يحيى محمد
تتحدد المولدات المعرفية للمثقف الديني بكل من التجربة أو الخبرة البشرية وموجهات النص، وبالتالي فإن من الطبيعي أن تصطبغ المعرفة لديه بصبغة الوسائل لتحقيق ما ينشده من مقاصد. وهو إذ يستند إلى التجربة البشرية أو خبرة الواقع؛ فذلك كفيل بأن يجعله يكتشف حالة المرونة في تلك الوسائل، مما يجعله لا يجمد على وسيلة ما قد يكون مشاراً إليها في النص. الأمر الذي يختلف فيه مع الفقيه. فهذا الأخير يتعامل تارة مع وسائل النص ومقاصده بنفس الروح والدرجة من الثبات، وأخرى - وهو الغالب - يرجح الأولى على الثانية، وذلك عندما تكون الأولى منصوصاً عليها بالتخصيص خلافاً للأخرى. وبالتالي لا يتعامل الفقيه بمرونة مع الوسائل المعرفية طالما يستند في مولداته إلى البيان الماهوي. لذا تتولد الفجوة والصدام مع الواقع.
فمثلاً عادة ما يميل الفقيه إلى فهم جهاد العدو بأنه جهاد حربي مقدس ينبعث مما يدل عليه النص صراحة[1]، وأن النهي عن المنكر ومحاربته يعتمد على ما هو مفصل بحسب البيان الماهوي ضمن الدرجات الثلاث المعروفة، وهو التغيير باليد أو اللسان أو القلب، طبقاً للحديث النبوي الشهير. في حين لا يعتبر المفكر هذه التعيينات ثابتة بالضرورة، وهو لا يعول عليها إن بدا له أنها لم تعطِ – كما في أحيان معينة - تلك الثمار المرتقبة التي تبرر مصداقيتها المشروعة، وأنها على العكس قد تصادم الواقع بما يؤول إلى خلاف ما عليه المقاصد، وهو ما يدعوه إلى استبدالها بوسائل أخرى يراها مناسبة لتحقيق ما يصبو إليه من مقاصد؛ سواء على مستوى مجاهدة الطرف الآخر، أو محاربة المنكر. فقد يتولى في بعض الحالات دور الجهاد الحركي غير المسلح بغية تحقيق المقاصد الدينية. وهو في هذا الدور قد يسعه القيام بالأمرين معاً: مدافعة الطرف الآخر، والعمل على محاربة المنكر. ومن ذلك قد يساهم في المشاركة السياسية مع مختلف الإتجاهات العلمانية وقبول مبدأ الديمقراطية كمنهج حركي عام تتحدد فيه المنافسة بين الإتجاهات المتباينة من دون الدخول في المعترك الحربي. إذ يشترط أن يكون هناك احترام متبادل لدى جميع الأطراف حيال أي رؤية يتم انتخابها بحسب ما ترغب إليه الاغلبية؛ ضمن قواعد دستورية محايدة يتفق عليها الجميع. فهذا الشكل من المجاهدة يفتح المجال أمام الرؤية الدينية أن تؤدي دورها في العمل البنّاء لتحقيق المقاصد؛ سواء كانت ضمن السلطة السياسية الحاكمة أم خارجها، وذلك بأقل الخسائر الممكنة مقارنة مع ما عليه الجهاد الحربي.
وواقع الأمر أن هذا الشكل من المجاهدة يذكرنا بما كان عليه المتكلمون الأوائل، وعلى رأسهم المعتزلة، حيث أنهم قاموا بمحاججة غيرهم من الطوائف غير الإسلامية بسلاح معرفي يتفق عليه الجميع، وهو الإحتكام إلى العقل وليس اللجوء إلى نص الكتاب والسنة؛ لبداهة أنهم يختلفون حول مرجعيته المعرفية. والحال نفسه ينطبق على الممارسة السياسية، حيث لا يوجد عنصر محايد يمكن أن يتفق عليه الجميع من دون إخلال بالمبادئ المتبعة؛ غير مبدأ التعددية أو الديمقراطية. فهي آلية لا تختص بفئة ولا بفلسفة دون أخرى، بل أنها وسيلة مشتركة قابلة للتوظيف والتطبيق على أي مضمون كان؛ سوى ذلك الذي يؤدي إلى نفيها. وهي من هذه الناحية تشابه علم المنطق الذي آل أمر المسلمين إلى قبوله وتطويره رغم علمهم بأنه نتاج فكر يوناني. فهم وافقوا عليه طالما مثّل عندهم ذلك المبدأ الحيادي الذي يمكن توظيفه لدى مختلف العلوم والفلسفات. مع هذا فالفقيه الذي قبِل المنطق كعلم لا غنى عنه في الممارسة الإجتهادية؛ هو نفسه الذي لم يتقبل الديمقراطية لعدد من المبررات تعود إلى مولده المتمثل بالفهم الماهوي. وقد يوافق البعض على قبولها مؤقتاً ريثما يتم استلام الحكم ثم لا يرى مناصاً من الانقلاب عليها، أو أنه يعمل على تكييفها بالشكل الذي تكون فيه أقرب إلى الشورى ولا تتعدى حدود المفهوم الديني.
