-
ع
+

فهم الدين بين المثقف والفقيه

يحيى محمد

لا شك ان المسالك المعرفية بين المفكر الديني والفقيه هي جد مختلفة، وان المفكر كان يعي تمايزه عن الفقيه والقطيعة معه، ويرى نفسه رسول الإصلاح، سواء على الصعيد المعرفي بإعادة فهم الدين فهماً حضارياً مؤدلجاً من دون تصادم مع الإنفتاح الحضاري ومتطلبات العصر، أو على الصعيد الإجتماعي عبر العمل على توعية الأمة ودفعها بالطريق التي يكون لها شيء من الحق والخيار.

ومن حيث معارضته لمسلك الفقيه فقد عبّر الكواكبي عن ذلك بقوله في (أم القرى) على لسان أحد أعضائها المجتمعين: ‹‹وعندي أن داءنا الدفين: دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين، وبعبارة أخرى تحت ولاية الجهال المتعممين››[1]. ومن المعلوم أيضاً ما كان يبديه محمد عبده من نفرة لمسلك الفقيه التقليدي، حتى أنه هوجم لمعارضته لنظام الأزهر القديم، وقيل له في التدليل على مصداقية هذا النظام بأنه قد تعلم ووصل عن طريقه إلى ارقى الدرجات، فأجاب: ‹‹إن كان لي حظ من العلم الصحيح فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة››[2]. كذلك فإن لجمال الدين الأفغاني كلمة بالفارسية ينكر فيها ما تسالم عليه رجال الدين من رؤى ومعارف؛ منبهاً الناس بالتخلي عما جاءوا به من شريعة وهمية لا تمت إلى حقائق الدين بصلة، إذ يقول وهو يخاطب الإيرانيين: ‹‹ان وطننا العزيز ايران يسير في سياسته في طريق معوج، وفي ديانته في طريق معوج. أيها الناس تمسكوا بحقائق الدين المحمدي، إن الذي تتمسكون به الآن هو شريعة الملالي، وهي غلط، فقد كتب كل ملا - أي رجل دين - كتاباً على مقدار تفكيره وليس ذلك الملا مقصراً فيما كتب، إذ أن مقدار تفكيره ومعلوماته كانت محدودة إلى هذه الدرجة، ولو أننا جمعنا كل هذه الكتابات وأضفناها إلى بعضها لما تمكنت أن تزيد في عظمة الإسلام، بل العكس تصغره››[3].

مع هذا فمن الناحية المعرفية أن ما يؤاخذ عليه الرواد من المثقفين الدينيين هو أن ربطهم للواقع بالدين لم يكن ربطاً يحمل تنظيراً ابستيمياً. فالعلاقة التي اجريت بينهما هي علاقة يغلب عليها الطرح الآيديولوجي، فهم عاشوا في عصر اتصف بالانبهار لكل ما ظهر للغرب من مكاسب. وقد انعكس هذا الانبهار على محاولاتهم الرامية إلى التوفيق بينهما، فأخذوا يتعللون إما بالإلتفاف على المكاسب الغربية وإعتبارها مكاسب إسلامية في الأصل، أو بالسعي نحو إبراز الإتفاق بين ما لديهم من نصوص دينية وبين ما عليه روح العصر الغربي بمفاهيمه ونظرياته ونتاجه العلمي، وإن أدى ذلك إلى جر النصوص إلى حلبة التأويل والتلاعب والإلتفاف. وفي الجملة رؤوا أنه لا بد من أن يفسروا الشريعة على ضوء الحاجات الحديثة وما يقتضيه الأمر من التأثر بالعالم الغربي ومنتجاته العلمية والثقافية.

على أن نقطة الخلل في ذلك هو أنهم لم يعالجوا الإشكاليتين الدينية والواقعية - ومنها العلمية - كلاً على حدة قبل الإنتهاء إلى ما يمكن أن يتم بينهما من توافق أو خلاف.

أما من جاء بعد هؤلاء، وهم يشكلون مختلف الحركات الثقافية والسياسية الإسلامية، فيلاحظ أن منهم من التزم بالخط الذي اسسوه، عبر الجمع بين الكتابين الكوني والنصي بإعتبار ما لأحدهما من إكمال للآخر، مثلما يظهر لدى الإتجاه الذي يحمل سمة (إسلامية المعرفة)، والذي يعتبر الواقع مصدراً آخر للمعرفة يضاف إلى النص. فتأسيس الفكر الإسلامي أو إسلامية المعرفة لدى هذا الإتجاه تتم عبر ‹‹الإعتماد على المنهجية المعرفية القرآنية التي تجمع بين قراءة الوحي وقراءة الوجود، أو منهج الجمع بين القراءتين››[4]. فهذا الإتجاه يجعل من القرآن الكريم - ذاته - هو من أسّس إعتبار القراءتين معاً. فمثلاً جاء في أول كلمة للوحي قوله تعالى: ((إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم))[5]، إذ اعتبر الإتجاه المشار إليه أن القراءة المأمور بها في هذه الآيات ما هي إلا ‹‹تعبير يتسع ليشمل المسطور في الكتب والمنشور في الوجود، فسور الكتاب تقرأ وآفاق الكون تقرأ، وتتلازم القراءتان حتى ينتج من هذا التلازم علوم ومعارف وخبرات وتجارب، يقام عليها العمران وتنبثق منها حضارة الإيمان››[6]. الأمر الذي يذكرنا بما مرّ علينا من تأويل محمد عبده لقوله تعالى: ((يتلو عليهم آياته))، إذ اعتبر المقصود من معنى (الآيات) في هذه الآية بأنها الآيات الكونية لتبرير إدخال العلوم الكونية في التفسير.

