-
ع
+

مصدر التعارض والقطيعة بين المثقف والفقيه

يحيى محمد

لا شك أن الخلاف في المرتكزات المعرفية بين المفكر والفقيه لا بد من أن يضع بصماته عليهما بشيء من التعارض والقطيعة في الرؤى. ومع أن ما يحصل بينهما من تعارض لا يعبر في جوهره عن وجود تقاطع ما بين المصدرين المعرفيين: النص والواقع، لكن هذين الأخيرين هما علة توليد ذلك التعارض، لا بحسب ذاتهما، بل لطبيعة الفهم القائم عليهما. وبالتالي فالتقاطع بين المفكر والفقيه يتحدد بحسب ما عليه شكل الآليات الإجتهادية ونوع الموجهات والمولدات المعرفية. فالبيان الماهوي الذي يمثل آلية الفقيه ومولده المعرفي لا يتفق مع الطريقة العقلائية التي يعتمدها المفكر في الاستفادة من التجربة البشرية كمولد للمعرفة ضمن إطار الموجهات الكلية للنص. فمثلاً أن الفقيه لا يقبل عادة الإعتماد على كشف الواقع عندما ينافي ما استنبطه من البيان الماهوي. ويشتد الرفض حين يكون ذلك الكشف معبراً عن إفرازات للتجربة الغربية. فهو مثلاً لا يتقبل قضايا من قبيل: الديمقراطية وحرية الرأي والتعامل مع البنوك وإعتبارات الوطنية والخصوصية والمساواة وجملة من قضايا المرأة وحقوقها وغير ذلك من المسائل العامة التي يضعها المفكر ضمن الإعتبار والقبول عادة.

كما أن العكس حاصل. فالمفكر يرى في إجتهاد الفقيه الكثير مما يصادم إعتبارات كل من المقاصد والعقل والواقع. فهو مثلاً لا يتقبل ما عليه أغلب الفقهاء من تحريم نحت التماثيل ورسم الصور البشرية والحيوانية والكثير من مسائل الفن والإعلام[1]. وليس من المتوقع أن يرضى بما عليه الفقهاء من فتوى التعامل بالقروض في العملات النقدية طبقاً لمبدأ المثلية[2]؛ مع ما قد يفضي إليه من ظلم في حق الدائن أو المدين، تبعاً لنواحي الهبوط والصعود في العملات[3]. كما ليس من المتوقع أن يتقبل حكم بعض المذاهب الإسلامية في تحديد دية اصابع المرأة؛ بإعتباره لا يتسق مع كليات العقل ومقاصد الشرع في نفي التعسف والظلم، فتبعاً للرواية تم تحديد دية قطع اصبع واحد للمرأة بعشرة من الإبل، واصبعين بعشرين، وثلاثة اصابع بثلاثين، في حين اعتبرت دية قطع أربعة اصابع هي بقدر دية قطع اصبعين، أي عشرين من الإبل[4]. وكذا من المؤكد أنه لا يقبل فتوى جماعة من الفقهاء في الحكم على بعض الأقوام والأجناس بكراهة التعامل معهم كما في البيع والشراء والتزويج، بحجة أنهم من الجن[5]، كما هو نص الحديث الذي لا يتفق مع منطق الواقع ولا مع مبادئ التشريع ومقاصده[6]. ومثله ما جاء عن إبن حنبل من فتوى عدم قبول شهادة البدوي على القروي[7]. وكذا ما جاء في كتاب (الميزان) للشعراني تعليقاً على فتوى إبن حنبل في حلية صيد الكلب الأسود، حيث عللها بأن هذا الكلب هو شيطان، وصيد الشيطان رجس، لأنه لا كتاب له، ولو كان له كتاب لحل صيده[8]. كذلك ليس من المتوقع للمثقف أن يثق بما يسلّم به فقهاء بعض المذاهب من أن هناك ميزة بايولوجية تمتاز بها المرأة القرشية عن غيرها، وهي أن سن اليأس لديها يكون متأخراً في المدة مقارنة بغيرها من النساء. وهو أيضاً لا يتقبل الفتوى التي لا تجيز للأعمى سماع صوت المرأة الأجنبية لأنه عورة[9]. وكذا الفتوى التي تعتبر ولد الكافر نجساً تبعاً لأبويه بإعتبارهما نجسين بسبب الكفر، كما هو عليه أكثر فقهاء الإمامية[10].ومثل ذلك الفتوى التي تقول ولد الزنى كافر، والتي نسبت إلى عدد من الفقهاء، أو على الأقل أنه لا خير فيه وأنه شر الثلاثة[11]، وأنه لا تقبل شهادته ولا تجوز إمامته، تبعاً لعدد من الروايات[12]. وأعظم من ذلك أنه لا يتقبل عمل الفقهاء بالإطروحات المذهبية وتكريس مقالة الفرقة الناجية قبال ما يطلق عليه فرق الضلال، ومن ثم إبطال عبادات أهلها، وعدم الإعتراف لهم بالإيمان. وعلى هذه الشاكلة يمكن لحاظ مواقف المفكر أو المثقف من فتاوى الفقيه الخاصة بقضايا الدولة والسياسة والاقتصاد وما إليها، كفتاوى التمييز بين المسلم والكتابي خلافاً لمنطق المواطنة، وتقسيم العالم إلى دارين؛ دار إسلام وحرب[13]، وإعتبار مطلق الكافر الأصلي هو حربي ما لم يدفع الجزية[14]، وكشرط العصمة في الحاكم عند جماعة، والنسب القرشي عند جماعة أخرى، وكذا رفض التعددية السياسية، وتقييد صلاحيات المشاركة السياسية للمرأة مقارنة بالرجل.. الخ[15].

