-
ع
+

مرجعية الواقع بين المثقف والفقيه

يحيى محمد

نرى بأن المصدر الأساس للمعرفة عند المثقف الديني هو الواقع، فمصادر المعرفة هي على نحو الحصر والتحديد كل من النص والعقل والواقع والالهام وما شاكله من صور الكشف. وواضح انه لا يوجد مصدر اخر غير هذه المصادر الاربعة التي ذكرناها. وبيّن أنه لا يمكن إعتبار الإلهام هو المصدر الأساس الذي يستقي منه عقل المثقف دائرته المعرفية. إذ على الأقل أن موارد الإلهام قليلة لا تفي بما تتسع به هذه الدائرة. كذلك أن هذه الموارد إنما تفسر المعارف التي تنقطع صلتها عن المسببات الأخرى من المصادر الثلاثة المتبقية، فإذا امكن تفسيرها ببعض هذه المصادر، ولو بإضافة شيء من عامل الحدس الوجداني، فإن ذلك يكفي دون حاجة لإفتراض الأثر الإلهامي المستقل.

وكذا الحال لا يمكن إعتبار العقل هو مصدر تحديد تلك الدائرة من المعارف، وذلك لأن موارد العقل التي تتجرد عن الواقع كلياً هي موارد محدودة لا تصلح أن تفسر شبكة ما عليه تلك الدائرة من سعة.

كما أنه لا يمكن عد النص هو مصدر الاسناد الرئيسي الذي يتكئ عليه المثقف في تكوين حوزته المعرفية. فعلى الأقل أن أغلب المثقفين الدينيين هم ليسوا من أهل الإختصاص بالشؤون الإسلامية كالفقه والتفسير وما إليهما. فلا معنى – إذاً - للإفتراض المشار إليه. وعليه فإن إعتماد المثقف على النص يأتي - عادة - طبقاً للتبعية للمختص، كإن يكون مقلداً له، أو ناظراً في أدلته ليرجح بعضها على البعض الآخر تبعاً لمظنة الصواب. لكن هذا إنما يتاح له عادة في جملة من قضايا الأحكام التي غالباً ما تكون جزئية. اما القضايا الأخرى التي لها مساس بشؤون الحياة العامة كالقضايا السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وكذا تلك التي لها علاقة بكشف الواقع وتفسيره، فعادة ما يكون تقويمها لدى المثقف ليس بحسب إتّباعه للفقيه ولا بحسب ممارسة اسلوب النظر في أدلته، وإنما بحسب ما يعتمد فيه على خبرته وإطلاعه؛ عندما يجد نفسه يتحرك في طريق أصوب من المسلك الذي يسير فيه الفقيه، سيما وأن الأخير غالباً ما يتصف بالانكماش والعزلة من دون إحتكاك بالواقع، أو على الأقل أنه لا يوليه حق الرعاية والإعتماد اتباعاً لنهجه المتشدد في النظر الدائم في النص وما يتطلبه من المعاودة المستمرة في التحقيق المنحصر بالسند والدلالة؛ بعيداً عن المنطق الآخر المستقى من الواقع وكتابه المفتوح.

مع هذا فهناك من المثقفين من يقف جامداً على التقليد، فلا هو يمارس النظر، ولا يسمح لنفسه العمل على صياغة أفكاره وبناء آرائه، رغم ما له من سعة وقدرة. لكنا نعد ذلك خلاف طبائع الامور، وهو يأتي في الغالب تبعاً للأثر النفسي المتولد من هيبة الفقهاء للظن بأنهم حملة النص، شبيه بما يحصل للمثقف أحياناً من ممالئة السلطان بسبب المخاوف أو المطامع. أما الأصل فهو أن ما يتصف به المثقف من إنفتاح على الواقع المتجدد؛ يجعل منه أداة طيعة لتجديد الفكر وإعادة النظر فيه باستمرار. وبالتالي فليس هناك عنصر يستحكم به المثقف غير الواقع المتجدد ذاته دون تقليد.