على أن هذه الطريقة تريد أن تقرأ الوحي والكون بمنهجية واحدة من دون نزاع وتضارب بين المعرفتين المستلهمتين منهما[7]. وبالتالي فإن إسلامية المعرفة هي منهج معرفي ‹‹يمثل بديلاً للمادية والوضعية المتجاهلة لله وللغيب من ناحية، كما يمثل بديلاً عن اللاهوتية والكهنوتية المستلبة للإنسان والطبيعة من ناحية أخرى››[8]. أي إنها بالتالي بديل عن توجه كل من المثقف العلماني والفقيه. وعليه إن ما تهدف إليه هو ‹‹إعادة النظر في علوم ووسائل فهم النص وخدمته وقرائته، قراءة الجمع مع الكون والتداخل المنهجي معه، وتخليصه من كثير من أنواع التفسير والتأويل والربط الوثيق النسبي، من خلال إسقاط الإسرائيليات، والربط الشديد بأسباب النزول والمناسبات››[9]. وهو يقارب ما كان يطمح إليه المفكرون الدينيون من الرواد. مهما يكن فالغالب في المثقف الديني هو أنه ظل خاضعاً تحت تأثير الواقع المعاصر وحكمه؛ رغم ما يزخر به الأخير من أشكال نسبية. إذ جعل منه روحاً كلية قابلة للإسقاط والتطبيق على مختلف البيئات والتشكيلات. فإهتماماته بالقضايا المثارة حالياً؛ كقضية الحداثة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والمواطنة والمساواة وغيرها؛ ليست معزولة عن التأثير الحاسم للفكر الغربي، حتى تمّ إرجاع جملة من المبادئ المفرزة غربياً إلى أصول إسلامية، كدلالة على التأثير الغربي بجعل المثقف يستهوي ما ينتجه حيال الجمود الذي حط بالفقيه.

هذا فيما يخص أولئك الذين اتبعوا الطريقة التي سار عليها الرواد من المثقفين الدينيين. لكن في قبالهم ظهر الكثير ممن لم يسلك هذا الخط الذي ارتاده سلفهم، بل إن بعضهم اتخذ الطريقة المعاكسة لهم، بالرجوع كلياً إلى النص، متجاهلاً بذلك الواقع، بل ومكفراً له أحياناً. وربما يعود سبب ذلك إلى غياب التنظير الابستيمي في ربط النص بالواقع، مما جعل بعض الشخصيات الريادية البارزة تؤول إلى أن تضع إعتبارات المصدرين بعضها بجنب البعض الآخر من غير لحاظ ما يطرأ عليهما من تعارضات وإشكاليات، فتارة تراه سلفياً حرفياً، وأخرى واقعياً عقلياً.

 

 



[1]  أم القرى، ص298.

[2] محمد عبده، الأعمال الكاملة، ج3، ص179. والفكر العربي المعاصر، ص509.

[3] علماً أن هذه الكلمة أثارت السيد محسن الأمين العاملي الذي لم يستوعبها فنقدها دفاعاً عن مسلك الفقهاء التقليدي قائلاً: ‹‹اذا تأملت في هذا الكلام الأخير وجدته خالياً من المعنى. فحقائق الدين المحمدي إما ضرورية أو نظرية، والضرورية لا تؤخذ من الذين سمّاهم الملالي، والنظرية لا سبيل إلى معرفتها إلا من العلماء، فقوله (الذي تتمسكون به هو شريعة الملالي) هي غلط غلط›› (لاحظ: محسن الأمين: أعيان الشيعة، حققه واخرجه واستدرك عليه حسن الأمين، دار التعارف، بيروت، 1406هـ ـ1986م، ج4، ص216).

[4] العلواني، طه جابر: إصلاح الفكر الإسلامي، كتاب قضايا إسلامية معاصرة، (12)، مؤسسة الاعراف للنشر، قم، 1419هـ ـ1998م، ص94.

[5] العلق\1ـ5.

[6] إصلاح الفكر الإسلامي، ص102.

[7] المصدر، ص107.

[8] المصدر، ص96.

[9] المصدر، ص97.

comments powered by Disqus