على ذلك فإن المفكر يتحرك ضمن ثلاثة مسالك في موارد الرفض والقبول. فهو لا يعترض على نتاج الفقيه شرط أن يتجاوب مع التجربة البشرية ولا يتعارض مع حقائق الواقع وسننه. وكذا أن لا يكون خلاف مقاصد التشريع العامة، وعلى رأسها مبدأ العدل والمصلحة الإنسانية. كذلك أن لا يكون مخالفاً لكليات العقل ووجدانياته. فهذه الإعتبارات الثلاثة هي ذاتها عناصر التوليد والتوجيه لدى المفكر، وهي في مجموعها متسقة وموحدة.

 



[1] من ذلك أباح محمد عبده التصوير على اطلاقه وقال بصدد متاحف الرسوم والتماثيل: ‹‹.. وما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية، وهي التي تسمى في العرف الحديث: متاحف الأمم أو الحضارة الإنسانية.. فهي وسيلة فائدتها محققة لا نزاع فيها››، وعليه رأى: ‹‹ان الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين: لا من جهة العقيدة ولا العمل››( عن: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص116).

[2] انظر بهذا الصدد: علي أحمد السالوس: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار، دار الثقافة بقطر ـ دار الاعتصام بمصر، 1990م، ص21ـ24. وجواهر الكلام، طبعة دار الكتب الإسلامية، طهران، 1367هـ.ش. ج25، ص66.

[3]  انظر التفاصيل في الفصل الأول من: فهم الدين والواقع.

[4] مالك: الموطأ، ج2، باب ما جاء في عقل الاصابع، ص860. و العسقلاني: فتح الباري، ج10، ص190. وابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص134. والانصاري: فرائد الأصول، ج1، ص21. والحسني: المبادئ العامة للفقه الجعفري، ص185. ومغنية: فقه الإمام الصادق، ج6، ص342. والمظفر: أصول الفقه، ج3، ص203ـ204.