لكن قد يقال إن هذا الذي وصفناه بحق المثقف وتأثره بالواقع الحديث يمكن أن ينطبق ذاته على الفقيه بإعتباره بشراً لا يمكنه أن يكون بمعزل عن تأثير مجريات الحياة وظروفها، حتى أصبح معلوماً ما للبيئة من أثر على توجهات الفقيه وقراراته وأحكامه، ومن ذلك ما صرح به رشيد رضا قائلاً: ‹‹من الثابت من أخلاق البشر وطباعهم أن للبيئة التي يعيشون فيها تأثيراً في إجتهادهم وفهمهم، فالذين حرّموا على عباد الله تعالى ما لا يحصى من المنافع التي خلقها الله لهم وامتنّ بها عليهم في مثل قوله ((هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)) كانوا عائشين في حضارة يتمتع أهلها بخيرات ملك الأكاسرة والقياصرة في مدائن كجنات النعيم كبغداد ومصر وغيرهما من الأمصار، فكان من تأثيرها في أنفسهم أن جعلوا ما يستقذره مترفو العرب في حضارتهم محرماً على البدو البائسين وعلى خلق الله أجمعين. ولولا تأثير هذه الحضارة لراعوا في إجتهادهم الأصول القطعية في يسر الشريعة وعمومها ولا يعقل أن يكلف الله جميع الأمم إلتزام ذوق منعمي العرب في طعامهم..››[1].

كما أن مطهري هو الآخر تحدث عن هذا الأثر فقال: ‹‹لو أن أحداً أجرى مقارنة بين فتاوى الفقهاء، وتعرف في الوقت نفسه على ظروف حياة كل فرد منهم وطريقة تفكيرهم في مسائل الحياة، لعرف كيف أن المنظورات الفكرية لكل فقيه ومعلوماته عن العالم الخارجي المحيط به تتأثر بها فتاواه، بحيث أن فتوى العربي تفوح منها رائحة العرب، ومن فتوى العجمي رائحة العجم، ومن فتوى القروي رائحة القرية، ومن فتوى المدني رائحة المدينة››[2].

بل قد بات معلوماً ما للبيئة من أثر على الآراء والخلافات الفقهية لدى أئمة المذاهب الأربعة. ومن ذلك أن الشافعي غيّر الكثير من آرائه وفتاويه حين انتقل إلى مصر فأطلق عليها المذهب الجديد في قبال مذهبه القديم. وإنه بحكم الخبرة والممارسة العملية لأبي حنيفة بالسوق والتجارة اتخذت فتاواه طابعاً خاصاً، حيث كان يترك العمل بالقياس لصالح العرف والاستحسان، خاصة حينما يتعلق الأمر بموارد البيع والشراء[3].. من هنا إذا كان الفقيه هو الآخر ليس معزولاً عن الحياة، وأن منظومته المعرفية وآلياته في التفكير ليس بوسعها أن تنقطع عن الواقع كمصدر؛ إذاً لماذا هذا الفصل والقطيعة بينه وبين المثقف أو المفكر، سيما وأن كلا الطرفين واقع تحت سلطة تأثير الواقع ولو بصورة غير واعية؟

أقول إنما جعلت الفقيه مستحكماً تحت سلطة النص لا الواقع؛ لا أعني من ذلك أنه لا يتأثر بهذا الأخير معرفياً، طالما أنه ليس من الممكن للبشر أن ينقطع عن هذا التأثير. لكني فصلته عن مرجعية الواقع لكونه اتبع نهجاً صارماً في المرجعية المعرفية التي استبعد فيها أن يكون للواقع أثر منتج فيما يؤول إليه نظره وإجتهاده. فهو يحمل نهجاً محدداً عن وعي ووضوح، وأن هذا النهج لا يكاد يفارق النص - في الغالب - كمصدر أساس يعتمد عليه في المعرفة. فتأثره بالواقع أو استسلامه إليه عائد إما بفعل التأثير اللاشعوري، أو نتيجة الاضطرار وضغط الحاجة الزمنية، وفي جميع الأحوال إن الفقيه غالباً ما لا يعد الواقع مصدراً يعول عليه في البناء المعرفي والتشريع. فالواقع من حيث عمومه وصراحته ليس له أثر بيّن ضمن مصادر التشريع. وإذا كان هذا لا ينفي وجود بعض القواعد التشريعية التي توحي بتضمنها للواقع ضمن منظومة الفقيه المعرفية كما سيمر علينا عما قريب؛ إلا أنه حتى في مثل هذه الحالة لم يتخذ منها مصدراً رئيساً ومستقلاً، وإنما ادرجها ضمن أُطر ثانوية مهمشة.