إذاً فالخلاف بين المفكر والفقيه حول شكل الوسائل المعرفية المتبعة لتحقيق مقاصد التشريع؛ إنما يعود إلى دائرة ما يختلفان حوله من أصول مولدة. فالفقيه الذي يجعل مولده التكويني لا يتعدى حدود البيان الماهوي؛ لا محالة أنه يضيق ذرعاً بالوسائل الأخرى التي تكشف عنها التجربة البشرية، خلافاً لحال المفكر الديني الذي جعل مولده التكويني مفتوحاً على تجارب الواقع وخبراته المتنوعة.
ولا حاجة للتذكير بأن أول ما يجب أن يلتزم به كل من المثقف والفقيه هو الإيمان والتقوى، فلا جدوى من الممارسة الإجتهادية لكل منهما إن لم تتأسس على هذين الركنين الثابتين.
نعود لنقول إن الفقيه بحاجة ماسة إلى إصلاح طبيعة ما يعول عليه من مرتكزات معرفية. فهو بحاجة إلى الإعتراف بمرجعية الواقع والوجدان العقلي كمصدرين معتبرين وأساسيين في التكوين المعرفي؛ بحيث لا تقل رتبتهما في الممارسة الإجتهادية عن مرجعية النص، وذلك ليتحول نمط هذه الممارسة مما هو ذو طابع ماهوي إلى وقائعي، وأن مكوناته المعرفية بحاجة إلى الموجهات الكلية العامة من المقاصد وغيرها.
وواقع الأمر أن هذا النهج المقترح هو ذاته الذي سلكه الخطاب الإلهي، بحيث لا يمكن عزله عن تأثير الواقع، كما لا يمكن فصله عن الموجهات الكلية[2].
أما ما يحتاج إليه المثقف الديني فهو الوضوح المنهجي والتخصص. ففي الإطار المنهجي هو بحاجة إلى تنظيم ما يبديه من وجهات النظر بحيث يضفي عليها القوالب المنطقية والاولويات المنهجية بشكل واضح وصريح. فهو معني باضفاء الطابع المنهجي على مرتكزاته المعرفية، فهو وإن جعل نصوصه التكوينية تتمثل بالواقع، ومارس آليات النظر والتكوين بنحو من العقلائية والنقدية، كما وجعل موجهاته الكلية عبارة عن مقاصد التشريع، وكذا مولداته عبارة عن التجربة البشرية.. لكن المطلوب هو المنهجة لهذه المرجعيات للكشف عن حدودها وقوانينها؛ دون إغفال كل من الضرورة الدينية ومتطلبات الواقع. ومن ذلك أنه بحاجة إلى التخلي عن الانتقائية المعهودة والأشكال المعرفية الجاهزة، وأن يبتعد ما بوسعه عن تأثير الميول الآيديولوجية عند المعالجة المعرفية.
أما في إطار التخصص فلا شك أنه ليس من العسير على المثقف أن يسلك هذا الإطار ليضارع به الفقيه بما يقدمه من جديد معرفي ضمن الدائرة الإسلامية. ونرى أن أقرب العلوم التي تتفق مع تطلعات المثقف هو ما يطلق عليه اليوم (علم الكلام الجديد). بل يمكن القول إن هذا العلم هو نتاج المثقف. فهو من جانب يشكل ثقافة لم تبلغ حد التخصص مثلما كان عليه الكلام القديم، وأنه يبحث في الاطارات الكلية التي لها مساس بقضايا الواقع المعاصر وعلاقتها بالنص، وبالتالي فإن أغلب مضامينه تقع تحت إهتمام المثقف الديني. فالمثقف كان وما زال يمارس دوراً كلامياً من النوع الجديد، وأنه بهذا أصبح ينافس الفقيه، لكنه بحاجة إلى تحويل ثقافته الكلامية إلى علم تخصصي، مع العناية بعلم الطريقة الذي يولي إهتماماً بمناهج الفهم الإسلامي والنظر في الكليات[3].
[1] يغالي الفقيه أحياناً في موقفه من الجهاد الحربي. فقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن اقل ما يفعل من الجهاد في السنة مرة واحدة، وكما ذكروا بأنه يجب أن يقوم المسلمون بقتال الكفار مرة واحدة في كل سنة على الأقل ما لم يتعذر ذلك لعذر مشروع، مثل ضعف المسلمين في عدة أو عدد. بل إن دعت الحاجة إلى القتال في السنة أكثر من مرة وجب ذلك، بإعتباره فرض كفاية فيجب منه ما تدعو الحاجة إليه (عبد الكريم زيدان: المفصل في أحكام المرأة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1413هـ ـ 1993م، ج4، ص411-412). وادعى الشيخ الكركي من الإمامية أن على ذلك الإجماع في المذهب )جواهر الكلام، طبعة دار الكتب الإسلامية، ج21، ص10).
[2] انظر التفصيل في: جدلية الخطاب والواقع.
[3] انظر دراستنا: علم الكلام والكلام الجديد/الهوية والوظيفة، قضايا إسلامية معاصرة، عدد 14، 1422هـ ـ2001م، ص171ـ202.