها على أرض الواقع. وهو لأجل هذا الغرض يدعو إلى دراسة الواقع بكل تجلياته متخذاً من الخبرة البشرية رصيده المعرفي، ومن الموجهات النصية سبيله التقويمي، وذلك على عكس ما يسعى إليه الفقيه من استكشاف عوالم النص بمفرداته ودلالاته وأسانيده ليحدد معرفة كل ما يتعلق بمجال حق الطاعة.

مع هذا يلاحظ أنه لا الفقيه ينكر المصلحة الإنسانية، ولا المفكر الديني يرفض حق الطاعة، إلا أن بينهما إختلافاً حول الاولويات واسس التركيب والتوفيق بين الهدفين المشار إليهما. فالفقيه ينكر أن تكون المصلحة هي الهدف الرئيس من وراء ممارساته المعرفية، بل غالباً ما لا يعترف بهذه المصلحة ما لم تكن صادرة عن دائرة حق الطاعة، أي من حيث تقريرها بحسب النص والشرع، تبعاً لمقالة الأشاعرة في الحسن والقبح الشرعيين. وبالتالي لا إعتبار للمصلحة إلا بما جعلها الله مصلحة لما يملكه من الحق المطلق. وطبقاً لهذا النظر تكون المصالح الإنسانية مجرد تعبديات ليس للعقل فيها حكم ولا دخل، بل المصلحة مصلحة بفعل إعتبار الشارع لا غير، مثلما أشار الشاطبي إلى ذلك[1]. ولا شك أن المفكر الديني لا يميل إلى مثل هذه الآراء، فهو لا يتقبل نظرية الأشاعرة في التحسين والتقبيح الشرعيين، ويفْصل قضية المصلحة الإنسانية عن دائرة حق الطاعة، بل ويرى أن الأولى مرجحة على الأخرى عند التعارض، إذ تشكل لديه هدفاً منشوداً يُدرك بها ما للدين من حِكَم وغايات، فلولاها ما كان للدين من هدف ولا معنى.

ومن الجدير بالذكر أن النصوص الدينية لا تجعل بين حق الطاعة والمصلحة الإنسانية تنافراً، فبينهما مداخلة نسبية تجعل أحدهما يدخل بنسبة ما في الآخر. فمصلحة الإنسان هي أيضاً حق يريده الله تعالى ويأمر به. أي أنها من هذه الناحية تدخل ضمن إعتبار حق الطاعة، وإن كانت في حد ذاتها مطلباً انسانياً. وكذا الحال مع حق الطاعة الذي تتحقق به الفائدة في تقويم الإنسان وإصلاحه في الدنيا. وبالتالي فللأحكام الشرعية وجهان، أحدهما عبادي والآخر حضاري. فحيث أنها دالة على أمر الله ومولويته ووجوب طاعته والإمتثال لأوامره فانها تكون من هذه الحيثية عبادية. لكن حيث أن غرضها مصلحة الإنسان وتسديد حاجاته لنيل الكمال وسعادة الدنيا - ناهيك عن الآخرة - فإنها تكون حضارية.

 



[1] الموافقات، ج2، ص315.

comments powered by Disqus