أما المثقف فأمره يختلف، فهو لم يتبع منهجاً محدداً في تعيين مصادره المعرفية عادة؛ لكن تحليلنا لهويته جعلتنا نعتبر أن منظومته المعرفية لا يمكن تفسيرها من غير ربطها بمرجعية الواقع والإعتبارات العقلية المناطة به. مع هذا فالمثقف الديني ليس منفكاً عن الإرتباط الصميمي بالنص، سواء في ممارساته الشخصية وإلتزاماته التعبدية، أو في مواقفه العامة. وهو في هذه الأخيرة لا يرتبط بالنص إرتباطاً ‹‹تكوينياً›› كالذي يحصل مع الفقيه، بل يمتلك صلة معرفية من نوع آخر هي أجل وأسمى.

أخيراً لا بد من لحاظ وجود عاملين قد جعلا الفقيه والمثقف مختلفين في مرجعيتهما، حيث ينتمي الأول إلى مرجعية النص، في حين ينتمي الآخر إلى مرجعية العقل والواقع، وذلك كالتالي:

الأول: إن الفقيه ملتزم بالحد الأعلى للنص، وهو يصرح بذلك من دون أن يضيف إليه مصدراً آخر ينافسه بالمرجعية. فالواقع يكاد يكون غائباً لديه، وأن العقل المستقل إما معطل أو غير معترف به استناداً إلى مرجعية النص ذاته. وبالتالي فإن مرجعية النص لدى الفقيه هي مرجعية تكوينية وتقويمية. فهي تكوينية من حيث أن ذهن الفقيه مكوّن منها، وهي تقويمية من حيث أن سائر المصادر الأخرى ليس لها محل في الإعتبار ما لم يتم عرضها على تلك المرجعية وإحراز الموافقة عليها. وهو أمر يختلف حاله عما لدى المثقف، لكونه لا يجعل من النص حقلاً تكوينياً لذهنه، وإنما يتخذ منه أداة توجيه. وفي قبال ذلك أنه لا يجد ملاذاً رئيساً يلجأ إليه في التكوين المعرفي غير الواقع.

الثاني: إن حركة المثقف في الواقع هي – غالباً - أقوى وأعمق من حركة الفقيه. فالأخير لا يتحرك عادة إلا لهدف الإسقاط والتطبيق. فهو يرى نفسه يحمل فكراً ثابتاً وجاهزاً يضفي عليه سمة القداسة بإعتباره مستمداً من النص. وبالتالي فهو يحمل مفهوماً كلياً أو ماهوياً يريد إسقاطه على أرض الواقع، دون أن يكون غرضه استنطاق الواقع واستكشاف معالمه. لذا فمن الناحية المبدئية أن الفقيه لا يجعل للواقع حساباً للتأثير الفاعل، وأنه لا يعي ما يحصل من مناهضة الواقع للمفاهيم الكلية الماهوية عند التطبيق. وهذا ما سبق أن أكده إبن خلدون، كما أشرنا إليه من قبل، وهو أن العلماء قد اعتادوا على تجريد المعاني بشكل أمور كلية لتطبيقها على الوقائع الخارجية، رغم أن ما يجردونه لا يطابق الواقع، الأمر الذي تكثر فيه أغلاطهم. وعلى العكس من ذلك ما نجده عند المثقف، حيث يضع جانباً مهماً من حركته لأجل التعلم من الواقع واستكشاف أحواله وتأمل تغيراته وما تفرضه من انعكاس يؤثر على تصورات المثقف ونواحيه المنهجية.

أخيراً قد يقال إن هناك عدداً من القواعد والمبادئ التشريعية اعتمدها الفقهاء وهي تتضمن الإعتراف بما للواقع من مرجعية في تحديد الأحكام والقرارات، كمبدأ المصلحة وقاعدة أن للزمان والمكان تأثيراً على تغير الأحكام وغيرهما. وبالتالي كيف يجوز تحديد مرجعية الفقيه بالنص وحده مع إغفال أمر الواقع؟

والجواب هو أن التعويل على تلك القواعد والمبادئ قد جرى بشكل مهمش وثانوي. فمصدر الفقيه الرئيسي هو الإعتماد على النواحي اللغوية للنص وما يرتبط بها من قياسات فقهية، أما الأبعاد الواقعية للحاجات الإنسانية فلم يستثمر الكشف عنها، إلى الدرجة التي يمكن القول فيها بأن تغييب الواقع هو الحالة البارزة في التفكير الفقهي من دون أن تنفع معه مقولات التعويل على تلك القواعد طالما أن الخضوع لها لم يتم في الغالب إلا على نحو ثانوي أو طبقاً للحاجة الزمنية والاضطرار.