[5]  انظر: الصدوق: علل الشرائع، مؤسسة الاعلمي، الطبعة الأولى، 1408هـ ـ1988، ج2، ص244، باب 309. والحلي، يوسف بن المطهر: تبصرة المتعلمين في أحكام الدين، تحقيق أحمد الحسيني وهادي اليوسفي، مؤسسة الاعلمي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1404هـ ـ 1984م، ص119.

[6] وعلى هذه الشاكلة وردت أحاديث تمنع من التزاوج مع عدد من الاقوام بحجة أن لهم ارحاماً تدل على غير الوفاء، أو أنه ليس فيهم نجيب (لاحظ: الحر العاملي: وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، قم، الطبعة الأولى، 1412هـ، ج20، ص82). وعادة ما يتعامل الفقهاء مع مثل هذه القضايا بإعتبارها حقيقية مطلقة وليست خارجية رهن السياق الظرفي الخاص.

[7]  الميزان للشعراني، باب الشهادات. نقلاً عن: محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان، دار التعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، 1399هـ ـ1979م، ص272.

[8] عن: الشيعة في الميزان، ص372.

[9] المحقق نجم الدين الحلي: شرائع الإسلام، مطبعة الاداب، النجف، الطبعة الأولى، 1389هـ ـ1969م، ج2، ص269.

[10] مغنية: فقه الإمام الصادق، ج1، ص35.

[11] حيث روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: ‹‹يقول ولد الزنا: يارب ما ذنبي، فما كان لي في أمري صنع؟ قال: فيناديه مناد فيقول: أنت شر الثلاثة؛ أذنب والدك فنبتَّ عليهما، وانت رجس ولن يدخل الجنة إلا طاهر›› (عن: عبد الاعلى السبزواري: مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، مؤسسة المنار، قم، 1413هـ، ج1، ص381).

[12] انظر: مهذب الأحكام، ج1، ص380ـ381.

[13] ذهب عدد من المذاهب الإسلامية إلى أن جميع البلاد الأخرى التي لا تجري فيها أحكام الإسلام أو لا يحكمها مسلم فهي دار حرب ما لم تقم بدفع الجزية ويجري عليها حكم الذمة. لكن لو خضعت تحت سيطرة الدولة الإسلامية بفرض الجزية عليها أو بأي نوع من أنواع الصلح المفروض معها فانها تصبح ليست بدار حرب وإنما جزء من دار الإسلام. كما نُقل عن ابي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وفقهاء الزيدية أنهم يرون أن دار الإسلام تصير دار حرب عند إظهار أحكام الكفر فيها، أي تطبيق غير أحكام الإسلام. وبالتالي فإن دار الإسلام عند الفقهاء عبارة عن البلاد التي يحكمها المسلمون ليطبق فيها أحكام الشريعة من دون أن يشترط أن يكون أهلها أو اكثرهم مسلمين، بل يكفي إعتبارها كذلك ولو لم يكن فيها مواطن مسلم سوى الحاكم الذي يطبق الأحكام. لهذا يقول فقهاء الشافعية: ‹‹وليس من شرط دار الإسلام أن يكون فيها مسلمون بل يكتفي كونها في يد الإمام وإسلامه››(لاحظ: عبد الكريم زيدان: مجموعة بحوث فقهية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1396هـ ـ1976م، ص50ـ51).

[14] يقول محمد الغزالي في هذا الصدد: ‹‹رأيت ناساً يقولون: أن آية ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)) مرحلية، فإذا امكنتنا اليد لم نُبقِ على أحد من الكافرين. قلت: ما هذه سلفية، هذا فكر قطاع طرق لا أصحاب دعوة شريفة حصيفة..›› (محمد الغزالي: دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1407هـ ـ1987م، ص115-116). كما اعتبر بعض الفقهاء المعاصرين أن التأشيرة للزيارة والاقامة التي تعطيها سفارة الدولة الإسلامية للكافر هي ليست عهداً تمنع من جواز استرقاقه (مجلة النور، عدد 64، ص64).

[15] انظر: فهم الدين والواقع.

comments powered by Disqus