وعلى العموم نلاحظ أن العلوم الإسلامية – قاطبة – تفتقر إلى الإلتفات والتفكير في الواقع؛ إذا ما استثنينا دوائر ضيقة كتلك المتعلقة بضغط الحاجة. فإشكاليتا العقل والنص هما الإشكاليتان الشاغلتان والمهيمنتان على أجواء الفكر الإسلامي. ففي علم الكلام كانت الحظوة لإشكالية العقل، إذ بدأ هذا العلم تشييد قنواته وقواعده المعرفية انطلاقاً من العقل وابعاده التجريدية المتعالية. أما في الفقه فقد ابتلي بإشكالية النص بكل ما يحمله من حدود اللفظ وإعتباراته وما دار حوله من مقاربات؛ كالقياس وما على شاكلته. ومع أنه لا ينكر ما اعتمده الفقه على الواقع لدى الكثير من أحكامه ومبانيه؛ إلا أن ذلك لم يشكل شاغلاً للتفكير ضمن إشكالية النص والواقع على النحو الذي يشابه ما جرى في علم الكلام من إشكالية النص والعقل، وإنما جاء بنحو من التلقائية والإتفاق تبعاً لما فرضته ظروف الواقع وحاجاته وضغوطه. وظل المسار العام للفقهاء يعبّر عن رفضه للاذعان لإعتبارات أخرى تنافس النص في أحكامه القبلية. فالأصل هو حكم النص وإسقاطه على الواقع مهما كانت حقيقة هذا الأخير[4].

من جانب آخر يمكن إرجاع القواعد والمبادئ المشار إليها إلى مقولة المصلحة، والفقهاء رغم إعترافهم بهذه المقولة إلا أنهم لم يحددوها تبعاً للنظر في الواقع غالباً، بل حصروها فيما يستكشف من النص والقياس، فكانوا بهذا الإلتفاف أقرب إلى نفيها، أو بالأحرى نفي تأثير الواقع في العملية الإجتهادية. الأمر الذي جعل التفكير الفقهي عاجزاً عن حل مشاكل المجتمع وتسديد حاجاته ومتطلباته. وكان إبن القيم من القلائل الذين وعوا عمق التأثير السلبي لمثل هذا الضيق من التفكير الذي قطع عن نفسه الافادة من الواقع كحبل متمم لحبل الشريعة. إذ اعتبر هذا الفقيه بأن هناك تقصيرين صدرا عن الفقهاء، أحدهما يتعلق بمعرفة الشريعة، والآخر بمعرفة الواقع، ومن ثم تنزيل أحدهما على الآخر[5]. وحديثاً إلتفت رشيد رضا إلى آثار هذه الغلطة التاريخية في عدم تعويل الفقهاء على المصلحة المستمدة من النظر في الواقع؛ بجعل مسائل المعاملات التي تعود إلى الحكام - كالمعاملات القضائية والسياسية والحربية - ترجع إلى القاعدة النبوية (لا ضرر ولا ضرار)، لكنه اعتذر لما حدث لأغلب علماء الأمة من عدم اقرار هذا الأصل وتعويلهم عليه صراحة مع إعتقادهم به، وذلك - كما قال القرافي - بسبب خوفهم ‹‹من إتخاذ أئمة الجور إياه حجة لإتّباع أهوائهم وإرضاء إستبدادهم في أموال الناس ودمائهم، فرأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس ولم ينوطوها بإجتهاد الأمراء والحكام››[6].

 

 



[1] المنار، ج8، ص166ـ167.

[2] مطهري، مرتضى: الإجتهاد في الإسلام، دار الإسلام ـ دار الرسول الاكرم، ص13

[3] أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، دار الفكر العربي، ص355.

[4] انظر بهذا الصدد دراستنا كتابنا جدلية الخطاب والواقع. كذلك: الخطاب الفقهي ومقتضيات الزمان، قضايا إسلامية معاصرة، عدد 7، 1420هـ ـ 1999م، ص205ـ235.

[5] إبن القيم الجوزية: أعلام الموقعين، ج4، ص372ـ373. والطرق الحكمية في السياسة الشرعية، مراجعة وتصحيح أحمد عبد الحليم، ص16.

[6] المنار، ج7، ص197ـ198.

comments powered by Disqus